الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فموضوع الفقهاء فعل المكلف، وكثير من مسائلهم ظني، وموضوع المتكلمين القطع، فمن ههنا انقسم نظر الفريقين، وإلا فيجوز بناء التكفير على الظن بلا خطر، لأن الظن في طريق العلم بالحكم لا في الأمر الموجب لكفر المكفر. وأيضاً التكفير بمضمون خبر الواحد لا بإنكار ثبوته، وقد تختلف الأحكام في نحو الثبوت والدلالة، فالشافعية مثلاً راعوا في أخذ الفرض وترك الواجب من التقسيم حال المضمون فيثبتون الفرض بخبر الواحد، والحنفية راعوا هناك حال الثبوت. هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام. هذا والله ولي التوفيق.
تنبيه آخر
اتفقوا في بعض الأفعال على أنها كفر، مع أنه يمكن فيها أن لا ينسلخ من التصديق، لأنها أفعال الجوارح لا القلب، وذلك كالهزل يلفظ كفر، وإن لم يعتقده، وكالسجود لصنم، وكقتل نبي، والاستخفاف به، وبالمصحف، والكعبة، واختلفوا في وجه الكفر بها بعد الاتفاق على التكفير، فقيل: إن الشارع لم يعتبر ذلك التصديق حكماً، وإن كان موجوداً حقيقة. حكاه الحافظ ابن تيمية في "كتاب الإيمان" من لفظ الأشعري، وقيل: إن ما كان دليل الاستخفاف يكفر به، وإن لم يقصد الاستخفاف، ذكره في "رد المحتار"، وقيل زيد على التصديق المجرد أشياء في الإيمان المعتبر شرعاً، وقيل التصديق المعتبر لا تجامع هذه الأفعال. ذكره العلامة قاسم في حاشية "المسايرة"، والحافظ ابن تيمية رحمه الله. وبالجملة يكفر ببعض الأفعال أيضاً انفاقاً، وإن لم ينسلخ من التصديق اللغوي القلبي.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني كما في "الشفاء" و"المسايرة": فإن عصى بقول أو فعل نص الله تعالى ورسوله، أو أجمع المسلمون أنه لا يوجد إلا من كافر، أو يقوم دليل على ذلك فقد كفر اهـ. وقال أبو البقاء في "كلياته": والكفر قد يحثل بالقول تارة وبالفعل أخرى، والقول الموجب للكفر إنكار مجمع عليه فيه نص، ولا فرق بين أن يصدر عن اعتقاد، أو عناد، أو استهزاء، والفعل الموجب للكفر هو الذي يصدر عن تعمد، ويكون الاستهزاء صريحاً بالدين، كالسجود للصنم اهـ.
قال القونوى: ولو تلفظ بكلمة الكفر طائعاً غير معتقد له يكفر، لأنه راض بمباشرته وإن لم يرض بحكمه، ولا يعذر بالجهل، وهذا عند عامة العلماء، خلافاً للبعض، قال: ولو أنكر أحد خلافة الشيخين يكفر إلخ "شرح فقه أكبر".
وفيه أيضاً: ثم أعلم أنه إذا تكلم بكلمة الكفر، عالماً بمبناها ولا يعتقد معناها، لكن صدرت عنه من غير إكراه بل مع طواعية في تأديته، فإنه يحكم عليه بالكفر بناءً على القول المختار عند بعضهم، من أن الإيمان هو مجموع التصديق والإقرار، فبإجرائها يتبدل الإقرار بالإنكار وهذا في "شرح الشفاء" أيضاً.
أقول: والأظهر الأول، إلا إذا كان من قبيل ما يعلم من الدين بالضرورة، فإنه حينئذ يكفر ولا يعذر بالجهل. "شرح فقه أكبر" من الأواخر.
وقال في "الصارم المسلول": ولهذا قال سبحانه وتعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ولم يقل: قد كذبتم في قولكم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} ، فلم يكذبهم في هذا العذر، بل بين أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب آه. وأوضحه في محل آخر. والجصاصا في "أحكامه".
وعلى هذا فلا يبعد أن يقال: إن تكفير المسلم المعلوم إسلامه قد جعله الشرع في الحديث المار كفراً بنفسه، وللشارع ولاية ذلك، لا لتضمنه اعتقاد أن الإسلام كفر، وقال الله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} والله ولي الأمرو، ووجه الغزالي كما في "إيتار الحق": بأنه لما كان معتقد الإسلام أخيه كانة قوله: إنه كافر قولاً بأن الذي هو عليه كفر، والذي هو عليه دين الإسلام فكأنه قال: إن دين الإسلام كفر، وهذا القول كفر من قائله وإن لم يعتقد ذلك اهـ. فجعله هزلاً بلفظ الكفر، وهذا يصدق على هذا الشقى وأتباعه، فإنهم يكفرون كل الأمة في هذا العصر، فيجب أن يكفروا هو لاا الأمة، فقد حار عليهم، والله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد:
فقد كان هذا لهم لا لهم
…
فأولى لهم ثم أولى لهم
قال في "زاد المعاد" من أحكام الفتح: وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع، فإنهم يكفرون ويبدعون لمخالفة أهواءهم وبجهلهم، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه اهـ.