الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صفة الصلاة
مقدمة
صفة الصلاة هي: الهيئة الحاصلة في الصلاة، بما لها من الأركان والواجبات والسنن، وهي تبرىء الذمة وتسقط الواجب، إذا أداها العبد بشروطها وأركانها وواجباتها فقط.
وهي أعظم العبادات وسيلة إلى مرضاة الله تعالى، وحصول ثوابه، إذا صاحب أداءَ الواجبات الخشوعُ، والخضوع، والطمأنينة، وجمع؛ القلب على الله تعالى، بحيث يؤديها بحال المراقبة لله تعالى، والتفكر والتدبر لما يقول من القراءة، والذكر، والدعاء، ولما يفعل من هيئات القيام، والركوع، والسجود، والقعود.
قال الغزالي: لن تصل أيها المسلم إلا القيام بأوامر الله تعالى، إلَاّ بمراقبة قلبك وجوارحك، في لحظاتك وأنفاسك، من حين تصبح إلا حين تمسي، فاعلم أنَّ الله مطلع على ضميرك، ومشرف على ظاهرك وباطنك، ومحيط بجميع خطواتك وخطراتك، وسائر سكناتك وحركاتك، فتأدب في حضرة الملك الجبار، واجتهد ألا يراك حيث نهاك، ولا يفقدكَ حيث أمرك.
واعلم أنَّ الله مطلعٌ على سريرتك، وناظر إلى قلبك، فإنَّما يتقبَّل من صلاتك بقدر خشوعك وخضوعك، فاعبده في صلاتك كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك، فإن لم يحضر قلبك، ولم تسكن جوارحك، فهذا لقصور معرفتك بجلال الله تعالى، فعالج قلبك، عساه أن يحضر معك صلاتك، فإنَّه ليس لك من صلاتك إلَاّ ما عَقلتَ منها. اهـ كلامه، رحمه الله تعالى.
212 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا قُمتَ إِلى الصَّلاةِ فَأسْبغِ الوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمِّ اقْرَأ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفعْ حَتَّى تَعْتَدِل قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذلك في صلَاتِكَ كُلِّهَا". أَخْرَجَهُ السَّبعةُ، واللَّفظُ للبُخَارِيِّ.
ولابن ماجهُ بإسْنَادِ مسُلمٍ: "حتَّى تطْمَئِنَّ قَائِمًا"(1).
ومِثله في حَدِيثِ رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ: "حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا".
ولأحْمَدَ: "فَأَقِمْ صُلْبكَ حَتَّى تَرْجِعَ العِظَامُ".
وَللنَّسَائِيِّ وَأبي داودَ مِنْ حَديث رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ: "إنَّها لَنْ تَتِمَّ صَلَاة أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبغَ الوُضُوءَ، كَمَا أمَرَهُ اللهُ تَعَالى، ثُمَّ يُكَبِّرَ الله تَعالى، ويَحْمَدَهُ وَيثْنِيَ عَلَيْهِ".
وفِيها: "فَإنْ كانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأ، وإلَاّ فَاحْمَدِ الله، وَكبِّرْهُ، وَهَلِّلْهُ".
ولأبِي دَاودَ: "ثُمَّ اقْرَأ بِأُمِّ الكِتَابِ، وَبِمَا شَاءَ اللهُ".
(1) البخاري (757)، مسلم (397)، أبو داود (856)، الترمذي (303)، النسائي (884)، أحمد (2/ 437)، ابن ماجه (1060).
ولابنِ حِبَّانَ: "ثُمَّ بِمَا شِئْتَ"(1)
ــ
* مفردات الحديث:
- أسبغَ: يقال: سبع يسبغ سبوغًا، من باب قعد: تمَّ وكَمُلَ، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أسبغت الوضوء: أتممته؛ أي: أبلغته مواضعه، ووفَّيت كل عضو حقه.
- أم الكتاب: هي الفاتحة، سميت بذلك؛ لجمعها المعاني العظيمة التي اشتمل عليها القرآن، ولأنَّها فاتحته في التلاوة والكتاب.
- ما تيسر من القرآن: ما سهل عليك معرفته من القرآن، والمراد بذلك سورة الفاتحة؛ لأنَّها أيسر سورة تحفظ من القرآن، ولما جاء في أبي داود:"فاقرأ بأم الكتاب".
- راكعًا: الركوع: حني الظهر حتى تمس اليدين الركبتين، وكماله حتى يستوي الرأس بالظهر.
- حتى تطمئن راكعًا: جاء في تفسير الطمأنينة في بعض روايات الحديث، بقوله:"حتى تطمئن مفاصلك، وتسترخي"، و"حتى تستوي جالسًا"، "فأقم صلبك حتى ترجع العظام"، و"يسجد حتى يمكن وجهه وجبهته"، فهذه تفاسير الطمأنينة في هذه الأركان ونحوها، و"حتى" في هذه المواضع لغاية ما يقع به الركن، فدلت "حتى" على أنَّ الطمأنينة داخلة فيه.
- راكعًا: منصوبَة على أنَّها حال مؤكدة.
- أقم صلبك: بضم الصاد وسكون اللام، وقد تضم اللام للاتباع، وهو فقار الظَّهر، قال تعالي:{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} [الطارق].
(1) أحمد (4/ 340)، ابن حبان (5/ 212)، أبو داود (858، 859)، النسائي (1136).
ويجمع على: أصلاب وأصلب.
- كبره وهلله: كلمتان منحوتتان من "الله أكبر" و"لا إله إلَاّ الله"، والنحت: هو جمع حروف الكلمة وتركيبها، من كلمتين أو كلمات.
- فكبر: يعني: قل: "الله أكبر" لا يقوم غيرها مقامها، وتكون همزة "الله" مقصورة، فإن مدها، لم تنعقد صلاته؛ لأنَّها صارت همزة استفهام.
ومثلها في القصر همزة "أكبر" فهي بالمد تكون استفهامًا، وإن قال:"أكبَار" لم تنعقد صلاته؛ لأنه جمع "كَبَر"، والكبر: الطبل، فيكون "أكبار" بمعنى: طبول.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا حديثٌ عظيمٌ جليلٌ يسميه العلماء "حديث المسيء في صلاته".
2 -
قصة الحديث أنَّ رجلًا من الصَّحابة، اسمه:"خلاد بن رافع"، دخل المسجد فصلى صلاة غير مجزئة، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فلما فرغ من صلاته، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فردَّ عليه السلام، ثم قال:"ارجع فصل؛ فإنَّك لم تصلِّ"، فرجع وعمل في صلاته الثانية، كما عمل في صلاته الأولى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له:"ارجع فصل؛ فإنَّك لم تصل" ثلاث مرات، فأقسم الرجل أنَّه لا يُحسن من الصلاة إلَاّ ما فعل، فعندما اشتاق إلى العلم، وتهيَّأ لقبوله، علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم كيف يصلي، كما جاء في الحديث.
وذلك بأن يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يركع حتى يطمئن راكعًا، ثم يعتدل من الركوع ويطمئن، ثم يسجد فيطمئن، ثم يجلس بعد السجود ويطمئن، ثم يسجد أخرى ويطمئن، ثم يفعل هكذا في صلاته كلها، ما عدا تكبيرة الإحرام، الخاصة بالركعة الأولى.
3 -
ما ذُكر في هذا الحديث -من الأقوال والأفعال- هو مما يجب في الصلاة، وما لم يذكر فيه يدل على عدم وجوبه، ما لم يثبت بدليلٍ آخر؛ ذلك أنَّ ما
ذكر فيه قد سُبق بلفظ الأمر، بعد قوله:"ارجع فصل؛ فإنك لم تصل"، كما أنَّه سيق مساق الاستقصاء، في تعلم ما يجب في الصلاة.
وأما الاستدلال به على أنَّ كل ما لم يذكر فيه لا يجب، فلأنَّه مقام تعليم جاهل لواجبات الصلاة، فلو ترك بعض ما يجب، لكان منه تأخيرٌ للبيان عن وقت الحاجة، وهو لا يجوز بالإجماع.
4 -
طريق الاستدلال بهذا الحديث على ما يجب، وما لا يجب من أقوال الصلاة وأفعالها، هو أن تُحْصَى ألفاظ الحديث الصحيحة، وكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه، وكان مذكورًا في الاستدلال على هذا الحديث، فإنَّنا نتمسك بوجوبه، ما لم يأت دليل معارض أقوى منه.
وكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه، ولم يكن مذكورًا في هذا الحديث الذي سيق مساق التعليم، وإن جاءت صيغة أمر بشيء لم يذكر في هذا الحديث، احتمل أن يكون هذا الحديث قرينة على حمل الصيغة على الندب، واحتمل البقاء على الظاهر، فيحتاج إلى مرجع للعمل به.
5 -
يدل الحديث على وجوب الأعمال المذكورة في هذا الحديث؛ بحيث لا تسقط سهوًا ولا جهلًا، وهي:
(أ) تكبيرة الإحرام: وهي ركن من أركان الصلاة في الركعة الأولى فقط.
قال الغزالي: التكبير معناه: تعظيم الباري جلَّ وعلا، بأنَّه أكبر من كل شيء وأعظم، وهو متضمن تنزيهه عن كل عيبٍ ونقصٍ، وحكمة الاستفتاح به استحضار عظمة من يقف بين يديه، وأنَّه أكبر شيء يخطر بباله، ليصيب الخشوع والحياء من يشتغل فكره بغيره، ولهذ أجمع العلماء على أنَّه ليس للعبد من صلاته إلَاّ ما عقل منها.
(ب) قراءة الفاتحة في كل ركعة، ثم الركوع، والاعتدال منه، ثم السجود، والاعتدال منه، والطمأنينة في كل هذه الأفعال، حتى في الرفع
من الركوع والسجود، خلافًا لمن لم يوجبْها في هذين الركنين.
(ج) أما بقية الأركان -كالتشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليم- فقال البغوي: إنَّها معلومة لدى السائل.
6 -
يفعل هذه الأركان في كل ركعة من أركان الصلاة، عدا تكبيرة الإحرام، فهي في الركعة الأولى دون غيرها.
7 -
جاء في صفة الاعتدال بعد الركوع في هذا الحديث، لفظ:"حتى تطمئن قائمًا"، وجاء فيه:"فأقم صلبك حتى ترجع العظام"؛ والعلماء أمام هذا التغاير بين ألفاظ الحديث، يذهبون مذهب التعارض، ولكن هذا المخرج قد لا يمكن في بعض الأحاديث، والأفضل حينئذ هو الجمع بين النصين، ما أمكن الجمع، فإن لم يمكن فإننا ندع الشاذ، ونأخذ بالمحفوظ والراجح.
ففي هذا الحديث نأخذ بقوله: "حتى تطمئن قائمًا"، فإنَّه أبلغ من "حتى ترجع العظام"؛ لأنَّ الطمأنينة رجوع العظام وزيادة.
8 -
الطمأنينة: قال فقهاؤنا: هي الركن التاسع من أركان الصلاة، في الركوع، والاعتدال منه، والسجدة، والجلوس بين السجدتين، وفي قدرها وجهان: أحدهما: أنها السكون وإن قلّ، وهي المذهب.
الثاني: أنَّها بقدر الذكر الواجب، قال المجد وغيره: وهذا هو الأقوى. قال في "الإنصاف": وفائدة الوجهين إذا نسي التسبيح في ركوعه أو سجوده، أو التحميد في اعتداله، أو سؤال المغفرة في جلوسه، فصلاته صحيحة على الوجه الأول، ولا تصح على الثاني.
والوجه الثاني هو القول الصحيح في قدر الطمأنينة.
9 -
وجوب الطمأنينة في الرفع من الركوع، والرفع من السجود، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
10 -
وجوب الوضوء وإسباغه للصلاة، وأنَّ ذلك شرط.
11 -
وجوب استقبال القبلة للصلاة، وأنَّ ذلك شرط.
12 -
وجوب الترتيب بين الأركان؛ لأنَّه ورد بلفظ "ثم"، كما أنَّه مقام تعليم جاهل بالأحكام.
13 -
أنَّ هذه الأركان لا تسقط جهلًا ولا سهوًا، بدليل أمر المصلي بالإعادة، ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بتعليمه، ولأنَّها من باب المأمورات التي لا يعذر تاركها بجهل ولا نسيان.
14 -
أنَّ صلاة المسيء بالكيفية التي صلاها غير صحيحة، ولا مجزئة، ولولا ذلك لم يؤمر بإعادتها، وليكن في ذلك عبرة وعظة لمن ينقرون صلاتهم، ولا يتمونها، وليعلموا أنَّها صلاة غير مجزئة.
قال شيخ الإِسلام: قوله: "فإنَّك لم تصل" نفى أن يكون عملُه صلاةً، والعمل لا يكون منفيًا إلَاّ إذا انتفى شيء من واجباته، فلا يصح نفيه لانتفاء شيء من المستحبات.
وقال الصنعاني: لا يتم حمل النفي على نفي الكمال، فإنَّ كلمات النفي موضوعة لنفي الحقيقة.
15 -
أنَّ من أتى بعبادة على وجه غير صحيح جهلًا، ومضى زمنها، فإنَّه لا يطلب منه إعادتها؛ بناءً على القاعدة الشرعية التي ذكرها شيخ الإِسلام ابن تيمية، بقوله:"أوامر الشرع لا تلزم المكلف إلَاّ بعد عليه بها، وكذلك من ترك واجبًا قبل بلوغ الشرع، كمن لم يتيمم لعدم الماء؛ لظنه عدم الصحة، أو لم يترك الأكل حتى يتبيّن له الخيط الأبيض من الخيط الأسود".
16 -
مشروعية حسن التعليم، وطريقة الأمر بالمعروف؛ بأن يكون بطريقة سهلة ميسرة، حتى لا ينفره، فيرفض المتعلم إذا عُلِّم بطريق العنف والشدة والغلظة.
17 -
يستحب للمسؤول أن يزيد في الجواب إذا اقتضت المصلحة، ذلك كأن تكون قرينة الحال تدل على جهل السائل، ببعض الأحكام التي يحتاجها.
18 -
أنَّ الاستفتاح، والتعوذ، والبسملة، ورفع اليدين، وجعلهما على الصدر، وهيئات الركوع، والسجود، والجلوس، وغير ذلك -كلها مستحبة.
19 -
قوله: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن"، القرآن: هو كلام الله تعالى حقًّا؛ قال تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فليس هو عبارة عن كلام الله، كما تقوله الأشاعرة، ولا حكايه عن كلام الله، كما تقوله الكرامية، ولا مخلوقًا، كما تقوله المعتزلة، ولكنه كلامه هو، كما قاله هو جلَّ وعلا، وبلَّغه رسوله صلى الله عليه وسلم، واعتقده الصحابة والتابعون، وأتباعهم من أئمة السلف الصالح، وبهذا يعرف فضل هذا القرآن، وأنَّه أشرف الكلام، وأصدقه، وأعدله، وأفصحه، وأبلغه.
20 -
أنَّ المعلِّم يبدأ في تعليمه بالأهم فالأهم، وتقديم الفروض على المستحبات.
*خلاف العلماء:
ذهب الحنفية إلى: صحة الصلاة بقراءة أي شيء من القرآن، حتى من قادر على الفاتحة عالم بها، مستدلين بقوله تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] واستدلُّوا أيضًا بإحدى روايات هذا الحديث "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن".
وذهب الجمهور إلى: عدم صحة الصلاة بدون الفاتحة لمن يحسنها، مستدلين بما في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وهذا نفي لحقيقة الصلاة، لا لكمالها.
وأجابوا عن الآية: بأنَّها جاءت لبيان ما يقرأ في صلاة الليل، بعد الأمر في أول السورة بقوله:{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل] فخففت القراءة والصلاة إلى المتيسر من ذلك.
وأما رواية الحديث: فمجملة، فسَّرتها الروايات الآخر عند أبي داود (856):"اقرأ بأم القرآن، وبما شاء الله" وقد سكت عنه، أبو داود، وما سكت عنه فهو صالح. ولابن حبان (5/ 88) في حديثه:"واقرأ بأم القرآن، وبما شئت".
قال ابن الهمام: الأولى الحكم بأنَّه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته ذلك كله.
واختلف العلماء في قراءة الفاتحة؛ هل تكون في الركعتين الأوليين، أم في جميع الصلاة؟
فذهب بعض العلماء إلى: وجوب الفاتحة في الركعتين الأوليين دون غيرهما.
وجمهور العلماء: يرون وجوبها في كل ركعة، ويدل عليه قوله:"ثم افعل ذلك في صلاتك كلها".
قال الحافظ ابن حجر: وحديث أبي قتادة في البخاري، من كونه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الفاتحة في كل ركعة، مع قوله:"صلوا كما رأيتموني أصلي" -دليل الوجوب.
واختلف العلماء في وجوب الطمأنينة في الرفع من الركوع، وما بين السجدتين.
فذهب الحنفية إلى: عدم وجوبها في الرفع من الركوع، وما بين السجدتين.
وذهب جمهور العلماء من فقهاء المذاهب الأربعة إلى: وجوب الطمأنينة في الاعتدال بعد الركوع، والجلسة بعد السجود، كما هو محل اتفاق في بقية الأركان، وحجة الجمهور بعض روايات هذا الحديث التي أمرت بالطمانينة فيهما، وما جاء في البخاري (759)، ومسلم (471)، من حديث البراء بن
عازب: "أنَّه رمق صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من حين قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف، قريبًا من السواء".
* فائدة:
قال ابن الملقن في "شرح العمدة": اعلم أن الواجبات في الصلاة على ضربين: متفق عليه، ومختلف فيه، وليس هذا الحديث موضوعًا لحصرها، بل لحصر ما أهمله هذا الرجل المصلي وجهله في صلاته، فقد استدل به الكثير من الفقهاء على أنَّ ما ذكر فيه فهو واجب، وما لم يذكر فليس بواجب؛ فليس الحديث موضوعًا لبيان سنن الصلاة اتفاقًا.
***
213 -
عنْ أَبي حُمَيْدٍ السَّاعِديِّ رضي الله عنه قَالَ: "رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنكِبيَه، وَإذَا رَكعَ أمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبلَ بِأَطْرَافِ أصَابعِ رِجْلَيْهِ القِبْلَةِ، وإِذَا جَلَسَ في الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اليُسْرَى، وَنَصَبَ اليُمْنَى، وَإذَا جَلَسَ في الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ، قَدَّمَ رِجْلَهُ اليُسْرَى، وَنَصَبَ الأُخرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ" أَخْرجَهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أمكن يديه: يقال: مكنه من الشيء، وأمكنه منه: أقدره عليه، وأمكن يديه من ركبتيه؛ أي: مكن اليد من الركبة في القبض عليها.
- جعل يديه حذو منكبيه: "حذْوَ" بفتح الحاء وسكون الذال، يقال: حاذى الشيءُ الشيءَ محاذاة: صار بحذائه وإزائه؛ يعني: أنَّ المصلي يرفع يديه -عند تكبيرة الإحرام- حتى تحاذي منكبيه.
- منكبيه: المنكب: -بفتح الميم وكسر الكاف-: هو مجتمع رأس العضد والكتف، مذكرًا.
- هصر ظهره: بفتح الهاء فصادٌ مهملةٌ مفتوحة فراءٌ، أصل الهصر: أن يأخذ برأس العود، فيثنيه إليه ويعطفه. قال الخطابي: ثنى ظهره في استواء من غير تقويس، وفي رواية البخاري على الراجح:"حتى ظهره" بالحاء المهملة
(1) البخاري (728).
والنون، والمعنى واحد.
- فقار: بتقديم الفاء على القاف، وبفتح القاف المخففة، جمع "فقيرة"، وهي عظام فقرات الظهر المستقيمة من عظام الصلب، من لدن الكاهل إلى العجب، والجمع: فقر وفقار، قال ثعلب: فقار الإنسان سبع عشرة.
- رُكبتيه: تثنية "ركبة"، جمعه "ركب"، مثل: غرفة وغرف، والركبة: موصل ما بين أسفل أطراف الفخذ وأعالي الساق.
- مفترش ذراعيه: افتراش الذراعين: هو إلقاؤهما على الأرض.
- حنى: بالحاء المهملة والنون، هو بمعنى الرواية الأخرى:"غير مقنع رأسه، ولا مصوِّبه". قال شيخ الإِسلام: الركوع في لغة العرب لا يكون إلَاّ إذا سكن حين انحنائه، وأما مجرد الخفض فلا يسمى ركوعًا.
- مقعدته: المقعدة: هي السافلة من الشخص.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
وجوب تكبيرة الإحرام بقول: "الله أكبر"، ولا تنعقد الصلاة بدونها.
2 -
استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام.
قال في "شرح الإقناع": ويكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، ويسقط ندب رفع اليدين مع فراغ التكبير كله؛ لأنَّه سنة فات محلها.
قال الحافظ: روى رفع اليدين في أول الصلاة خمسون صحابيًّا، منهم العشرة المبشرون بالجنة، وهو سنة عند الأئمة الأربعة.
3 -
استحباب تمكين يديه من ركبتيه أثناء الركوع، وتفريج أصابعه، وأحاديث وضع اليدين على الركبتين في الركوع -بلغت حد التواتر.
4 -
استحباب هصر المصلي ظهره أثناء الركوع؛ ليستوي مع رأسه، فيكون الرأس بإزاء الظهر، فلا يرفعه ولا يخفضه.
5 -
ثم يرفع رأسه، ويديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ويقول الإِمام والمنفرد:
"سمع الله لمن حمده"، ويقول المأموم:"ربنا ولك الحمد"، ويبقى مستويًا مطمئنًا، راجعًا كل فقار من فقرات الظهر إلى مكانه.
6 -
ثم يسجد ويضع كفيه على الأرض، غير مفترش لذراعيه، موجهًا أصابع يديه إلى القبلة، غير قابض لهما.
7 -
يضع قدميه على الأرض، مستقبلًا بأطراف أصابعه القبلة.
8 -
إذا جلس في التشهد الأول فرش رجله اليسرى، وجلس عليها، ونصب اليمنى مستقبلاً بأصابعها القبلة.
9 -
إذا جلس في التَّشهد الأخير -للصلاة التي فيها تشهدان- جلس متورِّكًا، بأن يقدم رجله اليسرى ويخرجها من تحته، وينصب اليمنى، ويضع إليتيه على الأرض.
10 -
قال الفقهاء: المرأة تفعل مثل ما يفعل الرجل في جميع ما تقدم، حتى رفع اليدين، لكن تضم نفسها في ركوع وسجود وغيرهما، فلا تتجافى، وتسدل رجليها في جانب يمينها في جلوسها، والتربع والسدل أفضل؛ لأنَّه أستر لها، قال في "الإنصاف": بلا نزاع.
***
214 -
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
…
إِلى قَوْلِهِ: مِنَ المُسْلِمِيْنَ اللَّهُمَّ انْتَ المَلِكُ لَا إِله إلَاّ أنْتَ، أنْتَ رَبَيِّ وَانا عَبْدُكَ
…
إِلى آخرِهِ". رواهُ مُسْلِمٌ.
وفي رِوَايَةٍ لهُ: "إنَّ ذَلكَ في صلَاةِ اللَّيْلِ"(1).
ــ
* درجةُ الحديث:
قول المؤلف: وفي رواية لمسلم: "أنَّ ذلك في صلاة الليل" قال عنه في "تحفة الأحوذي": هذا الحديث روي في مسلم من وجهين، ليس في واحد منهما أنَّ ذلك في صلاة الليل، ورواه الترمذي من ثلاثة أوجه، ليس في واحد منها أنَّ ذلك في صلاة الليل، ورواه أبو داود من وجهين لم يقع في واحد منهما أنَّ ذلك في صلاة الليل؛ فهذا وهمٌ من المؤلف -رحمه الله تعالى- والله أعلم.
وتمام دعاء الحديث: "
…
حنيفًا مسلمًا، وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسْكِي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين".
* مفردات الحديث:
- وجَّهتُ وَجْهِي: أي: توجهت بالعبادة وأخلصتها للذي فطر السموات
…
إلخ.
- فاطر السموات والأرض: الفطر: الابتداء، وهو المراد هنا؛ أي: مبتدىء خلق السموات والأرض، ومخترعها على غير مثال سابق.
(1) مسلم (771).
- حنيفًا: حال، ومعناه: مائل من الباطل إلى الدين الحق، وهو الإِسلام.
- نُسُكِي: النسك: العبادة، وكل ما يتقرب به إلى الله، وعطفه على "الصلاة" من باب عطف العام على الخاص.
- محيَايَ وَمَمَاتِي: أي: أعمالي في حين حياتي، وعند موتي، فهو المالك لهما المختص بهما، ويجوز فيهما فتح الياء وإسكانها، ولكن فتح الأول وإسكان الثاني أكثر.
- لَبيْكَ وسَعْديك: أي أسعد بأمرك، وأتبعه إسعادًا متكررًا، وأجيبك إجابة بعد إجابة، يارب.
- أَنَا بكَ وَإِليك: أي: التجائي وانتهائي إليك، وتوفيقي بك.
- تباركت: أي: ثبت الخير عندك وكثر.
- وجهت وجهي: بإسكان الياء عند الأكثرين وفتحها، أي: قصدت بعبادتي.
- لله: متعلق بالجميع؛ أي: كل ما ذكر كائنٌ لله تعالى، وذلك في الصلاة والنسك بالإخلاص لوجهه تعالى، وفي الحياة والموت، بمعنى أنَّه خالقهما ومدبرهما، لا تصرف لغيره فيهما.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استفتاح الصلاة فرضًا كانت أو نفلاً؛ سواء أكان ذكرًا أم دعاءً، يقال بعد تكبيرة الإحرام، وقبل التعوذ والقراءة، وهو في الركعة الأولى دون غيرها.
2 -
هو مندوب وليس بواجب؛ لحديث المسيء في صلاته المتقدم.
3 -
وقد ورد له عدة ألفاظ، والأفضل أن يأتي كل مرَّة بلفظ منها؛ ليعمل بجميع النصوص الواردة فيه، وإن اقتصر على بعضها جاز.
قال شيخ الإِسلام: يستحب أن يأتي بالعبادات الواردة على وجوه متنوعة بكل نوع منها، فلا يجمع بينها، ولا يداوم على نوع منها.
4 -
قوله: "قام إلى الصلاة" يعني: إذا دخل فيها، قال هذا الذكر.
5 -
"وجهت وجهي" أي: قصدت بعبادتي، فينبغي أن يكون المصلي -حال قوله هذا الذكر- مقبلاً على مولاه، غير ملتفت بقلبه إلى سواه، فيكون على غاية الحضور والإخلاص، وإلَاّ كان كاذبًا، وأقبح الكذب أمام من لا تخفى عليه خافية.
6 -
"الذي فطر السموات والأرض": يعني: أوجدهما وأبدعهما على غير مثال سابق، ومَن أوجد مثل هذه المبدعات، التي هي غاية في الإبداع والإتقان، حقٌّ له أن تتوجه إليه الوجوه، وأن تعول عليه القلوب، فلا يلتفت إلى غيره، ولا يرجى أحد سواه.
7 -
"حنيفًا": مائلاً إلى الحق، مستقيمًا عليه.
8 -
"مسلمًا": مستسلمًا منقادًا لله تعالى، متوجهًا إليه.
9 -
"وما أنا من المشركين": حال مقررة لمضمون الجملة التي قبلها.
10 -
"إنَّ صلاتي": العبادة المعروفة فرائضها ونوافلها.
11 -
"ونُسكي": ذبحي، الذي أتقرَّب به إلى الله تعالى.
وخصَّ هاتين العبادتين الشَّريفتين؛ لمزيد فضلهما، ودلالتهما على محبَّة الله تعالى، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان والجوارح، هذا في الصلاة، وببذل ما تحبه النفس من المال في طاعة الله تعالى، وهو الذبح والتقرب إليه بإراقة الدماء.
12 -
"محياي ومماتي": ما آتيه في حياتي من الأعمال، وما يقدره ويجريه الله تعالى عليَّ في مماتي.
13 -
"لله ربِّ العالمين، لا شريك له" في العبادة، ولا في الملك، ولا في الصفات.
14 -
"وأنا من المسلمين" هكذا رواه مسلم (771)، وأبو داود (760)، والترمذي (3435)، والنسائي (897)، وابن ماجه (760)، وقد رواه
مسلم (771)، وأبو داود (760)، من وجه آخر:"وأنا أول المسلمين"، فقد كان صلى الله عليه وسلم هو أول المسلمين على الإطلاق، وبالنسبة لغيره فليقتصر على:"وأنا من المسلمين" لا غير، إلَاّ أن يقصد لفظ الآية، وحينئذٍ يفوته -إن اقتصر عليها- سنة دعاء الاستفتاح.
15 -
قوله: "أنت الملك لا إله إلَاّ أنت": إثبات الإلهيَّة المطلقة لله تعالى -على سبيل الحصر- بعد إثبات الملك.
16 -
"أنت ربي وأنا عبدك": أي: أنت مالكي، وموجدي، ومربيني بأنواع النعم والمنن، وأنا عبدك الذليل الخاضع لأمرك، الملتجىء لفضلك.
17 -
"ظلمتُ نفسي": بالمخالفة، واعترفت بذنبي، وأنت الكريم الذي نطلب منه المغفرة.
18 -
"واغفر لي ذنوبي جميعًا": أي: حتى الكبائر والتبعات.
19 -
" لا يغفر الذنوب إلَاّ أنت": أي: صغائرها وكبائرها، حقيرها وجليلها.
20 -
"اهدني لأحسن الأخلاق": ارشدني للأخلاق الحسنة الظاهرة والباطنة، والخُلُق الحسن هيئة نفسانية، ينشأ عنها جميل الأفعال، وكمال الأحوال.
21 -
"اصرف عني سيئها" أي: ارفع عني الأخلاق السيئة.
22 -
"لبيَّك وسعديك، والخير كله في يديك" أجيبك مرة بعد أخرى، وأحظى وأسعد بإقامتي على طاعتك، وكل فرد من أفراد الخير هو من طَوْلك وإفضالك.
23 -
"والشر ليس إليك": الأمور كلها بيد الله تعالى خيرها وشرها، ومعنى هذا أنَّ الشرَّ لا يتقرب به إليك، ولا يصعد إليك، ولا ينسب إليك.
24 -
"تباركت وتعاليت": تعاظمت وتمجدت، وأدرت البركة على خلقك، والبركة: هي الكثرة والاتساع.
25 -
"وتعاليت": ارتفعت شأنًا وقدرًا، أو تنزهت عمَّا لا يليق بك.
26 -
"أستغفرك وأتوب إليك" أطلب منك المغفرة، وأطلب منك التوبة.
27 -
"قال المؤلف: وفي رواية: "أنَّ ذلك في صلاة الليل"، قال المحدِّث الشيخ عبد الرحمن المباركفوري في كتابه "تحفة الأحوذي": قول المؤلف هذا فيه نظر؛ فإنَّ الحديث مروي في صحيح مسلم في باب صلاة الليل، بل وقع أحدهما "إذا قام إلى الصلاة المكتوبة"، ومثل ذلك في روَايتيْ أبي داود، ووقع في رواية الدارقطني: "إذا ابتدأ الصلاة المكتوبة، قال: وجَّهتُ وجهي
…
إلخ".
وقال الشوكاني في "النيل": وأخرجه ابن حبان وزاد: "إذا قام إلى الصلاة المكتوبة"، ولذلك رواه الشافعي وقيَّده أيضًا بالمكتوبة، فالقول بأنَّ هذا الدعاء مخصوص بصلاة التطوع، ولا يكون مشروعًا في المكتوبة -باطل جدًّا. اهـ كلامه.
***
215 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا كَبَّرَ للصَّلَاةِ، سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أنْ يَقْرَأَ، فسَأَلْتهُ، فَقَالَ: أَقُولُ: "اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا باعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِب، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ، كمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالمَاءِ والثَّلْجِ والبرَدِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- هنيهة: قال في: "القاموس": الهِنو -بالكسر-: الوقت، وهنيهة تصغير: هنية، ويراد بها: السكتة اللَّطيفة.
- خطايا: جمع: "خطيئة"، وأصله: خطائي، بهمزة مكسورة بعد المد، يليها ياء متحركة هي لام الكلمة، ثم فتحت الهمزة في الجمع، وقلبت ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار "خطاآ" فكرهوا اجتماع ألفين بينهما همزة، فقلبت ياءً فصارت "خطايا".
- نقّني: بتشديد القاف، وهو أمر من نقَّى: ينقي تنقية، وهو مجاز عن إزالة الذنوب، ومحو أثرها.
- كما باعدت: "ما" مصدرية، تقديره: كإبعادك بين المشرق والمغرب، ووجهه أنَّ التقاء المشرق والمغرب لما كان مستحيلاً، شبَه أن يكون اقترابه من الذنوب، كاقتراب المشرق والمغرب.
- الأبيض: خصَّ الثوب الأبيض بالذكر؛ لأنَّ الدنس يظهر فيه، زيادة على ما
(1) البخاري (744)، مسلم (598).
يظهر في سائر الألوان.
- الدَّنس: -بفتح الدال والنون- هو الدرن والوسخ.
- البَرد: -بفتح الباء والراء- حب الغمام.
قال الخطابي: ذِكر الثلج والبرد تأكيد، وليس المراد بالغسل هنا على ظاهره، وإنَّما هو استعارة بديعة للطهارة العظيمة من الذنوب.
قال شيخ الإِسلام: إنَّ الغسل بالماء الحار أبلغ في الإزالة، ولكن جيء هنا بالثلج والبرد؛ ليناسب حرارة الذنوب التي يراد إزالتها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب الاستفتاح، ومكانه بعد تكبيرة الإحرام، وقبل التعوذ والقراءة، وهي السكتة اللطيفة التي أسرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
أنَّ صفة الاستفتاح الإسرار به، إلَاّ إذا كان هناك حاجة إلى الجهر به، ليعلمه من خلفه من المصلين، كما فعله عمر رضي الله عنه.
3 -
أدب أهل العلم في حسن تلقينه، فالمتعلم يسأل، والمعلم يجيب في المسائل التي هم في حاجة إليها، وهم مشتغلون بالعمل بها، لا بأغلوطات المسائل الصورية.
4 -
سكتات الإِمام -عند فقهائنا الحنابلة- ثلاث:
الأولى: قبل الفاتحة في الركعة الأولى.
الثانية: بعد الفاتحة بقدرها، وهو مذهب الشافعي.
قال ابن القيم عن السكتة الثانية: إنَّها لأجل قراءة المأموم، فعلى هذا ينبغي تطويلها، بقدر قراءة المأموم الفاتحة.
والرواية الثانية عن الإِمام أحمد: لا يسكت، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، وهو المفتى به، والمعتمد في كتب المذهب.
الثالثة: سكتة يسيرة بعد القراءة كلها وقبل الركوع؛ ليرد إليه نفَسه.
