المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب شروط الصلاة - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٢

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌باب شروط الصلاة

‌باب شروط الصلاة

مقدمة

الشروط: جمع شرط، وهو لغة: العلامة، سمي شرطًا، لأنَّه علامة على المشروط؛ قال تعالى عن علامات السَّاعة:{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي: علاماتها.

واصطلاحًا: ما يلزم من عدمه العَدَمُ، ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدمٌ لذاته.

وشروط الصَّلاة: هي ما يتوقَّف عليها صحتها، إلَاّ بعذر.

وقد أجمع الأئمة على أن للصلاة شرائط، لا تصح إلَاّ بها، إن لم يكن عذر، وهي التي تتقدَّمها، وشروط الصلاة ليست منها، وإنَّما تجب لها قبلها، إلَاّ النية: فالأفضل مقارنتها لتكبيرة الإحرام، وتستمر الشروط حتَّى نهاية الصَّلاة، وبهذا فارقت الأركان، الَّتي تنتهي شيئا فشيئًا.

وشروطُ الصَّلاة تسعة: الإسلام، والتمييز، والعقل، (وهي شروط لوجود كل عبادة بدنية عدا الحج والعمرة، فيصحَّان من الصغير، ولو دون التمييز)، والباقي من الشروط ستَّة هي:

- الوقت: قال عمر رضي الله عنه: الصلاة لها وقت، لا يقبلها الله إلَاّ به.

- الطهارة من الحدث.

- الطهارة من النَّجاسة في البدن والثوب والبقعة.

- ستر العورة، وتختلف باختلاف المصلين.

- استقبال القبلة.

- النية.

وستأتي مفصَّلة إنْ شاء الله تعالى.

ص: 3

162 -

عَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا فَسَا احَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتوَضَّأْ، وَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسنٌ.

قال الترمذي: "الحديث حسن"؛ ويشهد له ما رواه مسلم (362) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكَلَ عليه أخَرَجَ منه أمْ لا؟ فلا يخرجنَّ من المسجد، حتَّى يسعمع صوتًا، أو يجد ريحًا".

وقد حسَّن الحديثَ الإمامُ الترمذي، وصحَّحه كلٌّ من ابن حبان، وابن السكن.

* مفردات الحديث:

- علي بن طَلْق: بفتح فسكون، من بني حَنِيفة، صحابيٌّ.

- فسا: الفُسَاءُ بضم الفاء: خروج الرِّيح من الدبر بلا صوت.

- لِيُعِدِ الصَّلَاةَ: الَّلام لام الأمر، من الإعادة، وذلك باستئنافها.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ خروج الرِّيح من الدبر ينقُضُ الوضوءَ، وتبطُلُ به الصلاة، وقد أجمع العلماء على هذا.

2 -

على المُحْدِثِ أنْ ينصرف من صلاته، ويتوضَّأ ويعيد الصَّلاة؛ لبطلان صلاته

(1) أبو داود (205)، الترمذي (1166)، النسائى فى "عشرة النساء"(137)، أحمد (1/ 86)، ابن حبان (2237)، ولم يروه ابن ماجة.

ص: 4

بالحدث.

3 -

يحرُمُ على من أحدَثَ في الصلاة أنْ يستمرَّ فيها ويتمَّها، ولو صوريًّا؛ فكل حدثٍ مَنَعَ ابتداء الصلاة، يمنع الاستمرار فيها؛ فإنَّ صلاته بلا وضوء استهزاءٌ بالدِّين، وتلاعُبٌ بالشعائر الدينية.

4 -

جميع الأحداث النَّاقضة للوضوء، حكمها كَحُكْمِ خروج الرِّيح، فيما ذُكِرَ من الأحكام.

5 -

هذا الحديث معارَضٌ بما تقدَّم من حديث عائشة، من أنَّ مَنْ أصابه قيءٌ أو رعافٌ أو مذيٌ في صلاته، فإنَّه ينصرف ويتوضَّأ، ويبني على صلاته حيث لم يتكلَّم، ولا وجه للمعارضة، فحديثُ الباب أصحُّ منه، أمَّا حديث عائشة فمُتكلَّم فيه.

***

ص: 5

163 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَا يَقْبلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَاّ بِخِمَارٍ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَه ابْنُ خُزَيْمَةَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ.

رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي.

قال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

وصحَّحه ابن خزيمة، وأحمد شاكر، والألباني.

* مفردات الحديث:

- حائض: يُقال: حاضت المرأة حيضًا، فهي حائض؛ لأنَّه وصفٌ خاصٌّ بها، وجاء: حائضةٌ، وجمعها حائضاتٌ، وجمع الحائض: حُيَّض.

وقوله في الحديث: "الحائض" ليس المراد من هي حائض حالة التلبُّس بالصَّلَاة، بل المراد: البالغة.

- بخِمَار: جمعه خُمُر، وهو بكسر الخاء وفتح الميم، يُقال: خمَّر الشيء غَطَّاه، فالتخمير التغطية؛ ومنه خمار المرأة، الَّذي تُغَطِّي به رأسها وعنقها.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحائض لا تُصلِّي ولا تصحُّ منها الصَّلاة حال حيضها، وإنَّما المراد بقوله:

(1) أحمد (6/ 150)، أبو داود (641)، الترمذي (377)، ابن ماجة (655)، ابن خزيمة (775).

ص: 6

"الحائض" يعني: المكلَّفة، التي بلغَتْ سنَّ الحيض.

2 -

ليس المراد من الحديث البالغة بالحيض فقط، وإنَّما المرادُ البالغة بأية علامة من علامات البلوغ، وهي: الحيضُ، أو نزولُ المنيِّ، أو نباتُ شعر العانة، أو بلوغُ خمسة عشر عاماً، ولكنَّه عبَّر بما يخصُّ النساء، وهو الحيض.

3 -

أنَّ ابتداء الحيض للأُنثى من علامات بلوغها، ولو أنَّ سنَّها أقلُّ من خمسة عشر عامًا.

4 -

أنَّ الجارية إذا بلغَتْ، كلِّفت بالأحكام الشرعية كلِّها.

5 -

أنَّهُ يجبُ على المرأة أنْ تَسْتُرَ في صلاتها -فيما تستُرُ من مدنها- رأسَها وعنقها، بخمارٍ يُغطِّي ذلك كله.

6 -

أنَّ ستر العورة في الصلاة شرطٌ لصحَّتها، والعورةُ في الصَّلاة تختلفُ باختلاف المصلِّين، من حيث الجِنسُ، ومن حيث السنُّ، وسيأتي بيانه، إنْ شاء الله تعالى.

7 -

مفهومُ الحديث أنَّ البنت التي دون البلوغِ تَصِحُّ صلاتها، ولو لم تغطِّ رأسها بخمار، فعورتها أخفُّ من عورة البالغة.

8 -

نفي قبول الصلاة ممَّن لم تخمِّر رأسَهَا في الصلاة، المرادُ به نفىُ حقيقة الصلاة، فلا تجزىُء ولا تَصِحُّ، لا مجرَّدُ عدَمِ حُصُولِ الثواب.

ص: 7

164 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إِنْ كانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا، فَالْتَحِفْ بِهِ، يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ".

وَلِمُسْلِمٍ: "فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَإِنْ كانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "لَا يُصَلِّي أحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ"(2).

ــ

* مفردات الحديث:

- لا يصلِّي: نص ابن الأثير على إثبات الياء في روايات الصحيح، ورواه الدَّارقطني بحذفها، على أنَّ كلمة "لا" ناهية، وأمَّا بقية الروايات، فهي فيه نافية، لكن بمعنى النَّهي.

- الثوب: مذكَّر، وجمعه أثوابٌ وثياب، وهو ما يلبسه النَّاسُ من كتان، وقطن، وصوف، ونحوها.

واللباسُ الكاملُ يكون من قطعتَيْنِ:

إحداهما: الرداء، وهو ما ستر أعلى البدن.

والأخرى: الإزار، وهو ما ستَرَ أسفلَ البدن.

وليس الثوبُ ما يُفَصَّل ويُخاطُ على هيئة البدن، فهذا يسمَّى قميصًا.

- التحف به: يُقال: لَحَفَهُ يَلْحَفُهُ لَحْفا: غطَّاه باللحاف، واللِّحافُ: كل ثوبٍ

(1) البخاري (361)، مسلم (3010).

(2)

البخاري (359)، مسلم (516).

ص: 8

يلتحفُ به، فيغطِّي به بدنه، وجمعه لُحُف.

- عاتقه: العاتق: هو ما بين المنكب والعنق، وهو موضعُ الرداء، ويذكَّر ويؤنَّث، والجمع عواتق.

- فخالف بين طرفيه: أي: خالَفَ ما بين طرفي الثوب، والمخالفةُ بين طرفيه تكون بإلقاء طرفه الأيمَنِ على عاتقه الأيسر، وطرفه الأيسر على عاتقه الأيمن، ليستُرَ بذلك صدره، ولكنْ وَسَطُ الثوب على ظهره ليستُرَ أعلى البدن، هذا إذا كان الثوب واسعًا، أمَّا إذا كان ضيقًاَ، فيأتزر به؛ ليستر عورة الصلاة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الثوب المرادُ به الإزارُ الَّذي يكسو أسفل جسم الإنسان، والرداءُ الَّذي يكسو أعلاه، وليس المرادُ به القميص؛ فإنَّ القميص الَّذي فُصِّل وخُيِّط على هيئة البدن، قائم مقام الثوبين، لأنَّه مغط لأعلى البدن وأسفله.

2 -

إنْ كان الثوبُ واسعًا، فعلى المصلِّي أنْ يلتحف به، فيغطِّي به من المنكبين إلى ما تحت الركبتين؛ لأنَّه وجد سترة كاملة لما يجب، ويستحب أنْ يستره في الصلاة.

3 -

إنْ كان الثوبُ ضيِّقًا لا يكفي كلَّ البدن، فليستُرْ به العورة الواجبَ سترها، وهي للرجل من السُّرَّة إلى الركبة، فيجعله إزارًا له، ولو كشف عن المنكبين، وأعلى الجسم.

4 -

استحباب ستر أحد العاتقَيْنِ في الصلاة، لمن وجَدَ سترةً كافيةً له وللعورة، فإن لم تَكْفِ إلَاّ العورةَ فقطْ، قدَّم سترها على ستر العاتقين أو أحدهما؛ لأنَّها أهم.

5 -

الحديثُ يدلُّ على أنَّ المسلم يتقي الله ما استطاع، فما يَقْدِرُ على القيام به من الواجبات، يقوم به، وما عجَزَ عنه سَقَطَ عنه، والله غفورٌ رحيم.

ص: 9

6 -

يدلُّ الحديث على القاعدة الشرعية: "تقديم الأهم فالأهم"؛ فإنَّ التكاليف إذا تزاحمَتْ، ولم يمكن القيامُ بها كلِّهَا، قُدِّم أهمها.

7 -

قال شيخ الإسلام: الأفضلُ مع القميص السروالُ من غير حاجة إلى الإزار والرِّداء، وقال القاضي: يستحبُّ لبس القميص، ولا يكره في ثوبٍ يستُرُ ما يجب ستره؛ لما في الصحيحين لمَّا سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الثوب الواحد؟ قال:"أوَ لكلٍّ منكم ثوبان".

8 -

قال النووي: لا خلافَ في جَوَازِ الصلاةِ في الثوب الواحد، وأجمعوا على أنَّ الصَّلاة في الثوبين أفضل.

