الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة التغابن (64): الآيات 16 الى 17]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «1» [آل عمران: 102] مِنْهُمْ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ. ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ: وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] قَالَ: جَاءَ أَمْرٌ شَدِيدٌ، قَالُوا: وَمَنْ يَعْرِفُ قَدْرَ هَذَا أَوْ يَبْلُغُهُ؟ فَلَمَّا عَرَفَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدِ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ نَسَخَهَا عَنْهُمْ وَجَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ لَا نَسْخَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] إِنَّهَا لَمْ تُنْسَخْ، وَلَكِنَّ حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُجَاهَدَ لِلَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا يَأْخُذَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَيَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «2». الثَّانِيَةُ- فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَكَيْفَ يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْأَمْرِ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ وَالْأَمْرُ بِاتِّقَائِهِ مَا اسْتَطَعْنَا. وَالْأَمْرُ بِاتِّقَائِهِ حَقَّ تُقَاتِهِ إِيجَابُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ خُصُوصٍ وَلَا وَصْلَ بِشَرْطٍ، وَالْأَمْرُ بِاتِّقَائِهِ مَا اسْتَطَعْنَا أَمْرٌ بِاتِّقَائِهِ مَوْصُولًا بِشَرْطٍ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ بِمَعْزِلٍ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] وَإِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ وَرَاقِبُوهُ فِيمَا جَعَلَ فتنة لكم من أموالكم
(1). راجع ج 4 ص 157
(2)
. راجع ج 4 ص 157
وَأَوْلَادِكُمْ أَنْ تَغْلِبَكُمْ فِتْنَتُهُمْ، وَتَصُدَّكُمْ عَنِ الْوَاجِبِ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ إِلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ، فَتَتْرُكُوا الْهِجْرَةَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، بِمَعْنَى وَأَنْتُمْ لِلْهِجْرَةِ مُسْتَطِيعِينَ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ كَانَ عَذَرَ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ بِتَرْكِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ «1» [النساء: 99 - 97]. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ عَفَا عَمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدِي سَبِيلًا بِالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الشِّرْكِ، فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَنْ تَتْرُكُوهَا بِفِتْنَةِ أَمْوَالِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ عَقِيبَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ كُفَّارٍ تَأَخَّرُوا عَنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِتَثْبِيطِ أَوْلَادِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا كُلُّهُ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. وَقِيلَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فِيمَا تَطَوَّعَ بِهِ مِنْ نَافِلَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] اشْتَدَّ عَلَى الْقَوْمِ فَقَامُوا حَتَّى وَرِمَتْ عَرَاقِيبُهُمْ وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَخْفِيفًا عَنْهُمْ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنَسَخَتِ الْأُولَى، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَحْتَمِلُ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا النَّقْلُ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ اتِّقَاءَهَا. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أَيِ اسْمَعُوا مَا تُوعَظُونَ بِهِ وَأَطِيعُوا فِيمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَتُنْهَوْنَ عَنْهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْمَعُوا أَيِ اصْغَوْا إِلَى مَا يَنْزِلُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي السَّمَاعِ. وَأَطِيعُوا لِرَسُولِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ أَوْ نَهَاكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَلَيْهِمَا بُويِعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. وَقِيلَ: وَاسْمَعُوا أَيِ اقْبَلُوا مَا تَسْمَعُونَ، وعبر عنه بالسماع لأنه فائدته.
(1). راجع ج 5 ص 354.
قُلْتُ: وَقَدْ تَغَلْغَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْحَجَّاجُ حِينَ تَلَاهَا وَقَصَرَهَا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مروان فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا هِيَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِينُ اللَّهِ وَخَلِيفَتُهُ، لَيْسَ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ، وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتُ رَجُلًا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ مِنْ غَيْرِهِ لَحَلَّ لِي دَمُهُ. وَكَذَبَ فِي تَأْوِيلِهَا بَلْ هِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا ثُمَّ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ. دَلِيلُهُ وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «1» [النساء: 59]. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْفِقُوا) قِيلَ: هُوَ الزَّكَاةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُوَ النَّفَقَةُ فِي النَّفْلِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ النَّفَقَةُ فِي الْجِهَادِ. وقال الْحَسَنُ: هُوَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ لِنَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَإِنَّمَا أَوْقَعَ قَائِلَ هَذَا قَوْلُهُ: لِأَنْفُسِكُمْ وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ نَفَقَةَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ فِي الصَّدَقَةِ هِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «2» [الاسراء: 7]. وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَامَّةٌ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: عِنْدِي دِينَارٌ؟ قَالَ: (أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ) قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: (أَنْفِقْهُ عَلَى عِيَالِكَ) قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: (أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ) قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: (تَصَدَّقْ بِهِ) فَبَدَأَ بِالنَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَجَعَلَ الصَّدَقَةَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) خَيْراً نُصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، دَلَّ عَلَيْهِ وَأَنْفِقُوا كَأَنَّهُ قَالَ: ايتُوا فِي الْإِنْفَاقِ خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ، أَوْ قَدِّمُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ. وَهُوَ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَنْفِقُوا إِنْفَاقًا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ. وَهُوَ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ خَبَرُ كَانَ مُضْمَرَةٍ، أَيْ يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ. وَمَنْ جَعَلَ الْخَيْرَ الْمَالَ فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِ أَنْفِقُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ «3» . وَكَذَا (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) تَقَدَّمَ الكلام فيه أيضا في" البقرة"«4» وسورة
(1). راجع ج 5 ص 258. [ ..... ]
(2)
. راجع ج 10 ص 227.
(3)
. راجع ص 29 من هذا الجزء.
(4)
. راجع ج 3 ص 237 وج 17 ص 242