قال شيخ الإِسلام: إنَّ الأئمة الثلاثة: أبا حنيفة ومالكًا وأحمد، وجماهير العلماء لم يستحبوا أن يسكت الإِمام ليقرأ المأموم، فهي عندهم غير واجبة ولا مستحبة، بل منهيٌّ عنها، والسكتتان اللتان جاءت بهما السنة:
الأولى: بعد تكبيرة الاستفتاح.
الثانية: سكتة لطيفة بعد القراءة؛ للفصل، لا تسع لقراءة الفاتحة.
وأما السكتة التي عند قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ (7)} هو فهي من جنس السكتات التي عند رؤوس الآي، ومثل هذا يسمى سكوتًا.
5 -
"اللَّهمَّ باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب":
معناه: إنَّه كما لا يجتمع المشرق والمغرب، لا يجتمع الداعي وخطاياه، فالمراد بهذه المباعدة: إما محو الخطايا السابقة، وترك المؤاخذة بها، وإما المنِع من الوقوع فيها، والعصمة منها، بالنسبة للآتية.
6 -
"اللَّهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس":
معناه: أزل عني الخطايا، وامحها عني كهذه التنقية، فإنَّ النقاء أظهر ما يكون في الثوب الأبيض، من غيره من الألوان.
7 -
"اللَّهمَّ اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد"
الماء الساخن أبلغ في إزالة الأدران والأوساخ من الثلج والبَرد، ولذا كثر تلمس العلماء سببًا لهذا التعبير؛ وأحسن ما قيل فيه ما قاله شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- قال: لما كانت الذنوب لها حرارة ووهج، وهي سبب لحرارة العذاب، ناسب أن تغسل بما يبردها ويطفىء حرارتها، وهو الثلج والماء والبرد.
* فائدة:
قال ابن الملقن في "شرح العمدة": ترقى صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء، فطلب:
(أ) ما يليق بالعبودة، وهو المباعدة.
(ب) ثم ترقى فطلب التنقية.
(ج) ثم ترقى فطلب الغسل؛ فإنه أبلغ منهما.
***
216 -
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُكَ، وَلَا إِلهَ إِلَاّ غَيْرُكَ". رواه مسُلمٌ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ، والدَّارقُطْنِيُّ مَوْصُولًا وهُوَ مَوْقُوفٌ (1).
وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا عِنْدَ الخَمْسَةِ، وَفِيهِ: وَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ: "أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ"(2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح؛ حيث رواه مسلم بسند منقطع، والدارقطني موصولاً، وهو موقوف.
قال ابن القيم في "الهدي": قد صحَّ أنَّ عمر كان يستفتح به، ويجهر به، ويعلمه الناس، وهو بهذا في حكم المرفوع، كما أنَّ الدارقطني رواه موصولاً، وقد صححه الحاكم والذهبي، وصحَّ رفع الحديث من عدة طرق، فالحديث صحيح.
وأما حديث أبي سعيد: فقال الترمذي: إنَّه أشهر حديث في الباب، وقال ابن خزيمة: لا نعلم في استفتاح "سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك" خبرًا ثابتًا عند أهل المعرفة بالحديث، وأحسن أسانيده حديث أبي سعيد.
وللحديث شاهد من حديث جبير بن مطعم، صححه ابن حبان، وشاهد
(1) مسلم (399)، الدراقطني (1/ 299).
(2)
أحمد (3/ 50)، الترمذي (242)، أبو داود (775)، النسائي (2/ 132)، ابن ماجه (804).
من حديث ابن مسعود.
* مفردات الحديث:
- سبحانك: منصوب على المصدر، وحُذف فعله، وهو "أُسَبِّح"، وهو علم للتسبيح، والعلم لا يضاف إلَاّ إذا نكر، ومعناه: التنزيه عن النقائص.
- وبحمدك: الواو للحال أو لعطف الجملة؛ سواء قلنا: إضافة الحمد إلى الفاعل، والمراد من "الحمد" -حنيئذ- لازمه، أو إلى المفعول، ويكون معناه: سبحتُ متلبسًا بحمدي لك.
ومعنى "وبحمدك ": أي: أنَّ ما قمت به من التسبيح، هو بتوفيقك وهدايتك، لا بحولي وقوتي.
- تعالى: تعاظم، وارتفع، وتنزه عمَّا لا يليق بجلاله.
- جدّك: بفتح الجيم وتشديد الدال، أي عظمتك وجلالك وسلطانك.
- الرجيم: أي: المرجوم بالطرد، واللعن عن رحمة الله تعالى.
- همْزه: هو الجنون والصرع، الذي يعتري الإنسان.
- نَفْخه: بوسوسته بتعظيم نفسه، وتحقير غيره عنده، فيزدريه، ويتعاظم عليه.
- نفْثه: قال ابن القيم: النفث: فعل السحر، والنَّفاثات هي: الأرواح والأنفس؛ لأنَّ تأثير السحر إنَّما هو من جهة الأنفس الخبيثة، والأرواح الشريرة، فإذا تكيف نفس الساحر بالخبث، والشر الذي يريده بالمسحور، نفخ في تلك العقد نفخًا معه ريق، فيخرج من نَفْسِه الخبيثة نَفَسٌ ممازجٌ للشر والأذى، مقترن بالريق الممازج لذلك، فيقع بإذن الله الكوني القدري، لا الأمري الشرعي.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا أحد أنواع استفتاحات الصلاة، قال ابن القيم: صحَّ أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستفتح به، ويجهر به؛ ليعلمه الناس، فهو
في حكم المرفوع، قال الألباني: إسناده صحيح.
2 -
سبحانك اللَّهمَّ: أنزهك عمَّا لا يليق بك، وبجلالك يا رب، وما تستحقه من التنزيه عن النقص والعيب، ونصب "سبحانك" على المصدر؛ أي: سبحتك تسبيحًا، فوضع "سبحانك" موضع التسبيح.
3 -
وبحمدك: هذا الجار والمجرور إما متَّصل بفعل مقدر، وتكون الباء للسببية، أو صفة لمصدر محذوف، والمعنى: أحمدك -يا رب- وأثني عليك بما تستحقه، من المحامد والثناء.
4 -
تبارك اسمك: كثر وكمل واتسع، وكثرت بركاته.
5 -
تعالى جدّك تعاظم شأنك، وارتفع قدرك.
6 -
لا إله إلَاّ غيرك: لا معبود بحق سواك، فأنت المستحق للعبادة، وحدك لا شريك لك، بما وصفت به نفسك من الصفات الحميدة، وبما أسديته من النعم الجسيمة.
7 -
قال الإِمام أحمد: أنا أذهب إلى هذا الاستفتاح، فلولا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقوله في الفريضة ما فعل ذلك عمر، وأقرَّه المسلمون.
قال المجد وغيره: اختاره أبو بكر وابن مسعود، واختيارُ هؤلاء وجهر عمر به يدل على أنَّه الأفضل، وأنَّه الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم عليه غالبًا.
8 -
يجوز الاستفتاح بكل ما ورد وثبت، قال شيخ الإِسلام: الاستفتاحات الثابتة كلها سائغة باتِّفاق المسلمين، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يداوم على استفتاح واحد قطعًا، والأفضل أن يأتي بالعبادات المتنوعة على وجوه متنوعة، كل نوع منها على حدته، ولا يستحب الجمع بينها.
9 -
الاستعاذة بالله تعالى في الصلاة سنة مندوب إليها، عند الجمهور، قال النووي: اعلم أنَّ التعوذ بعد دعاء الاستفتاح سنة، وهو مقدمة للقراءة، قال تعالي:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل] ومعناها
عند جماهير العلماء: إذا أردت القراءة فاستعذ بالله.
قال الشيخ تقي الدين: التعوذ عند أول كل قراءة من الشيطان الرجيم.
10 -
"أعوذ بالله": معناه: ألجأ إلى الله تعالى، وأعتصم به.
11 -
اللَّفظ المختار للتعوذ: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وجاء "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم"، ولا بأس به، لكن المشهور المختار الأول.
12 -
"من الشيطان" المتمرد العاتي، من شياطين الجن والإنس.
13 -
"الرجيم" المرجوم المطرود، والمبعد عن رحمة الله، فلا تسلطه علي بما يضرني، في ديني ودنياي، ولا يصدني عن فعل ما ينفعني، في أمر ديني ودنياي، فمن استعاذ بالله تعالى، فقد أوى إلى ركن شديد، واعتصم بحول الله وقوته، من عدوه الذي يريد قطعه عن ربه، وإسقاطه في مهاوي الشر والهلاك.
14 -
من هَمْزه: نوع من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه عقله.
15 -
نفثه: هو السحر المذموم، وقال ابن القيم عند قوله تعالى:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} [الفلق] هو شر السحر، فإنَّ النفاثات في العقد هنَّ السواحر، اللاتي يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة، حتى ينعقد ما يردن من السحر.
والنفث: هو النفخ مع ريق، وهو دون التفل، فهو مرتبة بين النفخ والتفل.
16 -
نَفْخه: الكِبْر؛ لأنَّه ينفخ في الإنسان بوسوسته، فيعظم في عين نفسه، ويحقر غيره عنده، فتزداد عظمته وكبرياؤه.
***
217 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، والقِرَاءَةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ ولَمْ يُصَوِّبهُ، وَلكِنْ بَيْنَ ذلِكَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ منَ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، وإذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوي جَالِسًا، وَكانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكعَتَيْنِ التَّحيَّةَ، وَكانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ اليُسْرَى، وَيَنْصِبُ اليُمْنَى، وَكانَ يَنْهَى عنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ". أخرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلَهُ عِلَّةٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ عند مسلم، أمَّا العلة التي أشار إليها المؤلف الحافظ: فإنَّ مسلمًا أخرجه من رواية أبي الجوزاء عن عائشة، وأبوالجوزاء لم يسمع من عائشة، ففيه انقطاعٌ، كما أنَّه أعِلَّ بأنَّ مسلمًا رحمه الله أخرجه من طريق الأوزاعي مكاتبة لا سماعًا.
* مفردات الحديث:
- القراءة: معطوفة على الصلاة.
- لم يُشْخِص: بضم الياء وسكون الشين المعجمة، وكسر الخاء المعجمة ثم صاد مهملة؛ من: شخصت كذا؛ أي: رفعته، فالشاخص من كل شيء: المرتفع، والمراد: لم يرفع رأسه.
(1) مسلم (498).
- لم يصوِّبه: بضم الياء وفتح الصاد المهملة وكسر الواو المشددة، أصله من: التصويب؛ أي: لم يخفضه خفضًا أنزل من مستوى ظهره.
- بين: ظرف، بمعنى الوسط، فإن أضيفت إلى ظرف الزمان، كانت ظرف زمان، وإن أُضيفت إلى ظرف المكان، كانت ظرف مكان.
- عُقْبَة الشيطان: بضم العين وسكون القاف، فسَّره أبوعبيد بالإقعاء المنهي عنه؛ بأن يلصق أليتيه في الأرض، وينصب ساقيه وفخذيه.
- يفرش: بضم الراء وكسرها، والضم أشهر.
- افتراش السَّبعُ: السبع -بفتح السين المهملة، وضم الباء التحتية الموحدة ثم عين-: واحد السباع المفترسة، وافتراش السبع: هو أن يبسط الساجد ذراعيه في الأرض، فيشابه السبع في هيئة إقعائه، وافتراش ذراعيه.
- التحية: يعني: التشهد الأول المعروف.
- يختم الصلاة: ختم الشيء: أتمه وبلغ آخره، والمراد هنا: أتم الصلاة وأكملها.
- التسليم: يعني: السلام عليكم، ورحمة الله.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا الحديث فيه بيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي". [رواه البخاري].
2 -
تُسْتَفْتَحُ الصلاة بتكبيرة الإحرام، فيجب على الإِمام والمأموم، والمنفرد أن يكبر بلفظ "الله أكبر"، فلا يجزىء غيرها، قال صلى الله عليه وسلم:"تحريمها التكبير". [رواه أحمد وأبو داود وغيرهما]، فلا تنعقد الصلاة بدونها.
3 -
تُستفتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مما يدل على أنَّ البسملة ليست من الفاتحة، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، وحجتهم هذا الحديث.
4 -
كان صلى الله عليه وسلم إذا ركع لم يُشْخِص رأسه؛ بأن يرفعه عن مساواة ظهره.
5 -
ولم يصوِّبه؛ بأن يخفضه، فينزل به عن مساواة ظهره، ولكن بين ذلك، فيجعله كما روى ابن ماجه عن وابصة بن معبد قال:"رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يصلي، وكان إذا ركع سوَّى ظهره، حتى لو صُبَّ عليه الماء لاستقر".
6 -
كان صلى الله عليه وسلم إذا رفع من الركوع، لم يسجد حتى يستوي قائمًا، وكان يقول:"لا تجزىء صلاة لا يقيم فيها الرجل صُلبه في الركوع والسجود". [رواه الخمسة، وقال الترمذي: حسن صحيح]، والعمل على هذا عند أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعده.
7 -
إذا رفع من السجود، لم يسجد حتى يستوي جالسًا، وكان يأمر بهذا، كما تقدم في قوله:"لا تُجْزىء صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه، في الركوع والسجود".
8 -
كان صلى الله عليه وسلم يجلس بعد كل ركعتين، فيقرأ في جلسته:"التحيات لله"، وهو التشهد الذي ورد فيه، وأحسنه ما جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: التفت إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا صلى أحدكم، فليقل: التَّحيَّات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلَاّ الله، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله" وسيأتي شرحه إن شاء الله تعالى في حديث رقم (250).
9 -
وكان صلى الله عليه وسلم في جلوسه بين السجدتين، وللتشهد الأول من الصلاة ذات التشهدين، يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويوجه أصابعه إلى القبلة.
10 -
وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن عُقْبة الشيطان؛ وذلك بأن ينصب ساقيه وفخذيه، ويضع أليتيه بينهما على الأرض، فهذا هو إقعاء الكلب، الذي يحض الشيطان على مشابهته؛ ليذهب ببهاء الصلاة وهيئتها الجميلة.
11 -
وكان ينهى صلى الله عليه وسلم عن أن يفترش المصلي ذراعيه؛ بأن يضعهما على الأرض، لما في هذه الهيئة من مشابهة للسبع المؤذي المفترس، حينما يبسط ذراعيه على الأرض، إما مُسْتَجْدِيًا للآكلين، وإما متربصًا متوثبًا بالغافلين.
12 -
وكان صلى الله عليه وسلم يختم الصلاة بالتسليم؛ بأن يقول ناويًا الحاضرين من المصلين والملائكة المقربين: "السَّلام عليكم ورحمة الله" مرَّة عن يمينه، وأخرى عن يساره؛ ليعم الحاضرين بهذا الدعاء الكريم المناسب.
والسلام هو ختام الصلاة؛ لما روى أحمد وأبو داود أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "وختامها التسليم".
13 -
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها روت هذه الصفة الكاملة من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتعلم أمته أن يصلوا مثل هذه الصلاة، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي". [رواه البخاري].
***
218 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الوُّكُوعِ". مُتَّفَقٌ عَليْهِ (1).
وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ عِنْدَ أَبي دَاوُدَ: "يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذَي بِهِمَا مَنْكَبيْهِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ"(2).
وَلمُسلمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ رضي الله عنه نَحْوُ حَدِيث ابْنِ عُمَرَ، لكِنْ قَالَ:"حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ"(3).
ــ
* درجة الحَديث:
حديث أبي حميد صحيحٌ، فأصلُه عند البخاري، وقد صححه ابن خزيمة وابن حبان وابن القيم. وأعله الطحاوي بأنَّ محمَّد بن عمرو لم يَلْقَ أبا قتادة، فقد رواه عطاف بن خالد عن محمَّد بن عمرو قال: حدثني رجل أنَّه وجد عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: والتحقيق عندي: أنَّ محمَّد بن عمرو الذي رواه عطاف بن خالد عنه، هو محمَّد بن عمرو بن علقمة الليثي، وهو لم يَلْقَ أبا قتادة، ولا قارب ذلك، إنَّما يروي عن أبي سلمة، وغيره من كبار التابعين.
وأما محمَّد بن عمرو الذي رواه عبد الحميد بن جعفر عنه، فهو محمَّد بن عمرو بن عطاء تابعي كبير، جزم البخاري بأنَّه سمع من أبي حميد وغيره،
(1) البخاري (735)، مسلم (390).
(2)
أبو داود (730).
(3)
مسلم (391).
وأخرج الحديث من طريقه، وللحديث طرق عن أبي حميد سمي في بعضها من العشرة: محمَّد بن مسلمة، وأبو أسيد، وسهل بن سعد، وهذه رواية ابن ماجه من حديث عباس بن سهل بن سعد عن أبيه.
* مفردات الحديث:
- حذو: بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة؛ أي: إزاء ومقابل منكبيه.
- منكبيه: تثنية "منكب"، وجمعه:"مناكب"، وهو مجتمع رأس العضد والكتف، مذكر.
- فروع أذنيه: عوالي أذنيه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب رفع اليدين حتى تحاذي المنكبين، عند افتتاح الصلاة بتكبيرة الإحرام، وكذلك عند تكبيرة الركوع، وعند رفع رأسه من الركوع، فهذه ثلاثة مواضع يستحب فيها رفع اليدين حذو المنكبين.
2 -
قال محمد بن نصر المروزي: أجمع علماء الأمصار على ذلك، إلَاّ أهل الكوفة فقد خالفت الحنفية فيما عدا الرفع عند تكبيرة الإحرام، مستدلين بما أخرجه أبو داود عن ابن مسعود؛ بأنَّه رأى النبي صلى الله عليه وسلم "يرفع يديه عند إلافتتاح، ثم لا يعود".
والجواب: أنَّ الرفع في غير تكبيرة الإحرام قد ثبت، والمثبت مقدم على النافي، وحديث ابن مسعود لم يثبت، كما قال الشافعي، وعلى فرض ثبوته، فإن تركه له يكون مبينًا لجوازه.
وقد نقل البخاري عن الحسن البصري، وحميد بن هلال؛ أنَّ الرفع هو عمل الصحابة، ولذا قال علي بن المديني: حقٌّ على المسلمين أن يرفعوا أيديَهم عند الركوع، والرفع منه.
قال شيخ الإِسلام: رفع الأيدي عند الركوع والرفع منه، بمثل رفعهما
عند الاستفتاح- مشروع باتفاق المسلمين.
قلت: تقدم خلاف أهل الكوفة. قال شيخ الإِسلام: هم معذرون قبل أن
تبلغهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 -
الرواية الأخرى: "أن يرفع يديه حتى يحاذي بهما فروع أذنيه"، وأحسن جمع بين الروايتين أن يحمل على التوسع، واختلاف الأحوال، فالوجهان سنة.
4 -
قال في "شرح الإقناع": ويكون رفع اليدين مع ابتداء الركوع استحبابًا؛ لقوله في الحديث: "وإذا كبر للركوع".
5 -
والرفع في المواطن كلها من مستحبات الصلاة، قال ابن القيم: روى رفع اليدين عنه -في هذه المواطن الثلاثة- نحو ثلاثين صحابيًّا، واتَّفق على روايتها العشرة، ولم يثبت عنه خلاف ذلك.
وقال في "شرح الإقناع": "رفع اليدين في موضعه من تمام الصلاة وسننها، فمن رفع يديه في موضعه، فهو أتم صلاة ممن لم يرفع يديه؛ للأخبار".
6 -
اختلفت آراء العلماء في الحكمة في رفع اليدين، فقالوا في تكبيرة الإحرام: رفع حجاب الغفلة عن الله، والدخول عليه، وفي غيرها: إعظامًا لله.
وقال بعضهم: إنَّها استسلام وانقياد؛ كالأسير المستسلم.
وقال بعضهم: زينة للصلاة، ويروى هذا عن ابن عمر، وعلى كلٍّ فهو اتباع لسنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* فائدة:
ورد موضع رابع يشرع رفع اليدين فيه؛ وذلك حينما يقوم من التشهد الأول في الصلاة ذات التشهدين، فقد جاء في صحيح البخاري (736)، من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام من الركعتين، رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما كان يصنع عند افتتاح الصلاة".
كما جاء أيضًا في سنن أبي داود (721)، والترمذي (218)، وابن حبان
(5/ 187)، من حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، رووا أنَّه إذا قام من الركعتين كبر، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه.
قال الخطابي: هو حديث صحيح، وقد قال به جماعة من أهل الحديث، والقول به لازم على أصل قبول الزيادات، والزيادة من الثقة مقبولة.
وقال ابن دقيق في "شرح العمدة": ثبت الرفع عند القيام من الركعتين.
وقال البيهقي: هو مذهب الشافعي؛ لقوله: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، ولذلك حكاه النووي عن نص الشافعي، وقال: إنَّه في الصحيح، وأطنب في ذلك في "شرح المهذب".
وقال شيخ الإِسلام: رفع اليدين في هذا الموضع مندوب إليه عند محققي العلماء العاملين بالسنة، وقد ثبتت في الصحاح والسنن، ولا معارض لها ولا مقاوم، واختاره الشيخ وجده وصاحب "الفائق"، واستظهره في "الفروع" و"المبدع"، وصوَّبه في "الإنصاف"، وهو أصح الروايتين عن أحمد.
***
219 -
وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلى يَدِهِ اليُسْرَى، علَى صَدْرِهِ". أخرجه ابن خُزَيْمَةَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح، رواه أحمد (18375)، ورواه مسلم (401)، بدون "على صدره" وله طريق أخرى عند أحمد وأبي داود والنسائي في "الكبرى"(1/ 310)، والدارمي (1/ 312)، وابن الجارود، والبيهقي (2/ 28)، بإسناد صحيح على شرط مسلم، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، والنووي في "المجموع"، وابن القيم في "زاد المعاد".
* مفردات الحديث:
- يده: إذا أطلقت اليد، فالمراد بها: الكف، قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فالمراد باليد هنا: الكف.
- صدره: بفتح فسكون، والصدر لغة: مقدم كل شيء، ومنه: صدر الإنسان، وهو الجزء الممتد من أسفل العنق إلى فضاء الجوف.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على مشروعية وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى، على صدره في الصلاة، أثناء القيام للقراءة.
2 -
وهو من مستحبات الصلاة وفضائلها، وليس بواجب فيها.
3 -
وضع اليد على الأخرى وضمها على الصدر، هي وقفة الخاضع الخاشع
(1) ابن خزيمة (1/ 243).
المتواضع الذليل بين يدي ربه تعالى.
وينبغي أن يلاحظ المصلي هذه المعاني في نفسه.
4 -
حديث الباب صحيح، رواه الإِمام أحمد وصححه النووي، وابن القيم، وجاء فيما رواه أحمد (22342)، والبخاري (707)، عن سهل بن سعد قال:"كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى، في الصلاة".
قال أبو حاتم: ولا أعلمه إلَاّ ينمى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: حديث سهلٍ له حكم الرفع؛ لأنَّه محمول على أنَّ الآمر لهم بذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5 -
هذا معارض بما رواه أحمد (877)، وأبو داود (756)، عن علي قال:"من السنة وضع الكف على الكف تحت السرة"، ولكن قال العلماء عن هذا الأثر: إنَّه حديث ضعيف؛ لأنَّ مدار طرق أسانيده على عبد الرحمن الواسطي.
قال أحمد: منكر الحديث، وقال ابن حصين: ليس بشيء، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: فيه نظر، وقال البيهقي: هو متروك، وقال النووي: هو ضعيف بالاتفاق.
وقالوا: أصح شيء في هذا الباب حديث وائل بن حجر.
ومع ضعف هذا الحديث، فإنَّ العمل عليه عند الحنفية والحنابلة، أما الشافعية فقال النووي: يجعل تحت صدره فوق سرته، هذا مذهبنا المشهور، وبه قال الجمهور.
قلتُ: لكن الصحيح من حيث الدليل وضع اليدين على الصدر؛ لصحة أحاديثه، وعليه العمل عند أهل الحديث.
* خلاف العلماء:
جمهور العلماء على استحباب وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى، ووضعهما إما على الصدر، أو تحت السرة على الخلاف المتقدم، ولكنَّهم اختلفوا في هذا القبض حال الاعتدال من الركوع:
فذهب بعضهم إلى: استحباب قبضهما، ووضعهما على الصدر، كما كان الحال في القيام قبل الركوع.
وذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة وأتباعهم- إلى: إرسالهما إلى الجانبين، وأنَّه لا يسن قبضهما، ووضعهما على الصدر، أو تحت السرة، فهذا خاص بالقيام قبل الركوع.
استدلَّ الأولون: بما رواه البخاري (707) عن سهل بن سعد قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة".
كما استدلو بما رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة، وصححه من حديث وائل بن حجر قال:"صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره"، وأصل الحديث في مسلم بدون "على صدره".
فهذان الحديثان الصحيحان عامان في القيام، سواء أكان قبل الركوع أم بعده، ومن فرَّق بين القيامين فعليه الدليل.
وهذه الحال هي وقفة وهيئة السائل الذليل، الخاشع بين يدي الله تعالى، فينبغي الاتصاف بها في الصلاة.
أما الجمهور -وهم الذين لا يرون استحباب هذه الهيئة بعد الرفع من الركوع- فإنَّهم يقولون: إنَّ هذين الحديثين وردا في القيام قبل الركوع، أما بعد الركوع، فإنَّه لم يرد فيه شيء مطلقًا، ولو كان له أصل لنقل إلينا، ولو من طريق واحد، فهذا السكوت من واصفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على أنَّ وضع اليد على اليد على الصدر، لا يوجد لا في أثر صحيح، ولا ضعيف.
كما أنه لم يعرف القبض عن أحد من السلف، ولا أنَّ أحدًا من الأئمة فعله، وأسرف الشيخ ناصر الدين الألباني، فجعل قبض اليدين، ووضعهما على الصدر بعد الركوع "بدعة ضلالة".
والمسألة للاجتهاد فيها مساغ، ولذا ذهب الإمام أحمد إلى التخيير بين فعله وتركه، والتخيير راجع إلى ما وصل إليه فهم المجتهد واجتهاده، والله أعلم.
***
220 -
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِأُمِّ القُرْآنِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لابْنِ حِبَّانَ والدَّارَقُطْنِيِّ: "لَا تُجْزِىءُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بفَاتِحَةِ الكِتَابِ".
وَفِي أُخْرَى لأحْمَدَ وَأَبِي دَاودَ والتِّرْمذِيِّ وَابْن حِبَّانَ: "لَعَلَّكُمْ تَقْرَؤونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قالَ: لَا تَفْعَلُوا إِلَاّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، فَإنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِهَا"(1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث أصله في الصحيحين.
وأما رواية ابن حبان والدارقطني: فقد أخرجها ابن خزيمة في صحيحه، وصححها ابن القطان.
وأما رواية أحمد: فقال الحافظ: رواه أحمد، والبخاري في جزء القراءة وصححه.
قُلْتُ: وحسَّنه الترمذي، وقال عن رواية الصحيحين:"وهذا أصح"، ومن شواهده: ما رواه أحمد من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن محمَّد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: إسناده حسن.
(1) البخاري (756)، مسلم (394)، أحمد (5/ 321)، أبو داود (823)، الترمذي (311)، ابن حبان (1785، 1789)، الدارقطني (1/ 321).
* مفردات الحديث:
- بأم القرآن: الفعل متعدٍّ بنفسه، وإنما عدِّي بحرف الجر على معنى: لم يبدأ القراءة إلَاّ بها.
- لا صلاة: "لا" تأتي بعدة أوجه، أحدها: أن تكون نافية للجنس، كما هي هنا.
قال ابن دقيق العيد: صيغة النفي إذا دخلت على الفعل في ألفاظ الشارع، فالأولى حملها على نفي الفعل الشرعي؛ فيكون قوله:"لا صلاة" نفيًا للصلاة الشرعية؛ لأنا إذا حملناه على نفي الفعل الجنسي -وهو غير منتفٍ- احتجنا إلى إضمارٍ؛ لتصحيح اللفظ، فحينئذٍ يضمر بعضهم "الصحة"، وبعضهم "الكمال".
- أم القرآن: قال البخاري: سميت "أم الكتاب"؛ لأنه يبتدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة. وقال القرطبي: لأنها متضمنة لجميع علوم القرآن.
- فاتحة الكتاب: قال القرطبي: سميت بذلك؛ لأنه لا تفتح قراءة القرآن إلَاّ بها لفظًا، وتفتح بها الكتابة في المصحف خطًّا، وتفتح بها الصلوات.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أم القرآن، وفاتحة الكتاب من أسماء سورة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فهي أم القرآن؛ لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته، وهي فاتحة الكتاب؛ لأنَّه يفتتح بها القرآن، ولأنَّ الصحابة افتتحوا كتابة المصحف الأم بها.
ولها عدة أسماء، كلها تشير إلى فضلها وأهميتها، فقد جاء في صحيح البخاري (4474)؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أعظم سورة في القرآن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وهي السبع المثاني".
2 -
يدل الحديث على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، وأنَّها ركن لا تصح الصلاة بدونها، والصحيح أنَّها تجب في كل ركعة؛ لحديث المسيء في صلاته، "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". [رواه البخاري (724) ومسلم (397)].
3 -
لا صلاة: "لا" النافية تكون لنفي الذات، وهو معناها الحقيقي، ولا تكون لنفي الصفات إلَاّ إذا تعذر نفي الذات، ونفي الذات ليس هنا بمتعذر؛ لأنَّ الصلاة معنى شرعي مركب من الأقوال والأفعال، مُنْتَفٍ بانتفاء بعضها، أو كلها.
ويؤيد هذا المعنى قوله: "لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب".
4 -
قال ابن القيم في تفسيره القيم: اشتملت الفاتحة على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال، وتضمنتها أكمل تضمن، فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء، هي مرجع الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهي:"الله، الرب، الرحمن"، وبنيت السورة على الإلهية في:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، وعلى الربوبية في:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وطلب الهداية، وتضمنت التصديق بالرسالة، وإثبات المعاد في:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة.
قال ابن كثير: وأما "الصراط المستقيم" فهو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ثم اختلفت فيه عبارات المفسرين، وذلك أنه قيل: هو كتاب الله، وقيل: الحق، وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذه الأقوال صحيحة متلازمة، وحاصلها واحد، وهو المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فمن فاز بمعانيها فقد فاز من كماله بأوفر نصيب.
5 -
قال شيخ الإِسلام: والعبد مضطر دائمًا إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء؛ فإنَّه لا نجاة من العذاب، ولا وصول
إلى السعادة إلَاّ بهذه الهداية، فمن فاتته فهو إما من المغضوب عليهم، وإما من الضالين.
وقال ابن القيم: ولما كان سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم أجلَّ المطالب، ونيله أشرف المواهب -علَّم الله عبادَه كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده، والثناء عليه، وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم لا يكاد يرد معهما الدعاء.
* خلاف العلماء:
أجمع الأئمة الأربعة وأتباعهم على وجوب قراءة الفاتحة، للإمام والمنفرد، وأنَّ الصلاة لا تصح بدونها، عدا الحنفية في إجزاء الصلاة، وتقدم خلافهم.
واختلفوا في وجوب قراءتها على المأموم:
فذهب الإِمام الشافعي وأهل الحديث إلى: أنَّها تجب على المأموم في الصلاة السرية والجهرية، مع الإمكان، ويستثنى من القول بوجوب قراءة الفاتحة إذا أدرك الإِمام راكعًا، فيكبر ويرفع مع الإِمام، ويكون مدركًا للركعة، فتسقط عنه الفاتحة حينئذٍ، وكذا لو أدرك الإِمام ولم يتمكن من إكمال الفاتحة، فإنه يركع وتسقط عنه في هذه الحال.
ويدل لذلك حديث أبي بكرة في الصحيحين، ووجه من النظر -مع الأثر- أنَّ هذا الرجل لم يدرك القيام، الذي هو محل قراءة الفاتحة، فسقط عنه الذكر لسقوط محله، كما يسقط غسل اليدين في الوضوء إذا قطعت.
كما استدل الجمهور -وهم المانعون من قراءة المأموم خلف الإِمام:- بما جاء في صحيح مسلم (404) أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "وإذا قرأَ فأنصتوا"، وجاء في مسند الإِمام أحمد (14233)، وغيره بإسناده صحيح متصل، رجاله كلهم ثقات؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"من كان له إمام فقراءته قراءة له".
وثبت النهي عن القراءة خلف الإِمام عن عشرة من الصحابة.
قال الشعبي: أدركت سبعين بدريًّا، كلهم يمنعون المأموم من القراءة خلف الإِمام.
واستدلَّ الشافعية ومن وافقهم: بحديث عبادة بن الصامت الذي معنا، وأجابوا عن حديث:"من صلي خلف الإِمام، فقراءته قراءة له" بما قاله ابن حجر من أنَّ طرقه كلها معلولة، لا تقوم بها حجة، وأما الآية والحديث:"وإذا قرأ فأنصتوا" -فهي عمومات تصدق على أي قراءة، وحديث عبادة خاصٌّ بالفاتحة، والدليل الخاص يقضي على الدليل العام.
أما الإِمام مالك -فيرى وجوب قراءة الفاتحة في السرية، وعدم مشروعيتها في الجهرية، ويرى أنَّ هذا القول تجتمع فيه أدلة الفريقين.
فإذا كانت الصلاة جهرية، فإنَّ قراءة الإِمام له قراءة، بما يحصل له من أجر السماع والإنصات، وفائدة فهم المعنى من التدبر والتفكر، ولذا رجحه الإِمام المحقق شيخ الإِسلام ابن تيمية، وهو قول أكثر السلف؛ أنَّه إذا سمع قراءة الإِمام أنصت، فإنَّ استماعه لقراءة الإِمام خير من قراءته، فإنَّ الإنصاف إلى قراءة الإِمام من تمام الائتمام به، فإنَّ من قرأ على قومٍ لا يستمعون لقراءته، لم يكونوا مؤتمين به، وهذا مما يبين حكمة سقوط القراءة عن المأموم، فإنَّ متابعته لإمامه مقدمة على غيرها، حتى في الأفعال.
وقال في موضع آخر: القراءة مع جهر الإِمام منكر، مخالف للكتاب والسنة، وما عليه الصحابة.
وممن مال إلى هذا التفصيل الذي يراه الإِمام مالك، ورجَّحه الشيخ تقي الدين -كثير من علماء الدعوة، منهم الشيخ عبد الله بن محمَّد، والشيخ محمَّد ابن إبراهيم، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، رحمهم الله تعالى.