والله تعالى أمر بقدرٍ زائدٍ على ستر العورة في الصلاة، وهو أخذُ الزينةِ في قوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]؛ إيذانًا بأنَّ العبدَ ينبغأنه أنْ يلبَسَ أزيَنَ ثيابه، وأجمَلَهَا فى الصلاة، للوقوفِ بين يدي ربِّه تبارك وتعالى.

* خلاف العلماء:

أجمع العلماء على مشروعية سَتْرِ الرجلِ عاتقَهُ في الصلاة، واختلفوا في الوجوب:

فذهب الإمام أحمد في المشهور من مذهبه: إلى وجوب ستر أحد العاتقين، في الصلاة المفروضة، إذا كان قادرًا على ذلك.

قال في الإنصاف: الصحيحُ من المذهب أنَّ ستر أحد المَنْكِبَيْنِ شرطٌ في صحَّةِ صلاةِ الفرض، وعليه جماهير الأصحاب.

قال بعضهم: في ذلك كمالُ أَخْذِ الزينة، وَحُسْنِ الأدب، والحياءُ بين يدي الله تعالى.

وذهب أكثر العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة:- إلى عدم الوجوب، وأنَّه لا يجبُ إلَاّ ستر العورة، والعاتقان ليسا من العورة، أشبها بقية البدن.

ص: 10

استدلَّ الإمامُ أحمد بحديث أبي هريرة في الصحيحين؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلِّي أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتِقِهِ منه شيء".

أمَّا الجمهور: فيحملون النَّهْيَ في الحديث على التنزيه، وبأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى في ثوب واحدٍ، كان أحد طرَفَيْهِ على بعض نسائه، وهي نائمةٌ، والله أعلم.

* تنبيه:

المشمهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّ الصَّلاة التي يجبُ فيها سترُ أحد العاتقين هي الفريضةُ فقط، أمَّا النَّافلة فيجزىء سَتْرُ العورة، وَيُسَنُّ ستر العاتقين أو أحدهما.

ووجه الفرق بين الصلاتين الفريضة والنَّافلة: أنَّ النَّافلة مبنية على التخفيف؛ فإنَّه يسامح فيها بترك القيام، وترك استقبال القبلة في السفر إذا صلَّى على الرَّاحلة، فصارتْ أحكامها أخفَّ من الفريضة.

والرِّواية الأُخرى عن الأمَام أحمد: أنَّ النَّفل كالفرض.

قال في الشرح الكبير: ظاهرُ كلامِ الإمام أحمد التسويةُ بينهما؛ لأنَّ ما اشتُرِطَ للفرض اشترط للنَّفل، ولأنَّ الخبر عامٌّ فيهما؛ وهذا ظاهر كلام شيخنا رحمه الله.

وممَّن اختار ذلك شيخنا عبد الرحمن السعدي، فقال: الصحيحُ أنَّ ستر المنكب يستوي فيه الفرضُ والنَّفل، وأنَّه سنَّةٌ فيهما؛ فيو من كمال السترة.

ص: 11

165 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها "أنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتُصَلِّي الْمَرْأةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ بِغَيْرِ إزَارٍ؟ قَالَ: إِذَا كانَ الدِّرْعُ سَابِغًا، يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا" أخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَ الأئِمَّةُ وَقْفَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف.

أخرجه أبو داود، والحاكم (3/ 719) والبيهقي (2/ 233) بسندهم إلى أُمِّ سَلَمَة، وفيه أم محمد بنت زيد، وهي مجهولة، وفي الحديث علَّةٌ أُخرى، وهي تفرُّد ابن دينار بروايته، وهو ضعيف مِنْ قبل حفظه.

وصحَّح وقفه المؤلِّفُ في التلخيص الحبير، بينما رجَّح ابن الملقِّن والشوكاني رفعه.

* مفردات الحديث:

- دِرْع: بكسر الدَّالِ المهملة، وسكون الرَّاء المهملة، ثمَّ عينٍ مهملة، والمراد به هنا: قميص المرأة، فلذا جاء مطلقًا، فلو أُريد به درع الحرب، لقيَّده بالحديد، كما في البخاري:"أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم رَهَنَ درعًا من حديد"، قال ابن فارس: درع الحديد مؤنَّثة، ودرع المرأة: قميصُهَا، مذكَّر.

- سابغًا: بفتح السين المهملة، وكسر الباء الموحَّدة، ثمَّ غين معجمة، أي: واسعًا، ساترًا لظهور قدميها.

- إِزَار: الإزار: ثوبٌ يحيطُ بالنصف الأسفل من البدن، يذكَّر ويؤنَّث، يُقال: ائتزر واتَّزر، أي: لبس الإزار.

(1) أبو داود (640).

ص: 12

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الدرع: هو قميصُ المرأة، الَّذي يستُرُ جسمها من عاتقها، حتَّى يغطِّي قدميها.

2 -

أمَّا الخمار فيغطِّي رأسها وعنقها.

3 -

فإذا غطَّتِ المرأةُ بدرعها السَّابغِ قدَمَيْهَا، وغطَّتْ بخمارها الضَّافي رأسها وشعرها وعنقها، فقد سَتَرَتْ عورتها في الصَّلاة، فتصلِّي، ولو لم يكن عليها إزارٌ، أو سروالٌ تحت الدرع.

4 -

أنَّ قدمَي المرأةِ: مِنْ عورتها في الصلاة، فيجبُ سترهما، فإنْ بَدَيَا أو أحدهما وهي قادرةٌ على سترهما، لم تَصِحَّ صلاتها، وسيأتي ذكره الخلاف في ذلك.

5 -

وجهُ المرأة: ليس بعورة في الصَّلاة، فإذا لم يكنْ حولها رجال أجانب، فلها كشفُهُ، وصلاتها صحيحة.

قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنَّ للمرأة أنْ تَكْشِفَ وجهها في الصَّلاة.

قال الشَّارح: لا نعلم فيه خلافًا.

وقال القاضي: هو إجماع.

والمراد: حيث يراها أجنبي.

وأمَّا كفَّاها: فجمهور العلماء أنَّهما ليسا بعورةٍ في الصَّلاة.

واختار المجد، والشيخ تقي الدِّين، وغيرهما: أنَّ قدميها ليسا بعورة، وجزم به الموفَّق في العمدة، وصوَّبه في الإنصاف، وهو مذهب أبي حنيفة.

وما عدا ذلك: فهو عورةٌ إجماعًا.

هذا كله في الصلاة.

وأمَّا خارج الصلاة، فعورةٌ باعتبار النظر، كبقية بدنها.

6 -

المرأة لها نقابٌ، وبرقع ولثام، وهي كما يلي:

ص: 13

(أ) النِّقاب: جمعه نُقُبٌ، مثل كتاب وكُتُب، وهو خمارٌ يستُرُ وجه المرأة، وتجعَلُ القناعَ على مارن الأنف، فيبدو منه محجر العينين.

(ب) البُرْقُع: بضم الباء، وسكون الرَّاء، جمعه براقع، وهو الخمارُ يستُرُ الوجه، وفيه ثقبان بقدر العينين، فكأنَّ فتحته أضيقُ من النِّقاب.

(ج) اللثام: هو البرقع، إلَاّ أنَّه يكونُ على طرف الأنف، فهو أوسع فتحةً من النِّقاب.

* فائدة:

تفصيل العورة في الصلاة، في المشهور من مذهب الإمام أحمد وغيره:

1 -

عورةُ الرجلِ البالغِ، وَمَنْ بَلَغَ عَشْرَ سنين، والبنت المراهقة: ما بين السرَّة والركبة.

2 -

عورة الصبيِّ من السَّابعة إلى العاشرة الفرجان فقطْ.

3 -

عورة المرأة البالغة الحرَّة كلُّ بدنها عدا وجهها، فليس بعورةٍ في الصلاة؛ على الرَّاجحِ من أقوال العلماء.

***

ص: 14

166 -

وَعَنْ عَامِرِ بْن رَبِيعَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَأَشْكَلَتْ عَلَيْنَا القِبْلَةُ، فَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَنَزَلَتْ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

وله شاهدٌ من حديث جابر عند الدَّراقطني (1/ 272)، والحاكم (1/ 324)، والبيهقي (2/ 10)، وقال الحاكم: هذا حديث يحتج برواته كلهم، غير محمد بن سالم، فإنِّي لا أعرفه بعدالةٍ ولا جرح، وتعقَّبه الذهبي بقوله: هو أبو سهل، واهٍ.

قال الألباني: وللحديث متابعةٌ أخرى فيها ضعف.

وبالجملة، فالحديثُ بطرِقِهِ الثلاثِ يرتقي إلى درجة الحسن، إنْ شاء الله.

* مفردات الحديث:

- الفاء: الفاء في {فَأَيْنَمَا} للاستئناف.

- أين: اسمُ شرطٍ جازمٌ، في محلِّ نصب ظرف مكان، متعلِّق بما بعده.

- ما: زائدة.

- تولُّوا: فعل الشرط، مجزومٌ بحذف النون، والواو فاعل.

- فثمَّ: الفاءُ رابطةٌ لجواب الشرط. و"ثمَّ": ظرفُ مكان، مبنيٌّ على الفتح، في محل نصبٍ، متعلِّقٌ بمحذوفٍ، خبرٌ مقدَّم.

(1) الترمذي (345).

ص: 15

- أشكلت: أشكَلَ يُشْكِلُ إشكالاً، أي: التبَسَتْ علينا جهةُ القبلة، في تلك الليلة المظلمة.

*ما يؤخذ من الحديث:

1 -

إذا أشْكَلَتْ جهةُ القبلة على المسافر، وصلَّى، ثمَّ تبيَّنَ له خطؤه، فصلاته صحيحة، سواءٌ علم بالخطأ في الوقت، أو بعده.

2 -

أنَّ استقبال القبلة شرطٌ من شرائط الصَّلاة، لا تصحُّ بدونه، سواءٌ أكانت الصَّلاة فرضًا أو نفلاً؛ لقوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].

3 -

قال الشيخ تقي الدِّين: استقبالُ القبلة في الصلاة من العلم العامِّ عند كل أحد، وأنَّه من شرائط صحَّة الصَّلاة.

قال ابن رشد: ما نُقِلَ بالتواتر، كاستقبال القبلة، وأنها الكعبة، لا يردُّه إلَاّ كافر.

4 -

قال العلماء: ومن قَرُبَ من الكعبة بأنْ أمْكَنَهُ معاينتها، ففرضهُ إصابةُ عينها، وأمَّا من بَعُدَ عنها، ففرضُهُ استقبالُ جهتها.

قال في الإنصاف: البعد هنا هو بحيثُ لا يقدرُ على المعاينة، ولا على من يخبرهِ بِعِلْمٍ، وليس المرادُ مسافةَ قصر ولا ما دونها.

5 -

تفسيرُ الايَة الكريمة، قال ابن جرير: نزلتْ هذه الآية في قوم عَمِّيَتْ عليهم القبلة، فصلَّوْا على أنحاء مختلفة؛ فقال تعالى:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة: 115].

6 -

علماء السلف أثبتوا لله تعالى جهة علوِّ تليقُ بجلال الله وعظمته، ملاحظين في ذلك انتفاءَ إحاطةِ شيء به سبحانه وتعالى؛ فهو جلَّ وعلا المحيطُ بكلِّ شيء.

***

ص: 16

167 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا بيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةٌ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَوَّاهُ البُخَارِيُّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ.

أخرجه الترمذي، وابن ماجه، قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح، وقد قوَّاه البخاري، ورجالُهُ كلُّهم ثقات.