لكن قال ابن الملقن في "شرح العمدة": قد يستدل بهذا الحديث من يرى وجوبها على العموم؛ لأنَّ صلاة المأموم صلاة، فتنتفي قراءتها، فإن وجد دليل يقضي تخصيصه من هذا العموم قدم، وإلَاّ فالأصل العمل به، بل صح ما يدل على عمومه؛ "فإنَّه عليه الصلاة والسلام ثقلت عليه القراءة في صلاة الفجر، فلما فرغ قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم قلنا: نعم، قال: لا تفعلوا إلَاّ بفاتحة الكتاب؛ فإنَّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". اهـ كلام ابن الملقن.
***
221 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه:- "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ، وعُمَرَ، كانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}." متَّفقٌ عَلَيْهِ.
زَادَ مُسْلِمٌ: "لَا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِيْ أوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا في آخِرِهَا".
وَفِي رِوَايَةٍ لأحْمَدَ وَالنَّسائيِّ وابن خُزَيْمَةَ: "لَا يَجْهَرُونَ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".
وَفِي أُخْرَى لابنُ خُزَيْمَةَ: "كَانُوا يُسِرُّونَ".
وعلى هذا يُحْملَ النَّفْيُ في رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، خِلافًا لِمَنْ أَعَلَّهَا (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
وأعله بعضهم باضطراب رواياته، لكن قال الحافظ في "الفتح" (2/ 266): وقد اختلف الرواة عن شعبة في لفظ الحديث: فرواه جماعة من أصحابه عنه بلفظ: "كَانُوا يَفْتَتِحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "، ورواه آخرون عنه بلفظ:"فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". كذا أخرجه مسلم في رواية أبي داود الطيالسي ومحمَّد بن جعفر، وكذا أخرجه الخطيب من رواية أبي عمر الدوري شيخ البخاري فيه، وأخرجه ابن خزيمة من رواية محمَّد بن جعفر باللفظين، وهؤلاء من أثبت أصحاب شعبة، ولا يقال:
(1) البخاري (743) مسلم (399)، أحمد (3/ 275)، النسائي (907)، ابن خزيمة (1/ 250).
هذا اضطراب من شعبة، لأنَّا نقول: قد رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه باللفظين، فأخرجه البخاري في "جزء القراءة"، وأبو داود وابن ماجه من طريق أيوب، وهؤلاء والترمذي من طريق أبي عوانة، والبخاري في "جزء القراءة" وأبو داود من طريق هشام الدستوائي، والبخاري فيه وابن حبان من طريق حماد ابن سلمة، والبخاري فيه والسراج من طريق همام كلهم عن قتادة باللفظ الأول، وأخرجه مسلم من طريق الأوزاعي عن قتادة؛ بلفظ:"لم يكونوا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".
وقد قدح بعضهم في صحته؛ يكون الأوزاعي رواه عن قتادة مكاتبة وفيه نظر؛ فإنَّ الأوزاعي لم يتفرد به، فقد رواه أبو يعلى عن أحمد الدورقي، والسراج عن يعقوب الدورقي، وعبد الله بن أحمد بن عبد الله السلمي ثلاثتهم عن أبي داود الطيالسي عن شعبة؛ بلفظ:"فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} " قال شعبة: قلت لقتادة: سمعته من أنس؟ قال: نحن سألناه، لكن هذا النفي محمول على ما قدمناه، أن المراد: أنه لم يسمع منهم البسملة، فيحتمل أن يكونوا يقرؤونها سرًّا، ويؤيده رواية من رواه عنه بلفظ:"فلم يكونوا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، كذا رواه سعيد بن أبي عروبة عن النسائي وابن حبان، وهمام عند الدارقطني، وشيبان عن الطحاوي وابن حبان، وشعبة أيضًا من طريق وكيع عنه عند أحمد، أربعتهم عن قتادة، ولا يقال: هذا اضطراب من قتادة؛ لأنا نقول: قد رواه جماعة من أصحاب أنس عنه كذلك، فرواه البخاري في "جزء القراءة" والسراج وأبو عوانة في صحيحه من طريق إسحاق بن أبي طلحة، والسراج من طريق ثابت البناني، والبخاري فيه من طريق مالك بن دينار، كلهم عن أنس باللفظ الأول، ورواه الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي نعامة كلهم عن أنس باللفظ الثاني للجهر، فطريق الجمع بين هذه الألفاظ، حمل نفي القراءة على نفي السماع، ونفي السماع
على نفي الجهر، ويؤيده أنَّ لفظ رواية منصور بن زاذان:"فلم يسمعنا قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة؛ بلفظ:"كانوا يسرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب؛ كابن عبد البر؛ لأنَّ الجمع إذا أمكن، تعيَّن المصير إليه. اهـ.
* مفردات الحديث:
- بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : أي: بهذا اللفظ، وتأويله على إرادة اسم السورة، التي كانت تسمى عندهم بهذه الجملة، والدال مِنْ "بالحمد" مضمومة على سبيل الحكاية.
- {بِسْمِ اللَّهِ} : الباء متعلقة بمحذوف تقديره: أبدأ، وتثبت الباء بغير ألف؛ لكثرة استعمالها هنا و"اسم" زائدة لإجلال ذكره تعالى.
و"الاسم" مشتق، إما من السمو، وهو الرفعة والعلو، وإما من السمة، وهي العلامة؛ لأنَّ الاسم علامة لمن وضع له.
و"الله" هو أجل أسمائه تعالى، ولا يسمى به غيره تعالى.
قال بعض العلماء: إنَّه اسم الله الأعظم، وهو عَلَمٌ على الذات الجليلة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أنَّهم كانوا يستفتحون قراءة الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
2 -
زيادة الإِمام مسلم أكدت أنَّهم لا يذكرون "البسملة"؛ لا في أول القراءة، ولا في آخرها.
3 -
يدل الحديث على أنَّ البسملة ليست من الفاتحة، فلا تتعيَّن قراءتها معها، وإنَّما تستحب كإحدى فواصل السور، وفيها خلاف، وسيأتي تحقيقه -إن شاء الله تعالى.
4 -
رواية أحمد والنسائي وابن خزيمة: أنَّهم لا يجهرون بالبسملة، وإنَّما يسرون بها.
قال الحافظ: وعلى هذا يحمل النفي في رواية مسلم، وهو توجيه حسن.
قال في "شرح الإقناع": ثم يقرأ البسملة سرًّا، وليست من الفاتحة، حكاه القاضي إجماعًا سابقًا.
5 -
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} : تشتمل على اسم الجلالة العظيم، وصفات الرحمة والخير والبركة، فهي ألفاظٌ جليلةٌ يستحب الإتيان بها في أول كل عمل ذي بال، من أكلٍ وشربٍ، وجماعٍ، وغُسلٍ، ووضوءٍ، ودخولِ مسجدٍ، ومنزلٍ، وحمَّامٍ، فهي إما أن تَحْمِلَ بركة وخيرًا، وإما أن تدفع شرًّا وأذى، والبسملة عند فقهائنا الحنابلة قسمان: واجبة، ومستحبة:
(أ) فتجب في الوضوء، والغسل، والتيمم، والتذكية، والصيد.
(ب) تسن عند قراءة القرآن، والأكل، والشرب، والجماع، وعند دخول الخلاء.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على: أنَّ البسملة بعض آية من سورة "النمل"، ثم اختلفوا في مشروعية قراءتها في الصلاة:
فذهب الأئمة الثلاثة إلى ذلك، أما مالك: فإنَّه لا يرى مشروعية قراءتها في الصلاة المكتوبة؛ لا سرًّا، وجهرًا.
ثم اختلفوا: هل هي واجبة في الصلاة، أو لا؟
فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى: أنَّ قراءتها سنة لا تجب؛ وذلك أنَّها عندهم ليست آية من الفاتحة.
وذهب الشافعي إلى: وجوبها.
قال ابن رشد: وسبب الخلاف اختلاف الآثار في هذا الباب.
وما ذهب إليه الشافعي هو مذهب طائفة من الصحابة والتابعين، ودليلهم: ما روى النسائي وغيره عن أبي هريرة، أنَّه صلَّى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعدما فرغ:"إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم".
وعدم الجهر بها هو مذهب جمهور العلماء، وهو مروي عن الخلفاء الراشدين، وطوائف من السلف الخلف، وهذا هو الراجح من هذه الأقوال.
قال شيخ الإِسلام: المداومة على الجهر بها بدعة، مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأحاديث المصرحة في الجهر كلها موضوعة.
وذكر ابن القيم: أنَّ الجهر بها تفرد به نعيم المجمر من بين أصحاب أبي هريرة، وهم ثمانية، ما بين صاحب وتابع.
ومن أقوى الأدلة على عدم مشروعية الجهر بها: ما جاء في صحيح مسلم (395) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدِي نِصفين، فإذا قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال: حمدني عبدي، وإذا قال:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قال: أثنى عليَّ عبدِي، وإذا قال:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، قال: مجَّدني عبدي، وإذا قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، قال: هذا بيني وبين عبدي نصفين، ولِعَبْدي ما سأل، وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
…
} إلخ، قال: هذا لِعبدي ولعبدي ما سأل".
فهذا دليلٌ صحيحٌ، على أنَّ البسملة ليست من الفاتحة، ولهذا لم تذكر، فهذا القول هو الراجح الصحيح، والله أعلم.
***
222 -
وعَنْ نُعَيْمٍ المُجْمِرِ قالَ: "صَلَّيْتُ وَرَاءَ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فقَرَأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثمَّ قَرَأ بِأُمِّ القُرْآنِ، حَتَّى إذا بلَغَ {وَلَا الضَّالِّينَ}، قالَ: آمينَ، ويقُولُ كُلَّمَا سَجَدَ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الجُلُوسِ: اللهُ أكبر، ثُمَّ يَقُولُ إذَا سَلَّمَ: والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ إنِّي لأَشْبَهُكُمْ صَلاةً بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم". رَواهُ النَّسَائِيُّ وَابْن خُزَيْمَةَ (1).
ــ
* درجة الحَديث:
الحديث حسن، ومنهم من ضعفه.
فقد ذكره البخاري تعليقًا، وقال ابن حجر في "الفتح": أخرجه ابن حبان، وابن خزيمَةَ، والنسائي، وهو أصح حديث وَرَدَ في البابِ، وأعلَّه الزيلعي، وأجاب ابن حجر عمن قال: إنَّ غير نُعيم رواه بدون ذكر البسملة، فالجواب: أنَّ نعيمًا ثقة، فتقبل زيادته، ونقل النووي في "المجموع" تصحيحه، وثبوته عن الدارقطني وابن خزيمة والحاكم والبيهقي.
وسئل شيخ الإِسلام ابن تيمية عن هذا الحديث، فقال: اتَّفق أهل الحديث على أنَّه لم يثبت في الجهر بالفاتحة حديثِ صريح، وإنما يوجد صريحًا في أحاديث موضوعة.
* مفردات الحديث:
- ولا الضالين: الضلال في كلام العرب: هو الذهاب عن سنن القصد، وطريق الحق، والأصل: الضاللين، ثم أدغمت اللام في اللام.
(1) النسائي (905)، ابن خزيمة (1/ 251).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب الجهر بالبسملة في أول القراءة في الصلاة.
2 -
قال في "شرح المغني": هو أصح حديث ورد، وقد بوَّب عليه النسائي في "سننه" فقال: "الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
وقد سئل شيخ الإِسلام عن هذا الحديث، فقال:"اتَّفق أهل الحديث على أنَّه لم يثبت في الجهر بها حديث صريح، وإنما يوجد صريحًا في أحاديث موضوعة".
وبهذا فلا حجة فيه على هذا الحكم، ولا يقاوم الأحاديث الصحيحة مما ذكر، وما لم يذكر.
2 -
استحباب قول: "آمين" للإمام، مادًّا بها صوته، ويؤيد هذا ما رواه الحاكم (1/ 357)، والبيهقي (2/ 46)، وصححاه من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ {وَلَا الضَّالِّينَ} يقول: آمين، يمد بها صوته حتى يسمع أهل الصف الأول، فيرتج المسجد".
4 -
التأمين هو من طابع الدعاء؛ أي: يختم به الدعاء، ومعناه:"استجب"، ويقال التأمين بعد سكتة لطيفة بعد القراءة؛ لِيُعلم أنَّه ليس من القرآن.
5 -
في الحديث مشروعية تكبير الانتقال من ركن إلى ركن آخر، وسيأتي له تحقيق، إن شاء الله تعَالى.
***
223 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا قَرَأتم الفَاتحَةَ، فَاقْرَؤوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ فَإِنَّهَا إِحْدَى آيَاتِهَا". رَوَاهُ الدَّارقُطنِيُّ، وَصَوَّب وَقْفَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث موقوف.
صَوَّب الدارقطني وقفه، قال في "التلخيص": صحح غير واحد من الأئمة وقفه، وقد أعلَّه ابن القطان بهذا التردد، أما ابن الملقن فقال: إسناده صحيح، وذكره ابن السكن في "صحيحه".
* مفردات الحديث:
- إذا قرأتم: يعني: إذا أردتم قراءة الفاتحة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على مشروعية قراءة "البسملة" في الصلاة، عند إرادة قراءة الفاتحة، وذكر العلة في ذلك بأنَّها إحدى آيات الفاتحة، فهي منها.
2 -
الحديث معارض بأحاديث صحيحة لا يمكن قبوله معها، وقد صححه الأئمة موقوفًا، وللاجتهاد فيه مجال، فإذا صح فهو من كلام أبي هريرة واجتهاده رضي الله عنه وتقدم كلام شيخ الإِسلام: اتَّفق أهل الحديث على أنَّه لم يثبت في الجهر بالبسملة حديث صحيح، وإنما يوجد صريحًا في أحاديث موضوعة. وقال الطحاوي: إن ترك الجهر بالبسملة في الصلاة تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه.
(1) الدراقطني (1/ 312).
224 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ القُرْآنِ رَفَعَ صَوْتَهُ، وَقَالَ: آمِينَ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال في "التلخيص": قال الدارقطني: إسناده حسن، وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط الشيخين، وقال البيهقي: حسن صحيحٌ.
* مفردات الحديث:
- آمين: قال القرطبي: معنى "آمين" عند أكثر أهل العلم: اللَّهمَّ استجيب لنا، وُضع موضع الدعاء، قال الزمخشري:"آمين": صوت سمي به الفعل، الذي هو: استجيب.
وفي آمين لغتان: المد على وزن "فاعيل"، والقصر على وزن "يمين".
قال الجوهري: وتشديد الميم خطأ.
قال ابن جزي: "آمين" اسم فعل، معناه: اللَّهمَّ استجيب، فهو أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة، للدعاء الذي فيها.
قال النووي: الميم مخففة في الموضعين، وهو مبني على الفتح، مثل "أينَ" و"كيفَ"، لاجتماع الساكنين.
قال العيني: التأمين على وزن "التفعيل" من: أَمَّن يُؤَمِّن، إذا قال:"آمين"، وهو بالمد والتخفيف في جميع الروايات، وعند جميع القراء، أما المد
(1) الدارقطني (1/ 335)، الحاكم (1/ 223).
والتشديد فلغة شاذَّةٌ مردودة، ومن لحن العوام، وهو خطأ في المذاهب الأربعة.
وكلمة "آمين" من أسماء الأفعال؛ مثل: "صه" للسكوت، و"مه" يعني: اكفف، ومعناها: اللَّهمَّ استجيب، عند الجمهور، وتفتح في الوصل؛ لأنَّها مبنية بالاتفاق؛ مثل "كيف"، وإنَّما لم تكسر؛ لثقل الكسرة بعد الياء.
***
225 -
وَلأبِي دَاوُدَ والتِّرمذِيِّ مَنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ نَحْوهُ (1)
ــ
* درجة الحديث:
قال في "التلخيص": رواه الترمذي، وأبو داود، والدارقطني (1/ 335)، وابن حبان (5/ 111) من طريق الثوري عن سلمة بن كهيل عن حُجْر بن عنبس عن وائل بن حجر، وفي رواية أبي داود:"رفع بها صوته"، وسنده صحيح، وصححه الدارقطني، وأعله ابن القطان بحُجْر بن عنبس، وأنَّه لا يعرف، وأخطأ في ذلك، بل هو ثقة معروف، قيل: له صحبة، ووثقه ابن معين وغيره.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الحديثان يدلان على مشروعية التأمين للإمام بعد قراءة الفاتحة، وأن يَمُدَّ بها صوته.
فقد جاء في رواية الحاكم (1/ 357)، والبيهقي (2/ 46) عن أبي هريرة؛ أنَّه كان يقول:"آمين" حتى يسمعها أهل الصف الأول، فيرتج المسجد.
2 -
فائدة: المؤلف -رحمه الله تعالى- لم يأت إلَاّ بما ورد بتأمين الإِمام، ولم يتعرَّض للمأموم؛ وقد جاء في البخاري (780)، ومسلم (410) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أمَّن الإِمام، فأمِّنوا؛ فإنَّ من وافقَ تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه".
وفي رواية: "إذا قَالَ الإِمَامُ: {وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمين، فإنَّ الملائكة تقول: آمين، وإنَّ الإِمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين
(1) أبو داود (932)، الترمذي (248).
الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه".
وقد أجمع العلماء على: أنَّ التأمين للإمام، والمأموم، والمنفرد، والجمهور منهم على أنَّه مستحب، غير واجب.
واختلفوا في الجهر به والإسرار:
فذهب الحنفية والمالكية إلى استحباب الإسرار، به حتى في الصلاة الجهرية.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى: الجهر به في الجهرية، والإسرار به في السريَّة، وعلى استحباب مقارنة تأمين المأموم للإمام؛ لحديث:"إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ}، فقولوا: آمين" حتى يقع تأمينهم وتأمينه معًا.
والصلاة الجهرية هي أوليات المغرب والعشاء، وصلاة الفجر، والجمعة، والعيدين، والاستسقاء، والكسوف، والتراويح، والوتر.
3 -
قوله في حديث أبي هريرة: "إذا أمَّن الإِمام، فأمنوا"؛ يعني: إذا شرع في التأمين فأمِّنوا؛ ليتوافق تأمين الإِمام والمأموم معًا، فقول جمهور العلماء على استحباب المقارنة؛ استدلالاً بحديث:"فإنَّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له". [متفق عليه].
***
226 -
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْن أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أنْ آخُذَ مِنَ القُرْآنِ شَيئًا، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئنُي مِنْهُ، فَقَالَ: قُلْ: سُبْحانَ اللهِ، وَالحَمْدُ لله، وَلَا إله إلَاّ اللهُ، وَاللهُ أَكبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلَا قُوَّة إِلَاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيْمِ" الحديث، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاودَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ وَالدَّارقُطْنِيُّ والحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ على شرط مسلم.
قال في "التلخيص": رواه أحمد وأبو داود، والنسائي وابن الجارود (2/ 57)، وابن حبان والحاكم، والدارقطني واللفظ له، من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وصححه ابن السكن والحاكم، وقال: إنَّه على شرط البخاري، ووافقه ابن الملقن.
* مفردات الحديث:
- سبحان الله: التسبيح في اللغة: التنزيه، و"سبحان" اسمٌ منصوبٌ عَلَى أنَّه واقع موقع المصدر لفعل محذوفٍ تقديره: سبحت الله تسبيحًا، فالتسبيح مصدر، و"سبحان" واقع موقعه، ومعنى "سبحان الله": تنزيهه من النقائص، المتضمن للمحامد.
(1) أحمد (4/ 353)، أبو داود (832)، النسائي (924) ابن حبان (1808)، الدارقطني (1/ 313)، الحاكم (1/ 241).
- الحمد لله: الحمد: هو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله، ونقيض الحمد الذم، يقال: حمِده -بكسر الميم- يحمَدهُ بفتحها.
قال الواحدي: الألف واللام في الحمد هنا للجنس؛ أي: جميع المحامد لله تعالى؛ لأنَّه الموصوف بصفات الكمال، في نعوته وأفعاله الحميدة.
- لا إله إلَاّ الله: "لا" نافية لكل معبود بحقٍّ، "إلَاّ الله"، إثبات حصر الألوهية.
- الله أكبر: إطلاقه يفيد العموم، فإنَّه أكبر من كل شيء.
- لا حول: في إعرابها خمسة أوجه:
أفضلها: أنَّ "لا" نافية للجنس، و"حول" اسمها مبني على الفتح، و"إلَاّ باللهِ" هو خبرها.
ومعنى الحول: القدرةُ على التصرف، ومنه: لا تحول عن معصية الله إلى طاعته إلَاّ به.
- لا قوَّة: إعرابه كسابقه، ومعنا القوة: الطاقة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تقدم أنَّ قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة ركنٌ، لا تصح الصلاة بدونه؛ لحديث المسيء في صلاته، إلَاّ أنَّ القاعدة الشرعية أنَّ الواجبات تسقط بالعجز عنها، إما إلى بدل، أو غير بدل، وهو مأخوذ من قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم". [رواه البخاري (6858)].
2 -
الحديث يدل على أنَّ الذي لا يحسن الفاتحة ولا بعضها، فإنه يأتي بالذكر الوارد في الحديث، ويكفي عنها؛ تيسيرًا وتسهيلاً على العباد.
3 -
قال في "شرح الإقناع": فإن لم يقدر على تعلم الفاتحة، أو ضاق الوقت عنه -سقط، ولزمه قراءة غيرها من القرآن، كأن يحسن آية من الفاتحة، أو من غيرها كرر الآية بقدرها، فإن لم يحسن شيئًا من القرآن، لزمه أن يقول:
"سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلَاّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوَّة إلَاّ بالله العلي العظيم" لحديث عبد الله بن أبي أوفى.
4 -
هذه الجمل الكريمة تشتمل على تنزيه الله تعالى عن النقائص والعيوب، وإثبات نقيضها من المحامد والكمال المطلق، ونفي الشريك له في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وألوهيته، وربوبيته، وإثبات الكبرياء له، والجلال، والمجد، والعظمة، والاطراح بين يديه بنفي الحول والقوة من العبد، وحصرها فيه تبارك وتعالى، فهو صاحب الحول، والطول، والقوة، والعظمة، والجلال، والكمال، المطلق.
5 -
فضل هذا الذكر الجليل؛ حيث قام مقام فاتحة الكتاب، التي هي أعظم سورة في القرآن، فقد قدِّم على سائر الأذكار في هذا المقام العظيم.
6 -
يسر الشريعة وسماحتها، فالمسلم لا يكلف أكثر مما لا يقدر عليه، وإذا عجز عن باب خير فتح الله تعالى له بابًا آخر؛ ليكمل ثوابه، ويصل إلى ما قدر الله له من منزلة.
***
227 -
وَعَنْ أَبِي قتادَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا، فَيَقْرأُ فِي الظُّهْرِ وَالعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَينِ الأُوليَيْنِ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، ويُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا، ويُطوِّلُ الرَّكْعَةَ الأُوْلى، ويَقْرَأُ فِي الأُخرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الكرماني: مثل هذا التركيب يفيد الاستمرار.
أما العيني فقال: أكثر العلماء على أن "كان" لا تقتضي المداومة، والدليل على ذلك: ما رواه مسلم (878): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين وفي الجمعة يقرأ بـ {سبح} و {الغاشية} "، وروى مسلم:(877) من حديث أبي هريرة: "أنَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة بـ {الجمعة} و {المنافقون} ".
- أحيانًا: جمع "حين"، مصدر، قال البخاري في "صحيحه": العين عند العرب: من ساعة إلى ما لا يحصى عدده وقال في "المصباح": العين: الزمان، قلَّ أو كثر.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
وجوب قراءة الفاتحة في ركعات الصلاة كلها، وتقدم أنَّه الصواب.
2 -
استحباب قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة، في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر، ومثله المغرب والعشاء وصلاة الفجر، وقد أجمع عليه العلماء؛ حيث نقل نقلًا متواترًا.
قال في "الروض المربع وحاشيته": ويكره الاقتصار على الفاتحة في الصلاة؛ فرضًا كانت أو نفلًا؛ لأَنَّه خلاف السنة.
(1) البخاري (759)، مسلم (451).
3 -
استحباب تطويل الركعة الأولى على الثانية، في الظهر والعصر.
قال شيخ الإِسلام: ويستحب أن يمد الأوليين، ويحذف في الأخريين؛ لهذا الخبر، وعامة فقهاء الحديث على هذا.
4 -
كون قراءة الظهر والعصر سرية، هو الأفضل.
5 -
أنَّه لا بأس من الجهر ببعض القراءة في السرية، لاسيَّما إذا تعلَّق بذلك مصلحة من تعليم أو تذكير؛ ذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يجهر في بعض الآيات، ولعل الغرض من ذلك بيان الجواز.
6 -
استحباب الاقتصار على الفاتحة في الركعتين الأُخريين من صلاة العصر والظهر والعشاء، وثالثة المغرب، وسيأتي تحقيقه، إن شاء الله تعالى.
7 -
أنَّ ما ذكر في الحديث هو سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
8 -
ظنَّ الصحابة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طوَّل الأولى من الصلاة، يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى؛ لما جاء عن راوي الحديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال:"كنَّا نرى أنَّه يفعل ذلك؛ ليتدارك الناس". [رواه ابن خزيمة وابن حبان].
9 -
القراءة بعد الفاتحة ليست واجبة، فلو اقتصر على الفاتحة أجزأت الصلاة؛ باتفاق العلماء، ولكن يكره الاقتصار على الفاتحة في الصلاة، فرضًا كانت أو نفلاً؛ لأنَّه خلاف السنة.
10 -
جاء في مسند الإِمام أحمد (11393)، وصحيح مسلم (452):"أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يجعل الركعتين الأخريين أقصر من الأوليين قدر النصف".
قال الألباني: ففيه دليل على أنَّ الزيادة على الفاتحة في الركعتين الأخريين سُنَّة، وعليه جمعٌ من الصحابة، منهم أبو بكر رضي الله عنه وهو قولٌ للإمام الشافعي.
قُلْتُ: ولعلَّ قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة يكون في بعض الأحوال.
228 -
وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ والعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ: {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجْدَةِ، وفِي الأُخرَيَيْنِ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذلِكَ، وَفِي الأولَيَيْنِ مِنَ العَصْرِ عَلَى قَدْرِ الأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَالأُخْرَيَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذلِكَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- نَحْزُر: بفتح النون وسكون الحاء المهملة وضم الزاي، من باب نصر؛ بمعنى: نخرص ونقدر ونقيس.
قال في "المصباح": حرزت الشيء: قدرته، وحزرت النخل: إذا خرصته.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
كان قدر قيام النبي صلى الله عليه وسلم في الأوليين من الظهر بقدر سورة {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، وفي الأخريين قدر النصف من ذلك، وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، والأخريين على النصف من ذلك.
2 -
قوله: "فحرزنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر {الم (1) تَنْزِيلُ} " يقتضي أنَّ الركعة الأولى والثانية من الظهر كانتا سواء، بخلاف حديث أبي قتادة السابق، وإما أن يحمل ذلك؛ إما على اختلاف الأوقات وتعدد الواقعة، أو يقال: إنَّ الأولى طالت بدعاء الاستفتاح والتعوذ.
والأولى في تخريج تعارض الحديثين -حديث أبي قتادة وحديث أبي
(1) مسلم (452).
سعيد-: أن يقال: إنَّ حديث أبي قتادة على القاعدة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من أنَّه يجعل الركعة الأولى أطول من الثانية، وأما حديث أبي سعيد الخدري فجاء على مخالفة القاعدة في بعض الأحيان، فيكون جواز الأمرين، والعمل بالحديثين، إلَاّ أنَّ الأصل هو ما في حديث أبي قتادة، من تطويل الأولى على الثانية.
كما أنَّ السنة الغالبة هي تطويل صلاة الظهر على العصر، في القراءة والأفعال.
3 -
استحباب تطويل صلاة الظهر وقراءتها، على صلاة العصر وقراءتها.
4 -
لعلَّ تطويل الظهر عن العصر راجع إلى الوقت، فالظهر وقتها يمتد، أما العصر فيقع بعده وقت الاصفرار، وهذا وقت الضرورة.
5 -
قال شيخ الإِسلام: يستحب إطالة الركعة الأولى من كل صلاةٍ على الثانية، ويستحب أن يمد في الأوليين، ويحذف في الأخريين، وعامة الفقهاء على هذا الحديث.
6 -
هذا الحديث يُؤيد ما جاء من أنَّه قد لا يقتصر المصلي على الفاتحة، في الأخريين من الظهر والعصر؛ حيث كانت الأخريان في الظهر على النصف من الأوليين منهما، مع أنه يقرأ بـ {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، وقد دلت الروايات الصحيحة على الاقتصار على قراءة الفاتحة في الأخريين من الظهر والعصر، فيجمع بينهما بأنَّه صلى الله عليه وسلم صنع هذا تارة، وذاك أخرى، فالكل جائز، وهذا كله يدل على أنَّه يقرأ فيهما غير الفاتحة، وقراءة شيء بعد الفاتحة في الأوليين من الظهر، والأوليين من العصر -معلومٌ، ومتفقٌ عليه.
***
229 -
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ فُلَانٌ يُطِيلَ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ العَصْرَ، وَيَقْرَأُ في المَغْرِبِ بقِصَارِ المُفَصَّلِ، وفِي العِشَاءِ بوَسَطِهِ، وَفِي الصُّبح بِطِوَالِهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أحَدٍ أَشْبَهَ صَلاةٍ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا". أَخرجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ. (1)
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال المؤلف: أخرجه النسائي بإسنادٍ صحيح، وقال في "الفتح": صححه ابن خزيمة (1/ 761) وغيره، قال في "المحرر": إسناده صحيح.
* مفردات الحديث:
- المفصل: هو من الحجرات إلى آخر القرآن، سمي مفصلًا؛ لكثرة فواصله، ولقصر سوره.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
كان أحد أئمة المسجد النبوي وهو عمر بن سلمة يطيل الأوليين من الظهر عن الأخريين منهما، وكان يخفف صلاة العصر، وكان يقرأ في صلاة المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بوسطه، وفي صلاة الصبح بطواله، فقال أبوهريرة:"ما صليتُ وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا". ففي هذا دليلٌ عليها مشروعية، واستحباب هذه الصفة، من التطويل فيما
(1) النسائي (982).
يطول، والتخفيف فيما يخفف، وفي تجزئة القرآن، والصلاة بهذه التجزئة.
2 -
هدي النبي صلى الله عليه وسلم عدم الاقتصار على قصار المفصل في صلاة المغرب، فالمداومة عليه خلاف السنة، والحق أنَّ القراءة في المغرب تكون بطوال المفصل وقصاره، وسائر السور سنة.
قال ابن عبد البر: روي أنه قرأ بالأعراف، والصافات، والدخان، والطور، وسبح، والتين، والمرسلات، وكان يقرأ فيها بقصار المفصل، وكلها آثار صحاح مشهورة.
3 -
المفصل على الراجح يبتدىء من سورة الحجرات، وينتهي بآخر القرآن، فطوال المفصل من الحجرات إلى سورة النبأ، ووسطه من النبأ إلى الضحى، والقصار من الضحى إلى آخر القرآن، وسمي مفصلاً؛ لكثرة فواصله.
4 -
الحكمة في التطويل في صلاة الصبح: أنَّ ملائكة الليل وملائكة النهار يحضرونها؛ كما قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء]، ولأنَّه يقع في وقت غفلة بالنوم، فاحتاج إلى التطويل؛ ليدرك الناس الصلاة، وأما تقصير المغرب فلقصر وقتها، وبقي الظهر والعصر والعشاء على الأصل، في أنَّ الصلاة تكون وسطًا، فلا تخفف عن مستحبات الصلاة، ولا تثقل على العاجزين.
وقصة معاذٍ، وإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم له كيف يصلي ويقرأ -هي الأصل في هذا الباب.
وهذا بالنسبة للإمام الذي يؤم الناس، ويرتبط المصلون بصلاته، أما المنفرد فليصل ما شاء، وكيف شاء، ما دام لم يخرج عن العرف.
***
230 -
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقْرأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الطور: -بضم الطاء-: هو كل جبل ممتد، والمراد هنا: جبل سيناء، الذي كلَّم الله عليه موسى عليه السلام.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الغالب في القراءة في صلاة المغرب أنَّها من قصار المفصل، لضيق وقتها، ولكن قد تُصلى بطواله، فلا تختص بالقصار، فقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بسورة {الطور} ، وهي من طوال المفصل.
2 -
ورد أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة {الأعراف} ، وقرأ بسورة {الصافات} ، وقر أبسورة {الدخان} ، وقر أبسورة {المرسلات} ، وقر أبسورة {التين} ، وقرأ بسورتي {المعوذتين} ؛ وكل هذه أحاديث صحيحة.
وهذه قراءات متنوعة، فقرأ مرَّة {الأعراف} ، وهي من الحزب الأول، وقرأ بـ {الصافات} و {الدخان} ، وهما من الحزب الثاني عشر، وقرأ بـ {الطور} {والمرسلات} ، وهما من طوال المفصل، وقرأ بـ {الأعلى} وهي من الوسط، والباقي من قصاره، فَعَلَ هذا صلوات الله وسلامه عليه؛ لبيان الجواز في الكل.
3 -
قال العلماء: يجب كتابة المصحف على هذا الترتيب الموجود الآن، في ترتيب السورة لأنَّه جاء عن إجماع الصحابة، وإجماعهم حجة.
(1) البخاري (765)، مسلم (463).
وأما في القراءة فقال النووي: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف؛ سواء قرأ في الصلاة، أو في غيرها، فإذا قرأ سورة قرأ التي تليها؛ ذلك أنَّ هذا الترتيب بين السور إنَّما جعل هكذا لحكمة، فينبغي أن يحافظ عليها، إلَاّ فيما ورد الشرع باستثنائه؛ كصلاة الصبح يوم الجمعة، فيقرأ في الأولى سورة {الم السجدة} ، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} ، وركعتي الفجر يقرأ في الأولى {الكافرون} ، والثانية {الإخلاص} ، ولو خالف هذه الموالاة، أو خالف هذا الترتيب جاز، فقد قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسورة {البقرة} ثم {النساء} ثم {آل عمران} .
4 -
جبير بن مطعم حينما سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سورة {الطور} كان كافرًا، وبلَّغها وهو مسلم، وقد قال العلماء: العبرة بأداء الشهادة لا بتحملها، فمن تحمَّلها وهو كافر أو فاسق، ثم أداها مسلمًا أو عدلاً -قُبِلَتْ شهادته، والرواية مثل الشهادة.
*خلاف العلماء:
المشهور من مذهب الحنابلة: أنَّ الذي يحرم هو تنكيس كلمات القرآن، وأما تنكيس السوره والآيات فيكره.
والرواية الأخرى، عن أحمد: أنَّه لا يكره تنكيس السورة لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرأ {النساء} قبل {آل عمران} ، واحتجَّ الإِمام أحمد: بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تعلَّمه على ذلك، ولأنَّ ترتيبها بالاجتهاد في قول جمهور العلماء.
واختار شيخ الإِسلام وغيره تحريم تنكيس الآيات؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم وضعها هكذا، ولما فيه من مخالفة النص وتغيير المعنى، وقال: ترتيبها واجب؛ لأنَّ ترتيبها بالنص إجماعًا.
والاحتجاج بتعليمه فيه نظر، فإنَّه كان للحاجة؛ لأنَّ القرآن نزل حسب الوقائع.
وقال القاضي عياض: إنَّ ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصاحف، وأنَّه لم يكن من ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قول مالك وجمهور العلماء، وهو أصح القولين.
وأما ترتيب الآيات فلا خلاف أنَّ ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله تعالى، على ما هي عليه الآن في المصحف، وهكذا نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. اهـ من كلام القاضي عياض، رحمه الله.
***
231 -
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ: {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} " مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "يُدِيمُ ذلِكَ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
حديث ابن مسعود رواه الطبراني بإسنادٍ ضعيفٍ، ورجَّح أبو حاتم في "العلل"(1/ 204) إرساله.
* مفردات الحديث:
- كان: تفيد الداوم والاستمرار غالبًا، فإنَّه قد يتخلف، فقد قال العيني: إنَّها لا تقتضي المداومة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب قراءة سورة {الم (1) السجدة} في الركعة الأولى، من صلاة الفجر يوم الجمعة، وسورة {الإنسان} في الركعة الثانية منها، فقراءتها في هذه الصلاة من سنته صلى الله عليه وسلم الثابتة.
2 -
قوله: "كان"، ورواية الطبراني "يديم ذلك" -دليلٌ على أنه كان مديمًا على قراءة هاتين السورتين، في صلاة صبح الجمعة، وأنه لا يدعهما.
3 -
قال ابن القيم في "زاد المعاد": كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر الجمعة بسورتي {الم (1) تَنْزِيلُ} ، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} ، وسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: إنَّما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة؛ لأنَّهما تضمنتا ما
(1) البخاري (891)، مسلم (880)، الطبراني في الصغير (2/ 178).
كان ويكون في يومها، فإنَّهما اشتملتا على خلق آدم عليه السلام، وعلى ذكر المعاد والحشر للعباد، وذلك يكون يوم الجمعة، وكأن في قراءتهما في هذا اليوم تذكيرًا للأمة بما كان فيه ويكون؛ ليعتبروا بما كان، ويستعدوا لما يكون، والسجدة جاءت تبعًا ليست مقصودة، حتى يقصد المصلي قراءتها، حيث اتَّفقت.
ثم قال -رحمه الله تعالى-: ويظن كثير -ممن لا علم عنده- أنَّ المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها سجدة الجمعة، ولذاكره بعض الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة؛ دفعًا لتوهم الجاهلين.
4 -
بعض أئمة المساجد يأتون -في صلاة فجر يوم الجمعة- بما يخالف السنة، ويظنون أنَّه بهذا يحسنون:
(أ) فبعضهم يقرأ جزءًا من سورة {السجدة} في الركعة الأولى، وجزءًا من سورة {الإنسان} في الركعة الثانية.
(ب) وبعضهم يقرأ السجدة في صلاة فجر الجمعة، وفي صلاة فجر الجمعة الثانية يقرأ سورة {الإنسان} .
(ج) وبعضهم يقرأ سورة {الجمعة} و {المنافقين} ، تذكيرًا للناس بيوم الجمعة.
(د) وبعضهم يقرأ في فجر الجمعة شيئًا من سورة {الكهف} ، يذكر الناس بقراءتها ذلك اليوم.
وهذا كله من تلقاء أنفسهم، والواجب الاتباع، وترك ما عداه.
5 -
يُؤخذ من هذا أنه على الخطيب، والواعظ، والمرشد، ونحوهم أن يتحرَّوا المناسبات في تذكير الناس ووعظهم وتوجيههم، فكل وقت له مناسبته، وكل حالة لها ظرفها، كذلك المخاطبون يلقى عليهم ما يناسب حالهم، ويتفق مع مداركهم، ويحرص على الأشياء التي هم واقعون فيها، فتعالج بالحكمة والموعظة الحسنة، ويكون هذا أدعى للقبول، وأقبل للعقول، وأحرى أن يستجاب لهم.
232 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فمَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ إلَاّ وَقَفَ عِنْدَها يَسْأَلُ، وَلَا آيَةُ عَذَابٍ إلَاّ تَعَوَّذَ مِنْهَا" أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ، وَحسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن؛ فَطرقُ إسناده جيدة، ورواه مسلم (772)، بلفظ آخر عن حذيفة، وأخرجه الخمسة، وحسَّنه الترمذي.
وقال في "التلخيص": وروى نحوه البيهقي (2/ 310) من حديث عائشة.
* مفردات الحديث:
- آية رحمة: مما فيه وعد وبشارة بالجنة، ونعيمها، ورضوان الله فيها.
- آية عذاب: مما فيه وعيد، وتخويف من عذاب الله، وغضبه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب تدبر القرآن وتفهم معانيه؛ سواء كان قارئًا أو مستمعًا، فهذه هي القراءة المفيدة النافعة؛ قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص] سواء كان في الصلاة أو في غيرها.
2 -
استحباب التعوذ بالله تعالى حينما يمر بآية عذاب، أو وعيد، أو نحو ذلك، وسؤال الرحمة حينما يمر بآية رحمة، فهو دعاء مناسب للموضوع.
3 -
بعض العلماء قصر هذا الاستحباب على صلاة النافلة، ولكن لا مانع أن
(1) أحمد (5/ 328)، أبو داود (871)، الترمذي (262)، النسائي (1008) ابن ماجه (1351).
يشمل الفريضة، فما ثبت لصلاة ثبت لأخرى.
ومما ورد فيه: ما رواه أحمد (18576)، وابن ماجه (1352)، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال:"سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاةٍ ليست بفريضة، فمرَّ بذكر الجنة والنار، فقال: أعوذ بالله من النار وويل لأهل النار"؛ وابن أبي ليلى متكلمٌ فيه.
وما رواه أحمد (24088)، عن عائشة قالت:"قمتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة القيام، فكان يقرأ بالبقرة والنساء وآل عمران، ولا يمر بآية فيها استبشار، إلَاّ دعا الله عز وجل ورغب إليه".
فهذا كله في النافلة، ولكن لا مانع من شمول ذلك للفريضة، فإنَّ ما ثبت لصلاة ثبت لأخرى، هذا هو الضابط عند الفقهاء، وهو ضابط جيد، ينطبق على أحكام الصلاة بنوعيها، ولا يخرج عن عموم النصوص إلَاّ ما خصص.
4 -
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه "الفوائد":
إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فأجمع عند تلاوته وسماعه قلبك، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطب به من تكلَّم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ، فهذا هو المحل القابل، والمراد به: القلب الحي الذي يعقل عن الله، {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي وجَّه سمعه، وأصغى بحاسة سمعه، {وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق] أي: شاهد القلب، ليس بغافل ولا ساهٍ، فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل الحي، ووجد الشرط، وهو إصغاءٌ، وانتفى المانع -حصل الانتفاع.
***
233 -
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألَا وَإنِّي نُهِيْتُ أنْ أقْرَأ القُرْآنَ رَاكِعًا أوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ أنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". روَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- فعظِّموا فيه الرَّب: العظيم: وَصْفُهُ تعالى بصفات العظمة، والإجلال، والكبرياء، والمراد هنا قول:"سبحان ربي العظيم".
- فاجتهدوا: الجهد بالضم والفتح: الوسع والطاقة، وهو مصدر من: جهد في الأمر جهدًا، من باب نفع، إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب.
- فقَمِنٌ: بفتح القاف المثناة، وكسر الميم بعدها نون.
قال ابن رسلان: هو بفتح الميم مصدر، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وأما بالكسر فهو وصف شيء، يجمع، ويثنى، ويؤنث.
أي: حقيق، وجدير، وخليق، أن يستجاب لكم دعاؤكم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النهي عن قراءة القرآن في حالة الركوع والسجود، في الصلاة الفريضة والنافلة، والنهي من الرب تبارك وتعالى، فإنَّ المنهي هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نهي عنه فالأصل أنَّ أمَّته منهية عنه أيضًا.
2 -
الحديث يقتضي تحريم المنهي عنه، فتكون قراءة القرآن محرَّمة في الركوع والسجود، إلَاّ أنَّ أكثر العلماء حملوا النَّهي على الكراهة فقط، دون
(1) مسلم (479).
التحريم، فقد وجدوا المقام لا يقتضيه.
قال في "شرح الإقناع": وتكره القراءة في الركوع والسجودة لنهيه صلى الله عليه وسلم، ولأنَّها حال ذلٍّ وانخفاضٍ، والقرآن أشرف الكلام.
3 -
وجوب تعظيم الرب جلَّ وعلا في حالة الركوع، ويكون التعظيم بالصيغة الواردة، فقد جاء في مسند أحمد (16961)، وسنن أبي داود (869) من حديث عقبة بن عامر قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} [الواقعة]، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اجعلوها في ركوعكم".
4 -
وجوب تنزيه الرب جلَّ وعلا في حالة السجود، ويكون بالصيغة الواردة، فقد روى الإِمام أحمد وأبو داود عن عقبة بن عامر قال: لما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى]، قال:"اجعلوها في سجودكم".
5 -
تسبيحات الركوع والسجود الواجب منها مرَّة واحدة "سبحان ربي العظيم" في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" في السجود، وأدنى الكمال ثلاث مرات، وأعلاه للإمام عشر تسبيحات، والاقتصار عليها أفضل من الإتيان بذكر معها، ما لم يطل السجود.
6 -
"سبحان ربي العظيم" واجبة في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" واجبة في السجود، والواجب يسقط بالسهو، ويجبره سجود السهو، كما سيأتي إن شاء الله.
7 -
الأفضل الإطالة والاجتهاد في الدعاء، فهو حريٌّ أن يستجاب للداعي، وقد جاء في الحديث:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"[رواه مسلم (482)]، وهذه الإطالة ما لم يكن فيها إثقال على المصلين، فمنهم العاجز وصاحب الحاجة.
8 -
قال شيخ الإِسلام: قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، وقد يكون الشخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل، فيكون
في حقه أفضل.
9 -
ذهب الإِمام أحمد إلى: أنَّ التسبيح في الركوع والسجود من واجبات الصلاة، والواجب تسبيحة واحدة، وما زاد فهو سنة، ودليل الوجوب ما رواه مسلم (772) عن حذيفة قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى"، وما رواه أحمد (16961) وأبو داود (869)، عن عقبة بن عامر قال:"لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}، قال اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، قال: اجعلوها في سجودكم".
أما الأئمة الثلاثة: فيرون أنَّ ذلك مستحبٌّ، ليس بواجب.
قال النووي: تسبيح الركوع والسجود، وسؤال المغفرة سنة، وليس بواجب، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي.
والراجح الوجوب للأمر به.
***
234 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- سبحانكَ اللَّهمَّ وبِحمدك: الباء في "بحمدك" متعلقة بـ"سبحانك" أي: وبحمدك سبحتك، ومعناه: بتوفيقك، وهدايتك، وفضلك، لا بحولي وبقوتي.
- وبحمدك: الجار والمجرور؛ إما حال من فاعل الفعل، الذي أنيب المصدر منابه، وتكون "اللَّهمَّ ربَّنا" معترضة، وإما أن يكون من باب عطف جملة على جملة، وعلى هذا ما جاء في الذكر المشهور:"سبحان الله وبحمده".
- اللَّهم: هي بمعنى "يا الله" فالميم عوض عن ياء النداء.
* ما يؤخذ من هذ الحديث:
1 -
روى الإِمام أحمد (3674) بسنده إلى ابن مسعود قال: "لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر]، كان يكثر أن يقول إذا ركع: سبحانك اللَّهمَّ ربَّنا وبحمدك، اللَّهمَّ اغفر لي" ثلاثًا.
2 -
هذا الذكر مستحب أن يقال في الركوع والسجود، مع "سبحان ربي العظيم" في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" في السجود.
وهذا الذكر يقوله صلى الله عليه وسلم متأولًا للآية الكريمة: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر]، ولذا فإنَّ عائشة رضي الله عنها تقول:"إنَّه يتأول القرآن". متفق عليه.
(1) البخاري (717)، مسلم (484).
3 -
الذكر في غاية المناسبة، لما فيه من التذلل، والتضرع لله تعالى، وتنزيهه تعالى عن النقائص والعيوب، وإثبات المحامد له، ثم بعد هذا كله سؤاله المغفرة، هذا والعبد في غاية الذل والخضوع لله تعالى راكعًا وساجدًا.
4 -
الذكر المذكور مندوب إليه، وليس بواجب، وإنَّما المشروع بالإجماع هو "سبحان ربي العظيم" في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" في السجود، لما في مسلم والسنن من حديث حذيفة قال:"إنَّه صلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى".
5 -
وهذا الخبر يعود إلى صفات الله تعالى ذي القوَّة والملك والعظمة، وهذه الصفات من شأنها أن ترجع العبد إلى كمال التوكل، والاعتماد عليه، فلا يلتجىء إلى غيره، ولا يلتفت إلى سواه، ولا يعظم غيره، بل يهون عليه كل أمر، لأَنَّه ينظر إلى قدرة قادر عظيم، يستمد منه العون والتوفيق، ويعتمد عليه في تحقيق ما يرجوه، من خير، وقوَّة، وسعادة.
***
235 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلى الصَّلَاةِ، يُكَبِّرُ حِيْنَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِيْنَ يَرْكعُ، ثمَّ يَقُولُ: سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، حِيْنَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِيْنَ يَهْوِي سَاجِدًا، ثمَّ يُكَبِّرُ حِيْنَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِيْنَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِيْنَ يَرْفَعُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَيُكَبِّرُ حِيْنَ يَقُومُ مِنَ اثْنينِ بَعْدَ الجُلُوسِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- سمع الله: أي: أجاب الله من حمده، متعرضًا لثوابه، والدليل على صحة هذا المعنى: الإتيان باللام في قوله: "لِمَن حمده"، ولو كان السماع على بابه، لقَالَ:"سمع الله من حمده".
- صُلبه: الصلب فيه أربع لغات: إحداها: ضم الصاد وسكون اللام، والمراد به: الظهر.
قال في "المصباح": الصلب: كل ظهر له فقار.
- ربَّنا ولك الحمد: بهذه الصيغة اجتمع معنيان: الدعاء والاعتراف، ربَّنا استجيب لنا، ولك الحمد على هدايتك.
- يهوي: قال في "المصباح": هوى -بالفتح يهوي- من باب ضرب -هُوِيًّا- بضم الهاء وفتحها: -إذا هبط وانحط من أعلى إلى أسفل.
(1) البخاري (789)، مسلم (392).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على مشروعية تكبيرات الانتقالات بين الأركان، في هذه المواضع كلها، عدا التسميع عند الرفع من الركوع.
2 -
قوله: "سمع الله لمن حمده" معناه: استجاب الله لمن حمده، وهذه الجملة خاصة بالإمام والمنفرد دون المأموم، فليست مناسبة لحقه، لما جاء في البخاري (796)، ومسلم (409)؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قال الإِمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربَّنا ولك الحمد"، والاقتصار على التحميد للمأموم هو قول جمهور العلماء.
3 -
قوله: "كان" يدل على أنَّ هذه سنته المستمرة في الصلاة؛ لما روى أحمد (4212)، والترمذي (251)، والنسائي (1142) من حديث ابن مسعود قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل رفع، وخفض، وقيام، وقعود". وعليه عامَّة الصحابة والتابعين.
قال البغوي: اتَّفقت الأمة على هذه التكبيرات، وهذا عدا الرفع من الركوع.
4 -
قوله: "حين" دليل على أنَّ وقت التكبير مع الانتقال من ركن إلى ركن، فلا يتقدم عن البدء بالحركة ولا يتأخر؛ بحيث يصل الركن الثاني وهو لم ينته من التكبير، بل يكون موضعُ التكبير؛ الحركةَ التي بين الركنين.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: تكبيرات الانتقال محلها بين ابتداء الانتقال والانتهاء؛ لأنَّها الذكر المشروع بين الأركان، ونفس الأركان مختصة بأذكارها المشروعة فيها، فهذا مأخذ الفقهاء لهذا التحديد.
وهذا كما ذكر المجد وغيره: أنَّه هو الأولى، ولكنه لا يجب؛ لعسر التحرز من ذلك، فمأخذ هذا القول الصحيح هو دفع المشقة والعسرة.
ولذا يُنَبَّهُ هنا إلى خطأ يفعله كثير من الأئمة في الصلاة؛ حيث لا يأتون بتكبيرات الانتقال إلَاّ بعد الانتهاء من الانتقال، فيأتون مثلًا بتكبيرة الانتقال من السجود إلى القيام، وهم قيام، فَلْيُنتبَهْ إلى ترك هذا، وفعل ما هو الأولى.
5 -
مشروعية التكبير في هذه الانتقالات، إلَاّ في الرفع من الركوع؛ فإنَّه يقول:"سمع الله لمن حمده" للإمام والمنفرد، وأما المأموم فيقول:"ربَّنا ولك الحمد".
6 -
التكبير هو شعار الصلاة، فمعنى "الله أكبر"؛ أي: من كل شيء.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على مشروعية تكبيرات الانتقال بين الأركان في الصلاة، فرضها ونفلها؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يكبر ويداوم عليها، ويقول:"إذا كبر، فكبروا".
واختلفوا في وجوبها، فذهب الإِمام أحمد وجمهور أهل الحديث إلى وجوب التكبير للأمر بها: ولمداومته صلى الله عليه وسلم عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي": [رواه البخاري (605)].
وذهب الأئمة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، إلى: أنَّها سنة، وليست بواجبة؛ لحديث المسيء في صلاته.
قال النووي وغيره: التكبير غير تكبيرة الإحرام سنة، وليس بواجب، فلو تركه صحت صلاته، لكن يكره تركه عمدًا.
قلتُ: والأحاديث الواردة محمولة على الاستحباب، جمعًا بين الأخبار، فهذا القول هو قول عامة العلماء، والقول الأوَّل أحوط.
***
236 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قالَ: "كَانَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذا رَفَعَ رَأسَهُ منَ الرُّكُوعِ، قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلءَ مَا شِئتَ مِنْ شَيءٍ بعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، أحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ -وَكلُّنا لَكَ عَبْدٌ-: اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- ربَّنا لك الحمد: قال الكرماني: بدون الواو، وفي بعض الروايات بالواو، والأمران جائزان، بلا ترجيح لأحدهما على الآخر في المختار.
- ملء السموات والأرض: "ملءَ" منصوب على المصدرية، أو مرفوع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف.
قال الخطابي: هو تمثيل وتقريب، فالكلام لا يقدر بالمكاييل، ولا تسعه الأوعية، والمراد: تكثير العدد، لو قدر ذلك أجسامًا، ملأ ذلك كله.
- بعد: ظَرْفٌ قُطِعَ عن الإضافة، مع إرادة المضاف إليه، فيكون مبنيًّا على الضم.
- من شيء: بيان لقوله: "ما شئت".
- أهل الثناء: بالنصب على الاختصاص، أو منادى حُذِفَ منه حرف النداء ويجوز رفعه على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أنت أهل الثناء.
(1) مسلم (477).
والثناء: هو المدح بالأوصاف الكاملة.
- المجد: المجد: هو غاية الشرف وكثرته، والرفعة.
- أحق ما قال العبد: "أحق" مبتدأ، وهو مضاف إلى "ما" المصدرية، وخبره قوله:"لا مانع لما أعطيت"، وما بينهما اعتراض، والألف واللام في "العبد" للتعريف، لا للعهد.
- وكلنا لك عبد: جملة معترضة بين المبتدأ والخبر.
- لا مانع لما أعطيت: "لا" نافية للجنس، و"مانع" اسمها مبني على الفتح؛ أي أردت إعطاءه.
- منك: أي: من مؤاخذتك.
- اللَّهمَّ ربَّنا: هكذا في أكثر الروايات، وبعضها بحذف "اللهمَّ"، والأُولى أوْلى؛ لأنَّ فيها تكرير النداء، فكأنَّه يقول: يا الله يا ربنا.
- ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ: "الجد" الثانية فاعل "ينفع"، بفتح الجيم، وهو الغنى؛ أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، ولا حظه وبخته، وقيل: بكسر الجيم، ومعناه: لا ينفع صاحب الاجتهاد منك اجتهاده، إنَّما ينفعه رحمتك.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعية هذا الذكر في هذا الركن بعد الرفع من الركوع والتسميع، والواجب منه:"ربَّنا ولك الحمد"، وكلما زاد منه فهو أفضل حتى نهايته، وهو مشروع للإمام والمأموم والمنفرد، في الفرض والنفل، وهو إجابة للإمام حينما قال:"سمع الله لمن حمده"، فناسب حمد الله تعالى بهذا الذكر.
2 -
أما معاني الذكر فهي في الفقرات الآتيات:
(أ)"ربَّنا لك الحمد" قال في "شرح المهذب": ربَّنا أطعْنَا وحمدنا، ذلك الحمد، وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة من روايات كثيرة: "ربَّنا ولك
الحمد" بالواو.
(ب)"ملء السموات والأرض" يراد بذلك تعظيم قدرها، وكثرة عددها، والمعنى: أنَّك يا ربَّنا مستحقٌّ لهذا الحمد، الذي لو كان أجسامًا، لملأ ذلك كله.
(ج)"وملء ما شئت من شيء" مما لا نعلمه من ملكوتك الواسع.
(د)"أهل الثناء والمجد" أي: أنت أهل الثناء، الذي تثني عليك جميع المخلوقات، والمجد: هو غاية الشرف وكثرته.
(هـ)"أحق ما قال العبد" أي: أنت أحق بما قال لك العبد، من المدح والثناء.
(و)"وكلنا لك عبد" معناه ما في الآية الكريمة: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم] يعني: أنَّ كل المخلوقات في السموات والأرض مقرة بالعبودية لله تعالى، آتية إليه خاضعة منقادة يوم القيامة.
(ز)"لا مانع لما أعطيت" أي: لا مانع لما أردت إعطاءه.
(ح)"ولا معطي لما منعت" أي: لا معطي من أردت حرمانه من العطاء بحكمتك وعدلك.
(ط)"ولا ينفع ذا الجد منك الجد" الجد هو الحظُّ والبخت؛ أي: لا ينفع ذا الغنى عندك غناه وحظه، فلا يعيذه من العذاب، ولا يفيده شيئًا من الثواب، وإنَّما النافع ما تعلَّقت به إرادتك فحسب.
قال النووي: فيه كمال التفويض إلى الله تعالى، والاعتراف بكمال قدرته وعظمته، وقهره وسلطانه، وانفراده بالوحدانية، وتدبير مخلوقاته.
***
237 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قالَ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظُمٍ: علَى الجَبْهَةِ -وَأشَارَ بيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ- واليَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأطْرَافِ القَدَمَيْنِ". متَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أمرت: على صيغة المجهول، والآمر هو الله، وجاء في بعض روايات الصحيح:"أمرْنَا"؛ لتدل على صيغة العموم.
- اليدين: أي: الكفَّين، كما هو المراد عند الإطلاق، ولئلا يعارض حديث النهي عن الافتراش كافتراش السبع.
- وأشار بيده إلى أنفه: جملة معترضة بين المعطوف عليه، وهو "الجبهة"، والمعطوف، وهو "اليدان"، والغرض منها بيان أنَّهما عضو واحد.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
"أمرت"، وفي رواية "أُمرنا"، وفي رواية:"أمر النبي صلى الله عليه وسلم"؛ والثلاث الروايات كلها للبخاري، والقاعدة الشرعية أنَّ ما أُمِرَ به النبي صلى الله عليه وسلم فهو أمرٌ عامٌّ له ولأمته؛ كما قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقال تعالي:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ولا يخرج من هذا العموم إلَاّ ما جاء النص بتخصيصه به صلى الله عليه وسلم؛ كقوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
2 -
فيه وجوب السجود في الصلاة على هذه الأعضاء السبعة: وهي الجبهة
(1) البخاري (812)، مسلم (490).
ومعها الأنف، والكفان، والركبتان، والقدمان.
3 -
قوله: "وأشار بيده إلى أنفه" معناه: أنَّ الجبهة والأنف عضو واحد، وإلَاّ لكانت الأعضاء ثمانية.
4 -
السجود: هو الخضوع والتذلل لله تبارك وتعالى، وهو فرض في الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وقال الوزير: أجمع العلماء على مشروعيته.
5 -
الحديث ظاهر الدلالة على وجوب السجود على هذه الأعضاء السبعة؛ إذ هو غاية خشوع الظاهر، وأجمع العبودية لسائر الأعضاء.
6 -
ذهب جمهور العلماء إلى: أنَّه يجب أن يجمع بين الأنف والجبهة، وحكى ابن المنذر الإجماع على أنَّه لا يجزىء على الأنف وحده.
7 -
اليد إذا أطلقت فالمراد بها الكف فقط، ولما روى البخاري تعليقًا، ووصله ابن أبي شيبة (1/ 238)، والبيهقي (2/ 106) عن الحسن قال:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم".
8 -
يجزىء من كل عضو بعضه، جبهةً كانت أو غيرها؛ قال في "شرح الإقناع": ويجزىء في السجود بعض كل عضو من الأعضاء المذكورة، إذا سجد عليه؛ لأنَّه لم يقيد في الحديث.
9 -
ولو سجد على حائل متصل به من غير أعضاء سجوده، أجزأ.
قال في "شرح الإقناع": "ولا يجب على الساجد مباشرة المصلى بشيء من أعضاء السجود حتى الجبهة، فلو سجد على متصل به غير أعضاء السجود، ككور عمامته، وكُمِّه وذيله ونحوه، صحت صلاته، لكن يكره ترك المباشرة باليدين والجبهة، بلا عذر من حر وبرد، فلو سجد على متصل به ككور عمامته، لم يكره لعذر.
قال في "الحاشية": وحكمته: أنَّ القصد من السجود مباشرة أشرف الأعضاء؛ ليتم الخضوع والتواضع.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: ومن الفروق الصحيحة الفرق بين الحائل في السجود، وهي ثلاثة:
(أ) إن كان من أعضاء السجود، فلا يجزىء.
(ب) إن كان حائلاً منفصلاً، فلا بأس به.
(ج) إن كان على حائل مما يتصل بالمصلي، فيكره إلَاّ لعذر من حرٍّ وشوكٍ ونحوهما.
10 -
يشرع أن يسجد على ركبتيه، فيضعهما على الأرض قبل يديه.
11 -
السجود على هذه الأعضاء جاء بأمر الله تعالى، فهو دليل على أنَّه محبوب إلى الله تعالى، وما كان محبوبًا إلى الله تعالى فهو من أجل العبادات؛ ذلك أنَّ الإنسان يضع أشرف أعضائه على الأرض، ومِن كمال هذا السجود مباشرة المصلي لأديم الأرض بجبهته استكانةً وتواضعًا، والاعتماد على الأرض بحيث ينالها ثقل رأسه.
قال ابن القيم: كان صلى الله عليه وسلم يسجد على جبهته وأنفه، دون كور عمامته، ولم يثبت عنه السجود على كور عمامته، في حديث صحيحٍ ولا حسنٍ.
12 -
ثبت من طرق عدة: "ما من عبدٍ سجد للهِ سجدة، إلَاّ كتب الله له بها حسنةً، وحط عنه بها خطيئته"، وشرع تكرير السجود في كل ركعة؛ لأنَّه أبلغ ما يكون في التواضع.
13 -
الحث على السجود وذكر فضله، وأما عظيم أجره فمعلوم من الدين بالضرورة، وهو سر الصلاة، وركنها الأعظم، والمصلي أقرب ما يكون إلى الله في حال سجوده.
14 -
قال في "حاشية الروض": ولا يكره السجود على الصوف، واللبود،
والبسط، وجميع الأمتعة.
قال النووي: وهو قول جماهير العلماء.
15 -
وقال شيخ الإِسلام: دلَّت الأحاديث والآثار على أنَّهم في حال الاختيار يباشرون الأرض بالجباه، وعند الحاجة -كالحر ونحوه- يتَّقون بما يتَّصل بهم من طرف ثوب وعمامة؛ ولهذا أعدل الأقوال في هذه المسألة أنَّه يكره ذلك، إلَاّ عند الحاجة.
***
238 -
وَعَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى وَسَجَدَ فرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يبْدُوَ بيَاضُ إبْطَيْهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- فرَّج: بفتح الفاء وتشديد الراء آخره جيم؛ أي: باعد بينهما، فنحَّى كل يَدٍ عن الجانب الذي يليها.
- الإبط: فيه لغات، أفضلها كسر الباء، جمعه: آباط، يذكر ويؤنث، وهو باطن المنكب والجناح.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
سنة النبي صلى الله عليه وسلم في السجود أن يفرج بين يديه تفريجًا بليغًا؛ بحيث يظهر بياض إبطيه.
2 -
استحباب السجود على هذه الكيفية؛ لأنَّها دليل النشاط والقوَّة، قال تعالى:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63].
3 -
قال في: "الروض المربع وحاشيته": ويجافي الساجد عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وهما عن ساقيه، ما لم يؤذ جاره؛ ليستقل كل عضو منه بالعبودية، مع مغايرته لهيئة الكسلان.
4 -
قال الأستاذ طبارة: الصلاة رياضة دينية إجبارية لكل مسلم، يؤديها خمس مرات بدون إجهاد ولا إرهاق، وإذا تأمَّلنا حركات الصلاة وجدنا شبهًا بينها وبين النظام السويدي في الرياضة، بل إنَّك ترى أنَّ حركة الجسم في أثناء الصلاة، أحكم وأصلح لكل سن وجنس.
(1) البخاري (807)، مسلم (495).
5 -
فيه دليل على أنَّ الإبط ليس من العورة في الصلاة، وأنَّ ظهوره لا يخالف الآداب العامة بين الناس.
6 -
وفيه أنَّ كل عضو في الصلاة يأخذ نصيبه من العبادة، إذ لو اعتمد كل عضو على الآخر، لم يحصل هذا التوزيع بين الأعضاء، ولم تأخذ نصيبها من العبادة.
7 -
وقد ورد هذ المعنى صريحًا فيما أخرجه الطبراني وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفترش افتراش السبع، واعتمد على راحتيك، وأبْدِ ضبعيك، فإذَا فعلتَ ذلك، سجد لك كل عضو منك".
8 -
هذه الكيفية تكون ما لم يؤذ المصلي من بجَانِبه في الصلاة، فإن آذاه واستولى على مكانه وزَحَمه، فلا ينبغى؛ فدرء المفاسد -بإشغال المصلين- أولى من جلب المصالح بهذه الصفة.
***
239 -
وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَجَدْتَ، فَضَعْ كَفَّيْكَ، وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
240 -
وَعَنْ وَائِلِ بنِ حُجْرٍ رضي الله عنه "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا رَكعَ فَرَّجَ بَيْنَ أصَابِعِهِ، وَإِذَا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابِعَهُ" رَوَاهُ الحَاكِمُ (2).
* درجة الحديث:
حديث وائل بن حجر حديثٌ حسنٌ.
قال في "التلخيص": وله شاهد من حديث أبي حميد عند أبي داود (731): "أنَّه صلى الله عليه وسلم كان في الركوع يفرج بين أصابعه"، وكذلك له شاهد عند أحمد وأبي داود والنسائي من حديث أبي مسعود الأنصاري.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة (1/ 301)، وابن حبان (5/ 247).
* مفردات الحديثين:
- مرفقيك: تثنية "مرفق"، بفتح الميم وكسر الفاء، ويجوز العكس، وهو موصل. الذراع بالعضد.
- فرج بين أصابعه: باعد بين أصابع يديه، حين قبضه بهما على ركبتيه.
- ضم أصابعه: جَمَعَ أَصَابعَ يديه إذا وضعهما على الأرض، حال السجود.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
يدل حديث البراء على أنَّ الواجب على المصلي أن يضع كفَّيه على
_________
(1)
مسلم (494).
(2)
الحاكم (1/ 224).
الأرض، والكفان هما عضوان من أعضاء السجود السبعة، المذكورة في حديث ابن عباس المتقدم.
2 -
هذا الحديث أيَّد الأصل، من أنَّ المراد باليدين هما: الكفان.
3 -
تقدَّم أنَّه يجزىء وضع أي جزء من اليدين على الأرض، وأما الأفضل فهو تمكين باطنهما منها، واستقبال القبلة بأصابعهما.
4 -
يدل الحديث على استحباب رفع الذراعين عن الأرض، وكراهة افتراشهما كما يفترش السبع ذراعيه.
5 -
أنَّ هذا فيه بُعدٌ عن مشابهة هذا الحيوان النجس لحالة الصلاة، التي هي مناجاة ودخول على الله تبارك وتعالى، مع ما في رفعهما من دليل على النشاط والقوَّة، والرَّغبة في العبادة.
6 -
أما حديث وائل: ففيه دليلٌ على استحباب تمكين الراحتين من الركبتين، أثناء الركوع.
7 -
كما أنَّه يدل على استحباب تفريج أصابعه فوق الركبة؛ فإنَّ ذلك أمكَن من الركوع، وأثبت لحصول تسوية ظهره برأسه.
8 -
ويدل على ضم أصابع اليدين أثناء السجود؛ ليحصل بذلك كمال استقبال القبلة بها، وهو أعون على تحملها أثناء السجود.
9 -
ما تقدم من تفريج اليدين، وتجافي المرفقين عن الجنبين، والبطن عن الفخذين أثناء السجود -خاصٌّ بالرجل.
أما المرأة فقال الفقهاء: "والمرأة تضم نفسها في ركوع وسجود وغيرهما، فلا تتجافى، وتسدل رجليها في جانب يمينها في جلوسها؛ لأنَّ ذلك أستر لها؛ وذلك لما أخرجه أبو داود في "مراسيله" (ص 118) عن يزيد ابن أبي حبيب: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ على امرأتين تصليان، فقال: إذا سجدتما، فَضُمَّا بعض اللَّحم إلى الأرض؛ فإنَّ المرأة في ذلك ليست كالرجل".
قال البيهقي (2/ 223): هذا المرسل أحب إليَّ من موصولين فيه.
10 -
قال صلى الله عليه وسلم: "وأما السجود، فأكثروا فيه من الدعاء؛ فقَمِن أن يستجاب لكم"[رواه مسلم (479)]؛ والأمر بإكثار الدعاء في السجود، يشمل الحث على تكثير الطلب لكل حاجة، ويشمل التكرار للسؤال الواحد، كيف وقد خضع لربه، ووضع أشرف أعضائه على التراب.