* مفردات الحديث:

- بين: كلمةُ تنصيف وتشريك، وهي ظرفٌ بمعنى وسط، فإنْ أُضيفَتْ إلى ظرف الزمان، كانتْ ظرفَ زمان، كقولك: أتيتُكَ بين الظهر والعصر، وإذا أُضيفَتْ إلى ظرفِ المكان، كانت ظرفَ مكان، تقول: داري بين دارك ودار أخيك.

- القِبْلَة: بكسر القاف، وسكون الباء: هي الجهة، والمراد بها هنا: الكعبُة المُشَرَّفَة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الجهات الرئيسةُ الأفقيَّة أربعٌ: الشّمَالُ، ويقابله الجنوب، والشَّرْقُ، ويقابله الغرب، فما بين الشرق إلى الغرب (180) درجة، فهذه المسافة كلُّهَا قبلةٌ لمن لم يشاهد الكعبة، وكذلك قَدْرُهَا من غير جهتها.

2 -

الحديثُ دليلٌ على أنَّ الواجب على من لم يشاهد الكعبةَ استقبالُ الجهة، لا العين؛ فالحديثُ يدلُّ على أنَّ ما بين الجهتين قبلَةٌ، وأنَّ الجهة كافيةٌ في

(1) الترمذي (344)، ابن ماجة (1011).

ص: 17

الاستقبال.

3 -

أمَّا مشاهدُ الكعبة، فقال العلماء في حكمه: وفرضُ مَنْ عايَنَ الكعبةَ إصابةُ عينها، بحيثُ لا يخرُجُ شيءٌ منه عن الكعبة، قال في الإنصاف: بلا نزاع، وذلك كمَنْ في المسجد الحرام، أو كان خارجَهُ، وينظُرُ إليها.

4 -

قال ابن القيِّم: الصوابُ: أنَّه مع كثرة البعد يكثُرُ المحاذي للعين؛ فإنَّ الدائرة إذا عظصت اتسعَتْ جدًّا؛ فإنَّ التقوُّس لا يظهر في جوانب محيطها، إلَاّ خفيفًا، فيكون الخط الطويل متقوِّسًا نحو نظره، وهذا لا يظهر للحس.

5 -

ما ذكره الإمام ابن القيم مبنيٌّ على نظرية هندسية هي: "محيط الدائرة يتناسب تناسبًا طرديًّا، مع نصف القطر" يعني: أنَّه كلَّما بعدت المسافة عن الكعبة، زاد عدد المصلِّين القاصدين نفس جهة القبلة "الكعبة".

6 -

استقبالُ القبلة شرطٌ لصحة الصلاة؛ فقد قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، لكن الاستقبال يسقط بأمورٍ، منها:

أوَّلاً: العجز: إذا عَجَزَ عن استقبال القبلة لمرضٍ أو ربطٍ، فيسقط عنه، ويصلِّي حيث توجَّه؛ لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ومثل المريضِ والمربوطِ مَنْ كان في الطائرة، ولا يجدُ مكانًا يصلِّي فيه إلَاّ كرسيَّه المتَّجه إلى غير القبلة، صلَّى حيث اتجاهه.

ثانيًا: الخائف: فإذا قاتَلَ العدوَّ أو هرَبَ منه أو من سيل أو غير ذلك، ووجهتُهُ إلى غير القبلة، صلَّى حسب ما توجه؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]، والخائف سواءٌ أكان راجلاً أو راكبًا، سيتوجَّه حيث مأمنه.

ثالثًا: النَّافلة في السفر: فإذا كان الإنسان سائرًا راجلاً أو راكبًا، فإنَّه يصلِّي حيث توجَّه؛ لحديث عامر بن ربيعة قال: "رأيت النبَّي صلى الله عليه وسلم يصلِّي على

ص: 18

راحلته حيث توجَّهَتْ به، ولم يصنعه في المكتوبة" [رواه البخاري (1093) ومسلم (701)].

والمشهور من مذهب الإمامِ أحمد: أنَّه يلزمه الاستقبالُ عند تكبيرة الإحرام بالدَّابَّة أو بنفسه؛ لحديث أنس الَّذي في أبي داود.

والرِّواية الأخرى عن الإمام أحمد: أنَّه لا يلزمه الاستقبالُ حتَّى عند تكبيرة الإحرام، وهو مذهبُ أبي حنيفة، ومالك؛ لإطلاقِ الأحاديث الصحيحة، أمَّا حديث أنس: فيحمل على الاستحباب.

قال ابن القيم: حديث أنس فيه نظر، فكلُّ من وصفوا صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته، أطلقوا أنَّه كان يصلِّي عليها قِبَل أيِّ جهة توجَّهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرةَ الإحرامِ، ولا غيرها.

رابعًا: مذهبُ الإمامِ أحمد: جوازُ الصلاة على الرَّاحلة في السفر، ولو قصيرًا، قال في. المنتهى وشرحه:"وتجوز الصَّلاةُ على الراحلة إلى غير القبلة في النَّافلة، وفي السفر ولو كان قصيرًا، نصَّ عليه".

***

ص: 19

168 -

وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه قَالَ: "رأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بهِ" متَّفقٌ عَلَيْهِ.

زَادَ البُخَارِيُّ: "يُومِىءُ بِرَأسِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَصْنَعُهُ فِي المَكْتُوبةَ"(1).

وَلأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَديثِ أَنَسٍ رضي الله عنه: "وَكَانَ إذَا سَافَرَ فَأَرَادَ أنْ يَتَطَوَّعَ، اسْتَقْبلَ بِناقَتِهِ القِبْلَةَ، فَكَبَّرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُ رِكَابِهِ" وَإسْنَادُهُ حَسَنٌ (2).

ــ

* درجة الحديث:

حديث أنس حسن، فقد حسَّنه ابن حجر، والنووي في المجموع، وصحَّحه ابن السكن وابن الملقِّن.

* مفردات الحديث:

- راحلته: يُقال: رَحَلَ يرحَلُ رحيلاً، من باب نفع، بمعنى: شَخُص وسار، والرَّاحلة من الإبل: ما يرحل، سواء كانت ذكرًا أو أُنثى، تسمى الرَّاحلة والرحول، والهاء فيه للمبالغة لا التأنيث، جمعها رواحل.

- حيث: ظرف مكان، وهي مبنيةٌ على الضم، وهي مُلَازِمَةٌ للإضافة إلى جملة، اسمية كانت أو فعلية، والفعلية أكثر.

- حيث توجَّهت به: أي: إلى أي جهة وجِّهت الدَّابة، صلَّى إلى القبلة أو غيرها.

(1) البخاري (1093، 1097)، مسلم (701).

(2)

أبو داود (1225).

ص: 20

- يُومىء: ماضيه "أومأ"، وأصله: ومأ، أي: يشير.

- المكتوبة: المفروضة، وهي الصلواتُ الخمس.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

جوازُ صلاة النَّافلة على الرَّاحلة في السفر، ولو قصيرًا، ولو بلا عذر، والرَّاحلة سواءٌ أكانت ناقة أو غيرها؛ فقد جاء في مسلم (700)"أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى على حماره".

قال البغوي: يجوزُ أداءُ النَّافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير عند أكثر أهل العلم.

2 -

أنَّه لا يلزمُ المصلِّي على الرَّاحلة استقبالُ القبلة، بل يتوجَّه حيث جهةُ سيره.

3 -

أنَّه لا يلزمُ الركوعُ والسجود، بل يكفي الإيماءُ برأسه؛ إشارةً إلى الركوع وإلى السجود، ويكونُ السجود أخفَضَ من الركوع، كما في زيادة ابن خزيمة:"ولكنَّه يخفضُ السجدَتَيْن من الركعة".

4 -

أنَّ هذا لا يجوزُ في الفريضة، بل يجبُ أن يصلِّيها مستقرًّا في الأرض.

5 -

ظاهرُ حديث أنس أنَّه يجب عليه الاستقبال عند تكبيرة الإحرام، فإذا كبَّر للإحرام صلَّى متوجِّهًا جهة سيره، وتقدَّم ما هو الرَّاجحُ في الحديث الَّذي قبل هذا.

6 -

هذا كله بناءً على شدَّة الاهتمام بالفريضة، ووجوب أدائها على أكمل وجه؛ بخلاف النَّافلة: فإنَّ فيها تيسيرًا وتسهيلاً.

7 -

هذا التسهيلُ والتخفيف في النوافل ترغيبًا في الإكثار منها، وأنَّه لا يمنع من الإكثار منها أيُّ عذر.

8 -

المشهورُ من مذهب الحنابلة: أنَّ الصَّلاة المكتوبة لا تجوزُ على الرَّاحلة إلَاّ بعذر؛ لما روى أحمد، والترمذي، عن يعلى بن أمية "أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مَضِيقٍ هو وأصحابه، وهو على راحلته، والسماءُ مِن فوِقِهم، والبلة أسفل

ص: 21

منهم، فَحَضَرَتِ الصلاة، فأمر المؤذِّنَ، فأذَّنَ وأقام، ثمَّ تقدَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فصلَّى بهم يومىء إيماءً، يجعَلُ السجودَ أخفَضَ من الركوع".

وتصحُّ في سفينة، ولو مع القدرة على الخروج منها، إذا أتى بما يعتبر لها من قيام، واستقبال قبلة، وغيرهما؛ لما روى الدَّارقطني والحاكم، عن ابن عمر قال:"سُئِل النبَّيُّ صلى الله عليه وسلم كيف أُصلِّي في السفينة؟ قال: صَلِّ فيها قائمًا إلَاّ أنْ تخَافَ الغَرَقَ".

أخرجه الحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي، لكنَّه قال: وهو شاذٌّ بمرَّة، وأخرجه الدَّارقطني وضعَّفَه.

9 -

مثل الباخرة السيَّارة، قال الشيخ صِدِّيق حسن: وأمَّا العجلة النَّارية، كالقطارات والسيَّارات والترامات ونحوها، فحُكْمُهَا عند الشَّافعيَّة حكمُ السفينة، وحكمها عند الأحناف حكمُ الرَّاحلة.

وأمَّا الطائرة: فتصح مع الإتيان بما يعتبر لها، وإلَاّ لم تصح، إلَاّ أنْ يخشى أنْ يخرُجَ الوقتُ عليه وهو فيها، فيصلِّي حسب حاله.

***

ص: 22

169 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَاّ المَقْبرَةَ وَالحَمَّامَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَهُ عِلَّةٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

أخرجه الشَّافعي (2/ 20)، وأحمد (11375)، وأبو داود (492)، والترمذي (317)، وابن ماجه (745)، وابن خزيمة (2/ 7)، وابن حِبَّان (4/ 498)، والحاكم (1/ 380).

وقد اختُلِفَ في وصله وإرساله، فرواه حمَّاد موصولاً، ورواه الثوري مرسلاً، ورواية الثوريِّ أصحُّ وأثبت، قال: الدَّارقطني: المحفوظُ المرسل، ورجَّحه البيهقي، ونقل ابن حَجَرٍ في التلخيص عن صاحب "الإمام" قال: حاصل ما عُلِّل به الإرسال، وإِذا كانَ الواصلُ له ثقةً، فهو مقبول.

قال المناوي في فيض القدير: قال الترمذي: فيه اضطرابٌ، وتبعه عبدالحق، وضعَّفه جمع، وقال ابن حجر: حديث مضطرب.

وقال أيضًا: رجال ثقات، لكن اختلف في وصله وإرساله، وحكم مع ذلك بصحَّته الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان، وقال ابن حجر أيضًا في التلخيص: له شواهد.

وقال ابن تيمية: أسانيده جيدة، ومن تكلَّم فيه ما استوفى طرقه. وصحَّحه الألباني.

(1) الترمذي (317).

ص: 23

وأشار البخاري إلى صحَّته في جزء القراءة، وهو الأقرب.

* مفردات الحديث:

- إلَاّ المقبرة. المستثنى هنا يجبُ فيه النصب، ولا يجوز غيره؛ ذلك أنَّ المستثنى واقعٌ في كلامٍ تامٍّ موجب.

والمقبرة: مثلَّثة الباء، وهي موضعُ القبور.

- مسجد: بفتح الجيم وكسرها: الموضعُ الَّذي يُسْجَدُ فيه، وهو مشتقٌّ من سَجَدَ يَسْجُدُ سجودًا، أي: خضع وذلَّ، وكل موضع يتعبَّد فيه فهو مسجد.

- الحَمَّام: بفتح الحاء، وتشديد الميم، جمعه حمَّامات، هو المغتسل، مذكَّر، وقد يؤنث.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الأرضُ كلُّها مسجد، فأي بقعةٍ من الأرض حضَرَتِ المسلمَ فيها الصلاةُ صلَّى فيها، وهذا ما يفيده أحاديث كثيرة، منها: حديث: "أُعطيت خمسًا لم يعطهنَّ أحدٌ من قبلي: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا".

2 -

لا تصحُّ الصلاة في المقبرة التي هي مدفن الموتى؛ لما روى مسلم (972) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلُّوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها".

قال ابن حزم: أحاديثُ النَّهي عن الصَّلاة في المقبرة متواترة، لا يسع أحدًا تَركُهَا. وجزَمَ غيرُ واحدٍ من المحقِّقين بأنَّ العلَّة سَدُّ الذريعة عن عبادة أربابها.

قال ابن القيم: تعظيمُ القبور أعظمُ مكائد الشيطان، التي كاد بها أكثَرَ النَّاس، وما نجا منها إلَاّ مَنْ لم يُرِدِ الله له الفتنة.

قال الشيخ تقي الدِّين: عمومُ كلامهم يوجبُ منعَ الصَّلاة عند قبرٍ واحدٍ، وهو الصوابُ، واستثني صلاة الجنازة بالمقبرة؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، فخصَّ النَّهي بذلك؛ لأنَّها دعاء للميت، لا تشمل ركوعًا ولا سجودًا، ولا خفضًا ولا رفعًا.

ص: 24

3 -

يستفاد من النَّهي عن الصلاة في المقبرة، النَّهيُ عن كلِّ مكانٍ فيه أشياء يخشى أنَّ تعظيمَهَا يؤدِّي إلى عبادتهاة كالصَّلاة عند التماثيل، والصور، والكنائس.

4 -

لا تصحُّ الصَّلاة في الحَمَّام، وهو الموضعُ الَّذي يُغْتَسَلُ فيه بالماء الحميم، والعلَّةُ في المنعِ ما جاء مرفوعًا:"الحَمَّام بيت الشيطان"، فهو من الأماكن التي تكشف فيه العورات، ويوجدُ فيه الاختلاط؛ فصار من مواطن الشيطان التي نادَى إليها.

5 -

يستفاد من النَّهْي عن الحَمَّام، النَّهْيُ عَمَّا شابهه من مواطن الشياطين؛ كمجالس اللهو المحرَّم منَ الأفلام الخليعة، والأغاني الماجنة، والألعاب المحرَّمة، ومجالس المجون، ونحو ذلك، فكلُّها مواطن شياطين، تتنزَّه عنها طاعة الله وعبادته.

قال شيخ الإسلام: تكره الصَّلاة في كلِّ مكانٍ فيه تصاوير، وهو أحقُّ بالكراهة من الصلاة في الحَمَّام؛ لأنَّ كراهة الصَّلاة في الحمام: إمَّا لكونه مظنَّة النَّجاسة، وإمَّا لكونه بيت الشيطان، وهو الصحيح، وأمَّا محل الصور فَمَظِنَّةُ الشرك.

وقال النووي: الصَّلَاةُ في مأوى الشيطان مكروهٌ بالاتفاق، وذلك مثل مواضع الخمر، والحَانَةِ، ومواضعِ المُكُوس، ونحوها من المعاصي الفاحشة، والكنائس، والبِيَعَ، والحشوش، ونحو ذلك.

***

ص: 25

170 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ يُصَلَّى فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ: المَزْبلَةِ، وَالمَجْزَرَةِ، وَالْمَقْبرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالحَمَّام، ومَعَاطِنِ الإِبِل، وَفَوْقَ ظَهْرِ بيتِ اللهِ تَعَالى" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ (1).

ــ

درجة الحديث:

الحديث ضعيف.

رواه الترمذي، وابن ماجه (746)، والطحاوي، والبيهقي (2/ 329) عن زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر.

قال البيهقي: تفرَّد به زيد بن جبيرة، قال البخاري: منكر الحديث جدًّا.

وقال الترمذي: ليس بالقوي، قال ابن عبد البر: أجمعوا على ضعفه، قال الحافظ: متروك.

قال الحافظ في التلخيص الحبير: "في سند ابن ماجة عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف".

* مفردات الحديث:

- المَزْبَلَة: بفتح الميم والباء على الأصح، وهي مكان إلقاء الزبل، وهو السرجين (كلمة أعجمية ومعناها السماد) والقمامة.

- المَجزرة: بفتح الميم، المكان الَّذي تجزر فيه المواشي، أي تذبح أو تنحر.

- المقبرة: مثلثة الباء، موضع القبور.

- قارعة الطريق: ما تقرعه الأقدام بالمرور، والمراد به: الجادَّة، والطريق الواسعة.

(1) الترمذي (346).

ص: 26

- الحمَّام: بفتح الحاء، وتشديد الميم، ثمَّ ألف، وآخرُهُ ميم: هو المكان المُعَدُّ بمائه الحميم للاغتسالِ، جمعه حَمَّامَات.

- مَعَاطِن الابلَ: بفتح الميم، وعين مهملة، وكسر الطاء المهملة، فنون، واحدها عَطَن، بفتح العين والطاء، هي مَبَارِكُ الإبل عند الماء، وما تقيمُ فيه وتأوي.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديثُ فيه النَّهي عن الصَّلاة في سبعة مواطن، وعدَّدها.

2 -

الحديثُ ضعيفٌ لا تقومُ به حجَّة على حكمٍ شرعي؛ لأنَّ فيه زيدَ بنَ جبيرة، قال ابن عبد البر: أجمعوا على ضعفه، وقال الحافظ: متروك.

3 -

فبناءً عليه: فالمواطنُ السبعة بعضُهَا ثبت النَّهي عن الصَّلاة فيه من طرق أخر، فهذه يكون منهيًّا عنها، ومكتسب النَّهي والتحريم من غير هذا الدليل، وأمَّا الَّتي لا يوجد لها دليلٌ غير هذا الحديث، فهي تبقى على أصل الإباحة والطهارة؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"جُعِلَتْ لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا"[رواه البخاري (328)، ومسلم (521)].

4 -

أمَّا أدلَّة المواطن المحرَّمة، فهي:

(أ) المقبرة والحمام: تقدَّم دليلُ المنع فيهما في الحديث الَّذي قبل هذا.

(ب) أعطانُ الإبل: لما روى أحمد (16900)، والترمذي (348)، وغيرهما، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُصلُّوا في أعطان الإبل".

(ج) الحُشَّ: قال ابن عباس: "لا يصلِّيَنَّ أحدكم في حُشٍّ، ولا في الحمام"، قال ابن حزم: لا نعلم لابن عبَّاسٍ مخالفًا من الصحابة.

والحُشّ: هو مأوى الأرواح الخبيثة؛ ولذا يستحبُّ لداخله أنْ يستعيذ بالله تعالى من الشيطان، فيقول:"أعوذ بالله من الخبث، والخبائث".

(د) المجزرة: هي موضعُ نجاسةٍ؛ لما يراقُ فيها من الدماء المسفوحة

ص: 27

النجسة؛ ولذا تحرم فيها الصلاة.

(هـ) المزبلة: هي ملقى الكناسة، والقمامة، والفضلات، والسرجين؛ فتحرم فيها الصلاة.

(و) أمَّا قارعة الطريق: فهي الطريقُ العامَّة وأرصفتها، فالمشهورُ من مذهبنا: منْعُ الصَّلاة فيها؛ لهذا الحديث، ولكثرة المرور فيها، وانشغال القلب في المارِّين.

والرِّواية الأخرى: صحةُ الصلاة فيها، وهو مذهبُ جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي؛ فهي باقيةٌ على أصل الجواز.

(ز) فوق الكعبة لهذا الحديث، وهو المشهور من المذهب.

والقولُ الثاني: جوازُ الصلاة عليها فرضًا أو نفلاً، وهو قول جمهور العلم.

قال الموفَّق: الصحيحُ جوازُ الصَّلاة فيها؛ لعموم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا".

* خلاف العلماء:

المشهور من مذهب الإمام أحمد وأتباعه: النَّهْيُ عن الصلاة في المواطن السبعة، وهو من المفردات، ودليلُ الحنابلة حديثُ الباب، وهو غيرُ عمدة.

وذهب الأئمة الثلاثة: إلى أنَّها تصحُّ الصَّلاة فيها، إلَاّ المقبرةَ، ومعاطنَ الإبل، والحُشَّ.

ودليل الجمهور على طهارتها، وجواز الصَّلاة فيها: عمومُ قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، واستثنى منه المقبرة، والحمَّام، ومعاطن الإبل، بأحاديث صحيحة.

قال الموفَّق: الصحيحُ جوازُ الصَّلاة فيها، وهو قولُ أكثر أهل العلم.

ص: 28

وأمَّا الحديث: فضعيف لا تقوم به حجَّة.

ذهب بعض العلماء: إلى أنَّ العلَّة في النَّهي عن الصَّلاة في معاطن الإبل، وعدم صحتها فيها، هي نجاسَتُهَا، وهي مبنيةٌ على القول بأنَّ جميعَ أرواثِ وأبوال الحيوان نجسة، سواءٌ منها الحلالُ المأكول، أو محَرَّمُ الأكل.

وهذا قولٌ ضعيفٌ، مخالفٌ للأدلة الصحيحة، فإنَّ ما يؤكل لحمه، طاهرُ الفضلات، وقد أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم العُرَنيِّين أنْ يَشْرَبُوا أبوال الإبل، ولو كانت نجسةً لم يُبِحْهَا، ولو أباحتها الضرورةُ لأمَرَ النَّبيُّ بالتحرُّز منها، وغَسْل نجاستها من أفواهَهم وثيابهم وأوانيهم وغير ذلك، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجَة لا يجوز.

وذهب بعضهم: إلى أنَّ العلَّة تعبُّدية، فلا نعقلُ حكمتها ولا سرَّها، وما علينا إلَاّ أنْ نقولَ: سمعنا وأطعنا، والعلَّةُ والحكمةُ هي ما أَمَرَ الشرعُ أو نهى عنه، وذلك كافٍ للمؤمن؛ قال تعالي:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]؛ فالواجب: التسليمُ والانقيادُ والإيمانُ الصَّادق بأنَّ الله تعالى لم يشرع شيئًا إلَاّ وله مصلحةٌ، ومنفعةٌ وحكمة، قد تظهر وقد تخفى.