11 -
هل طول السجود أفضل، أم طول القيام؟
صوَّب شيخ الإِسلام أنَّهما سواء؛ فإنَّ القيام أفضل بذكره وهو القراءة، والسجود أفضل بهيئته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا خفَّف القيام خفَّف الركوع والسجود.
***
241 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَرَبِّعًا". رَوَاهُ النَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ؛ رَواه النسائي وابن خزيمة من: "أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يجلس متربعاً"، فأعله النسائي بتفرد أبي داود الحفري، وقال: لا أحسبه إلَاّ خطأ، لكن تابعه محمَّد بن سعيد ابن الأصبهاني عند البيهقي، وهو ثقة ثبت، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي (1/ 41)، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان (6/ 257)، والبيهقي (2/ 305)، وله شاهد عن عبد الله بن الزبير رواه البيهقي، وعن أنس رواه البيهقي أيضًا.
* مفردات الحديث:
- متربِّعًا: التربع هو أن يجلس قابضًا ساقيه، مخالفًا بين قدميه، جاعلاً ساقيه إحداهما فوق الأخرى، ويكون القدم اليمنى في مقبض فخذه اليسرى، والقدم اليسرى في مقبض فخذه اليمنى.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
التربع: هو أن يجعل باطن قدمه اليمنى تحت الفخذ اليسرى، وباطن اليسرى تحت الفخذ اليمنى، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا لما سقط من فرسه، وانفكت قدمه.
2 -
الحديث دليل على كيفيَّة قعود العليل إذا صلى جالسًا.
3 -
التربع خاص بالجلسة التي هي مقابل قيام الصحيح، وليست في كل
(1) النسائي (661)، ابن خزيمة (2/ 89).
جلسات الصلاة.
4 -
قال إمام الحرمين: الذي أراه في ضبط العَجْز أن يلحقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه؛ لأنَّ الخشوع مقصود الصلاة.
5 -
قال النووي: أجمعت الأمة أنَّ من عجز عن القيام في الفريضة، صلاها قاعدًا، ولا إعادة عليه، ولا ينقص ثوابه؛ للخبر.
قال شيخ الإِسلام: من نوى الخير، وفعل ما قدر عليه، كان له كأجر الفاعل.
***
242 -
وَعَنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أنَّ النبَّيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي" رَوَاهُ الأرْبَعَةُ إلَاّ النَّسَائِيَّ، واللَّفْظُ لأِبي دَاودَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسنٌ؛ وله طرق متعددة، فقد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم (1/ 393)، والبيهقي (2/ 122)، واللفظ لأبي داود، وليس فيه "واجبرني"، وهي عند الترمذي، ولم يقل:"وعافني"، وجمع ابن ماجه بين "ارحمني واجبرني"، وزاد:"وارفعني"، وليس عنده "اهدني، وعافني"، والحاكم جمع بين هذه الألفاظ كلها، إلَاّ لفظ "وعافني".
وطرق هذا الحديث فيها كلها كامل بن العلاء التميمي، طعن فيه بعض الأئمة، ووثَّقه بعضهم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على مشروعية الطمأنينة في الجلسة التي بين السجدتين، كما ثبت ذلك.
2 -
فيه مشروعية الدعاء المذكور فيه في هذه الجلسة، ومذاهب الأئمة فيه الآتي:
(أ) الحنفية: لا يرون سنية الدعاء بين السجدتين، وإنَّما هو جائز عندهم.
وما ورد فيه يحملونه على صلاة النفل، أو صلاة الوتر.
(1) أبو داود (850)، الترمذي (284)، ابن ماجه (898)، الحاكم (1/ 262).
(ب) هذا الذكر مستحب عند بقية الأئمة الثلاثة.
(ج) وذهب الحنابلة إلى: أنَّ "رب اغفر لي" واجبة مرَّة واحدة، وأدنى الكمال فيها ثلاث، وما زاد عنها من الكلمات فهو سنة.
صيغة الدعاء عند المالكية والشافعية والحنابلة هو: "رب اغفر لي وارحمني، واجبرني، وارزقني، واهدني، وعافني".
3 -
قال ابن القيم: لما فصل بركن بين السجدتين، شرع فيه من دعاء ما يليق به ويناسبه، وهو سؤال المغفرة، والرحمة، والهداية، والعافية، والرزق.
4 -
قال الشيخ تقي الدين: الأفضل الدعاء بما ورد.
وقال الموفق: الكمال فيه كالكمال في تسبيح الركوع والسجود.
وقال شيخ الإِسلام: لا دليل على تقييده بعدد معلوم، وكان عليه الصلاة والسلام يطيل فيه بمقدار السجود.
5 -
في صحيح مسلم (2697): "أنَّ رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف أقول حين أسأل ربِّي؟ فقال: اللَّهمَّ اغفر لي وارحمني؛ فإنَّ هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك".
* معاني الكلمات الخمس:
- اغفر لي: أي: استرني، مع التجاوز عن المؤاخذة.
- ارحمني: أي: هات لي من لدنك رحمة تشتمل على ستر الذنب وعدم المؤاخذة، مع الإفضال عليَّ من خيري الدنيا والآخرة.
- اهدني: الرحمة تشمل الهداية، فعُطِفَ عليه، من باب عطف الخاص على العام، والهداية نوعان:
أحدهما: التوفيق إلى العلم النافع، والعمل الصالح، والإيمان الثابت، وهي الهداية القلبية، وهذه لا يملكها إلَاّ الله.
الثاني: بمعنى الدلالة والإرشاد إلى طريق الحق والصواب.
- عافني: اعطني سلامة وعافية، في ديني من السيئات والشبهات، وفي بدني من الأمراض والأسقام، وفي عقلي من العته والجنون، وأعظم الأمراض هي أمراض القلب، إما بالشبهات المضلَّة، وإما بالشهوات المهلكة، فهذا النوع من المرض هو سبب الشقاوة الأبدية، والعياذ بالله.
ومع هذا، فالناس بغفلة يتزاحمون على المستشفيات والعيادات؛ لعلاج أمراض البدن، ولا يأتون العلماء، ومجالس الذكر، وأبواب المساجد؛ لعلاج أمراض القلوب.
وهذا مما يدل على ضعف في العقل، وضعف في اليقين، وانتكاس في التفكير، وعدم تمييز الحقائق.
- ارزقني: أي: اعطني رزقًا، يغنيني في هذه الحياة الدنيا عن الحاجة إلى خلقك، وأعطني رزقًا واسعًا في الآخرة، مثل ما أعددته لعبادك الذين أنعمت عليهم.
والرزق: عند أهل السنة والجماعة يشمل الحلال والحرام، ولكن موضع الدعاء هو طلب الرزق الحلال في الدنيا.
***
243 -
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ رضي الله عنه: "أنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ، لَم يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوَي قَاعِدًا". رواه البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- وِتْر من صلَاتِهِ: هي عند النهوض إلى القيام إلى الثانية، وعند النهوض من الثالثة إلى الرابعة في الرباعية، وتسمى جِلسة الاستراحة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على استحباب هذه الجِلسة، وهو أنَّ المصلي إذا قام في وتر من صلاته؛ بأن يقوم من الركعة الأولى، أو يقوم من الركعة الثالثة، فإنَّه يستوي جالسًا، فيما بين السجدة الأخيرة والقيام، ثم ينهض لأداء الركعة الثانية، أو الركعة الرابعة.
2 -
هذه الجلسة يسميها العلماء "جلسة الاستراحة"، والاستراحة: طلب الراحة؛ فكأنَّ المصلي حصل له إعياء، فيجلس ليزول عنه.
3 -
وهي جلسة خفيفة لطيفة عند من يرى استحبابها، قال النووي: جلسة الاستراحة جلسة لطيفة؛ بحيث تسكن حركتها سكونًا بينًا.
* خلاف العلماء:
ذهب الإِمام الشافعي في القول المشهور من مذهبه إلى: استحباب جلسة الاستراحة، وذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم استحبابها.
ودليل الشافعي: هو حديث الباب الذي رواه البخاري وغيره من حديث
(1) البخاري (823).
مالك بن الحويرث: "أنَّه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته، لم ينهض حتى يستوي قاعدًا".
أما دليل الثلاثة في تركها فما روى الترمذي (288) من حديث أبي هريرة: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان ينهض على صدور قدميه".
قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم.
وقال أبو الزناد: تلك السنة.
وقال النعمان بن أبي عياش: أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يجلس.
قال الإِمام أحمد: أكثر الأحاديث على هذا، وممن روي عنهم تركها: عمر، وعلي، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس.
قال ابن القيم: اختلف الفقهاء في جلسة الاستراحة؛ هل هي من سنن الصلاة، أو ليست من السنن؟ وإنَّما يفعلها من يحتاج إليها؟ على قولين:
ففي حديثي أبي أمامة وابن عجلان ما يدل على: "أنَّه صلى الله عليه وسلم نهض على صدور قدميه"، وقد روي عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر من وصف صلاته لم يذكر هذه الجلسة، وإنما ذكرت في حديث أبي حميد، ومالك بن الحويرث، ولو كان هديه صلى الله عليه وسلم دائمًا لذكرها كل واصف لصلاته، ووجود فعلها لا يدل على أنَّها من سنن الصلاة، إلَاّ إذا عُلم أنه فعلها سنة، فيقتدى به فيها، وأما إذا قدر أنَّه فعلها للحاجة لم يدل على كونها سنة من سنن الصلاة، فهذا من تحقيق المناط في المسألة.
واختار الشيخ تقي الدين: أنه صلى الله عليه وسلم جلس في آخر عمره عند كِبَره، جمعًا بين الأخبار.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: المشهور من المذهب أنَّها ليست مشروعة، وإنَّما هي من الأسباب العارضة، لا الراتبة، فيكون فعلها من
السنة العارضة، لا الراتبة، وبهذا تجتمع الأدلة.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أصح الأقوال الثلاثة في جلسة الاستراحة: استحبابها، للحاجة إليها، واستحباب تركها، عند عدم الحاجة إليها. اهـ.
وهذا القول هو الراجح؛ ذلك أنَّ هذه الجلسة ليست مقصودة لذاتها، حتى تكون سنة راتبة، وليس لها ذكر يقال فيها، فعلم أنَّها مرادة عند الحاجة إليها، من عجز، ومرض، وشيخوخة، ونحو ذلك، فتفعل حينئذٍ.
قال في "المغني": وبهذا القول تجتمع الأدلة. والله أعلم.
ومسائل الخلاف في الفروع لا ينبغي أن تكون مثار فتنة، وشقاق، وتنازع، والأفضل بحث المسائل في جو ودّي علمي، فما وصل فيه أهل العلم إلى اتفاق فذاك، وما اختلفوا فيه فلا ينكِرُ بعضُهم على بعض، ويعادي بعضهم بعضًا، وإنَّما الواجب أن يعذر بعضهم بعضًا بما وصل إليه المخالف من الاجتهاد؛ فإنَّ العداوة والبغضاء هو سبب تفريق كلمة المسلمين، وتشتيت أمرهم، وضعف شأنهم، حتى أصبحوا ممزقين متفرقين، قد تسلط عليهم أعداؤهم، فاستباحوا بلادَهم، وأضعفوا كيانهم، وصار المسلمون لهم أتباعًا، وفيما بينهم أحزابًا، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون.
***
244 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكوعِ، يَدْعُو عَلَى أحْيَاءٍ مِنْ أحْيَاءِ العَرَبِ، ثمَّ ترَكَهُ" مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
ولأحمدَ والدَّارقطنِيِّ، نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخرَ، وَزَادَ:"وَأَمَّا فِي الصُّبْحِ، فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا"(1).
ــ
* درجة الحديث:
زيادة أحمد والدارقطني صححها الحاكم، ومال ابن دقيق العيد إلى تصحيحها، ولكن في سندها عيسى بن ماهان؛ وهو سيء الحفظ، والربيع بن أنس؛ وله أوهام، والمعول في الجمع بين أحاديث القنوت هو ما سيأتي عن ابن القيم، رحمه الله.
* مفردات الحديث:
- قنت: ذكر العلماء أنَّ للقنوت عشرة معانٍ، والمراد هنا: هو الدعاء في الصلاة بعد الرفع من الركوع الأخير من الوتر، وبعد الرفع من الركوع في الثانية من صلاة الفجر، عند من يرى ذلك.
- على: تكون للضرر، فيقال: دعا عليه.
- أحياء من العرب: جمع "حيٍّ"، قال في "المصباح": الحي القبيلة من العرب، والمراد بهم هنا: رِعِل، وَعُصَيَّة، وَذَكْوَان، وبنو لِحْيَان.
…
(1) البخاري (4089)، مسلم (677)، أحمد (12246)، الدارقطني (2/ 39).
245 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَقْنُتُ إِلَاّ إِذَا دَعَا لِقَوْمٍ، أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ" صحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال ابن القيم في "زاد المعاد": أحاديث أنس في القنوت كلها صحاح، يصدق بعضها بعضًا، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير الذي ذكره بعده، والذي وقَّته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة، والذي ذكره بعده هو إطالة القيام للدعاء، ففعله شهرًا يدعو لقوم، ثم استمرَّ تطويل هذا الركن للدعاء والثناء، إلى أن فارق الدنيا، والذي تركه هو الدعاء على أقوام من العرب، وكان بعد الركوع.
…
(1) ابن خزيمة (1/ 314).
246 -
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ الأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "قُلْتُ لأَبي: يَا أبَتِ، إِنَّك قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعلِيٍّ؛ أفَكَانُوا يَقْنتُونَ فِي الفَجْرِ؟ قَالَ: أيْ بُنَيَّ؛ مُحْدَثٌ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ أَبَا دَاوُدَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال في "التلخيص": رواه الترمذي، وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ، والنسائي وابن ماجه من حديث أبي مالك الأشجعى عن أبيه، وإسناده حسن.
قلتُ: وصححه أيضًا ابن حبان.
* مفردات الحديث:
- مُحْدَث: أي: أمر مخترعٌ ومبتدعٌ في الدين، لم يرد في الشرع.
- أي -بفتح الهمزة وسكون الياء-: أداة نداء للقريب.
- قنوت الوتر: القنوت ورد لمعانٍ كثيرة، والمراد هناك: الدعاء؛ إما مطلقًا، أو مقيدًا بالأذكار المشهورة الواردة.
* ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة:
1 -
القنوت هنا: هو الدعاء بعد الركوع من الركعة الأخيرة في الصلوات الخمس، والوتر.
2 -
أجمع العلماء على أنَّ فعله، أو تركه لا يبطل الصلاة، وإنَّما الخلاف في استحباب تركه، أو التفصيل في ذلك.
(1) أحمد (3/ 472)، الترمذي (402)، النسائي (1080)، ابن ماجه (1241).
3 -
حديث أنس: (244)"أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ في الصَّلَوات الخمس كلها شهرًا، يدعو على أحياء من العرب" -ورد تعيينهم بأنَّهم: رِعِل وعُصَيَّة وبَنُو لِحْيَان؛ هذه الرواية في الصحيحين.
4 -
زيادة الدارقطني: "أنَّه ما زال يقنت، حتى فارق الحياة الدنيا" -معارِضة لرواية الصحيحين.
5 -
حديث أنس (245): "أنَّه صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلَاّ إذا دعا لقوم ، أو دعا على قوم"؛ كأن يدعو للمستضعفين، كما يدعو على القبائل التي مرَّ ذكرهم، وعلى غيرهم من صناديد قريش الذين آذوا المستضعفين.
6 -
حديث طارق الأشجعي (246): "أنَّه صلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الأربعة، وما كانوا يقنتون في صلاة الفجر، بل هو محدث".
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على استحباب القنوت في الجملة، ولكن اختلفوا في تحديد الصلاة التي يقنت فيها على مذاهب:
ذهب الحنفية إلى: وجوب القنوت في صلاة الوتر.
وذهب الحنابلة إلى استحباب القنوت في صلاة الوتر.
وذهب المالكية والشافعية إلى استحبابه في صلاة الصبح.
وذهب الشافعية والحنفية والحنابلة إلى استحبابه في الفرائض إذا نزل بالمسلمين نازلة، لكن خصَّه الحنفية بالصلاة الجهرية.
أما دليل الحنفية والحنابلة في قنوت الوتر: فما رواه الخمسة عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنَّه قال: "علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهنَّ في صلاة الوتر"، وسياتي الحديث قريبًا إن شاء الله تعالى.
وأما دليل المالكية والشافعية: فما رواه الدارقطني عن أنس: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت في الصبح، حتى فارق الحياة".
وأما دليل الحنفية والشافعية والحنابلة على استحبابه عند النوازل: فما رواه ابن خزيمة (1/ 314)، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم:"كان لا يقنت إلَاّ إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم". قال الشيخ تقي الدين: للعلماء في القنوت ثلاثة أقوال: أصحها: أنه يسن عند الحاجة.
قال الشيخ المباركفوري: هذا القنوت يسمى بقنوت النوازل، ولم يرد في الصلاة المكتوبة قنوت غيره، هذا وهو مخصوص بأيام المهام والوقائع والنوازل؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلَاّ إذا دعا لقوم مسلمين، أو دعا على الكافرين، وهذا القنوت لا يختص بصلاة دون صلاة، بل ينبغي الإتيان به في جميع الصلوات.
وأما الزيادة التي تدل على مواظبته صلى الله عليه وسلم على القنوت في صلاة الفجر -فهي لا تصلح للاحتجاج، ومع ذلك تعارض حديث أنس.
وقال ابن القيم في "زاد المعاد": أحاديث أنس في القنوت كلها صحاح، يصدق بعضها بعضًا، ولا تناقض فيها، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير الذي ذكره بعده، والذي وقَّته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة، والذي ذكره بعده هو إطالة القيام للدعاء، فعله شهرًا، يدعو على قوم، ويدعو لقوم، ثم استمر تطويل هذا الركن للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا، أما الذي تركه فهو الدعاء على أقوام من العرب، وكان بعد الركوع، فزاد أنس القنوت قبل الركوع وبعده، الذي أخبر أنَّه ما زال عليه هو إطالة القيام في هذين المحلين، بقراءة القرآن وبالدعاء.
وقال شيخ الإسلام: لا يقنت في غير الوتر، الَاّ أن تنزل بالمسلمين نازلة، فيقنت كل مصلٍّ في جميع الصلوات، لكنه في الفجر والمغرب آكد بما يناسب تلك النازلة، ومن تدبر السنة، علم علمًا قطعيًّا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقنت دائمًا في شيء من الصلوات.
247 -
وَعَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيتَ، وَعَافِنِي فِيْمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِيْ فِيْمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِيْ فِيْمَا أعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ؛ فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ". روَاهُ الخَمْسَةُ.
وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ: "وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ".
وزَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخرَ فِي آخِرِهِ: "وَصَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ"(1).
ولِلْبَيْهَقِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يعَلِّمُنَا دُعَاءً نَدْعُو بِهِ فِي القُنُوتِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبحِ". وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح؛ قَال النَّووي في "المجموع" و"كتاب الأذكار": رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بإسناد صحيح. وصححه الحاكم وابن الملقن، وقال الألباني: إسناده صحيح، وأما زيادة الطبراني والبيهقي:"لا يعز من عاديت" -فضعفها النووي، لكن قواها ابن حجر، وابن الملقن.
وأما زيادة النسائي: "وصلى الله تعالى على النَّبي" -فإسنادها حسن، كما
(1) أحمد (1/ 200)، أبو داود (1425)، النسائي (3/ 248)، الترمذي (464)، ابن ماجه (1178)، الطبراني في الكبير (3/ 73)، والبيهقي (2/ 209).
(2)
البيهقي (2/ 210).
قال النووي في الأذكار، وحسنها ابن الملقن، لكن ابن حجر أعلها بالانقطاع بين عبد الله بن علي وبين الحسن بن علي.
وأما رواية البيهقي عن ابن عباس: "في القنوت من صلاة الصبح" -فقال الحافظ: سندها ضعيف.
* مفردات الحديث:
- فيمن هديت: من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، قيل:"في" في هذه الفقرة والتي بعدها بمعنى "مع".
- عافني: عن كل نقص ظاهر، أو باطن في الدنيا والآخرة، واجعلني مندرجًا فيمن عافيت.
- تولني: بحفظك عن كل مخالفة، ونظر إلى غيرك، واجعلني مندرجًا فيمن توليت، والموالاة ضد المعاداة.
- بارك لي: أَنْزِل عَليَّ بركتك العظمى، من التشريف والكرامة، وزدني من فضلك.
- فيما أعطيت: "في" للظرفية متعلقة بالفعل المذكور قبلها.
- قني: اجعل لي وقايةً من عندك، تقيني شر ما خلقته ودبرته.
- ما قضيت: "ما" اسم موصول، بمعنى "الذي".
- إنَّك تقضي: تعليل لما قبله؛ إذ لا يعطي تلك الأمور المهمة العظام إلَاّ من كملت قدرته وقضاؤه، ولم يوجد منها شيء في غيره.
- لا يذِل: بفتح الياء وكسر الذال المعجمة؛ أي: لا يضعف ولا يهون من واليت، والذل ضد العز.
- لا يَعِز: بفتح الياء وكسر العين؛ أي: لا ينتصر من عاديت، فهو ضد الذل.
قال السيوطي: لا خلاف بين علماء الحديث واللغة والصرف أن "يعز" بكسر العين وفتح الياء.
- تباركت: تعاظمت وتزايد برك وإحسانك، وكثر خيرك.
- تعاليت: تنزهًا عما لا يليق بك.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعية القنوت في صلاة الوتر، واستحبابه فيها.
2 -
استحباب هذا الدعاء الجامع لخيري الدنيا والآخرة، والمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون من أفضل الأدعية.
3 -
ليس في الحديث بيان محل هذا الدعاء، ولكن الحاكم في "المستدرك"(3/ 188) زاد، فقال:"علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت رأسي، ولم يبق إلَاّ السجود".
4 -
قال العراقي: جاء قنوت الوتر من طرق تدل على مشروعيته، منها ما هو حسن، ومنها ما هو صحيح، وجاءت السنة بالقنوت قبل الركوع وبعده، وأكثر الصحابة والتابعين وفقهاء الحديث؛ كأحمد وغيره، يختارون القنوت بعد الركوع.
قال الشيخ تقي الدين: لأنَّه أكثر وأقيس.
5 -
استحب الجمهور رفع اليدين حال الدعاء، وفي الحديث:"إنَّ الله يستحي أن يبسط العبد يديه يسأله فيهما خيرًا، فيردهما خائبتين"[رواه الترمذي (3571) وابن ماجه (3867)]. والأحاديث في هذا كثيرة.
* معاني الكلمات الواردة في دعاء القنوت بتوسع:
- اللَّهمَّ اهدني فيمن هديت: الهداية من الله تعالى، هي: التوفيق والإلهام إلى ما يوصل إلى المطلوب، وهذه الهداية لا تكون إلَاّ من الله تعالى، كما قال تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] والهداية الأخرى هداية الدلالة والإرشاد، وهذه هي وظيفة الرسل؛ قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى] ومثل الرسل دعاة الخير.
- وعافني فيمن عافيت: أي: عافني من الأسقام والبلايا في جملة من عافيته منها، وعافني أيضًا في ديني من أمراض الشبهات والشهوات.
- وتولني فيمن توليت: فتولَّ أمري كله، ولاية عامَّة، في ضمن خلقك، وتولَّني ولاية خاصَّةً، لأكون من أوليائك وحزبك المفلحين، فتولَّ أمري كله، ولا تكلني إلى نفسي، ولا أحدٍ غيرك.
- وبارك لي فيما أعطيت: البركة هي الخير الكثير، فهي النماء والزيادة؛ أي: وضع لي البركة فيما وهبت لي من العمر، والمال، والولد، والعلم، والعمل.
- وقني شرَّ ما قضيت: تقدَّم أنَّ "ما" اسم موصول بمعنى "الذي"، والمعنى: وقني الشر الذي في مخلوقاتك؛ فإنَّ الشر لا يكون في فعل الله تعالى، وإنَّما يكون فيما خلق؛ ولذا جاء في الحديث:"الخير بيديك، والشر ليس إليك"، وقال تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق]، فمخلوقات الله تعالى قد يكون فيها شرٌّ وضرر، والشر -الذي جعله الله في مخلوقاته- ما هو إلَاّ لحكمة ومصلحة عظيمة.
- إنَّك تقضي: تحكم، وتقدر ما تريد.
- لا يُقضى عليك: لا يقع حكم عليك، ولا معقب لحكمك، تفعل ماتشاء، وتحكم ما تريد:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء] والله جلَّ وعلا يقضي على نفسه ويحكم، قال تعالى:{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12]، وفي الحديث القدسي:"إني حرَّمت الظلم على نفسي".
- إنَّه لا يذل من واليت: أي: لا يصير ذليلاً مَنْ كنتَ وليه وناصره؛ فلا يلحقه ذلٌّ، ولا هزيمة. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة].
- تباركت ربَّنا: كثر خيرك، واتَّسع لخلقك، وعم فضلك جميع خلقك،
"ربنا" يعني: يا ربنا.
- تعاليت: علو الله تعالى صفةٌ أزليةٌ ثابتةٌ بالنصوص الكثيرة من الكتاب والسنة، فله العلو، هو وصفٌ ثابتٌ لله أزليٌّ أبديٌّ، وهو علو ذاته، فهو عال على جميع خلقه، بائنٌ منهم، وعلو صفاته، فلا يشبهه ولا يماثله أحد في صفاته:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى]، وعلو على خلقه بقهره، قال تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، أما استواؤه جل وعلا على عرشه فهو وصفٌ فعليٌّ يتعلق بمشيئته تعالى، فالعرش خلق من مخلوقات الله تعالى، وهو تعالى غنيٌّ عن جميع المخلوقات.
واستواؤه على عرشه حقٌّ ثابتٌ، ولكنه استواءٌ يليق بجلاله وعظمته. وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة الذين بَعدوا عن التعطيل، وتنزَّهوا عن التشبيه والتمثيل.
قال في "شرح الإقناع": ولا بأس أن يدعو في قنوت وتر بما شاء، والمأموم يؤمن على الدعاء بلا قنوت إن سمع، وإن لم يسمع دعا، وإذا كان واحدًا أفرد الضمير، فيقول:"اللهم اهدني"، وإذا سلم من الوتر، سُنَّ أن يقول:"سبحان الملك القدوس ثلاثًا، ويرفع صوته في الثالثة"[رواه أحمد (33/ 149) والنسائي (2/ 173)].
- أقولهن في قنوت الوتر: هذا يدل على أنَّه يجوز أن يزيد الإنسان في دعاء قنوت الوتر على هذه الكلمات.
وهو -أيضًا- لم يقل صلى الله عليه وسلم للحسن: لا تقل غيرهن، وإنَّما علَّمه إياهن؛ ليكن مما يقول.
قال شيخ الإسلام: يخير في دعاء القنوت بين فعله وتركه، ويفضل أن يختمه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما روى الترمذي (486) عن عمر رضي الله عنه: "الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى تصلي
على نبيك".
وشرعت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في أول الدعاء وأوسطه وآخره.
وقال بعضهم: ينبغي أن يمسح وجهه بيديه بعد الفراغ منه.
قال الشيخ: جاء في ذلك أحاديث لا تقوم بها حجة.
***
248 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا سَجَدَ أحَدُكْم، فَلا يَبْرُكْ كمَا يَبْرُكُ البَعِيْرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ". أخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ (1).
وَهُوَ أَقْوَى من حَدِيْثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ، وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ". أَخْرَجَهُ الأرْبَعَة (2).
فَإِنَّ لِلأَوَّلِ شَاهِدًا مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَذَكَرَهُ البُخَارِيُّ مُعَلَّقًا مَوْقُوفًا. (3)
ــ
* درجة الحديث:
حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 381)، وأبو داود (840)، والترمذي (269)، والنسائي (1091)، والبخاري في "التاريخ الكبير" من حديث محمَّد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، قال البخاري عن محمَّد بن عبد الله بن الحسن: لايتابع عليه، ولا أدري سمع عن أبي الزناد أم لا.
وقال حمزة الكناني: هذا حديث منكر.
وقال ابن سيِّد الناس: ينبغي أن يكون حديث أبي هريرة داخلاً في الحسن على رسم الترمذي؛ لسلامة رواته من الجرح.
(1) أبو داود (840)، الترمذي (269)، النسائي (1091).
(2)
أبو داود (838)، الترمذي (268)، النسائي (1089)، ابن ماجه (882).
(3)
ابن خزيمة (1/ 318).
وقد رواه السرقسطي في "غريب الحديث"(2/ 70) عن أبى هريرة موقوفًا؛ بلفظ: "لا يبرك أحدكم بروك البعير الشارد".
وأما حديث وائل بن حجر: فأخرجه أبو داود (726)، والترمذي (268)، والنسائي (1089)، وابن ماجه (882)، من حديث شريك النخعي عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرف أحداً رواه مثل هذا غير شريك، وقال الدارقطني: تفرد به شريك، وشريك ليس بالقوي فيما تفرد به.
وقال البيهقي: إسناده ضعيف، وله طرق أخرى، ولذا قال الخطابي: حديث وائل أصح من حديث أبي هريرة.
وأمَّا حديث ابن عمر: فعلَّقه البخاري (2/ 290 فتح)، ووصله ابن خزيمة (1/ 318)، وأبو داود والطحاوي والدارقطني من طريق الدَّرَاوَردي عن عبيد الله ابن عمر عن نافع عن ابن عمر.
وقد تكلَّم الإمامان: أحمد والنسائي في رواية الدراوردي عن عبيد الله، وخالفه أيوب السختياني، فرواه عن نافع عن ابن عمر يرفعه قال:"إنَّ اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفعه فليرفعهما".
قال الأوزاعي: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم.
وصحَّ عن عمر رضي الله عنه موقوفًا: "أنَّه كان يقع على ركبتيه". رواه ابن أبي شيبة.
* مفردات الحديث:
- فلا يبرك: يقال: برك البعير بركًا: وقع على بركه، والبَرَك: ما يلي الأرض من صدر البعير.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
لدينا ثلاثة أحاديث في صفة الهوي إلى السجود:
(أ) حديث أبي هريرة: "إذا سجد أحدكم، فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه" مرفوعًا.
(ب) حديث ابن عمر: قال نافع: "كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه". رواه البخاري معلقًا موقوفًا.
(ج) حديث وائل بن حجر: "إذَا سجد، وضع ركبتيه قبل يديه" مرفوعًا.
2 -
فأما "حديث أبي هريرة"، و"حديث ابن عمر" -فمتفقان على أنَّ الأفضل هو وصول اليدين قبل الركبتين إلى الأرض، وحديث وائل بن حجر مخالف لهما ففيه أنَّ الأفضل هو وصول الركبتين قبل اليدين.
3 -
بعض العلماء رجحوا حديثي أبي هريرة وابن عمر، على حديث وائل بن حجر، وقالوا: إنَّ ركبتي البعير في يديه، وهما أول ما ينزل إلى الأرض، والإنسان ركبتاه في رجليه، فلا ينبغي أن تصلا قبل يديه، فالنهي منصب على الركبتين، بألا يتقدما في النزول إلى الأرض، وإن اختلف مكانهما من الإنسان ومن البعير، فما دام أنَّ أول ما يصل إلا الأرض هما ركبتا البعير اللتان في يديه، فينبغي أنَّ أوَّل ما يصل إلى الأرض من الإنسان يداه، على ظاهر حديث أبي هريرة وابن عمر.
4 -
أما ابن القيم: فإنَّه يقول: إنَّ في حديث أبي هريرة قلبًا من الراوي؛ حيث قال: "وليضع يديه قبل ركبتيه"، وأنَّ أصله:"وليضع ركبتيه قبل يديه"، ويدل عليه أوَّل الحديث، وهو قوله:"فلا يبرك كما يبرك البعير"؛ فإنَّ المعروف من بروك البعير هو تقديم اليدين على الرجلين، فينهى الإنسان أن يكون أول ما يصل إلى الأرض هو مقدم جسمه، كما هو الحال في البعير، وعليه أن يخالف البعير؛ وذلك بأن ينزل أول ما ينزل من جسمه ركبتاه اللتان
في رجليه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه؛ هذا هو الصحيح مما يفهم من الأحاديث، ويزول ما يوهم من التعارض بينها.
وكما أنَّ هذا هو مقتضى الأثر، فإنَّه مقتضى الطبيعة، وخلقة الإنسان؛ فإنَّ المصلي ينزِّل جسمه من العلو تنزيلاً، فيكون أول ما يصل إلى الأرض من جسمه أقربها إلى الأرض، وهما ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته مع أنفه.
5 -
قال محرره عفا الله عنه: لا شكَّ أنَّ ركبتي البعير في يديه لا في رجليه، وإنَّما الذي في الرجلين عرقوباه، ولا شكَّ أنَّ أوَّل ما يصل إلى الأرض من البعير -عند البروك- ركبتاه اللتان في يديه، والحديث ينهى عن مشابهة بروك البعير في الهيئة التي ينحط بها إلى الأرض من وصول مقدم البعير الذي فيه يداه، عن وصول آخره الذي فيه ركبتاه، ويكون في حديث أبي هريرة قلبٌ، كما قال ذلك ابن القيم رحمه الله وإنَّما الذي وهم فيه ابن القيم ظنه أنَّ ركبتي البعير في رجليه لا في يديه، فركبتا البعير لغة وعرفًا في يديه، كما قال المثل العربي:"فلان وفلان في الشرف كركبتي البعير".
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ الأفضل للساجد أن يضع ركبتيه، ثم يديه؛ لحديث وائل بن حجر.
***
249 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَعَدَ للتَّشَهُّدِ، وَضَعَ يَدَهُ اليُسْرَى عَلَى رُكْبتَهِ اليُسْرَى، وَاليُمْنَى عَلَى اليُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلَاثًا وَخَمْسِيْنَ، وأشَارَ بِأَصْبُعِهِ السَّبَّابَهِ". رواهُ مُسْلِمٌ.
وفي رِوَايَةٍ لَهُ: "وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وأَشَارَ بِالَّتي تَلِي الإبْهَام"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- للتشهد: أي في زمنه، وسمي الذكر المخصوص: تشهدًا؛ لاشتماله على كلمتي الشهادة، كما أنَّ فيه دعاء يدعوه؛ فإنَّ قوله:"السلام عليك، السلام علينا"، دعاء عبر عنه بلفظ الإخبار، لمزيد التأكيد.
- عقد ثلاثًا وخمسين: إشارة إلى طريقة حسابية كانت معروفة عند العرب، وصورتها: أنَّ الثلاثة لها حلقة بين الإبهام والوسطى، وللخمسين يقبض الخنصر والبنصر، ويشير بالسبابة عند ذكر الله تعالى.
- السبابة: مؤنثة، يقال: سَبَّهُ سبًّا فهو سبَّاب، بمعنى: شتمه، وسميت الأصبع التي تلي الإبهام: سبابة؛ لأنَّه يشار بها عند السب.