وذهب بعض أهل العلم: إلى أنَّ العلَّة في الصَّلاة في معاطن الإبل، هي العلَّةُ بالأمر بالوضوء من لحومها، وذلك أنَّ الإبلَ لها قُرَنَاءُ من الشياطين، تأوي معها إلى معاطنها، ولذا يعرف رعاة الإبل والَّذين يسوسونها بالكبرياء والتعظُّم، تأثُّرًا بمعاشرتها.

وبهذا: فالصَّلاة لا تصحُّ في الأمكنة التي تأوي إليها الشياطين، والله أعلم.

***

ص: 29

171 -

وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الغَنَوِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تُصَلُّوا إِلَى القُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أبي مَرْثَد: بفتح الميم، وسكون الرَّاء، ثمَّ ثاء مثلَّثة، ثمَّ دال.

- الغنوي: بفتح الغين المعجمة، نسبةً إلى قبيلة غَنِيِّ بنِ أعصر، إحدى القبائل العدنانية، اسمُهُ: كِنَازُ بن حُصَيْن، صحابيٌّ، حليف بني هاشم.

- القبور: جمع قبر، والمقبرة بضم الباء وفتحها: موضع القبور، والجمع مقابر، وَقَبَرْتُ الميتَ: دفنته، وأقبرته: أمرتُ بدفنه، ومنه:{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)} [عبس].

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

النهي عن الصلاة إلى القبور، بأنْ تكون المقبرةُ في جهة المُصَلِّى.

2 -

النَّهي يقتضي الفسادة فتكونُ الصَّلاة باطلةً.

3 -

حكمة النَّهْي هو خشيةُ تعظيمها، الَّذي قد يؤُولُ إلى عبادةِ أصحابها.

قال ابن القيم: من أعظم مكائد الشيطان التي كاد بها، أكثرُ ما أوحاه قديمًا وحديثًا إلى حزبِهِ وأوليائِهِ من الفتنة في القبور، حتَّى آل الأمرُ فيها إلى أنْ عُبِدَ أربابُهَا من دون الله، أو عُبِدَتْ قبورهم، ووإن أوَّلُ هذا الدَّاءِ العظيمِ في قوم نوح.

قال ابن حزم: أحاديثُ النَّهي عن الصَّلاة في المقبرة متواترةٌ، ولا يَسَعُ

(1) مسلم (972).

ص: 30

أحدًا ترْكُهَا.

4 -

قال فقهاء الحنابلة: ولا يضر قبر وقبران؛ لأنَّها لا تسمَّى مقبرةً حتَّى يكون فيها ثلاثة قبور فأكثر، ولأنَّ العلَّة عند هؤلاء الفقهاء لم تعقل.

قال الشيخ تقي الدِّين: العلَّة هي ما يُفْضِي إليه ذلك من الشرك، ثمَّ قال: عمومُ كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجبُ مَنْعَ الصَّلاة عند قبرٍ واحدٍ، وهو الصواب.

5 -

وبهذا فإنَّ الصَّلاة لا تصحُّ في مسجد فيه قبر، ولو كان واحدًا، أو كان القبر في مؤخَّر المسجد ما دام أنَّه داخلٌ في المسجد.

6 -

النَّهْيُ عن الجلوس على القبور؛ لأنَّ ذلك إهانةٌ لأصحابها؛ فقد جاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"لأنْ يَجْلسَ أحدُكُمْ على جمرةٍ، فتحرقَ ثيابه، فتخلُصَ إلى جلده، خيرٌ من أنْ يجلس على قبر"، فيكون تحريمُ الوطء عليه أولَى؛ لما في ذلك من الاستخفاف بحق المسلم؛ لأنَّ القبر بيته، وحرمتُهُ ميتًا كحرمته حيًّا.

والنَّهج الصحيح: أنَّ المسلم لا يكون غاليًا ولا جافيًا؛ فلا تعظيم للقبر، يجُرُّ إلى الفتنة، ولا استخفافَ بالقبورِ وأصحابها، تذهَبُ بحرمتهم، وخيرُ الأمور الوسط، والله الموفِّق.

***

ص: 31

172 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَاءَ أحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ، فَلْيَنْظُرْ: فَإِنْ رَأى فِي نَعْلَيْهِ أذًى أوْ قَذَرًا، فَلْيَمْسَحهُ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا" أَخْرَجَهُ أَبُودَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

صحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان (5/ 560)، والحاكم (1/ 235)، ووافقه الذَّهبي، وقال النووي في المجموع: حديثٌ حسن رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح، واعتمد الألباني في إرواء الغليل تصحيحه، وكذلك في صحيح أبي داود.

* مفردات الحديث:

- أذًى: الأذى يأتي بمعنى القَوْلِ المكروه؛ كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، وقوله:{وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48].

ويأتي بمعنى القذر؛ كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]، والمراد هنا: القذر.

- قذر: مصدر قَذِرَ الشيءُ فهو قَذِرٌ، من باب تعب، وهو الوسخ.

- أذى، أو قذر: الشك من الرَّاوي.

(1) أبو داود (650)، ابن خزيمة (786).

ص: 32

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

يدل الحديثُ على جواز الصَّلاة في النعلَيْن، إذا كانا طاهرَيْن، وأنَّ الصَّلاة فيهما من السنَّة.

2 -

منعُ الدخولِ بهما المسجد، إذا كان فيهما أذًى، أو قذرٌ، أو نجاسة.

3 -

إذا أراد دخولَ المسجد بهما والصَّلاةَ فيهما، فيجبُ عليه النَظَرُ إليهما: فإن رأى فيهما قذرًا، أو أذًى، مسحَهُ بالأرض أو بغيرها، ثمَّ دَخَلَ بهما، وصلَّى بهما إنْ شاء ذلك.

4 -

المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لو صلَّى جاهلاً، أو ناسيًا أنَّ في بدنه أو ثوبه، أو نعله نجاسةً، فإنَّ صلاته غير صحيحة، وعليه إعادتها.

والرواية الأُخرى عنه: أنَّ صلاته صحيحةٌ، ولا يعيد.

اختار هذه الرِّواية الأخيرةَ الموفَّق ابن قدامة، والمجد، وشيخ الإسلام، وابن القيم، وغيرهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى في نعليهِ، فلمَّا كان في أثناء الصَّلاة خلعهما، بعد أنْ أخبره جبريل أنَّ فيهما نجاسةً، ثمَّ بنى على ما مَضَى من صلاته، ولأنَّ الصَّلاة بالنَّجاسة من باب فِعْلِ المحظور، وما كان مِنْ فعل المحظور، فإنَّ الإنسانَ إذا فعله ناسيًا، أو جَاهلاً، فلا شيء عليه؛ لقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]؛ بخلاف ترك المأمور: فلا يُعْذَرُ بجهله، ولا نسيانه، فلابُدَّ من الإتيانِ به، فقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسيءَ في صلاته أن يعيدها، حتَّى أتى بها على الوجه الصحيح.

5 -

احترامُ المساجد، وتطهيرُهَا عن الأذى والقذر؛ لأنَّها موضعُ عبادة، فيجب أنْ تكون طاهرةً نظيفة؛ قال تعالى:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} [الحج: 26].

***

ص: 33

173 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا وَطِىءَ أَحَدُكُم الأَذَى بِخُفَّيْهِ، فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف؛ لكنْ له طرقٌ يشد بعضها بعضًا، تجعله محتجًّا به.

وقد أخرجه ابن السكن، والحاكم (1/ 271)، والبيهقي (2/ 430) من حديث أبي هريرة، وسنده ضعيف، وفي الباب غير هذا، بأسانيدَ لا تخلو من ضعف، إلَاّ أنَّه يشُدُّ بعضها بعضًا.

قال الشوكاني: وهذه الروايات يقوِّي بعضها بعضًا، فتنهضُ للاحتجاج بها على طهارة النَّعل بدلكه في الأرض، رطبًا أو يابسًا.

* مفردات الحديث:

- وطىء: من باب سمع، ومعناه: داس.

- بِخُفَّيهِ: تثنية خف، وهو ما يُلْبَسُ في الرِّجْل من جلدٍ رقيق.

- طهورهما: بفتح الطاء: الشيء الَّذي يتطهَّر به.

- التراب: بضم التاء المثناة الفوقية ما نَعُمَ من أديم الأرض.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الأذى -هنا- النجاسةُ، كما تشمَلُ أيضًا ما يستقذرُ من غير النجاسة، ودليل إرادة النجاسة قولُهُ:"فطهورهما التراب"، فالطهورُ لا يكون شرْعًا إلَاّ من نجاسة.

(1) أبو داود (386)، ابن حبَّان (4/ 250).

ص: 34

2 -

أنَّ نجاسة الخف يكفي في تطهيرها مَسْحُهَا بالتراب وَدَلْكُهَا به، دون الماء.

3 -

هذا راجعٌ لسماحة الشريعة ويسرها، فالخُفُّ كثيرًا ماَ يصاب بالأذى والنجاسة، من أجل مباشرته الأرض، فلو لم يَكْفِ في تطهيره إلَاّ الماء، لَشَقَّ ذلك، ولأدَّى أيضًا إلى إتلافه بالماء بتكرُّره عليه.

4 -

المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لا يطهر شيء بغير الماء، فلا يطهر الخُفُّ بمسحه في الأرض، ولا تطهيره بالتراب، ذلك أنَّ الماء تَعَيَّنَ لإزالة النجاسات، فلا يقوم غيره مقامه.

والرِّواية الأخرى عن الإمام أحمد: يطهر الخفُّ بالدلك في الأرض؛ اختارها الموفَّق، والشَّارحُ، وتقي الدِّين، وجماعة.

قال في الفروع: وهي أظهر، وهذا هو الرَّاجح دليلاً وتعليلاً؛ فقد جاء في سنن أبي داود (385) من غير وجه؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"فليدلكهما بالتراب؛ فإنَّ التراب لهما طهور".

5 -

قال شيخ الإسلام: لم يأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم أمرًا عامًّا بأنْ تزال النجاسات بالماء، وقد أذن بإزالتها بغير الماء في مواضع: الاستجمار، والنعلين، وذيل المرأة.

وهذا القول هو الصواب.

***

ص: 35

174 -

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَم رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَام النَّاسِ؛ إنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، والتَّكبِيرُ، وَقِرَاءَةٌ القُرآنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- لا يصلح: "لا": نافية؛ ولذا فالفعل المضارع بعدها مرفوع، ولام "يصلُحُ" تكون بالضم والفتح.

- التسبيح: مصدر سبَّح، والتسبيحُ بمعنى التنزيه والتقديس، ويكونُ بمعنى ذكر الله تعالى، يُقال: فلان يسبِّح الله، أي: يذكُرُهُ بأسمائه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

سببُ الحديث أنَّ رجلًا عَطَسَ في الصَّلاة، فشمَّته معاويةُ بن الحكم، وهو في الصَّلاة، فأنكر المصلُّون من الصحابة، بما أفهَمَهُ ذلك، وبعد الصَّلاة علَّمه النَّبيٌّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنَّ هذه الصَّلاة لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلام النَّاس إنَّما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن".

2 -

أنَّ مخاطبة النَّاس في الصَّلاة -ولو بالدعاء- عمدًا يُبْطِلُ الصَّلاة؛ ولذا قال فقهاؤنا: وتبطُلُ الصَّلاة بـ"كاف الخطاب"، إلَاّ لله تعالى، ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

3 -

أنَّ مخاطبة الناس في الصَّلاة إعراضٌ عن مناجاة الله تعالى؛ فقد جاء في البخاري (417) ومسلم (551) من حديث أنس وغيره، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إذَا قال أحدكم في صلاته، فإنَّه يناجي ربَّه".

(1) مسلم (537).

ص: 36

4 -

يستحب للمصلِّي ويتأكَّد عليه حضورُ قلبه في الصَّلاة، فلا يلهيه عن معانيها وأحوالها مُلْهٍ، بل يُفْرِغُ قلبه ويستجمعه، لاستحضار ما يقولُ فيها ويفعل؛ فقد جاء في البخاري (1199) ومسلم (538) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الصلاةِ لَشُغْلاً".

5 -

قد يُظَنُّ أن بين هذا الحديث، وبين حديث "المسيء صلاته"، أنَّ بينهما تعارضًا؛ ذلك أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر المسيء في صلاته أنْ يعيد الصلاة -ثلاث مرَّات- حتَّى أتى بها على الوجه الصحيح؛ أمَّا معاويةُ بن الحكم فلم يأمُرْهُ بالإعادة، مع أنَّه تكلَّمَ في الصَّلاة عمدًا.

ووجه الجمع بين الحديثَيْن من أحد وجوهٍ ثلاثةٍ:

أحدها: أنَّ المسيء في صلاته تَرَكَ ما هو واجبٌ في الصَّلاة، وأمَّا معاوية. فقد فَعَلَ مَا نُهِيَ عنه فيها، وَتَرْكُ المأمور أعظَمُ من فعل المحظورة ولذا فإنْ تارك المامور لا يُعْذَرُ بجهلٍ ولا نسيان؛ بخلاف فاعل المنهيِّ عنه: فهو معذور في حال الجهل والنسيان.

الثاني: أنَّ المسيء تَرَكَ ما تقَرَّرَ ثبوتُ أصله؛ بخلاف معاوية: فهو بانٍ أصل إباحة الكلام في الصلاة، ويدل على ذلك حديث زيد بن أرقم الآتي.

الثالث: جاء في حديث معاوية قوله: "إنِّي حديثُ عهدٍ بجاهليةٍ"، والشرائع لا تلزم المسلمَ إلَاّ بعد بلوغها إيَّاها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "الشرائعُ لا تَلْزَمُ إلَاّ بعد العِلْمِ بها، فلا يقضي ما لم يعلم وجوبها.

6 -

الصَّلاةَ أقيمتْ لذكر الله تعالى؛ كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه].

فالمصلِّي مشغولٌ فيها بذكر الله تعالى، ومتنقِّلٌ من قراءة كتاب الله إلى ذكر الله تعالى، بتسبيحه، وتعظيمه، وتمجيده، وتحميده، وتكبيره،

ص: 37

وتهليله، فكلُّ خفضٍ ورفعٍ له تكبيرٌ، وكلُّ ركوعٍ وسجودٍ وقيامٍ وقعودٍ له ذكرٌ، فالمصلِّي مستغرقٌ في أذكار الله المنوَّعة، فالموفَّقُ مَنْ راقب قلبه، وأحضَرَهُ ليفهم هذه الأصول، ويتدبَّر تلك الأقوالَ والأحوال، والمحرومُ من أدَّاها بقلبٍ غافلٍ، وألفاظٍ جوفاء، وحركاتٍ صُورية خالية من معانيها، ومقاماتها العالية.

7 -

حُسْنُ تعليم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وحسنُ دعوته وإرشاده، فمعاويةُ بن الحكم لم يتكلَّم عالمًا، وإنَّما تكلَّم جاهلاً؛ ولذا لم يعنِّفه ولم يوبِّخه، وإنَّما علَّمه وأرشده -بحكمةٍ ولين- إلى أنَّ الصَّلاة مناجاة مع الله تعالى، فلا يصلح فيها شيءٌ من كلام النَّاس؛ كما أرشد الأعرابي الَّذي بال في المسجد، وكما سكت عن التائب المنيب الَّذي جامَعَ في نهار رمضان، فما زاد صلى الله عليه وسلم على أنْ أفتاه؛ فالقسوة والشدَّةُ والغِلْظةُ هي لمرتكب المحرَّم عمدًا، المُصِرِّ على فعله؛ فلكل مقامٍ مقالٌ وحال.

***

ص: 38

175 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "إِنْ كُنَّا لنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يُكَلِّمُ أحَدُنَا صَاحِبهُ بِحَاجَتِهِ، حَتَّى نَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة]؛ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، ونُهِينا عَنِ الكَلَامِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- إنْ كُنَّا لنتكلَّم: "إنْ" مخفَّفةٌ من الثقيلة، واسمُهَا محذوف، و"الَّلام" للتَّأكيد.

- يكلِّم أحدنا: جملة استئنافية كأنَّها جوابٌ عن قول القائل: كيف كنتم تتكلَّمون؟.

- حافظوا: أي: واظبوا، وداوموا.

- الوسطى: الفضلى، بألف التأنيث المقصورة، أي: الصلاة الفضلى، وهي صلاةُ العصر على الرَّاجح.

- قانتين: نُصِبَ على الحال من الضمير الَّذي في "قوموا"، واشتقاقُهُ من القنوت، والقنوتُ له معان كثيرةٌ، والمراد به هنا: السكوت.

- أُمرنا ونُهينا: مبنيَّان للمجهول، والآمرُ والنَّاهي هو النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

*ما يؤخذ من الحديث:

1 -

كان المسلمون أوَّلَ الأمر يتكلَّمون في الصَّلاة، يُكلِّم الرَّجلُ صاحبَهُ بالكلام اليسير، الَّذي لابد منه؛ فانزل الله. {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة]، فأُمِرُوا بالسُّكوت ونُهُوا عن الكلام، وهذا

(1) البخاري (1200)، مسلم (539).

ص: 39

صريحٌ في إباحة الكلام في أوَّلِ الإسلام، ثُمَّ نسخ بقوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} والمراد به: السكوتُ في الصَّلاة.

2 -

قال ابن كثير: هذا الأمر يستلزمُ تركَ الكلامِ في الصَّلاة لمنافاته إياها؛ فإنَّ القنوتَ المأمورَ به هو السكوتُ، فالكلامُ ينافيه".

وهذا كما فهمه الصَّحابة، وعملوا بمقتضاه في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنَّ مَنْ تكلَّم في الصَّلاة عامدًا لغير مصلحتها، فإنَّ صلاته فاسدة.

قال شيخ الإسلام: هذا ممَّا اتفَقَ عليه المسلمون، والعامدُ هو من يَعْلَمُ أنَّه في صلاة.

3 -

الحديث يدُلُّ على عِظَمِ الصَّلاة وأهميَّتها، وأنَّ الدخولَ بها هو انصرافٌ وانشغالٌ عن جميع ما في الحياة، وأنَّ المحافظةَ عليها بما يُكَمِّلُهَا في أركانها وشروطها، وواجباتها ومستحباتها، هو المحافظةُ عليها، التي أشار إليها بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)} [المؤمنون].

4 -

قال النووي: في الحديث دليلٌ على تحريمِ أنواعِ كلام الآدميين، وقد أجمع. العلماء على أنَّ المتكلِّم فيها عامدًا عالمًا بتحريمه، وتكلَّم لغير مصلحتها -تبْطُلُ صلاته.

5 -

الآمر بالسكوت، والنَّاهي عن الكلام، هو النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ فالحديثُ له حكم الرفع.

6 -

أنَّ الكلام مع تحويمه، فهو مفسدٌ للصلاة؛ لأنَّ النَّهي يقتضي الفساد.

7 -

أنَّ المعنى الذي حُرَّمَ من أجله الكلام، هو طَلَبُ الإقبالِ على الله في هذه العبادة، والتَّلذُّذِ بمناجاته؛ فليحرصِ المصلِّي على هذا المعنى السَّامِي.

* خلاف العلماء:

أجمع العلماءُ على بطلانِ صلاة من تكلَّم فيها عامدًا، لغير مصلحتها، عالمًا بالتحريم.

ص: 40

واختلفوا في السَّاهي، والجاهل، والمكرَه، والنَّائم، ومحذِّر الضرير والمتكلِّم لمصلحتها:

فذهب الحنفية والحنابلة: إلى بطلان الصَّلاة في كلِّ هذا؛ عملاً بهذا الحديث الَّذي معنا، وبحديث: قال الصحابة للنَّبي صلى الله عليه وسلم: كُنَّا نسلِّم عليك في الصَّلاة فترُدُّ علينا، قال عليه الصلاة والسلام:"إنَّ في الصَّلاة لشغلاً" متفق عليه، وغيرهما من الأدلة.

وذهب الإمامان: مالك والشَّافعي: إلى صحَّة صلاة المتكلِّم، جاهلاً، أو ناسيًا أنَّه في الصَّلاة، أو ظانًا أنَّ صلاته تمَّت، فسلَّم وتكلَّم، سواءٌ كان الكلام في شأن الصلاة، أو لم يكن في شأنها، سواءٌ أكان إمامًا أو مأمومًا؛ فإنَّ الصَّلاة عندهما تامَّة، يبنى آخرها على أوَّلها، وهذا القولُ روايةٌ عن الإمام أحمد، اختارها شيخُ الإسلام، وكثيرٌ من المحقِّقين، وأدلتهم:

(أ) حديث ذي اليدين، وسيأتي في سجود السهو.

(ب) حديثُ "عُفِيَ لأُمَّتي الخطأ، والنِّسيان، وما استكرهوا عليه".

وحديثُ الباب محمولٌ على العالم المتعمِّد.

واختلفوا في النفخ، والنحنحة، والأنين، والتأوه، والانتحاب، ونحو ذلك.

فذهب الحنفية والشَّافعية والحنابلة: إلى أنَّها تبطل الصَّلاة، إذا انتظم منها حرفان، وإنْ لم ينتظم منها حرفان، أو كان الانتحاب من خشية الله، أو التنحنح لحاجة -فلا تبطل.

واختار الشيخ تقي الدِّين أنَّها لا تبطُلُ الصلاة، ولو انتَظَمَ منها حرفان، وقال: إنَّ هذا ليس مِنْ جنس الكلام، فلا يمكنُ قياسُهُ على الكلام.

والخلاصة:

أنَّ الكلمات ثلاثة أنول:

1 -

كلمات تَدُلُّ على معنًى في نفسها؛ مثل: "يد" و"فم" و"سن" وغير ذلك.

ص: 41

2 -

كلمات تدُلُّ على معنًى في غيرها؛ مثل "عن" وَ"مِنْ" وَ"في" ونحوها.

فهذان النوعان يدلان على معنًى بالوضع، وهذه قد أجمَعَ العلماء أنَّها تفسد الصَّلاة، إنْ لم يكن عذرٌ شرعيٌّ يَمْنَعُ القولَ بالإبطال.

3 -

كلماتٌ ليس لها معنى بالوضع، كالتأوُّه، والبكاء، والأنين، فالرَّاجحُ أنَّه لا يُبْطِلُ الصَّلاة، لأنَّه ليس كلامًا في اللغة، فقد كان علي رضي الله عنه يستأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فيتنَحْنَحُ له.

* فائدة:

قال شيخ الإسلام: الأظهر أنَّ الصَّلاة تبطُلُ بالقهقهة؛ لما فيها من الاستخفاف والتَّلاعب المنافي مقصود العبادة.

وقال ابن المنذر: أجمعوا على أنَّ الضحك يفسد الصَّلاة.

واختلف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى، التي حثَّ الله تعالى عليها بقوله:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] على أقوالٍ كثيرة، وأوصلها العلماء إلى سبعة عشر قولاً، والرَّاجح أنَّها "صلاة العصر"، وما عدا هذا القول، فهو ضعيفُ الدلالة.