-قبض: يقبض قبضًا، من باب ضرب: ضمَّ أصابعه، فقبض اليد خلاف بسطها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعية القعود للتشهد في الصلاة الثنائية التي ليس فيها إلَاّ تشهد واحد، وأما الصلاة الثلاثية والرباعية ففيهما تشهدان.
2 -
استحباب وضع اليدين أثناء التشهد على الفخذين.
3 -
أما صفة اليدين أثناء التشهد: فاليسرى يبسطها على فخذه اليسرى، وأما اليد
(1) مسلم (580).
اليمنى فيقبض الخنصر والبنصر، ويحلق الوسط مع الإبهام، ويدع السبابة على وضعها، مستعدةً للإشارة بالتوحيد والعلو، وهذه الصفة تسمى اصْطلاحًا حسابيًّا قديمًا:"ثلاثًا وخمسين".
4 -
الرواية الأخرى في الحديث: أنَّ المستحب هو قبض الأصابع الأربعة كلها لليد اليمنى، والإشارة بالسبابة.
فهاتان صفتان مشروعتان لوضع الكفين أثناء التشهدين، كما جاء في هذا الحديث.
5 -
جاء في بعض روايات حديث ابن عمر في مسلم (580) قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة، وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام".
ولكن هذه الرواية المطلقة تحمل على الروايات المقيدة حسب القاعدة الأصولية؛ لما يلي:
أولاً: أنَّها خالفت العديد من الروايات من قبض اليد اليمنى حال التشهد، ففي حديث ابن عمر:"إذا قعد للتشهد، وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى، وعقد ثلاثًا وخمسين".
وحديث مقسم مولى عبدالله الحارثي: "إنَّما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، يوحد بها ربَّه عز وجل"[رواه البيهقي (2/ 133)]، والتوحيد في التشهد.
وحديث عبد الله بن الزبير: "إذا جلس في التشهد، وضع يده اليمنى، وأشار بالسبابة"؛ وغير ذلك من الروايات المقيدة.
ثانيًا: جلوس الصلاة يراد به الجلوس للتشهد، أما الجلسة التي بين السجدتين، فهي تعرف وتقيد بهذا اللفظ: الجلسة بين السجدتين.
ثالثًا: أنَّ الرواية المطلقة تدل على أنَّ ذلك في التشهد؛ فقد روى مسلم (585)
وغيره عن علي المعادي قال: "رآني ابن عمر وأنا أعبث بالحصى في الصلاة. . ." الحديث.
والعبث في الحصى لا يكون إلَاّ في الجلسة الطويلة؛ وهي التشهد.
رابعًا: إنَّني لا أعلم أحدًا قال بهذا القول، والسنة المحمَّدية اتباع سبيل المؤمنين وجمهورهم، وعدم الخروج عنهم في الأقوال والأعمال.
* خلاف العلماء:
ذهب الحنفية إلى: أنَّ المستحب هو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، جاعلاً أطراف أصابعه عند حرف ركبته الأعلى، باسطًا أصابعه كلها، فلا يقبض شيئًا منها؛ وذلك لما روى مسلم (519) من حديث عبدالله بن الزبير بلفظ:"كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو، وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بأصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبتيه". وهناك صفاتٌ أخرى عند الحنفية في قبض الأصابع الثلاثة، مذكورة في الكتب المبسوطة عندهم.
وذهب المالكية إلى: بسط اليسرى على الفخذ اليسرى، وتحليق الأصابع الثلاثة من اليمنى، وهي الخنصر والبنصر والوسطى، فيحلق هذه الثلاثة مع حرف اليد إلى الجانب الذي يلي البنصر، ويمد أصبعه السبابة كالمشير بها، ويترك الإبهام على طبيعته، وهذه الصفة تشبه اصطلاحًا حسابيًّا قديمًا:"تسعة وعشرين".
وذهب الشافعية والحنابلة إلى: أنَّ المستحب وضع اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطةَ الأصابع مضمومة، وتكون أطرافها دون الركبة، مستقبلاً بجميع أطرافها القبلة، أمَّا اليمنى فيضعها علي فخذه اليمنى، قابضًا منها الخنصر والبنصر والوسطى عند الشافعية، ومحلِّقًا بين الوسطى والإبهام عند
الحنابلة، ومد السبابة للإشارة بها، وهذه الصفة تشير في المصطلح الحسابي القديم إلى عدد:"ثلاث وخمسين".
ودليلهم: حديث ابن عمر (حديث الباب).
واختلاف العلماء في قبض الأصابع وبسطها، راجعٌ إلى اختلاف الروايات في ذلك.
وأشار ابن القيم -رحمه الله تعالى- إلى وجه الجمع بينها؛ فقال: الروايات المذكورة كلها واحدة، فمن قال:"قبض أصابعه الثلاثة"، أراد: أنَّ الوسطى مضمومة، ولم تكن منشورة كالسبابة، ومن قال:"قبض اثنتين" أراد: أنَّ الوسطى لم تكن مضمومة مع البنصر والخنصر، والبنصر والخنصر متساويتان في القبض دون الوسطى.
واختلف الأئمة وأتباعهم في الحال: التي يستحب فيها الإشارة بالإصبع السبابة.
فذهب الحنفية إلى: أنَّه يشير بها عند قوله في التشهد: "لا إله إلَاّ الله"؛ وذلك عند إثبات الإلهية لله تعالى، ونفيها عمن سواه.
ودليلهم: حديث ابن الزبير في مسلم الذي اقتصر على الإشارة بالسبابة.
وذهب المالكية إلا: أنَّ المستحب أن يديم تحريك السبابة تحريكًا وسطًا، ويكون من أول التشهد إلى آخره.
ودليلهم: حديث وائل بن حجر قال: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض اثنين من أصابعه، وحلق حلقة، ثم رفع إصبعه، فرأيته يحركها يدعو بها"[رواه أحمد (18391) والنسائي (889)]. وعقب على هذا القول البيهقي، فقال: يحتمل أن يكون مراده بالتحريك: الإشارة بها، لا تكرير تحريكها، حتى لا يتعارض مع حديث عبدالله بن الزبير عند أبي داود (989) بلفظ: "يشير بالسبابة، ولا
يحركها" قال الحافظ: وأصله في مسلم.
وذهب الشافعية إلى: أنَّ المستحب أن يشير بالسبَّابة عند الهمزة من قوله: "إلَاّ الله"؛ لأنَّ هذا هو موطن الإشارة إلى التوحيد، فيجمع في ذلك بين القول والفعل، ولا يحركها؛ لعدم وروده.
ودليلهم: ما جاء في حديث ابن عمر عند مسلم (580): "وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام".
وذهب الحنابلة إلى: استحباب الإشارة بالسبَّابة في التشهد في كل مرَّة عند ذكر لفظ "الله"، منبِّهًا على التوحيد، ولا يحركها.
قال في "شرح الإقناع": "ويشير بسبَّابته اليمنى في التشهد مرارًا، كل مرة عند ذكر لفظ "الله"؛ تنبيهًا على التوحيد، ولا يحركها، ويشير بها أيضًا عند دعائه في صلاة وغيرها"؛ وذلك لما روى النسائي (1270) من حديث عبد الله ابن الزبير قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بأصبعه إذا دعا، ويحركها"
واختلف الفقهاء في هيئة الجلوس:
فذهب مالك وأتباعه إلى: أنَّ المستحب أن يجلس متوركًا؛ وذلك بأن يفضي بمقعدته إلى الأرض، وينصب رجله اليمنى، وَيَثْنِي اليسرى، وذلك في كل جلسات الصلاة، والرجل والمرأة في هذا سواء.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى: أنَّ المستحب هو أن ينصب رجله اليمنى ويقعد على اليسرى، وهذا في كل جلسات الصلاة، فهذان القولان متقابلان.
وذهب الإمام أحمد إلى: أنَّ المستحب: أن يتورك في جلوس التشهد الأخير في الصلاة ذات التشهدين، وما عداه يكون ناصبًا اليمنى جالسًا على اليسرى.
وذهب الإمام الشافعي إلى: أنَّه يتورك في كل تشهد أخير مطلقًا؛ سواء
كانت الصلاة ثنائية، أو أكثر، وينصب اليمنى ويجلس على اليسرى فيما عداه.
قال ابن رشد: وسبب الاختلاف تعارض الآثار.
ولذا ذهب ابن جرير إلى: أنَّ السنة وردت بهذا كله، فعلى أي جلسة جلس، متوركًا، أو ناصبًا اليمنى وجالسًا على اليسرى، فقد أصاب السنة، والأمر فيه سعة، والله أعلم.
* فوائد:
الأولى: الإصبع التي تلي الإبهام تسمى "السباحة"؛ للإشارة بها إلى تسبيح الله تعالى، وتنزيه عن الشريك.
وتسمى "السبابة"؛ لأنَّه يشار بها عند السب إلى الرجل الذي يعاب.
الثانية: للإشارة بالسبَّاحة عند ذكر الله تعالى معانٍ كريمة، فهي تشير إلى وحدانية الله تعالى، وتفرده في الإلهية وعبادته.
كما تشير إلى علوه تعالى على خلقه ذاتًا وصفة، وقدرًا وقهرًا؛ فقد روي عن ابن عباس أنَّه قال في الإشارة:"هو الإخلاص"، فالحكمة في ذلك أن يجمع في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد.
الثالثة: عرض الروايات والجمع بينها:
الإصبع السبَّاحة ورد في حكمها عدة روايات؛ فحديث وائل بن حجر في النسائي (889): "وأشار بالسباحة ثم رفع إصبعه، فرأيته يحركها".
وحديث ابن عمر عند أحمد (5964): "وأشار باصبعه، وقال: لهي أشد على الشيطان من الحديد".
وحديث ابن الزبير عند مسلم (579): "وأشار بالسبابة".
وحديث ابن عمر عند مسلم (580): "وأشار باصبعه السبابة".
وحديث ابن عمر عند البيهقي (2/ 132): "تحريك الإصبع مذعرة للشيطان" وليس بالقوي. قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد بالتحريك
الإشارة بها، لا تكرير تحريكها، فيكون موافقًا لرواية ابن الزبير.
قلت: والجمع بين هذه الروايات أن يكون المراد بتحريكها هو: الإشارة بها، وأن تكون الإشارة بلا تكرير للتحريك.
قال في "الروض وحاشيته": لا يوالي حركتين عند الإشارة؛ لأنه يشبه العبث، ولحديث ابن الزبير:"ويشير بسبابته، ولا يحركها".
قال ابن القيم: كان لا ينصبها نصبًا ولا يرخيها، بل يحنيها شيئًا قليلاً.
الرابعة: ما ورد من اختلاف الأئمة في صفة وضع اليدين على الفخذين، والإشارة بالسباحة هي مسائل فرعية، كل واحد من الأئمة قال حسبما وصل إليه اجتهاده من فهم النصوص، والمجتهد له أجران، أو أجر واحد، وهم كلهم -رحمهم الله تعالى- مجمعون على أنَّها من فضائل الصلاة، إن تركها المصلي أو فعلها، لاتبطل الصلاة، ولا يوجب الاختلاف.
لذا فإني أنصح أبناءنا الشباب الراغبين في الخير، ألا تكون هذه الخلافات الفرعية مثار جدل لهم، وعداوة بينهم، وأن يبحثوها، للوصول إلى الصواب منها، أما أن يخطىء بعضهم بعضًا، ويعادي بعضهم بعضًا، فهذا مباين للإسلام، والله الهادي إلى سواء السبيل.
***
250 -
وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: الْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ:"إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ للهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ علَيكَ أيُّهَا النَّبيُّ وَرْحْمَةُ الله وَبرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحينَ، أشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إِلَاّ اللهُ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُعَاءِ أعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيدْعُو". مُتَّفَقٌ علَيْهِ. وَاللَّفْظُ للبُخَارِيِّ.
ولِلْنَّسَائِيِّ: "كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ. . . ".
ولِأَحْمَدَ: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم علَّمَهُ التَّشَهُّدَ، وَأمَرَهُ أنْ يُعَلِّمَهُ النَّاسَ"(1).
وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ: التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لله. . . إِلَى آخرِهِ"(2).
ــ
* مفردات الحديث:
- التَّحيَّات لله: جمع "تحيَّة"، جمعت؛ لتشمل معاني التعظيم كلها لله تعالى، ففيها الثناء المطلق لله تعالى، وأنواع التعظيم له جلَّ وعلا.
و"التَّحيَّاتُ" مبتدأ، ولفظ الجلالة "الله" خبره.
- الصلوات: هي جنس الصلاة، وأَوَّل ما يدخل فيه الصلوات المكتوبات الخمس.
(1) البخاري (831)، مسلم (452)، النسائي في الكبرى (1/ 378)، أحمد (3562).
(2)
مسلم (403).
- الطيبات: تعميمٌ بعد تخصيص، فجميع الأقوال، والأفعال، والأوصاف الطيبة هي مستحقة لله تعالى.
- السلام: قال النووي: يجوز في "السلام" في الموضعين حذف اللام وإثباتها، والإثبات أفضل، وهو الموجود في روايات الصحيحين.
والأصل: سلمت عليك، ثم حذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء؛ للدلالة على ثبوت المعنى.
أما التعريف في الموضعين، فهو إمَّا للتعريف التقديري الموجَّه إلى عباد الله الصالحين السابقين علينا، وعلى إخواننا، وإما للجنس، والمعنى: أنَّ حقيقة السلام المعروف هو عليك.
- السلام عليك أيُّها النبي: أي: السلام من النقص والعيب، وأي آفة أو فساد، فهو دعاء من المصلي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال النووي: السلام اسم من أسماء الله تعالى، يعني: السالم من النقائص، والسالم من المكاره، والآفات والعيوب وغيرها، فمبدأ السلام منه تعالى.
- عليك: لم يقصد بهذه الكاف المخاطب الحاضر، وإنَّما قصد بها مجرد السلام، سواء كان حاضرًا أو غائبًا، بعيدًا أو قريبًا، حيًّا أو ميتًا؛ ولذا فإنَّها تقال سرًّا، وانَّما اختصَّ النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب؛ لقوَّة استحضار المرء هذا السلام، الذي كان صاحبه حاضرًا، واختص صلى الله عليه وسلم بكاف الخطاب بالصلاة، وكل هذا من علو شأنه، ومن رفع ذكره واسمه.
- النبي: إما مشتق من "الإنباء": وهو الإخبار، وإما من "النبوَّة"، وهي الرفعة، وهو إما بمعنى -مفعل- اسم فاعل، فهو منبىء عن الله، وإما بمعنى "مفعل" اسم مفعول فهو مَنَبَّأ من الله، وكلا المعنيين صالح.
-رحمة الله: صفة حقيقية لله تعالى، تليق بجلاله، بها يرحم عباده، ويُنْعِم عليهم.
- وبركاته: جمع "بركة"، وهو الخير الكثير من كل شيء، قال تعالى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} [الأنبياء: 50]، تنبيهًا على ما تفيض عنه الخيرات الإلهية.
- السلام علينا: أراد به: الحاضرين من الإمام، والمأمومين، والملائكة.
- أشهد. . . إلخ: أي: أقطع بالإخبار، فالشهادة هي العلم القاطع.
قال الراغب: الشهادة قولٌ صادرٌ عن علمٍ حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر.
- الرسول: أصل الإرسال: الابتعاث، ومنه: الرسول المبتعث، ويطلق على الواحد والجمع، وجمع الرسول رسل، ورسول الله من البشر: رجل أوحي إليه وأمر بالتبليغ، والرسول: له جهتان: جهة من أرسله، قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر] وجهة من أُرسل إليهم؛ قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 83].
- مُحمَّدًا: قال علماء اللغة: محمَّد ومحمود اسم مفعول، من:"حمَّد" بالتشديد، لخصاله الحميدة.
قال ابن فارس: وبذلك سمي نبينا: محمَّدًا صلى الله عليه وسلم؛ لعلم الله تعالى بكثرة خصاله المحمودة.
وللنبي صلى الله عليه وسلم أسماء متعددة هي أسماء من حيث دلالتها على الذات، وأوصاف من حيث دلالتها على المعنى.
ولا شبهة للنصارى في أنَّ اسمه في الإنجيل: "أحمد"، فأحمد اسم تفضيل من اسم الفاعل، ومحمد اسم مفعول، فهو أحمد الناس لربه، وهو محمَّد لخصال الخير فيه، وهما متصرفان من مادة واحدة.
- أيُّها النَّبي: فيه عدول عن الغيبة إلى الخطاب، مع أنَّ لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق بهما، على أنَّهم لم ينالوا هذا الخير إلَاّ بواسطته، فوجهوا إليه الخطاب تصريحًا، لا عمومًا فقط، وعُدِلَ عن الرسالة إلى النبوة، مع أنَّ الرسالة أفضل؛ ليُجْمَع له الوصفان.
- الصالحين: هم القائمون بحقوق الله وحقوق خلقه، ودرجاتهم متفاوتة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا الذكر يسمى "التشهد" مأخوذٌ من لفظ الشهادتين فيه، فهما أهم ما فيه.
2 -
يقال هذا التشهد في الصلاة الثنائية مرَّة واحدةً، أما الصلاة الثلاثية والرباعية ففيها تشهدان:
الأول: بعد الركعة الثانية.
والأخير: الذي يعقبه السلام، وسيأتي قريبًا.
3 -
التشهد الأول: واجب عند الحنفية والحنابلة، مستحب عند غيرهم، وسيأتي تفصيل الخلاف فيه.
4 -
التشهد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أربعة وعشرين صحابيًّا بألفاظ مختلفة، وكلها جائزة.
قال شيخ الإسلام: كلها سائغة باتِّفاق المسلمين، وأصل الإمام أحمد استحسان كل ما يثبت عنه صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فقد قال العلماء: أثبتُها تشهد ابن مسعود، وهو الوارد في هذا الباب.
5 -
قال البزار: أصح حديث عندي في التشهد حديث ابن مسعود، يروى عنه صلى الله عليه وسلم بنيف وعشرين طريْقًا، ولا يعلم فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد أثبت منه، ولا أصح إسنادًا، ولا أثبت رجالاً، ولا أشد تضافرًا بكثرة الأسانيد والطرق.
وقال مسلم: إنَّما أجمع الناس على تشهد ابن مسعود؛ لأنَّ أصحابه لا يخالف بعضهم بعضًا، وغيره قد اختلف فيه عن أصحابه.
وقال الذهلي: هو أصح ما روي في التشهد.
وقال الترمذي: العمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين.
وقال مسلم: اتَّفق عليه الناس.
وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء: تشهد ابن مسعود أفضل، له مرجحات كثيرة، منها الاتفاق على صحته وتواتره، وهو أصح التشهدات وأشهرها، ولأمره صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الناس، وكونه محفوظ الألفاظ.
6 -
شرح ألفاظ التشهد بأوسع من شرحه في المفردات؛ لأجل أن يلاحظ المصلي معانيه:
- التحيات لله: جمع "تحية"، والتحية هي: التعظيم، فهي تعظيمات مستحقة ومملوكة لله تعالى، ومختصة به، وهي تشمل كل التحايا، التي قدمها المسلمون المصلون لله تعالى، في هذه الجلسة الخاشعة.
- الصلوات: هي الصلوات الفرائض والنوافل، وسائر العبادات التي يراد بها تعظيم الله، كلها لله تعالى، فهو المستحق لها، المعبود بها، ولا تليق لأحدٍ سواه.
- الطيبات: هي جميع الأعمال والأقوال الصالحة، فهي كلها لله تعالى، فجميع ما صدر منه تعالى من فعل وقول فهو طيب، وجميع ما صدر من خلقه من أفعال، وأقوال طيبة، فهو المستحق لها؛ فإنَّه طيِّبٌ لا يقبل إلَاّ طيبًا.
ولا يكون العمل والقول طيبًا حتى يتحقق فيه أمران:
الإخلاص لله تعالى، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
- السلام: اسمٌ من أسماء الله الحسنى، فهو السالم من النقائص والعيوب، المسلم خلقه من المصائب والآفات، فهذا الاسم الكريم الجامع للخيرات يكون:"عليك أيُّها النبي"، فهو دعاء له صلى الله عليه وسلم بالسلام من كل نقص وآفة، وخوطب بالنبوة التي هي مأخوذة، إما من إخباره وإنبائه عن الله تعالى، وإما أن تكون من رفعته ومقامه، وهما متلازمان.
- ورحمة الله وبركلاته: جمع "بركة"، وهي الزيادة والنماء؛ لما خصَّه الله تعالى به، وحباه إياه، وخصَّ بذلك عليه الصلاة والسلام.
- والبركة: كثرة الخير وزيادته، وسعة الإحسان والإفضال، واستمرار ذلك وثبوته لعظيم حقه عليهم، فأعظم خير وصل إليهم من ربهم كان بواسطة دعوته المباركة، فصلوات الله وسلامه عليه.
- السلام علينا: نحن المصلين، والملائكة.
- عباد الله الصالحين: هم من صلح باطنه وظاهره، وهم القائمون بما أوجب عليهم من حقوقه، وحقوق عباده.
قال الترمذي: من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة، فليكن عبدًا صالحًا، وإلَاّ حُرمَ هذا الفضل العظيم، وقد جاء في الحديث:"فإنَّكم إذا فعلتم ذلك، فقد سَلَّمتم على كلِّ عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض". [رواه البخاري (831) ومسلم (402)].
فعلى المصلي أن يلاحظ هذا المعنى العام.
- أشهد أن لا إله الَاّ الله: أي: أجزم وأقطع أن لا معبود بحق إلَاّ الله، فالشهادة خبر قاطع، والقطع من فعل القلب، واللسان مخبِرٌ بنالك، وهذه الكلمة هي كلمة التوحيد، وهي كلمة التقوى والصراط المستقيم، والمراد معرفتها والعمل بها، لا مجرد نطقها.
- أشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله: بصدق ويقين ومحبة ومتابعة، فهو عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسيأتي عن هذه الشهادة كلمة أوسع من هذا.
- عبده ورسوله: فهو عبد لله تعالى، أكمل الخلق عبادةً لربه، بلَّغ الرسالة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده.
وكلمتا "عبد ، ورسول" فيهما الرد على طائفتين ضالتين:
إحداهما: طائفة الغلاة ممن أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من عبادة الله، وبعضهم أعطاه حقًّا من الربوبية والتصرف في الكون، فقالوا: إنَّه يعلم
الغيب، والله جلَّ وعلا يقول:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وأمره تعالى أن يتلو على الناس قوله:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف: 188]، وجعلوا له قدرة على الضر والنفع، والله يامره أن يبلغ قوله تعالى:{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)} [الجن]، وقال تعالى:{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)} [الجن].
الطائفة الثانية: ملاحدة، كذبوه في بعض ما أتى به، وكذبت رسولَنا اليهودُ؛ بأنَّ الرسول الذي يأتي في آخر الزمان المذكور في التوارة، لا يأتي الَاّ بعد عيسى، وعيسى حتى الآن لم يأتِ، فهم كذبوا عيسى، ومحمَّدًا عليهما الصلاة والسلام.
والنصارى: كذبوا رسولَنا، وقالوا: إنَّ الذي بشَّر به عيسى لم يأت.
وفي هذه العصور الأخيرة ظهرت طوائف تكيد لرسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وتكيد للإسلام بالطعن فيه، منها "الماسونية" التي تقول: إنَّ محمَّدًا نبيٌّ مزعوم، وإنَّه لم يأت بجديد، وإنَّ القرآن فرعٌ من التوراة، أخَذ من أحكامها وتعاليمها.
و"الماسونية" مذهب خبيثٌ ماكرٌ، له أساليب -في الدهاء والخداع والمكر- يضل بها بسطاء العقول.
ومن ذلك النِّحلة الكاذبة المنحرفة "القاديانية"، وما تفرغ عنها من "البابية" و"البهائية"، فكل نِحلة من هذه النِّحل تدعي أنَّها طائفة إسلامية، وأنَّ الرسالة لم تختم بمحمَّد، وأنَّ زعيمها المسمى "غلام أحمد القادياني" نبيٌّ يوحى إليه.
والقصد أنَّ هاتين الكلمتين الطيبتين "عبد الله، ورسوله" هما ردٌّ وإنكارٌ لمثل هذه الطوائف من الغلاة والجفاة، وإنَّهما نور وسعادة لمن دان بهما
عقيدة، وسلوكًا، وقولاً، وعملاً.
فنسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يثبِّت قلوبنا على دينه، وألا يزيغ قلوبنا عن الحق، إنَّه سميع مجيب.
7 -
قوله: "ثم ليتخيَّر من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو":
لا شكَّ أنَّ المراد بالدعاء هو الدعاء في الصلاة، بعد التشهد وقبل السلام، وهو المكان الذي يشرع فيه، بعد حمد الله وتمجيده في التشهد، وبعد الصلاة على نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم، وفي حال مناجاة المصلي ربه قبل انصرافه عنه، فالدعاء المشروع يكون في سجوده، وبعد التشهد وقبل السلام منها، وغير ذلك من مواطنه فيها، فالمشروع بعد السلام هو الذكر لقوله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103].
أما رفع اليدين بالدعاء بعد الصلاة النافلة؛ سواء كانت قبل الفريضة أو بعدها -فإنَّه لم يرد فيه شيء، فإن فعل أحيانًا فلا باس، أما أن يتخذ عبادةً راتبةً فلا ينبغي؛ لأنَّ الواجب في العبادات كلها الاتباع، وألا يتعبد الإنسان إلَاّ بما شرعه الله ورسوله.
وقد اعتاد كثير من الناس هذا الفعل، فكلما سلموا من نافلة رفعوا أيديهم، فبعضهم لا يدعو، وإنَّما يمسح وجهه بيديه.
ومسح الوجه باليدين بعد الدعاء فيه حديثان ضعيفان، لا تقوم بهما حجة، والله أعلم.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على مشروعية التشهد الأول، والجلوس له في الصلاة ذات التشهدين، واختلفوا في وجوبهما:
فذهب الإمام أحمد، والليث، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، والشافعي في إحدى الروايتين عنه: إلى وجوبهما؛ مستدلين بالأحاديث الواردة في التشهد
والأمر به، من غير تقييد بتشهد آخر، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه، وقال:"صلوا كما رأيتموني أُصلي"[رواه البخاري (608)]، ولأنَّه قال لابن مسعود:"فإذا صلى أحدكم، فليقل: التحيات لله. . . إلخ".
والأصل في الأمر الوجوب.
وذهب الحنفية إلى: أنَّ القعود الأول والثاني، للتشهد واجب، ويجب بتركه سجود السهو.
وذهب مالك والشافعي وأتباعهما إلى: استحبابه دون وجوبه.
ودليلهم: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تركهما سهوًا، ولم يرجع لهما، ولم ينكر على الصحابة حين تابعوه على تركها.
والجواب عن هذا: أنَّ الرجوع إليهما إنَّما يجب إذا ذكر المصلي تركهما، قبل أن يستتم قائمًا، فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو؛ لما روى أبو داود (1036) عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا قام أحدكم في ركعتين، فلم يستتم قائمًا، فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو".
وهذا الحديث وإن كان في سنده "جابر الجعفي" وهو شيعيٌّ ، إلَاّ أنَّ الحديث لا يَمُتُّ إلى التشيع بشيء.
وعلى ضعفه بهذا الرجل الذي لم يرو أبو داود عنه إلَاّ هذه المرة، فإنَّه يؤيد الأدلة الأخر، والله أعلم.
***
251 -
وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: "سَمعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ، ولَمْ يَحْمَدِ اللهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: عَجلَ هَذَا، ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ والحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح؛ فقد جاء في السنن الثلاث من أربع روايات متفقة المعنى، وفي بعض ألفاظها اختلاف، وكلها روايات جيدة، إلَاّ إحدى روايتي الترمذي، ففيها رِشْدِينَ ابن سعد وهو ضعيف، ولكن ضعفه منغمر بتلك الأسانيد الثلاثة الجيدة.
قُلْتُ: رِشْدِين: بكسر الراء وسكون الشين المعجمة، ثم دال مهملة مكسورة، ثم ياء، آخره نون.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً في تشهد صلاته الأخير شرع يدعو ربه، قبل أن يحمد الله تعالى ويثني عليه، ويصلي على نبيه، فقال صلى الله عليه وسلم:"عجل هذا بدعائه"؛ حيث لم يقدم قبل دعائه هذين الأمرين الهامين.
(1) أحمد (6/ 18)، أبو داود (1481)، النسائي (3/ 44)، الترمذي (3477)، ابن حبان (1960)، الحاكم (1/ 230).
2 -
أرشد صلى الله عليه وسلم أمَّته إلى أدب الدعاء، فقال:"إذا صلَّى أحدكم، فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة"، ولم يقيده، والأفضل الدعاء بالمأثور.
3 -
في الحديث دليلٌ على تقديم الوسائل بين يدي المقاصد، وسورة الفاتحة مثالٌ كريمٌ في ذلك؛ فهي بدأت بتحميد الله وتمجيده، وإثبات الوحدانية والعبادة له، وإثبات ربوبيته بطلب إعانته، وذلك كله متضمن لإثبات رسالة نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم، ثم الشروع في الدعاء بعد هذا كله؛ لتكون وسيلة أمام الدعاء.
4 -
قال ابن القيم رحمه الله في "الجواب الكافي": الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، فإذا صادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الرب، وذلاًّ وتفرغًا ورِقَّة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورَفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثَنَّى بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قدَّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله، وألحَّ في الدعاء عليه في المسألة، ودعاه رغبةً ورهبةً، وتوسَّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدَّم بين يدي دعائه صدقة، فإنَّ هذا الدعاء لا يكاد يُردُّ أبدًا، لاسيَّما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّها مظنة الإجابة، ومن الآفات التي تمنع ترتيب أثر الدعاء عليه أن يستعجل العبد، ويستبطيء الإجابة، فيَدَع الدعاء.
***
252 -
وَعنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ بَشِيْرُ بْنُ سَعْدٍ: "يَا رَسُولَ الله، أمَرَنَا اللهُ أنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وبَارِكْ عَلَى مُحمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيْمَ فِي العَالَمِينَ، إنَّكَ حَميدٌ مَجِيْدٌ. والسَّلَامُ كَمَا عَلِمْتُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَزَادَ ابنُ خُزَيْمَةَ فِيه: "فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ، إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صلَاتِنَا؟ "(1).
ــ
* مفردات الحديث؛
- كيف: اسم مبني على الفتح، والغالب فيه أن يكون استفهامًا، كما هو هنا.
- نصلي عليك: الصلاة من المؤمنين لنبيهم دعاؤهم له؛ أي: طلب زيادة الثناء والكمال، الموجود أصل له بنص القرآن.
- آل: أصله: "أهل"، فأبدلت الهاء همزة، ثم الهمزة ألفًا، ويدل على ذلك تصغيره على "أُهَيْل".
- وبارك: أي: أثبت له دوام ما أعطيته من التشريف والكرامة، فهو مأخوذ من:"برك البعير"؛ إذا أناخ في موضعه ولزمه، كما أنَّ البركة تطلق على الزيادة، ولكن الأصل هو الأول.
- في العالمين: العالمون جمع "عالَم"، بفتح اللام، ويراد به: جميع الكائنات؛
(1) مسلم (405)، ابن خزيمة (1/ 351).
أي: أظهر الصلاة والبركة على محمَّد وآله في العالمين، كما أظهرتها على إبراهيم وآله في العالمين.
- حميد: فعيل من: "الحمْد"، يعني: المحمود، وهو أبلغ منه، والحميد: هو من حصل له من صفات الحمد أكملها ذاتًا وصفاتًا.
- مجيد: فعيل من: "المَجْدِ"، مبالغة من ماجد، وهو صفة الكمال في الشرف والكرم، يقال: مجُدَ الرجل -بضم الجيم وفتحها- يمجُد -بالضم- مجدًا، واعتبار المبالغة في صفات الله تعالى باعتبارها في نفسها، لا فيمن تعلَّقت به؛ لأنَّ صفات الله تعالى لا تختلف.
- إنَّك حميد مجيد: جملة كالتعليل لما قبلها، وحكمة الختم بهذين الاسمين الكريمين: أنَّ المطلوب تكريم الله تعالى لنبيه، وثناؤه عليه، والتنويهُ به، وزيادةُ تقريبه، ففيهما إشارة وتعليل للمطلوب؛ فإنَّ الحميد فاعل ما يستوجب به الحمد من النعم المتكاثرة المتوالية.
والمجيد كثير الإحسان إلى جميع خلقه الصالحين، ومن محامدك، وإمجادك، وإحسانك أن توجه صلواتك، وبركاتك، وترحمك على رسولك، وإلى آله.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى أمرنا أن نصلي عليك، بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} فكيف نصلي عليك؟ فسكت صلى الله عليه وسلم، حتى تمنَّوا أنَّ السائل لم يسأله، مخافة أن يكون كره السؤال، وشقَّ عليه.
وعند الطبراني: فسكت حتى جاءه الوحي، فقال:"قولوا: اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد. . ." إلى آخر الصلاة المذكورة في الحديث.
2 -
قولهم: "أمرَنَا الله أن نُصَلي عليك" دليل وجوب الصلاة، فإنَّ الأمر-أصوليًّا- يقتضي الوجوب، وقوله عليه الصلاة والسلام:"قولوا" أمر آخر أيضًا،
وسيأتي الخلاف في ذلك.
3 -
الحديث يدل على أنَّ المسؤول عنه هو كيفية الصلاة، لا حكمها، فإنَّ حكمها معروف لديهم من الآية الكريمة، وكذلك هم عارفون بلغتهم ولسانهم العربي أنَّ مطلق الأمر يكفي فيه أي صيغة كانت، وإنَّما أرادوا أن يبيِّن لهم الصيغة الكاملة المفصَّلة، ولذا بيَّن لهم عليه الصلاة والسلام الكيفية والصيغة المختارة في الصلاة صلى الله عليه وسلم.
4 -
استحباب هذه الصفة المذكورة في الصلاة، فرضًا كانت أو نافلة.
5 -
أنَّ من حق نبينا علينا أن نُصلي عليه وندعو له، فإنَّ هذا الدين العظيم وهذه المِنَّة الكبرى لم تصلنا من الله تعالى إلَاّ عن طريقه، وعلى يديه، فمن حقه علينا الصلاة، وصلاتنا وصلاة الملائكة عليه هي الدعاء له والثناء عليه، فمن صلَّى عليه مرَّة واحدة، صلَّى الله عليه بها عشرًا، فينبغي الإكثار من الصلاة عليه، لاسيَّما في يوم الجمعة، وأن تكون بالصيغ والألفاظ المشروعة.
6 -
أنَّ من أسباب علو شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع منازله ودرجاته دعاء أمته له، وصلاتهم وسلامهم عليه.
7 -
وردت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة وروايات متنوعة، وقد أجمع العلماء على جواز كل ثابت من الصلاة على نبينا، وجواز الإتيان به، ولكن في غير صلاة واحدة، وإنَّما يأتي في الصلاة بواحدة من تلك الصيغ؛ ليعمل بجميع النصوص، ويحيي روايات السنة كلها، ولكن المختار منها للإتيان به أكثر الأحيان هو الصيغة التي معنا.
8 -
شرح بعض الجمل:
- اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد: الصلاة من الله: الثناء على عبده في الملأ الأعلى؛ كما رواه البخاري عن أبي العالية.
- آل محمد "آل" بمعنى "أهل"، تأتي بمعنى الأتْبَاع، وبمعنى القرابة، والذي يحدد المعنى، هو السياق، ففي قوله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر] المراد بهم: الأتباع.
وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]، المراد بهم: القرابة.
- كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم: وهم إسحاق وإسماعيل، ومن ذرية إسماعيل محمَّد، عليهم جميعًا الصلاة والسلام، كما جاء في بعض الروايات:"وآل إبراهيم" ومن أجل هذا صلح تشبيه الصلاة على محمَّد وحده بالصلاة على إبراهيم، ومعه ابنه محمَّد صلى الله عليه وسلم، وعليهم أجمعين.
- إنَّك حميد: كثير المحامد المستحق لها على كل حال.
- مجيد: كثير الأمجاد، والمجد هذا كمال الشرف، والكرم، والصفات المحمودة.
- بارك على محمَّد: أي: ثبت له، وأدم عليه، وزده مما أعطيته من الشرف والكرامة؛ فإنَّك حميد مجيد.
* خلاف العلماء:
ذهب الشافعي وأحمد إلى: وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، سواء كانت الصلاة ذات تشهدين أو تشهد واحد، ولو تركت لم تصح الصلاة، مستدلين بالآية الكريمة، وقوله عليه الصلاة والسلام:"قُولُوا: اللهمَّ صلِّ. . . " إلخ.
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنَّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير سُنَّةٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم بعد أن ساق التشهد: "إذا فعلتَ ذلك فقد قضيت صلاتك".
والراجح: هو الأول، وقد بحثَ وجوب الصلاة على النَّبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير الإمامُ ابن القيم في كتابه "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام"، ورد قول الذين لم يروا وجوبه، بما لا مزيد عليه من الاستدلال عليهم.
253 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَشَهَّدَ أحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَعِذْ بِالله مِنْ أرْبعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنهِ المَسِيح الدَّجَّالِ". مُتَّفقٌ عليه.
وفي روايةٍ لِمُسْلِمٍ: "إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الأَخِيْرِ"(1)
ــ
* مفردات الحديث:
فليستعذ بِالله: أصل "أعوذ" بسكون العين وضم الواو، فنقلت الضمة إلى العين؛ لاستثقالها على الواو، فسكنت، ويقال: استعذت بالله، وعذت به معاذًا، أو عياذًا: اعتصمت واستجرت به؛ فالاستعاذة في كلام العرب، هي: الاستجارة والاعتصام.
- جهنَّم: هي النار، أو طبقة من طبقاتها، سميت بذلك؛ لجهمتها وظلامها، وبُعد قعرها.
- فتنة: عبارة عن الامتحان والابتلاء، في حال الحياة وعند الموت، وكثر استعمال الفتنة فيما آخره الاختيار للمكروه، ثم كثر استعماله بمعنى الإثم، والكفر، والقتال، ونحو ذلك.
- المحيا والممات: كلاهما مصدران ميميان؛ لأنَّ ما كان معتلاًّ من الثلاثي يأتي منه المصدر، واسما الزمان والمكان بلفظ واحد، والمراد: ما يعرض للإنسان في حال الحياة، وعند الوفاة، وفي القبر، فأمَّا الفتنة حال الحياة فهي ما يخشى من الزيغ والضلال، وما يتعرض له الإنسان من فتنة الدنيا وزينتها.
(1) البخاري (1377)، مسلم (588).
وأما فتنة الممات: فعند الاحتضار، وفي القبر عند سؤال الملكين، كما جاء في البخاري (86):"إنَّكم تفتنون في قبوركم مثل، أو قريبًا من فتنة الدجال".
- المسيح: بفتح الميم وكسر السين المهملة المخففة في آخره حاء مهملة، وسمي الدجال بالمسيح؛ لأنَّ الخير مسح منه، أو لأنَّ عينَه الواحدة ممسوحة، أو لأنَّه يمسح الأرض بمروره عليها.
وقد وردت الأخبار الصحيحة بخروجه آخر الزمان، علامة كبرى من علامات الساعة.
- الدجال: على وزن فعَّال، من:"الدَّجل" وهو الكذب، والتمويه، وخلط الحق بالباطل، فكل من ظهر على الناس يريد إضلالهم، وإغواءهم عن الحق فهو دجال، وأول من يدخل في ذلك أصحاب المبادىء الهدَّامة، والمذاهب الباطلة، والاعتقادات الفاسدة، الذين يقدمونها للناس ولشعوبهم باسم الإصلاح، فهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} [العنكبوت].
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعية التشهد الأخير في الصلاة، وتقدم أنَّ الصحيح وجوبه، ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
2 -
استحباب الدعاء بعد التشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الجلسة، التي هي دبر الصلاة.
قال شيخ الإسلام: الدعاء آخر الصلاة قبل الخروج منها مشروع بالسنة المستفيضة، وإجماع المسلمين، وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنَّما فعلها عليه السلام فيها، وأمر بها فيها، ما دام مقبلاً على ربه يناجيه، فلا ينبغي أن يترك سؤال مولاه في حال مناجاته، والقرب منه.
3 -
يستحب الدعاء بهذا الماثور، والتعوذ بالله تعالى من الشرور الأربع، فإنَّها أساس البلاء والشر؛ فإنَّ الشر نوعان:
إما عذاب البرزخ، وإما عذاب في الآخرة، وأسبابه فتنة المحيا، أو فتنة الممات، أو فتنة المسيح الدجال.
والدعاء بهذا مندوب إليه بالإجماع، ولم يوجبه إلَاّ طاوس والظاهرية.
4 -
عذاب جهنم: هو عذاب في شدَّته، واستمراره لا يتصور ولا يتخيل؛ لأنَّه فوق الطاقة، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)} [غافر]، وهو مستمر في شدَّته.
5 -
أن هذا دعاء خاص بالتشهد الأخير؛ لِما في رواية مسلم: "إذَا فرغ أحدكم من التشهد الأخير. . . "، ولا يقال إلَاّ بعد التشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
6 -
القعود الأخير في الصلاة رتِّب فيه الذكر والدعاء أحسن ترتيب، ترتيبًا يوافق آداب الدعاء، فبدىء بالثناء على الله تعالى، وذكر محامده، ثم بالصلاة والسلام على نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم، ثم الدعاء، والدعاء لا يوصل إلى ثمرته إلَاّ بهذه المقدمات.
قال شيخ الإسلام: شرع للعبد استعطاف ربه أمام الدعاء بالتحيات لله، ثم بالشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، ثم بالصلاة على رسوله، ثم قيل له: تخيَّر من الدعاء أحبه إليك، وليكن بخشوع وأدب؛ فإنَّه لا يستجاب لدعاء من قلب غافلٍ.
7 -
شرح بعض الألفاظ:
- أعوذ بالله من عذاب جهنَّم: التعوذ هو: اللجوء، والاعتصام، والاحتماء، وجهنَّم: أحد طبقات النار، سميت بذلك؛ لجهومتها، وظلامها، وبعد قعرها.
- ومن عذاب القبر: تواترت الأخبار بثبوت عذاب القبر، ونعيمه، فهو
من عقيدة أهل السنة والجماعة.
وقال الشيخ تقي الدين: إنَّه يقع على الأبدان والأرواح جميعًا، وقد ينفرد أحدهما، وقد أخفى الله تعالى عذاب القبر عن الإنس والجن، لِحِكمٍ بالغة، فلو ظهر عذابه، لحصل ما يلي:
أولاً: لا يكون الإيمان بالعذاب والنعيم من الإيمان بالغيب، وإنَّما كان مشاهدة، فبطل الاختبار، والامتحان، والفضل بالإيمان بالغيب.
ثانيًا: لصار في ذلك فضيحة، وخزي للميت، ولأهله، في حال الحياة الدنيا.
ثالثًا: لو اطَّلع الناس على شقاء الميت لما تدافنوا، ولَنَفَر منهم الأحياءُ، ولكنَّ الله تعالى أخفاه حكمةً ورحمةً.
أمَّا العذاب؛ فثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع.
- ومن فتنة المحيا: الفتنة هي الابتلاء، والامتحان، والاختبار، وفتنة الحياة: هي ما يعرض للإنسان، من مِحنٍ، وفتنٍ، وابتلاءٍ بالشبهات، والشهوات وغيرها، وأعظمها سوء الخاتمة عند الموت.
- الممات: إما أن تكون الفتنة عند موته، وخروجه من الدنيا، وإما أن تكون في قبره؛ فقد جاء في البخاري (86):"إنَّكم تفتنون في قبوركم مثل، أو قريبًا من فتنة الدجال"، ومنه سؤال الملكين.
- ومن فتنة المسيح الدجال: سمي مسيحًا؛ إمَّا لأنَّه يجوب الأرض طولاً وعرضًا، وإما لأنَّه أعور بمسح عينه اليمنى، وسمي دجالاً؛ لخداعه وكذبه، وتمويهه على الناس، وتلبيسه عليهم، وتغطيته الحق بباطله.
8 -
قال السبكي: ظهرت العناية بالدعاء بهذه الأمور؛ حيث أُمرنا بها في كل صلاةٍ، وهي حقيقة بذلك؛ لعظم الأمر فيها، وشدَّة البلاء في وقوعها.
9 -
استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور، مع أنَّه معاذٌ منها قطعًا، فائدته إظهار
الخضوع والاستكانة، والعبودية والافتقار، وليقتدي به غيره في ذلك، ويشرع لأمته.
10 -
إثبات خروج المسيح الدجال، الذي هو أحد علامات الساعة الكبار، يخرج ويمكث في الأرض، ويفسد فيها، ويخدع الناس، ويغوي من اتَّبعه منهم، حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيقتله.
***
254 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه: "أنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كثَيِرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وارْحَمْنِي، إِنَّك أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيْمُ" مُتَّفقٌ عَلَيهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أدعو به: جملة فعلية محلها النصب؛ لأنَّها صفة لقوله: "دعاء" الذي هو منصوب على أنَّه مفعول ثانٍ لقوله: "علِّمني".
- في صلاتي: ظاهره عموم الصلاة، ولكن المراد به: حالة القعود بعد التشهد، وقبل السلام.
- ظلمًا كثيرًا: بالثاء المثلثة، ويروى بالباء الموحدة؛ كما في مسلم:
"ولا يغفر الذنوب إلَاّ أنتَ": جملة معترضة بين قوله: "ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا"، وبين قوله:"فاغفر لي مغفرة من عندك"، ويصلح أن تكون جملة حالية.
- مغفرة: إشارة إلى مزيد ذلك التعظيم؛ لأنَّ ما يكون عنده لا يحيط به وصف الواصفين.
- إنَّك أنت: ضمير منفصل، وفائدته التوكيد، والحصر، والتمييز بين الخبر والصفة، يقال:"زيدٌ الفاضل" فيُحتمل في "الفاضل": الخبر، والصفة، وأما:"زيد هو الفاضل" فلا يحتمل إلَاّ الخبر، وهذا الضمير لا محلَّ له من الإعراب، ولذا لم يغير صيغة:{إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)} [الشعراء].
- الغفور الرحيم: لفٌّ ونَشر، مرتب مع:"اغفر لي وارحمني" قبله.
(1) البخاري (834)، مسلم (2705).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
من فقه الصديق رضي الله عنه أنَّه علِمَ أنَّ الصلاة هي أقرب صلة بين العبد وبين ربه، وأنَّها إحدى الأحوال التي يستجاب فيها الدعاء، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه أنفع دعاء، وأنسب دعاء في هذا المقام، فعلَّمه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء، الذي يرفع صاحبه إلى أعلى الدرجات، وعلَّمه الوسيلة القريبة التي تستوجب قبول هذا الدعاء.
2 -
قال في "الشرح": الحديث دليل على شرعية الدعاء في الصلاة على الإطلاق، من غير تعيين محل له، ومن محلاته بعد التشهد والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله:"فليختر من الدعاء ما شاء".
3 -
في الحديث اعتراف العبد بذنبه من تقصيره بالواجبات، أو ارتكابه المنهيات، وفيه التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى، عند طلب الحاجات، واستدفاع المكروهات، وأنَّ الداعي يأتي من صفات الله تعالى بما يناسب المقام؛ فلفظ:"الغفور الرحيم" عند طلب المغفرة والرحمة، وختم الآيات الكريمة بأسماء الله مناسبة غاية المناسبة؛ لما في الآية من معنًى كريمٍ، وكذلك الأدعية النبوية مختومة بأسماء الله تعالى بما يناسبها.
4 -
وفي الحديث الترغيب في طلب العلم، وسؤال العلماء، لا سيَّما في المسائل الهامة، والأشياء المطلوبة.
5 -
وفيه وجوب نصح العالم المتعلم، وتوجيهه إلى ما هو أنفع له، وإعطاؤه قواعد العلم وأصول الأحكام؛ لتكون الفائدة أتم وأكمل.
6 -
وردت أدعية أُخر يستحب الإتيان بها قبيل السلام من الصلاة، منها:"ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة. . . إلخ"[رواه ابن أبي شيبة (1/ 264) عن ابن مسعود موقوفًا].
ومنها: "اللَّهمَّ اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت. . . " [رواه
أبو داود (760)].
ومنها وصيته عليه السلام لمعاذ: "لا تدعنَّ دبر كل صلاة أن تقول: اللَّهم أعنِّي على ذِكرك، وشكرك، وحسن عبادتك"[رواه أبو داود (1522)].
7 -
ولا يتعيَّن دعاء خاص؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ ليتخيَّر من الدعاء أعجبه إليه"، ولكن الدعاء الوارد المأثور أفضل من غيره، والله أعلم.
8 -
ظلم الإنسان يكون في أحد أمرين:
إما تقصير في الواجبات، أو تعدَّ على المحرمات، أو بهما جميعًا.
9 -
قوله: "ولا يغفر الذنوب إلَاّ أنت" استفهام بمعنى الإنكار، ومعناه: أنَّ الخلق جميعًا، لا يستطيعون أن يغفروا زلة واحدة من الزلَاّت، وإنَّما هذا إلى الله تعالى، فلا يطلب إلَاّ منه جلَّ وعلا.
10 -
"اغفر لي وارحمني": المغفرة فيها زوال المكروه، والرحمة فيها حصول المطلوب.
11 -
قال ابن الملقن: ما أحسن هذا الترتيب؛ فإنَّه قدم اعترافه بالذنب، ثم بالوحدانية، ثم سأل المغفرة؛ لأنَّ الاعتراف أقرب إلى العفو، والثناء على المسؤول أقرب لقبول مسألته.
***
255 -
وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِيْنِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وَبركَاتُهُ، وَعَنْ شِمَالِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ الله [وَبركَاتُهُ] ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإسْنَادٍ صَحيحٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح؛ أخرجه أبو داود بسند صحيح، وقد صحَّحه عبدالحق، والنووي، وابن حجر، وإسناد رجاله ثقات منهم رجال الصحيح.
قال الألباني: الأَوْلى عدم المداومة على زيادة "وبركاته"؛ لكونها لم تأت في أحاديث السلام الأُخر.
قال الشيخ المباركفوري: اعلم أنَّ أكثر نسخ أبي داود خالية من زيادة "وبركاته" مع التسليمة الثانية، وإنَّما هي مع التسليمة الأولى فقط، حتى توهم البعض أنَّ الحافظ ابن حجر وهم في نقل هذه الزيادة مع التسليمة الثانية، وإنَّما الواهم هو ذلك البعض؛ فإنَّ هذه الزيادة مع التسمليمتين موجودة في بعض النسخ الصحيحة المعتمد عليها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الصلاة عرفها العلماء شرعًا: بأنَّها أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، قال صلى الله عليه وسلم:"وتحليلها التسليم". [رواه أحمد (1009)].
2 -
صيغة التسليم: "السلام عليكم ورحمة الله" مرتان، واحدة عن اليمين،
(1) أبو داود (997).
والأخرى عن الشمال، وسيأتي بحث "وبركاته" إن شاء الله تعالى.
3 -
هذا هو السلام الذي كان يقوله صلى الله عليه وسلم، ويخرج به من الصلاة، ولم ينقل عنه خلافه، وقد قال:"صلُّوا كما رأيتموني أصلي"[رواه البخاري (605)]، وعلى المصلي أن ينوي به الخروج من الصلاة استحبابًا، وإن لم ينو جاز، والأولى كافية.
4 -
الابتداء باليمين بالسلام، والالتفات في التسليمتين، كل ذلك سنة، ليس بواجب.
5 -
زيادة "وبركاته" قال في: "شرح الإقناع": وإن زاد "وبركاته" جاز؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، كما رواه أبو داود.
وقال الألباني: وكان أحيانًا يزيد في التسليمة الأولى: "وبركاته"[رواه أبو داود بسند صحيح]، فالأولى الإتيان بهذه الزيادة أحيانًا؛ لأنَّها لم ترد في أحاديث أُخر، فثبت أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليها.
6 -
السلام. . . إلخ: دعاء بالسلامة من النقائص، والعيوب، والآفات، وسؤال الرحمة للحاضرين من المصلين، والملائكة الكرام الحاضرين، فهو دعاء مناسب، ينبغي للمصلي أن يستحضر هذه المعاني، وأن يستحضر أدب الدعاء.
7 -
قال في "الروض وحاشيته": "ويكره للإمام إطالة قعوده بعد السلام مستقبل القبلة، لما روى مسلم (592) عن عائشة قالت: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم، لم يقعد إلَاّ بمقدار ما يقول: اللَّهمَّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"؛ لأن في انحرافه إلى المأمومين إعلامًا بأنه قد انتهى من صلاته، فلا ينتظر".
وحكى النووي وغيره: أنَّ عادته صلى الله عليه وسلم إذا انصرف استقبل المأمومين جميعهم بوجهه.
8 -
قال الشيخ تقي الدين: المصافحة بعد السلام من الصلاة لا أصل لها، لا بنص ولا عمل من الشارع، ولا من الصحابة، ولو كانت مشروعة لتواترت، ولكان السابقون أحق بها، أما إذا كانت أحيانًا؛ لكونه لقيه عقب الصلاة، لا لأجل الصلاة فجائز.
* خلاف العلماء
أجمع العلماء على مشروعية السلام في الصلاة، والخروج منها به، واختلفوا في حكمه:
فذهب المالكية والشافعية إلى: وجوب التسليمة الأولى، وأما التسليمة الثانية فسنة ليست بواجبه لديهم.
وذهب الحنفية إلى: أنَّه يجب لفظ "السلام" مرتين، في اليمين واليسار، دون "عليكم ورحمة الله" فسنة، وعلى هذا فهو واجب، وليس بفرض، فيجوز الخروج من الصلاة بسلام أو كلام، أو غير ذلك مما ينافي الصلاة، لكن مع الكراهة التحريمية، وإذا جازت الصلاة مع الكراهة التحريمية فتجب إعادتها.
والمشهور عند الحنابلة: أنَّ التسليمتين فرضان، فلا تكفي الأولى عن الثانية إلَاّ في صلاة الجنازة، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، فيخرج منها بتسليمة واحدة، لأنَّ هذه العبادات مبنية على التخفيف، فاكتفي بتسليمة، ولو سلم الثانية جاز.
قال العقيلي: الأسانيد ثابتة في حديث ابن مسعود في التسليمتين، ولا يصح عنه تسليمة واحدة.
ونصَّ الطحاوىُّ وغيره على تواتر التسليمتين عنه صلى الله عليه وسلم.
وقال البغوي وغيره: التسليمة الثانية زيادة من ثقات يجب قبولها، والواحدة غير ثابتة عن أهل النقل.
واستدلَّ الشافعية والمالكية على أنَّ الفرض هو تسليمة واحدة: بعموم
قوله: "وتحليلها التسليم"[رواه أبو داود (61)].
وأقله: "السلام عليكم" قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أنَّ صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة.
أما دليل الحنفية على أنَّه ليس بفرض: فحديث ابن مسعود: "إذا قضيت هذا، تمت صلاتك"[رواه أبو داود (856)، والترمذي (302)].
أما دليل الحنابلة: فما رواه أبو داود (996)، والنسائي (1319) عن ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، ويلتفت حتى يرى بياض خده".
وأجابوا عن حديث ابن مسعود: ". . . تمت صلاتك": بأنَّ هذا التعبير معناه: أنَّك وصلت إلى نهايتها، وهو السلام، الذي به تخرج منها.
***
256 -
وَعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ". مُتَّفقُّ عَليْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- دُبُر: -بضم الدال المهملة، وضم الباء الموحدة، ويجوز سكونها-: ضد القبل، فالقبل: وجه كل شيء، والدبر: عقبه ومؤخره.
- صلاة مكتوبة: أي: فريضة، وجاءت مطلقة في إحدى روايات البخاري:"كان يقولها في دبر كل صلاة"، والمطلق يحمل على المقيد.
- لا إله إلَاّ الله: "لا" نافية للجنس، "إله" اسمها، أما خبرها فمحذوف، تقديره "حق"، واسم الجلالة بدل منه، وهي كلمة التوحيد بالإجماع، وهي مشتملة على النفي والإثبات؛ فقوله:"لا إله" نفي للألوهية، و"إلَاّ الله" تأكيد لإثبات الألوهية لله تعالى، وبهاتين الصفتين صارت هذه هي كلمة التوحيد والشهادة.
- وحدَه: منصوب على الحال، تقديره: ينفرد وحده، وأوَّلناه هكذا؛ لأنَّ الحال لا تكون إلَاّ نكرة.
- لا شريك له: تصلح أن تكون تأكيدًا لـ"وحده"؛ لأنَّه المتَّصف بالوحدانية، وأن تكون توكيدًا لنفي الشريك، فكلمة الإخلاص تضمنت إثباتًا ونفيًا.
- له الملك: بضم الميم؛ ليعم، ويكون له جل وعلا مطلقُ الملكوت.
(1) رواه البخاري (844)، مسلم (593).
- وله الحمد: جميع أصناف المحامد؛ بناء على أنَّ الألف واللام لاستغراق الجنس.
- وهو على كل شيء قدير: من باب التتميم والتكميل؛ لأنَّ الله تعالى لما كانت لى الوحدانية، وله الملك، وله الحمد، فبالضرورة يكون قادرًا على كل شيء، وذكره يكون للتتميم والتكميل.
- القدير: اسم من أسماء الله، وصفة من صفاته تعالى، فله القدرة الكاملة الباهرة في السموات والأرض.
- لما أعطيت، ولما منعت: أي: الذي أعطيته، والذى منعته بِحِكمتك.
- الجَدّ: بالفتح في جميع الروايات، ومعناه: الغنى.
- منك: متعلق بقوله: "ينفع"، ولا يصلح أن يكون متعلقًا بـ"الجد"؛ قاله ابن دقيق العيد.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب هذا الذكر بعد الصلوات الخمس المكتوبات كلها، ويكون بعد السلام مباشرة؛ فإنَّ دبر الشيء ما يليه، وظاهره يأتي به مرَّة واحدة بعد الصلاة، ويأتي تمام البحث.
2 -
شُرِعَ هذا الذكر الجليل بعد الصلوات المكتوبات التي هي أفضل الطاعات؛ لما اشتمل عليه من إثبات الوحدانية لله تعالى، ونفي الشريك له في ذاته وصفاته وعبادته، وإثبات كمال القدرة، وشمولها له وحده، ثم إثبات التصرف له وحده من العطاء والمنع، وأنَّ أي مخلوق لا ينفعه جده، ولا حظه، ولا غناه، عن الله تعالى، فهو صاحب الملكوت والسلطان، فإذا عرف العبد ذلك تعلَّق قلبه بربه تعالى، وصرف نظره عن غيره.
3 -
ترتيب هذا الذكر المشروع بعد الصلوات الخمس المكتوبات-: أن يستغفر الله ثلاثًا، ثم يقول:"اللَّهُمَّ أنت السلام ومنك السلام. . . إلخ"، ثم يأتي بذكر
هذا الحديث، وهو أن يقول:"لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك. . . " مرَّة واحدة، إلَاّ في المغرب والفجر فعشر مرات، ثم يقول:"سبحان الله" و"الحمد لله" و"الله أكبر" ثلاثًا وثلاثين مرة، فتكون تسعة وتسعين، وتكمل المائة: بـ"لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له. . . ".
ثم يقرأ آية الكرسي، والإخلاص، والمعوذتين، ثم يقول في المغرب، والفجر خاصة:"اللَّهمَّ أجرني من النار" سبع مرات.
فهذا الذكر ورد في فضله نصوص عظيمة معروفة، لا يتسع المقام لنقلها؛ بعد الذكر يدعو مخلصًا في دعائه، لأنَّ الدعاء هو العبادة، والإخلاص ركنها.
قال الشيخ تقي الدين: إذا لم يخلص الداعي في الدعاء، ولم يتجنَّب الحرام، تبعد إجابته، إلَاّ مضطرًا مظلومًا.
والحاصل أنَّه عقب أذكار الصلاة، يستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو بما شاء؛ فإنَّ الدعاء عقب هذه العبادة من أحرى أوقات الإجابة، لا سيَّما بعد ذكر الله، وحمده، والصلاة على نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم.
***
257 -
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: "انَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبر كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- يتعوذ: عاذ بالله يعوذ عوذًا وعياذًا: لاذ والتجأ واعتصم، تقول: أَعُوذُ بالله من الشيطان؛ أي: التجأ واعتصم به.
- البخل: يقال: بخل الرجل يبخل بخلاً، من بابي كرم وعلم، والاسم: البخل.
فالبخل -بضم الخاء وإسكانها-: هو الإمساك والشح، وهو ضد الجود والسخاء والكرم.
وقيل: البخل هو نفس المنع، والشح حالة نفسية تقتضي المنع. والبخل في الشرع: منع الواجب. واسم الفاعل: "بخيل"، والجمع:"بخلاء".
- الجبن: يقال: جبن الرجل يجبن جبنًا، من بابي نصر وكرم، والجبان جمعه: جبناء، وهو الهيوب للأشياء، فلا يقدم عليها.
قال في "المصباح": هو جبان؛ أي: ضعيف القلب.
- أُردّ: بالبناء للمجهول، يقال: رددت الشيء: أرجعته، وأعدته إلى ما كان عليه.
- أرذل: يقال: رذل رذلاً: كان رذيلاً.
والرذيل: الخسيس، أو الرديء من كل شيء، جمعه: أرذال ورذلاء،
(1) البخارى (2822).
والأرذل: اسم تفضيل من الرذالة؛ بمعنى الأردأ.
- الفتنة: جمعها: فتن، يقال: فتنه يفتنه فتنًا وفتونًا، من باب ضرب، استماله، وفُتن في دينه: مال عنه.
وأصل الفتنة: الاختبار؛ لتمييز الخبيث من الطيب، وللفتنة معانٍ كثيرة، وهي هنا إغواء المسلم عن دينه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
فيه استحباب الدعاء دبر الصلوات المكتوبات؛ لأنَّ الدعاء فيه مظنة الإجابة، والصلاة عند الإطلاق يراد بها الصلوات الخمس المفروضة.
2 -
فيه استحباب الاستعاذة بالله تعالى من هذه الأخلاق الذميمة، وهي البخل، والجُبْن، والخوف، وفتنة الدنيا، وعذاب القبر، فهذه الأمور إما عذاب، وإما أسباب قوية تجلب العذاب.
3 -
مساوىء هذه الأخلاق هي:
الجُبنْ: يمنع صاحبه من الإقدام في المواطن الشريفة، من بذل النفس في الجهاد في سبيل الله، والتأخر عن القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونحو ذلك من المواقف التي فيها عز الإسلام والمسلمين.
البخل: يمنع صاحبه من أداء الزكاة المفروضة، والنفقات الواجبة، والمستحبة، وبذل الخير، وصلة الأقارب، والجيران، وأصحاب الحقوق.
أرذل العمر: هو أردؤه وأخسه، حينما تضعف قوى الإنسان العقلية، ويكون بمنزلة الطفل والمجنون، من سخف العقل وقلَّة الإدراك.
فتنة الدنيا: الانهماك في شهواتها وملذاتها، وجمعها من طرق الحلال والحرام، والافتتان بها؛ بحيث تصده عن ذكر الله تعالى، وتلهيه عما فيه نجاته وسعادته، قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15].
عذاب القبر: صحت الآثار أنَّ الإنسان إما أن يعذب. في قبره، وإما أن
ينعَّم، فالقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حُفرة من حفر النار، وهو أوَّل منازل الآخرة.
فهذه دعوات طيبات، واستعاذات مستحبات، يحسن الاستعاذة بها في المواطن التي حري للعبد أن يستجاب له فيها، والله سميع مجيب، وهي لم تذكر في حديث المسيء، ولكن ثبتت بأدلة أخر، والله أعلم.
4 -
قوله: "دبر كل صلاة" يحتمل أن يكون بعد التشهد الأخير، وقبل السلام، ويحتمل أن يكون بعد السلام؛ فدبر الشيء ضد قبله وضد آخره.
وصنيع المؤلف في ترتيب الأحاديث، يُفهم منه أنَّ مشروعية هذا الدعاء يكون بعد السلام.
أما شيخ الإسلام: فذهب إلى أنَّ مشروعية الدعاء وفضيلته تكون بعد التشهد، وقبل السلام، فقد قال: والدعاء في آخر الصلاة قبل الخروج منها مشروع بالسنة المستفيضة، وإجماع المسلمين، فقد كان غالب دعائه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد قبل السلام، وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة، فإنَّه فعلها فيها، وأمَرَ بها فيها، وهو اللائق بحالة المصلي، فإنَّه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة، فلا ينبغي للعبد أن يترك سؤال مولاه في حالة مناجاته، والقرب منه، والإقبال عليه، وآكده قرب إنهاء هذه العبادة الجليلة التي فيها شرع له استعطافه بكلمات التحيَّة، ثم تبعها بالصلاة على من نالت أمته هذه النعمة على يديه، ثم قيل له: تخيَّر من الدعاء أحبه إليك.
فهذا الحق الذي عليك، وهذا الحق الذي لك، وليكن بأدبٍ، وخشوعٍ، وحضور قلبٍ، ورغبةٍ، ورهبةٍ؛ فإنَّه لا يستجاب الدعاء من قلب غافل. اهـ.
قلتُ: دبر الصلاة يراد به ما بعد السلام، كما سيأتي في حديث أبي هريرة قريبًا برقم (259)، ولكن الراجح أنَّ المراد بالدبر -هنا- هو: ما قبل السلام، والله أعلم.
258 -
وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتهِ اسْتَغْفَرَ اللهَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ." روَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- اللَّهمَّ أنت السلام: السالم من التغيرات والآفات، والسالم من جميع النقائص، ومن كل ما ينافي كماله، أو معطي السلامة لمن يشاء.
- ومنك السلام: أي: منك يُرجى السلام، ويستوهب السلام، فمبدؤه منك يا رب.
- السلام: يقال: سلم يسلم سلامًا، من باب علم، إذا نجا وبرىء، والسلام: مصدر من "سَلِمَ" بالتخفيف، وهو التحيَّة في الإسلام، فهو دعاء لهم بالسلامة من الآفات في الدين، والعقل، والنفس.
- الجلال: يقال: جلَّ يجل جلالاً: عظم قدرًا وشأنًا، وضد صغر ودقّ، فهو جليل وجلال.
والجلال: التناهي في عظم القدر والشأن.
- يا ذا الجلال والإكرام: فسر بعضهم الجلال بالصفات الجليلة، فهو يجل عن النقص، والعيب، ومشابهة المخلوقين، والإكرام بالصفات الثبوتية، فهو مقابل له.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تقدم بيان الأذكار وترتيبها بعد الصلوات الخمس المفروضات، وهذا
(1) مسلم (591).
الحديث يؤخذ منه الدلالة على أنَّ المصلي -بعد الفراغ من الصلاة- يقول: "أستغفر الله" ثلاث مرات.
ثم يقول: "اللَّهمَّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام".
2 -
المراد بالانصراف منها هنا "السلام"، وبيانه سيأتي إن شاء الله.
3 -
قيل لأحد رواة هذا الحديث، وهو الأوزاعي: كيف الاستغفار؟ فقال: يقول: "أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله".
4 -
الاستغفار هو طلب المغفرة، وطلبها لا يكون إلَاّ من شعور بالتقصير، فالاستغفار إشارة منه إلى أنَّه لم يقم بحق عبادة ربِّه، لما يعرض له من الوساوس والخواطر والمنقصات، فشرع له الاستغفار تكميلاً لهذا النقص، واعترافًا بالعجز والتقصير.
5 -
فيه إثبات اسم السلام لله تعالى وصفته، فهو السالم من كل نقص وعيب، وهو واهب السلامة لعباده من شرور الدنيا والآخرة.
6 -
أما الجلال والإكرام فهما من صفات الغنى المطلق، والفضل التام، الثابتة والمستحقة لله تعالى، وهو جلَّ ذكره وفضله يكرم عباده المتَّقين، وينعِم على عباده المخلصين.
وذو الجلال والإكرام اسمان عظيمان، وصفتان كريمتان، قال صلى الله عليه وسلم:"ألِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام"، ومرَّ صلى الله عليه وسلم برجل يصلي ويقول: يا ذا الجلال والإكرام قال: "استُجيب لَك".
7 -
يستحب في حق الإمام أن يبقى بعد السلام متَّجهًا إلى القبلة، حتى يفرغ من هذا الذكر، الذي في هذا الحديث.
قال في "شرح الإقناع": ويستحب للإمام ألا يطيل الجلوس مستقبل القبلة؛ لحديث عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم، لم يقعد إلَاّ مقدار ما
يقول: اللَّهمَّ أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". [رواه مسلم (592)].
8 -
قال شيخ الإسلام: الإسرار بالذكر، والدعاء، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل مطلقًا، إلَاّ لمعارض راجح.
أما مراءاة الناس في العبادات؛ كالصلاة، والصيام، وقراءة القرآن، والذكر -فمن أعظم الدنوب، ولا يكفي أن يبطل عمله، بل هو مستحق للعذاب.
***
259 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ سَبَحَّ اللهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِيْنَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِيْنَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِيْنَ، فَتِلْكَ تِسْعٌ وتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ المِائه: لَا إلَهَ إلَاّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٌ -غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وَلَوْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْر". روَاهُ مُسْلِم (1).