فقد جاء في البخاري (2931) ومسلم (627) من حديث علي رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "ملأَ الله قبورهم وبيوتهم نارًا، كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتَّى غابت الشمس"؛ فهذا تبيينُ النَّبي صلى الله عليه وسلم لها، وليس مع بيانه بيان.

قال الترمذي: هو قول أكثر علماء الصحابة.

وقال الماوردي: وهو قول جمهور التَّابعين، وقال ابن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر، وهو مذهب الإمامين أبي حنيفة وأحمد، وصار إليه معظم الشَّافعية، وبه قال ابن حبيب، وابن العربي، وابن عطية من المالكية".

***

ص: 42

176 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ" مُتَّفَق عَلَيْهِ.

زَادَ مُسْلِم: "فِي الصَّلَاةِ"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- التصفيق: مصدر صفَّق بالتشديد بيديه، معناه: أنْ تضرب المرأةُ براحة يدها اليمنى على ظهر اليسرى؛ للتنبيه على شيء نابها في الصَّلاة.

- التَّسبيح: مصدر سبَّح بالتشديد، والمراد هنا قولُ المصلِّي: سُبحان الله.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قصَّةُ الحديث: أنَّهُ حَصَلَ بين بني عمرو بن عوف فتنةٌ، فأتاهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في منازلهم في قُبَاء ليصلحَ بينهم، فكانتِ الصَّلاة، فجاء بلالٌ إلى أبي بكر، فقال له: أتُصلِّي للنَّاس؟ فقال: نعم، فصلَّى أبو بكر، فجاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم والنَّاس في الصَّلاة، فتخلَّص حتَّى وقَفَ في الصفِّ الأوَّل، فصفَّق النَّاس، فالتَفَتَ أبو بكر، فرأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه أنِ امكثْ في مكانك، فَرَفَعَ أبو بكر يديه، وَحَمِدَ الله، ثمَّ استأخَرَ حتَّى استوى في الصف، وتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى بالنَّاس، فلمَّا انصَرَفَ، قال:"مالي رأيتكم أكثرتم التصفيق، مَنْ نَابه شيء في صلاته فليسبِّح، إنَّما التسبيحُ للرِّجال، والتصفيق للنِّساء".

2 -

استحبابُ التسبيح في حقِّ الرِّجال، إذا نابهم شيءٌ في صلاتهم، وذلك يقول: سبحان الله.

3 -

استحبابُ التصفيق للنِّساء، إذا نابهنَّ شيءٌ في صلاتهن؛ وذلك أستر لهنَّ،

(1) البخاري (1203)، مسلم (422).

ص: 43

لاسيَّمَا وهنَّ في عبادة.

4 -

كل هذا إبعاد للصَّلاة عمَّا ليس منها مِنَ الأقوال؛ لأنَّهَا موضعُ مناجاة مع الله سبحانه وتعالى، فلمَّا دعت الحاجةُ إلى الكلام، شُرِعَ ما هو مِنْ جِنْسِ ما شرع فيها، وهو التسبيح.

* خلاف العلماء:

ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشَّافعي وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، والأوزاعي، وغيرهم: إلى ما دلَّ عليه الحديث، مِنْ أنَّهُ إِذَا ناب المصلِّي شيء في صلاته، يقتضي إعلامَ غيره بشيء، مِنْ تنبيه إمامه على خَلَلٍ في الصَّلاة، أو رؤية أعمى يقع في بئر، أو استئذان داخل، أو كون المصلِّي يريد إعلامَ غيره بأمر -فإنَّهُ في هذه الأحوال وأمثالها يسبِّح، فيقول:"سبحان الله"؛ لإفهام ما يريدُ التنبيهَ عليه.

واستدلُّوا على ذلك بما في صحيح مسلم (421) عن أبي هريرة قال: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرِّجال، والتصفيق للنِّساء في الصلاة".

وقوله:"في الصَّلاة" زيادةٌ عند مسلم على ما عند البخاري، إلَاّ أنَّها ثابتة.

وذهب أبو حنيفة، وتلميذه محمد بن الحسن: إلى أنَّه متى قصد بالذِّكر جوابًا، بطلت صلاته، وأمَّا إنْ قصد به الإعلام بأنَّه في الصَّلاة، لم تَبْطُلْ.

وَحَمَلَا التسبيحَ المذكور في هذا الحديث على ما كان القصدُ به الإعلامَ بأنَّه في الصَّلاة.

وهما على هذا التَّأويل محتاجان لدليلٍ على ذلك، والأصلُ عدمُ هذا التخصيص؛ لأنَّه عامٌّ، وتخصيصه من غير دليل لا يمكنُ المصير إليه؛ ولذا فالصحيح ما ذهب إليه الجمهور.

وذهب الشَّافعي وأحمد وأتباعهما، وجمهور العلماء: إلى أنَّ المرأة إذا نابها شيءٌ، فينبغي لها أنْ تُصفِّق ببطن اليد اليُمنى على ظهر اليد اليُسرى.

ص: 44

وذهب مالك: إلى تسوية المرأة والرَّجُلِ بالتسبيح، وحرَّم التصفيق للرِّجال والنِّساء؛ مستدلاًّ بعموم حديث سهل بن سعدَ:"من نابه شيءٌ في صلاته فليسبِّح"[رواه البخاري (1234) ومسلم (421)]. وهذا عامٌّ في حقِّ الرِّجال والنِّساء، أمَّا قوله:"إنَّما التصفيق للنِّساء" فَعَلَى جهة الذم.

وجواب الجمهور: أنَّ مثل هذه التأويلاتِ لا تقاومُ النصوصَ الصحيحة الصريحة؛ فقد جاء في صحيح البخاري (1234)"إذَا نابكم شيءٌ في الصَّلاة، فليسبَحّ الرِّجال وليصفق النساء"، ولما نقل ابن الولي مذهب مالك، قال: ليس بصحيح، وقال القرطبي المالكي: وقول الجمهور هو الصحيح، خبرًا ونظرًا.

***

ص: 45

177 -

وَعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أِبيهِ قَالَ: "رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَفِي صَدْرِهِ أزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ" أخْرَجَهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ ابْنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

درجة الحديث:

الحديث صحيح.

صحَّحه ابن حبَّان، وابن خزيمة، والحاكم، ورواه الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح.

وقال الحافظ في الفتح: إسناده قوي.

* مفردات الحديث:

- أزيز: الأزِيز، بفتح الهمزة، بعدها زاي معجمة، فياء، ثمَّ زاي أخرى معجمة، صوت غليان القِدْر.

- المِرْجَل: بكسر الميم، فسكون الرَّاء المهملة، ففتح الجيم فلام: هو القِدر الَّذي يُطْبَخُ به.

- من البكاء: البكاء إذا مددتَّ أردتَّ به الصوتَ الَّذي يكونُ معه، وإذا قصرت أردتَّ خروجَ الدمع، قاله العيني في شرح البخاري، وهاهنا المراد به: المعنى الأوَّل.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

استحبَابُ الخشوع في الصَّلاة، والانطراحِ فيها بين يدي الله تعالى.

(1) أحمد (4/ 25)، أبو داود (904)، الترمذي في "الشمائل"(315)، النسائي (1214)، ابن حبان (2/ 439).

ص: 46

2 -

أنَّ النَّحيب في الصَّلاة لا يُبْطِلُهَا، إذا كان مِنْ خشية الله، هذا المذهبُ، وإنْ كان مِنْ غَيْرِ خشية الله تعالى، فبان حرفان، بَطَلَتْ، وتقدَّم أنَّ الصحيح: أنَّ مثل هذا الصوتِ لا يُبْطِلُهَا ولو بان منه حرفان.

3 -

حالة النَّبي صلى الله عليه وسلم مع ربِّه وهو الذي غَفَرَ اللهُ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ولكنَّه مع هذا هو أخشَى النَّاسِ وأتقاهم، وأخوفُهُمْ من الله تعالى لكمالِ معرفته بربِّه.

4 -

إنَّ الصَّلاةَ موطنُ تضرُّعٍ، وخشوعٍ، ودعاءٍ؛ لأنَّها الصلةُ بين العبد وربه، وكلما قَرُبَ العبد من ربِّه، ازدادتْ رغبته ورهبته.

***

ص: 47

178 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَدْخَلَانِ، فَكُنْتُ إِذَا أَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي، تَنَحْنَحَ لِي" روَاهُ النَّسَائِيُّ وابنُ مَاجَهْ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث مختلفٌ فيه، فمنهم مَنْ حسَّنه، ومنهم من ضعَّفه، وقد صحَّحه ابن السكن، وابن حبان، وقال البيهقي (2/ 247): مختلفٌ في إسناده ومتنه، فقيل: سبَّح، وقيل: تنحنَحَ، ومداره على عبد الله بن نجي، واختلف عليه، فقيل: عنه، عن علي، وقيل: عنه، عن أبيه، عن علي، قال ابن معين: لم يسمعه من علي، وبينه وبين علي أبوه، وقد ضعَّفه النووي في المجموع، وقال: لِضعْفِ سندِهِ واضطرابِ راويه ومتنه.

* مفردات الحديث:

- مدخلان: بفتح الميم، فسكون الدال، فخاء معجمة: تثنية مدخل، والمراد: زمان دخول.

- تَنَحْنَحَ: بفتح التاء المثناة الفوقية، فنون مفتوحة، فحاء، فنون، وآخره حاء، أي: ردَّد في جوفه صوتًا، كالسُّعَال.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

صلة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم قويَّةٌ، فهو ابن عمه، وزوجُ ابنته، وَمِنْ أخصِّ أصحابه وأقربهم إليه؛ لذا فله وقتان، يأتي فيهما النبي صلى الله عليه وسلم في مسكنه.

(1) النسائي (1212)، ابن ماجه (3715).

ص: 48

2 -

أنَّ النَّحنحة في الصلاة لا تُبْطِلُهَا، ولو بأن منها حرفانم لأنَّها ليست من جنس الكلام.

3 -

أنَّه لا يجوزُ الدخولُ إلى بيت أحد إلأَ بإذنه، ولو كان أقربَ النَّاس إليه؛

لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)} [النور: 27].

4 -

الإذنُ بالدخول يكون لفظيًّا وعرفيًّا، فهو راجعٌ إلى العادة بينهما، وإلى ما تعارَفَا عليه، ويكفي فيها رغبةُ صاحب المنزل في الدخول.

5 -

استحبابُ التواصُلِ بين الأقارب والأصحاب، وذلك بالزيارات والاجتماع، وأن يكون للكبير وصاحب القَدْرِ الحَقُّ بأن يُؤتى إليه في منزله.

6 -

أن تكونَ الزيارةُ في أوقاتٍ معلومة، مناسبة لدخول المنازل والأنس والجلوس، فأمَّا أن تكون مفاجأة، أو في أوقاتٍ لا يرغب الدخول فيها والجلوس، فهي التي نهى الله عنها بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53]، وكما تقدم في آية سورة النور.

7 -

استحبابُ صلاة النافلة في البيت؛ فإنَّ الصلاة فيها نورة ولذا جاء في البخاري (731) ومسلم (781) قال صلى الله عليه وسلم: "أيُّها النَّاس صَلُّوا في بيوتكم؛ فإنَّ أفضل صلاة المرء في بيته إلَاّ المكتوبة".