وفَي رِوَايَةٍ أُخْرَى: "أَنَّ التَّكْبِيْرَ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ"(2).
ــ
* مفردات الحديث:
- دبر كل صلاة: منصوب على الظرفية، وهو -بضم الدال- نقيض القبل، وهو من كل شيء عقبه ومؤخره.
- سبحان الله: "سبحان" اسم مصدر منصوب بفعل محذوف، تقديره: سبَّحت الله، ولا يستعمل غالبًا إلَاّ مضافًا، والمصدر هو "التسبيح"، وهو التنزيه، وهو التخلية التي تكون مقدمة على الحمد، الذي هو التحلية.
- حمِد الله: الحمد: هو الثناء على الله بصفات الكمال الوجودية، فهي تحلية بكماله، بعد تنزيهه عن صفات النقص السلبية.
- لا إله إلَاّ الله: "لا" نافية لكل معبود بحقٍّ، وهذه الجملة هي أفضل الذكر، فالإيمان لا يصح إلَاّ بها، وهي كلمة التوحيد، وكلمة الإخلاص.
(1) مسلم (597).
(2)
مسلم (596) من حديث كعب بن عجرة.
- له الملك: المطلق الحقيقي الدائم، الذي لا انتهاء لوجوده، ثابت له لا لغيره، كما يدل على ذلك تقديم الجار والمجرور.
- له الحمد: فالحمد: هو الوصف بالجميل الاختياري على قصد التعظيم، ثابت له تعالى، وتقديم المعمول يفيد الحصر.
- الله أكبر: أي: أجلُّ وأعظم من كل ما عداه، وحُذِفَ المعمول للتعميم.
- زبد البحر: بفتحتين آخره دال، وزبد البحر: رغوته عند هيجانه؛ أي: في الكثرة، قال ابن حجر: هو كناية عن المبالغة في الكثرة.
- وحده لا شريك له: تأكيد لمعنى "لا إله إلَاّ الله".
- وهو على كل شيء قدير: صاحب القدرة العامة الشاملة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب هذا الذكر بعد الصلوات الخمس المكتوبة.
قال في "فتح الباري": حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد رفع في حديث كعب بن عجرة عند مسلم على التقيد بالمكتوبة، وكأنَّهم حملوا المطلقات عليها.
2 -
إذن لا يستحب التقيد به في غير الصلوات المكتوبات، ومنها الجمعة، ولو كانت صلاة جامعة؛ كالعيدين، والكسوف، والاستسقاء، والتراويح، وقوفًا عند الوارد.
3 -
ورد الإتيان بهذا الذكر بأن يقال: "سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر".
وورد بأن يقال: "سبحان الله" ثلاثًا وثلاثين، ثم يقال:"الحمد لله" كذلك، و"الله أكبر" كذلك، والأفضل فعل هذا مرَّة، وفعل هذا مرَّة؛ ليحصل العمل بالسنة؛ فإنَّ القاعدة أنَّ العبادات الواردة على وجوه متنوعة، ينبغي أن تفعل على كل وجه؛ ليحصل العمل بالسنة كلها.
4 -
ترتيب هذه الجمل على هذه الصيغة بغاية المناسبة:
"فسبحان الله" تنزيه عن كل نقص وعيب، "والحمد لله" وصفه تعالى بجميع المحامد، والتنزيه والتخلية تكون قبل التحلية.
ثم إذا وصف العبد ربه بالنزاهة عن النقص والعيب، ووصفه بالكمال، جاءت صفات التكبير والتعظيم المستحقة لمن تنزه عن العيوب، ووفى بالمحامد.
5 -
قوله: "غفرت خطاياه" ظاهر الحديث العموم، ولكن جمهور العلماء يقولون: إنَّ جميع الأحاديث الواردة بمغفرة الذنوب، أو تكفير السيئات من أجل القيام بالأعمال الصالحة، مقيَّدة باجتناب الكبائر؛ لقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وقوله صلى الله عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهنَّ، ما اجتنبت الكبائر". [رواه مسلم (233)].
فإذا كانت هذه الفرائض العظام -ومنها الصلوات الخمس- لا تقوى على تكفير الكبائر، فما دونها من فضائل الأعمال من باب أولى، وقال النووي: إن لم تكن صغائر رجي التخفيف من الكبائر، فإن لم تكن رفعت له به درجات.
أما شيخ الإسلام فقال: إنَّ إطلاق التكفير بالعمرة متناول الكبائر.
6 -
يقال هذا الذكر بعد الفراغ من الصلاة المكتوبة، وكما ورد في الأخبار، والظاهر أنَّ المراد أن يقول ذلك وهو قاعد، ولو قاله بعد قيامه وفي ذهابه، فالظاهر أنَّه مصيب للسُّنَّة أيضًا؛ إذ لا تحجير في ذلك، ولو شُغِلَ عن ذلك ثم تذكره فذكره، فالظاهر حصول أجره الخاص له أيضًا، إذا كان قريبًا لعذر.
أما لو تركه عمدًا، ثم استدركه بعد زمن طويل، فالظاهر فوات أجره الخاص، وبقاء أجر الذكر المطلق له.
7 -
أنَّ هذا الذكر سببٌ لمغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، والمراد: تكفير صغائر الذنوب، أما الكبائر فلا يكفرها إلَاّ التوبة منها، قال تعالى: {إِنْ
تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31].
قال شيخ الإسلام: الذكر من أفضل العبادات، ولذا قالت عائشة:"الذكر بعد الانصراف من الصلاة هو مثل مسح المرآة بعد صقالها؛ فإنَّ الصلاة تصقل القلب".
والذكر عقب الصلاة ليس بواجب، فمن أراد أن ينصرف فلا ينكر عليه، ولكن ينبغي للمأموم ألا يقوم حتى ينصرف الإمام عن القبلة، ولا ينبغي للإمام أن يقعد بعد السلام مستقبل القبلة، إلَاّ بمقدار ما يستغفر ثلاثًا، ويقول:"اللَّهمَّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام".
8 -
عَدُّ التسبيح بالأصابع سُنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم للنساء:"سبحن، واعقدن بالأصابع؛ فإنَّهنَّ مسؤولات مستنطقات"[رواه أحمد (26549) والترمذي (3583)].
9 -
جاء في بعض روايات الصحيحين: "أنَّ تمام المائة هي: لا إله إلَاّ الله
…
" إلخ، وجاء في بعضها: "أنَّ التكبير أربع وثلاثون"، وفي رواية لمسلم من هذا الحديث: "تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، إحدى عشرة، وإحدى عشرة، واحدى عشرة؛ فذلك كله ثلاث وثلاثون".
وفي رواية للبخاري (6329) من هذا الحديث: "تسبحون دبر كل صلاة عشرًا". وقال في "فتح الباري": جمع البغوي في "شرح السنة" بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون، لك صَدَرَ في أوقات متعددة، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل التخيير، أو يختلف باختلاف الأحوال.
قال محرره عفا الله عنه: وما دام أنَّ الأحاديث صحَّت بهذه الأعداد، فينبغي أن يفعل هذا مرَّة، وهذا مرة أخرى، ولعلَّ العدد القليل يؤتى به في الأزمنة الضيقة، حتى لا يفوت المصلي السنة والفضيلة، والله لطيف بخلقه.
أما العمل بالروايات كلها، أو بأكثر من واحدة منها في صلاة واحدة، فلا يستحب.
260 -
وَعَنْ مُعَاذِ بْن جَبَل رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "أُوْصِيكَ يَا مُعَاذُ: لَا تَدَعَنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ". رَوَاهُ أَحْمَد وأَبُو دَاودَ والنَّسائي بِسَنَدٍ قَوِيٍّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال الإمام النووي في "الأذكار": إسناده صحيح، وقال الشيخ صديق حسن في "نزل الأبرار": رواه أبو داود والنسائي، وابن حبان (5/ 364) وابن خزيمة (1/ 369) في صحيحيهما، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقد احتج به المنذري.
* مفردات الحديث:
- لا تدعن: بفتحات ثلاث، من "ودعه": إذا هجره وتركه؛ أي: لا تتركن.
- أعِنِّي: -بفتح الهمزة وكسر العين وتشديد النون: صيغة دعاء من: الإعانة، إذا أدغمت نون الفعل في نون الوقاية، فصارت مشددة؛ أي: انصرني ووفقني.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب هذا الدعاء بعد الصلوات المكتوبة، وتقييده بعد المكتوبة؛ لأنَّها هي المرادة عند الإطلاق.
2 -
قوله: "دبر كل صلاة" اختلف في دبر الصلاة، هل المراد به قبيل السلام، أو المراد بعد السلام؟.
(1) أحمد (6/ 244)، أبو داود (1522)، النسائي (3/ 53).
أكثر العلماء على الثاني، وطائفة على الأول، ومنهم شيخ الإسلام.
أما النصوص: فجاء في حديث معاذ في بعض ألفاظه: "لا تدعن أن تقول في صلاتك" مما يدل على أنَّ المراد بدبر الصلاة: قبل السلام.
وجاء في حديث أبي هريرة: "من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلانين
…
".
وجاء فيما رواه النسائي في الكبرى (6/ 30) وغيره: "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة"؛ والمراد بهذين الحديثين: بعد السلام.
فصار الدبر يراد به: آخر جزء من الصلاة، ويراد به: ما بعد السلام.
والأفضل أن يكون الدعاء فيما قبل السلام، وأما الذكر ففيما بعد السلام؛ وتقدم الكلام عليه.
3 -
قال في "الشرح": دبر الصلاة يشمل ما بعدها، وبعد التشهد، والظاهر هنا الأول.
أما شيخ الإسلام: فيرجح أنَّ الدعاء يكون في الصلاة قبل السلام منها، فقد قال -رحمه الله تعالى:-، والدعاء في آخر الصلاة قبل الخروج منها مشروع بالسنة المستفيضة، وإجماع المسلمين، وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها عليه السلام فيها، وهو اللائق بحال المصلي المقبل على ربه يناجيه.
4 -
فضيلة هذه الكلمات المباركات الطيبات، الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، ففيهن طلب الإعانة من الله تعالى على إقامة ذكره، والقيام بشكره، وإحسان عبادته، بأن يعبد المسلم ربه كأنه يراه.
فمن قام بذكر الله تعالى على الوجه المطلوب، وأدى شكر الله على نعمه وإحسانه، وأتى بالعبادة محسنًا فيها، متقنًا لها -فقد أدى عبادة ربه بقدر طاقته، ومن الله القبول والثواب.
5 -
الحديث فيه فضيلة ومنقبة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه فقد جاء فيه: "يا
معاذ، إني أحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة. . . " الحديث، ومحبة الرسول للعبد عنوان سعادته في الدنيا والآخرة، وأما الحديث فهو من الأحاديث المسلسلة، بهذه الكلمة اللطيفة الكريمة.
6 -
الحديث فيه التأكيد على الإتيان بهذه الدعوات الكريمات، بما جاء فيهنَّ من النهي عن تركهن، مما قد يحمل على القول بالوجوب.
قال شيخ الإسلام: الحاصل أنَّه يستحب للعبد إذا فرغ من صلاته، واستغفر الله، وذكره، وهلَّله، وسبَّحه، وحمده، وكبَّره، بالأذكار المشروعة عقب الصلاة -أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو بما شاء؛ فإنَّ الدعاء عقب هذه العبادة أحرى الأوقات بالإجابة، لا سيما بعد ذكر الله وحده، والثناء عليه، والصلاهَ على رسوله، وهو أبلغ الأسباب لجلب المنافع، ودفع المضار، ويستحب إخفاء الدعاء، ففي إخفائه فوائد منها:
- الإخلاص لله تعالى، والبعد عن الرياء.
- وحضور القلب، وخشوعه عند مناجاة الله تعالى.
- والبعد عن القواطع والمشوشات.
- وغير ذلك مما تجلبه السرية مع الله تعالى.
فالإسرار بالذكر، والدعاء، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل مطلقًا، إلَاّ لعارض راجح.
7 -
"وحسن عبادتك": المطلوب من هذه الجملة هو التجرد عما يشغله عن الله، ويلهيه عن ذكره وعبادته؛ ليتفرغ لمناجاته الله، فتكون قرة عينه في الصلاة، ويرتاح بها من همومه وغمومه، وليحقق كمال الإحسان، الذي دلَّ عليه النبى صلى الله عليه وسلم بقوله:"أن تعبد الله كأنَّك تراه". [رواه مسلم (1)].
8 -
فيه حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ما ينفع أمته، ويرفع درجاتهم، ويعلي مراتبهم عند ربهم، فصلوات الله وسلامه عليه، فقد بلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة.
9 -
فيه الحرص على مجالسة العلماء والصالحين، الذين يزيدون الإنسان من العلم النافع، ويقوون فيه الإيمان، ويقربونه من ربه.
10 -
إذا ضعف الإنسان عن العدد الكثير، أو كان له ما يشغله عنه، فيكون القليل من باب الترخيص؛ فإنَّ الشرع جاء بالرفق في حال السفر والعذر، والله أعلم.
11 -
ما جاء في هذه النصوص الصحيحة هو الذكر المشروع، أما ما استحدث من أذكار، وما جعل له من هيئات وصفات، فهو من البدع، التي قال عنها صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد"[رواه مسلم (1718)]، ومن ذلك الاستغفار جماعة بصوت واحد بعد السلام، وقولهم بعده:"يا أرحم الراحمين، ارحمنا"، وتدوير أصابع اليد اليمن مبسوطة على الرأس، وجمع رؤوس أصابع اليدين، وجعلها على العينين بعد الصلاة، وقراءة ثلاث آيات من سورة آل عمران، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصبح والمغرب، ونحو ذلك من أذكار لم ترد بها سنة، فلا يجوز، والواجب الاقتصار على الوارد، وعبادة الله تعالى تكون بما شرعه.
12 -
يُسْأَل الله الإعانة على هذه المطالب الثلاثة، وهي ذِكْره، وشكره، وحسن عبادته، فهي غايات في بلوغ طاعة الله تعالى، التي هي مراده من إيجاد خلقه، وهي وسائل إلى الحصول على فضله ورحمته.
* خلاف العلماء:
اختلفت أقوال العلماء فيما إذا زاد الإنسان على العدد المحدود في هذه الأذكار:
فقال بعضهم: إذا زاد على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص؛ لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة، وخاصية تفوت لمجاوزة ذلك العدد، وبالغ القرافي في "القواعد" فقال: من البدع المكروهة الزيادة في
المندوبات المحددة شرعًا، ومثَّله بعضهم بالدواء إذا تخلَّف الانتفاع به.
وبعض العلماء قال: إذا أتى بالمقدار الذي رتِّب الثواب على الإتيان به -حصل الثواب بعد حصوله.
قال الحافظ: وعليه أن تفترق الحال فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد، ثم أتى بالزيادة، فلا تكون الزيادة مزيلة للثواب المخصوص، وإن زاد بغير نية فيتجه للقول الأول.
***
261 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ إلَاّ المَوْتُ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَزَادَ فِيهِ الطَّبَرَانِيُّ: "و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} "(1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال الشيخ صديق حسن في "نزل الأبرار": أخرجه النسائي وابن حبان، وفي إسناده: الحسن بن بشر، قال النسائي: لا بأس به، قال أبو حاتم: وبقية رجاله رجال الصحيح، وأخرجه الطبراني، بإسنادين: أحدهما صحيح.
وأما زيادة الطبراني: "و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} " فقال المنذري: وإسناده بهلذه الزيادة جيد.
وقال في "مجمع الزوائد": لهذه الزيادة إسنادان: أحدهما جيد.
* مفردات الحديث:
- إلَاّ الموت: هو على حذف مضاف تقديره: "إلَاّ عدم موته"، حذف لدلالة المعنى عليه.
- مكتوبة: كتب يكتب كتابًا، مصدر سيال، له عدة معانٍ:
منها: فرض، وهي المرادة هنا، فمعنى المكتوبات؛ أي: المفروضات.
- آية الكرسي: هيِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
(1) النسائي في عمل اليوم والليلة (100)، الطبراني في الكبير (8/ 134).
وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة].
أما الكرسي: فقد جاءت الأحاديث أنه موضع القدمين للرب تبارك وتعالى.
- آية: أصلها "أوية" قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والنسبة إليه: أوي، جمعها: آيات وآي، قال أبو البقاء: الأصل في الآية: العلامة الظاهرة، وتطلق على طائفة حروف من القرآن، علم بالتوقيف انقطاعها عما قبلها، وعما بعدها من الكلام.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
فضل هذه الآية العظيمة؛ لما اشتملت عليه من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، والوحدانية، والحياة الكاملة، والقيومية الدائمة، والعلم الواسع، والملكوت المحيط، والقدرة العظيمة، والسلطان القويم، والإرادة النافذة.
وقد روى الإمام أحمد (20771) ومسلم (810): "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سأل أُبَيَّ ابن كعب: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، فرددها عليه مرارًا. قال أبىٌّ: اَية الكرسي، قال: ليهنك العلم، يا أبا المنذر! ".
2 -
من معاني الآية العظيمة:
{اللَّهُ} : لفظة الجلالة جمعت معاني الألوهية التي لايستحقها إلَاّ هو، فعبادة غير الله باطلة، وهو -جلَّ وعلا- صاحب الحياة الكاملة من السمع والبصر، والقدرة، والإرادة، وغيرها من الصفات الحميدة.
{الْقَيُّومُ} الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع خلقه، وقامت به جميع الموجودات، فهو الذي أوجدها، وأبقاها، وأمدها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها، وبقائها.
{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} السِّنة: النعاس في العين، وأما النوم: فهو
الاسترخاء والثقل، الذي يصل إلى القلب فيزول معه الذهن، فالسِّنة والنوم إنما يعرضان للمخلوق الناقص، الذي يعتريه الضعف والعجز، ويحتاج للراحة والاستجمام، أما صاحب القوة الكاملة والقيومية التامة فلا يعرضان له.
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} : فالكل عبيده، والجميع ملكه، لا يخرج أحدٌ منهم عن ذلك.
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} : فمن تمام ملكه، ومن عظمة سلطانه، ومن جلال أمره-: أنه لا يتجرأ أيُّ مخلوق على أن يشفع لأحد، إلَاّ بإذنه ورضاه عن الشافع والمشفع فيه، وإذن منه في الشفاعة، فكل وجيه، وشفيع من عبيده لا يشفع إلَاّ بإذنه؛ {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} .
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فعلمه المحيط الواسع، واطلاعه على شؤون خلقه، وعلمه بماضيهم، وحاضرهم، ومستقبلهم -لا يحتاج معه إلى الوسطاء والشفعاء في أمر خلقه، إلَاّ في حالة هو يرضاها، فيأذن فيها إكرامًا للشافع، ورحمة للمشفوع له.
{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} أما خلقه العلوي والسفلي فلا يحيطون بقليل، أو بكثير من علم الله تعالى، معلوماته، إلَاّ أن تقتضي حكمته تعالى إطلاعهم على شيء مما ينفعهم من معاشهم ومعادهم، من الأمور الشرعية والأمور القدرية، وهي نسبة ضئيلة قليلة في جانب علم الله الواسع، وإحاطته الشاملة؛ ولذا قالت الملائكة:{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، وتقول الرسل يوم القيامة:{لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)} [المائدة].
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} مما يدل على ملكه الواسع، وجلاله العظيم، وسلطانه القويم، وإحاطته الكاملة، وقدرته التامة، وإرادته
النافذة، وأنَّه الحافظ للسموات ومن فيها، والأرض ومن فيها، بالأسباب القوية، والنظام المحكم، والترتيب العجيب.
{وَهُوَ الْعَلِيُّ} بذاته على جميع مخلوقاته، والعلي بعظمته وصفاته، والعلي بقهره لمخلوقاته، فقد عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وذلَّت له الصعاب، ودانت له الموجودات، سبحانه ما أعظم شأنه.
{الْعَظِيمُ (255)} الجامع لصفات العظمة والكبرياء، والمجد والبهاء، فهو المحبوب المعظم، الكريم الممجد.
فآية اشتملت على هذه المعاني الجليلة، والصفات الإلهية الحميدة، والمعارف الربانية العظيمة -لهي أعظم آية في كتاب الله، فالكلام يشرف، ويعظم بشرف وعظم معانيها، ومعارف الله تعالى، وصفاته العلى، وأسماؤه الحسنى هي أشرف العلوم، وأجل المعارف.
وإنَّ العارفين بالله تعالى أصحاب القلوب الواعية، ليدركون من هذه الآية العظيمة، وأمثالها من كتاب الله تعالى -مما يتعرض لبيان أسماء الله وصفاته- ما لا يدركه غيرهم.
3 -
أما سورة الإخلاص: فقد جاء في فضلها أحاديث كثيرة صحيحة، لا يسع المقام إلَاّ لنقل بعضها، ففي صحيح البخاري (5015) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثُلثَ القرآن في ليلة؟ فقالوا: أيُّنا يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن".
وفي صحيح مسلم (811) من حديث أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله جزَّأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} جزءًا من أجزاء القرآن".
4 -
قال شيخ الإسلام: وأما السؤال عن معنى هذه المعادلة، مع الاشتراك في
كون الجميع كلام الله تعالى، فقد قال تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فأخبر أنَّه يأتي بخير منها، أو مثلها، فدلَّ ذلك على أنَّ الآيات تتماثل تارة، وتتفاضل تارة أخرى.
وأيضًا: التوراة والإنجيل والقرآن، جميعها كلام الله، مع علم المسلمين، بأنَّ القرآن أفضل الكتب الثلاثة، فالقول بأنَّ كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة، والمثبت لتفاضل كلام الله معتصم بالكتاب والسنة والآثار، ومعه من المعقولات الصريحة التي تبين ما ذهب إليه، وإثبات تفضيل بعض الكلام على بعض، ليس فيه ما يوهم أنَّ المفضول معيب، أو ناقص.
فإذا علم ما دلَّ عليه الشرع، مع قول السلف من أنَّ بعض القرآن أفضل من بعض، بقي الكلام في كون:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن، ما وجه ذلك؟.
الجواب: قيل في ذلك وجوه: أحسنها -والله أعلم-: ما قاله ابن سُريج وهو: أنَّ القرآن أنزل على ثلاثة أقسام:
ثُلُثُ أحكام، وثلثٌ وعدٌ ووعيد، وثلثُ الأسماء والصفات، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات.
5 -
أما الإشارة إلى معاني هذه السورة الجليلة، فهي:
{قُلْ} انطق جازمًا، معتقدًا عارفًا بما تقول:
{هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فهو صاحب الأحدية، والفردية المطلقة، وهو صاحب الصفات الكاملة، والأسماء الحسنة، والأفعال الحكيمة.
{اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} الذي تقصده جميع المخلوقات لقضاء حوائجها وأمورها، فلا معطي ولا مانع إلَاّ هو.
{لَمْ يَلِدْ} لكمال غناه عن الولد، والمعين.
{وَلَمْ يُولَدْ (3)} لأزليته المطلقة، فهو الأول فليس قبله شيء.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} فليس له شبيه، ولا نظير، ولا مثيل، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهذه الآية مثل قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].
6 -
وفي الحديث استحباب قراءة تلك الآية العظيمة، وهذه السورة الشريفة بعد كل صلاة مفروضة؛ ليكتمل بهما ذكره لربه، ويرفع بهما ما نقص من صلاته، وليجدد إيمانه كل يوم خمس مرات، بتلاوة أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى.
7 -
فيه إثبات الجزاء الأخروي، وأنَّ أوله نعيم القبر، أو عذابه، وأنَّ نعيم القبر جزء من نعيم الجنة، كما أنَّ عذاب القبر جزء من عذاب النار؛ لقوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر].
وفيه انَّ الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة، كما قال تعالى:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة]، ولا يعارض ذلك ما جاء في البخاري (5673) ومسلم (2816) أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لن يُدخل أحدكم الجنة عملُه، فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ فقال: ولا أنا، إلَاّ أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل"
وقد أشار إلى ذلك ابن القيم في النونية بقوله:
وتأمَّل الباء التي قد عينت
…
سبب الفلاح لحكمة الفرقان
وأظن باء النفي قد غرتك في
…
ذاك الحديث أتى به الشيخان
لن يدخل الجنات أصلاً كادح
…
بالسعي منه ولو على الأجفان
والله ما بين النصوص تعارضٌ
…
والكل مصدرها عن الرحمن
لكن "بـ" الإثبات للتسبيب
…
و"الباء" التي للنفي بالأثمان
والفرق بينهما ففرقٌ ظاهرٌ
…
يدريه ذو حظ من العرفان
والفرق بين الباءين معناه: أنَّ الجنَّة إنَّما تنال وتدخل برحمة الله تعالى، والباء في النصوص سبب.
ونفى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولها بالأعمال بقوله: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله"[رواه البخاري (5349) ومسلم (2816)]: على أن الباء ثمنية، فلا تنافي بين الأمرين.
***
262 -
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أصلين عظيمين:
الأصل الأول: دلالة الحديث على أنَّ أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وأقواله فيها بيان لما أجمل من الأمر بها في القرآن الكريم، وفي الأحاديث الشريفة.
الأصل الثاني: وجوب اقتداء الناس به صلى الله عليه وسلم، فيما يفعله من الصلاة، فكل ما حافظ عليه من أفعالها، وأقوالها، وجب على الأمة فعله، أو قوله، إلَاّ لدليل يخص شيئًا من ذلك.
هذا الأصل الثاني مستقيم، لو لم يعارضه حديث المسيء في صلاته، الذي قال العلماء فيه: إنَّ ما لم يذكر فيه من أحكام الصلاة فهو غير واجب، إلَاّ بدليل خاص، فحينئذ يقال في حديث مالك بن الحويرث:"صلوا كما رأيتموني أصلي" ما كان الأمر فيه للوجوب يجب، وما كان الأمر فيه للاستحباب يُستحب، وهو يدل على المشروعية المطلقة للرسول صلى الله عليه وسلم.
3 -
أنَّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هي الصلاة التامة والكاملة، التي من احتذاها، فقد أكمل صلاته، وأتم عبادة ربه، وما دام المسلم مأمورًا بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، فإنَّه لا يمكن ذلك إلَاّ بتعلمها، فيجب أن يتعلم كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
4 -
وجوب الاهتمام والعناية بالصلاة، وإجادتها وإتقانها؛ ذلك أنَّه صلى الله عليه وسلم هو
(1) البخاري (631).
القدوة والأسوة في الأفعال كلها، ولم تخص قدوته في الصلاة هنا، إلَاّ لما لها من الأهمية.
5 -
متعلم الصلاة من غيره بالاقتداء لا يضره، ولا يُخِلّ بصلاته أن يلاحظ صلاة من يتعلم منه الصلاة، ويراقبه في ذلك.
6 -
أنَّ المصلي إذا أراد أن يُعلِّم بصلاته غيره، فإنَّ هذه النيَّة لا تُنقِصُ من صلاته، ولا تُخِلُّ بها.
7 -
أنَّ ثناء الإنسان على عمله، وتزكيته إياه إذا كان لمصلحة، ولي يقصد الرياء، فإنَّه جائز، كما قال يوسف عليه السلام:{إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف].
وقال ابن مسعود: لو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله، لرحلتُ إليه.
***
263 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ لِي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطعْ فَقَاعِدًا، فَإِن لَمْ تَسْتَطعْ فَعَلَى جَنْب". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- جَنْب: الجنب مصدر، ويطلق على عدة معانٍ متعددة، ومنها: شق الإنسان، الذي هو ما تحت إبطه إلى كشحه، وجمعه: جنوب وأجناب، وهو المراد هنا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على مراتب صلاة المريض المكتوبة، فيجب عليه القيام إن قدر عليه؛ لأَنَّه ركن من أركان الصلاة المكتوبة، ولو معتمدًا، أو مستندًا إلى شيء من عصا، أو جدار، أو نحو ذلك.
فإن لم يستطع القيام، أو شقَّ عليه، فتلزمه قاعدًا، ولو مستندًا، أو متكئًا، ويركع ويسجد مع القدرة عليه، فإن لم يستطع القعود، أو شقَّ عليه فيصلي على جنبه، والجنب الأيمن أفضل، فإن صلى مستلقيًا إلى القبلة صحَّ، فإن لم يستطع أومأ إيماء برأسه، ويكون إيماؤه للسجود أخفض من إيمائه للركوع، للتمييز بين الركنين، ولأنَّ السجود أخفض من الركوع.
2 -
لا ينتقل من حال إلى حال أقل منها إلَاّ عند العجز، أو عند المشقة عن الحالة الأولى، أو في القيام بها؛ لأنَّ الانتقال من حال إلى حال مقيد بعدم الاستطاعة.
3 -
حد المشقة التي تبيح الصلاة المفروضة جالسًا، هي المشقة التي يذهب معها
(1) البخاري (1117).
الخشوع؛ ذلك أنَّ الخشوع هو أكبر مقاصد الصلاة، كما أشار إلى ذلك إمام الحرمين الجويني.
4 -
الأعذار التي تبيح الصلاة المكتوبة قاعدًا كثيرة، فليس خاصًّا بالمرض فقط، فقِصر السقف الذي لا يستطيع الخروج منه، والصلاة في السفينة، أو الباخرة، أو السيارة، أو الطيارة عند الحاجة إلى ذلك، وعدم القدرة على القيام، كلها أعذار تبيح ذلك.
5 -
مذهب جمهور العلماء أنَّ الصلاة لا تسقط ما دام العقل ثابتًا، فالمريض إذا لم يقدر على الإيماء برأسه أومأ بعينيه، فيخفض قليلاً للركوع، ويخفض أكثر منه للسجود، فإن قدر على القراءة بلسانه قرأ، وإلَاّ قرأ بقلبه، فإن لم يستطع الإيماء بعينه صلَّى بقلبه.
وأما الشيخ تقي الدين فقال: متى عجز المريض عن الإيماء برأسه سقطت عنه الصلاة، ولا يلزمه الإيماء بطرفه، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أما صلاة المريض بطرفه، أو بقلبه فلم تثبت، ومفهوم الحديث يدل على أنَّ الصلاة على جنبيه مع الإيماء هي آخر المراتب الواجبة.
قال محرره: إنَّ مذهب الجمهور بعدم سقوطها مع الوعي وثبات العقل أحوط، والأصل في الصلاة الوجوب على المسلم، فإنَّه مطالب بها بأصل الشرع، فسقوطها عنه هو الذي يحتاج إلى الدليل، والله أعلم.
6 -
مقتضى إطلاق الحديث أنَّه يصلي قاعدًا، على أيَّةِ هيئة شاء، وهو إجماع، والخلاف في الأفضل، فعند الجمهور أنَّه يصلي متربعًا في موضع القيام، وبعد الرفع من الركوع، ويصلي مفترشًا في موضع الرفع من السجود؛ لما روى النسائي (1661)، والحاكم (1/ 389) عن عائشة رضي الله عنها-
قالت: "رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعًا".
7 -
فيه الدلالة على أنَّ أوامر الله تعالى يؤتى بها حسب الاستطاعة والقدرة، فلا يكلف الله نفسًا إلَاّ وسعها، وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر، فأْتوا منه ما استطعتم". [رواه البخاري (7288)].
8 -
فيه سماحة ويُسر هذه التشريعة المحمدية، وأنَّها كما قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء]، فرحمة الله تعالى بعباده واسعة.
9 -
ما تقدم هو حكم الصلاة المكتوبة، أما النافلة فتصح قاعدًا، ولو من دون عذر، لكن بعذر أجرها تام، وبدون عذر على النصف من أجر صلاة القائم؛ لما جاء في صحيح البخاري من حديث عمران بن حصين قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد، فقال:"من صلى قائمًا فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلت نائمًا فله نصف أجر القاعد".
قال في "فتح الباري": حكى ابن التين وغيره، عن أبي عبيد وابن الماجشون وإسماعيل القاضي وغيرهم؛ أنَّ هذا الحديث محمول على المتنفل، وكذا نقله الترمذي عن الثوري.
***
264 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَرِيْضٍ صَلَّى عَلَى وِسَادَةٍ، فَرَمَى بِهَا، وَقَالَ: صَلِّ علَى الأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ، وَإِلَاّ فَأَوْمِ إِيْمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَك اخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ". رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَلكِنْ صَحَّحَ أَبُو حَاتِمٍ وَقْفَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح موقوفًا.
أخرجه البيهقي من طريق الثوري، قال البزار: لا يعرف أحدٌ رواه عن الثوري غير أبي بكر الحنفي، وقد سئل عنه أبو حاتم فقال: الصواب أنَّه موقوف، ورفعه خطأ، وقد روى الطبراني في الكبير من حديث طارق بن شهاب عن ابن عمر فذكره، وفي إسناده ضعفٌ.
وقد صحَّحه الحافظ عبد الواحد في "المختارة"، وقال في "مجمع الزوائد": رجاله رجال الصحيح.
قلتُ: والحديث له حكم الرفع؛ لأنَّه تشريع لا مجال للرأي فيه.
* مفردات الحديث:
- وسادة: بكسر الواو ثم سين مهملة مفتوحة، وقال بعضهم: إنَّ سينها مثلثة، وهي المخدة، وكل ما يوضع تحت الرأس، والجمع: وسد.
- فرمى بها: قذف بها منكرًا على صاحبها.
- فأومِ: فعل أمر أصله "ومأ" وماضيه "أومأ"، والمصدر "إيماء"، والمراد بالإيماء هنا: الخفض في حالي الركوع والسجود.
(1) البيهقي (2/ 306)، العلل لابن أبي حاتم (1/ 113).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّ للمريض -الذي لا يستطيع القيام- أن يصلي قاعدًا، قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .
2 -
يدل على أنَّه يوميء إيماء، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه؛ ليميز بين الركنين في أفعاله، ولأنَّ السجود شرعًا أخفض من الركوع.
3 -
يدل على أنَّه يكره للمصلي أن يرفع له شيء يسجد عليه، وأنَّ هذا من التكلف، الذي لم يأذن الله به، وإنما يصلي الإنسان حسب استطاعته، وإذا لم يستطع الوصول إلى الأرض أومأ في حالة الركوع، وفي حالة السجود، وقد اتَّقى الله ما استطاع.
4 -
في الحديث مشروعية عيادة المريض، وإرشاد إلى ما يصلح دينه.
5 -
وفيه كمال خُلقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعيادته أصحابه، وتفقده أحوالهم، فيكون في هذا قدوة للزعماء والرؤساء، فهذا مما يحبب الناس فيهم، ويجعلهم قدوة في الخير، والتواضع، وحسن الخلق، يزيد الإنسان رفعة وعزَّا.
6 -
فيه أنَّ الداعية الموفق لا يدع النصح والإرشاد في كل مكان يحل فيه، على أيَّةِ حال يكون فيها، لكن بحكمة، وحُسْن تصرف.
***