* * *

ص: 49

179 -

وَعَنِ ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما قَالَ: "قُلْتُ لِبلَالٍ: كيْفَ رَأيْتَ النَّبَيَّ صلى الله عليه وسلم يَرُدَّ علَيهِمْ حِينَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُصَلِّي؟ قَالَ: يَقُولُ هَكذَا، وَبَسَطَ كَفَّهُ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

صححه الترمذي، وأخرجه أحمد (23369)، وابن ماجه (1017)، وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح.

قال الساعاتي في بلوغ الأماني: الحديث رجالُهُ رجالُ التصحيح.

* مفردات الحديث:

- كيف: اسمٌ جامدٌ يأتي على وجهين، فيكون شرطًا، ويكون استفهامًا، وهنا للاستفهام.

- يقول هكذا: الأصل في القولِ هو النطقُ باللسان، إلَاّ أنَّه يعبَّر به عن الفعل. قال في محيط المحيط: ويستعمل القولُ لغير ذي اللفظ تجوُّزًا.

- بسط كفَّه: نَشَرَهَا، ضِدّ قبضها.

- كفه: الكف، هي راحةُ اليد مع الأصابع، مؤنَّث، جمعها كفوف وأكف.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قصةُ الحديث: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إلى قباء ليصلِّي فيه، فجاء سُكَّانُ قباء من الأنصار يسلِّمون عليه، فأدركوه في الصلاة، فكانوا يسلِّمون، وكان يرد عليهم باسطًا كفه، يشير بها إلى ردِّ السلام.

(1) أبو داود (927)، الترمذي (368).

ص: 50

2 -

يدل الحديثُ على أنَّ الإشارة في الصّلاة لا تُبْطِلُهَا، ولو كانت إشارةً مفهومة تكفي عن الكلام، سواءٌ أكانتْ بالرأس، أو باليد، أو بالعين، أو غيرها.

3 -

أنَّ الحركة إذا كانَتْ قليلةً لحاجة لا تُبْطِلُ الصلاة، فهذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبسط يده لكل مُسَلِّم عليه.

4 -

جوازُ السلام على المصلِّي، فإنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا سلَّم من الصلاة، أقرَّهم، ولم ينههم عن ذلك.

5 -

قال في الإقناع وشرحه: المذهبُ لا يكره السّلام على المصلِّين؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم حين سلَّم عليه أصحابه، لم ينكر ذلك. قال في الحاشية: وهو مذهبُ مالك والشّافعيّ. قال النووي: وهو الّذي تقتضيه الأحاديثُ الصحيحة.

6 -

قال في حاشية الروض: مذهبُ جمهور العلماء، ومنهم مالك والشافعي وأحمد: يستحبُّ رَدُّ السلام من المصلِّي بالإشارة؛ لحديث ابن عمر: "أنَّ النبَّيَّ صلى الله عليه وسلم كان يشير في صلاته"[رواه الترمذي (367) وصححه].

7 -

حُسْنُ خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّه يأتي أبوابَ الخيرات بِحَسَبِ حاله فيها، وهو بهذه الأعمالِ يأتي فعلَ الخير، ويشرعه لأمته، عليه الصلاة والسلام.

8 -

وجوبُ رد السلام؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، والإشارة من المصلِّي هي أحسنُ ما يَقْدِرُ عليه في رد السلام.

9 -

استحبابُ زيارة مسجد قباء، والصلاةِ فيه لِمَنْ في المدينة، فهو المسجد الذي قال تعالى فيه:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108].

10 -

حِرْصُ ابن عمر رضي الله عنهما على سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وتتَبُّعِ آثاره، فما فاته من سنته يسألُ عنه من حضره؛ كبلالٍ، وأختِهِ، حفصة، وغيرهما؛ ولذا فإنَّه رضي الله عنه جمع بين الرواية والدراية؛ فهو قدوة حسنة لشباب المسلمين في تلمُّسِ العلمَ النافع.

ص: 51

180 -

وَعَنْ أَبي قتادَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَهُوَ حامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا" مُتَّفَقٌ علَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: "وَهُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي المَسْجِدِ"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أُمامة: بضم الهمزة وفتح الميم، هي: بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالد أمامة هو أبو العاص بن الربيع، وزينت توفيت سنة (8 من الهجرة)، وابنتها أمامة تزوجت بعلي بن أبي طالب، وقتل عنها، ثمّ تزوجت بعده المغيرة ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

جواز مثل هذه الحركة في الصلاة فرضًا أو نفلًا، من الإمام والمأموم والمنفرد، ولو بلا ضرورة إليها، وهو قول محققي العلماء، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان في تلك الصلاة إمامًا في فريضة، وهي أولى بالمحافظة عليها من الصلاة في حال الانفراد، أو التنفل.

2 -

جواز ملامسة وحمل من تُخشى نجاسته، تغليبًا للأصل، وهو الطهارة على غلبة الظن، فاليقين لا يزول بالشك، فاليقين هو أصل طهارة الأشياء، والشك هو مظنة نجاسة ثياب الأطفال وأبدانهم، وأمامة وقت حمله لها بنت ثلاث سنين.

3 -

تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن خلقه، ورحمته بالكبير والصغير، فصلوات الله

(1) البخاري (516)، مسلم (543).

ص: 52

وسلامه عليه، فهو صلى الله عليه وسلم قدوة في حسن الخلق، وفي الرأفة، والرحمة، والحنان، ولا سيَّما على الصغار والضعفاء، كما أنَّ في الحديث بيان سماحة ويسر الشريعة.

4 -

جواز دخول الأطفال المساجد إذا لم يحصل منهم أذية للمصلين، وإشغال لهم عن صلاتهم، وحُفِظوا من توسيخ المسجد وتنجيسه.

5 -

ترك مستحبات الصلاة عند الحاجة إلى تركها، فالحامل لهذه الطفلة لن يتمكن من وضع اليدين مقبوضتين على الصدر، ولا يتمكن من وضع الراحتين على الركبتين في الركوع، وغير ذلك من فضائل الصلاة.

6 -

يُحمل وجود "أُمَامَةَ" في قبلة المصلين، إما لأنَّ سترة الإمام سترة للمصلين خلفه، وإما أنَّ النَّهي هو عن المرور، لا عن الجلوس والاعتراض، كما كانت عائشة تعترض في قِبلة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد السجود غمزها بيده، فكفت رجليها، وإما لأن المحمولة صغيرة دون البلوغ، كما سيأتي في الباب بعده.

* خلاف العلماء:

ذهب الإمام مالك وبعض العلماء إلى: أنَّ الحركة الكثيرة تبطل الصلاة، وجعلوا من الحركة الكثيرة حمل النبي صلى الله عليه وسلم أمامة في صلاته، وتأولوا هذا الحديث إلى ثلاثة أوجه:

1 -

روى ابن القاسم عن الإمام مالك: أنَّ هذا في النافلة، والنافلة يتسامح فيها ما لا يتسامح في الفريضة.

2 -

وروى أشهب عنه: أنَّ هذا للضرورة، وفسروها بانه لم يجد أحدًا يكفيه أمرها.

3 -

وروي عن مالك: أنَّ الحديث منسوخ، ونسخ بتحريم العمل والانشغال في الصلاة بغيرها.

ص: 53

والجواب:

أما الأول: فإنَّه مردود بالروايات الصحيحة، ومنها:"بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال للصلاة، إذ خرج علينا وأمامة بنت أبي العاص على عنقه"، وبما أخرجه مسلم عن أبي قتادة قال:"رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس، وأمامة على عنقه".

واْما الثاني: وهي حالة الضرورة، فهي بعيدة جدًّا، فإنَّ الكافي له صلى الله عليه وسلم عن حملها كثيرون، فالمنزل الذي خرج منه فيه أهله، وغيرهم من خدمه.

أما الثالث: وهي دعوى النسخ، فهي مردودة؛ بانَّ احتمال النسخ لا يعتمد عليه في إسقاط حكم ثابت، ثم إنَّ حديث:"إنَّ في الصلاة لشغلًا" قاله لابن مسعود حينما قدم من الحبشة قبل بدر، وزينب وابنتها لم يقدما المدينة إلَاّ بعد بدر بأيام.

قال النووي بعد أن ساق تأويلات رد الحديث: فكل ذلك دعاوى باطلة مردودة، لا دليل عليها.

والصحيح: جواز مثل هذه الحركة للحاجة، وقد جاء في السنة الثابتة مثلها؛ كفتحه عليه السلام الباب لعائشة، وصعوده درجتي المنبر ليراه الناس، وكذلك إشارته بيده برد السلام وغير ذلك.

* فائدة:

قسَّم بعض العلماء -ومنهم الحنابلة- الحركة في الصلاة إلى أربعة أقسام حسب الاستقراء والتتبع من نصوص الشريعة:

الأول: يبطل الصلاة، وهو العمل الكثير المتوالي لغير ضرورة، ولغير مصلحة الصلاة.

الثاني: يكره في الصلاة ولا يبطلها، وهو اليسير لغير حاجة، مما ليس

ص: 54

لمصلحة الصلاة؛ كالعبث بالثياب والشعورة لأنَّه منافٍ للخشوع المطلوب، ولا تدعو إليه حاجة.

الثالث: الحركة المباحة، وهي اليسيرة المتفرقة غير المتوالية للحاجة؛ كحديث الباب.

الرابع: الحركة المشروعة، وهي التي تتعلق بها مصلحة الصلاة، أو تكون حركة لفعل محمود مأمور به؛ كتقدم المصلين وتأخرهم في صلاة الخوف، أو للضرورة؛ كإنقاذ غريق من هلكة.

***

ص: 55

181 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوا الأسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ: الحَيَّةَ والعَقْرَبَ". أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَةُ ابنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ، وله شواهد كثيرة، قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم، ووافقه الذَّهبي.

* مفردات الحديث:

- الأسودين: تثنية أسود، يطلق على الحيَّة والعقرب، على أي لون كانا، ولو لم يكونا أسودين.

- الحيَّة: -بفتح الحاء المهملة وفتح الياء المشددة-: هي الأفعى تكون للذكر والأنثى، وأنما دخلت الهاء؛ لأنَّه واحد من جنس، جمعها: حيَّات.

- العقرب: دويبة من فصيلة العنكبيات، ذات سم تلسع، تطلق على الذكر والأنثى، جمعه: عقارب.

- الحيَّة والعقرب: بدل من الأسودين.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

استحباب قتل الحيَّة والعقرب، ولو في الصلاة، ولو لم يكونا أسودين؛ فإنَّ هذه صفة غالبة.

2 -

أنَّ هذه حركة قليلة محمودة، فلا تبطل الصلاة ولا تنقصها، ولو لم تكن من

(1) أبو داود (921)، الترمذي (390)، النسائي (1202)، ابن ماجه (1245)، ابن حبان (2352).

ص: 56

مصلحة الصلاة.

3 -

مشروعية قتل كل مؤذٍ من الهوام وغيرها، في الصلاة أو خارجها؛ فإنَّه إذا استحب قتل هذه الفواسق في الصلاة، فقتلها خارجها يكون أولى.

4 -

اغتفرت الحركة في الصلاة، لقتل هذه الهوام المؤذية، من أجل مبادرة الفرصة قبل فواتهاة كإنقاذ الغريق، وإطفاء الحريق، ودفع المعتدي؛ لأنَّ مثل هذا يفوت بفوات وقته، فسومح فيه حتى في أثناء أداء العبادة.

5 -

مشروعية قتل هذين الأسودين ليس لذاتهما، وإنما هو لطبعهما العدائي المؤذي، فيستحب قتل كل مؤذ، فمن آذى طبعًا قتل شرعًا.

***

ص: 57