المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب سجود السهو وسجود التلاوة والشكر - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٢

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌باب سجود السهو وسجود التلاوة والشكر

‌باب سجود السهو وسجود التلاوة والشكر

مقدمة

- سها عن الشيء سهوًا: ذهل عنه، وغَفل قلبه عنه إلى غيره، فالسهو: ذهولٌ وغفلة عما كان في الذكر.

قال القاضي عياض: السهو في الصلاة: النسيان فيها.

يقال: سها عن الشيء سهوًا: ذهل عنه، وغَفَلَ قلبه عن ذكره.

قال ابن الأثير: السهو في الشيء: تركه من غير علم، والسهو عن الشيء: تركه مع العلم به.

وقال بعضهم: السهو، والنسيان، والغفلة ألفاظ مترادفة، ومعناها: ذهول القلب عن المعلوم في الحافظة.

وقال الحافظ: فرَّق بعضهم بينها، وليس بشيء.

وقال ابن القيم: كان سهو النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة من تمام نعمة الله تعالى على أمته، وإكمال دينهم؛ ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو.

قال محرره: ومن حكمة سهوه صلى الله عليه وسلم تحقق بشريته؛ لئلا يكون للغلاة مدخل في إعطائه شيئًا من صفات الإلهية، والربوبية باسم التعظيم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكِّروني". [رواه البخاري (451) ومسلم (572)]، أما حكمة سجود السهو فهو إرغام

ص: 327

للشيطان، الذي هو سبب النسيان والسهو، وجبر للنقصان الذي طرأ في الصلاة، وإرضاء للرحمن بإتمام عبادته، وتدارك طاعته، والله أعلم.

- سجود التلاوة: سجود التلاوة سنة مؤكدة ليس بواجب عند الجمهور، وهي واجبة عند الحنفية للأمر بها:{فَاسْجُدُوا} .

ويسجد القارىء والمستمع، دون السامع الذي لا يقصد الاستماع، ويقول في سجود التلاوة ما يقول في سجود صلب الصلاة، وان زاد فيه فَحسَن.

- سجود الشكر: وهو يُستحب عند تجدد النعم، واندفاع النقم؛ سواء أكانت عامة، أم خاصة بالساجد، ولا يسجد لدوام النعم؛ لأنَّ نعم الله لا تنقطع.

وصفته وأحكامه كسجود التلاوة، وستأتي إن شاء الله.

***

ص: 328

265 -

عَنْ عَبْدِ اللهِ بنُ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ، فقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، وَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ، وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، وَسَجَدَ سَجْدَتَينِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ". أَخْرَجَهُ السَّبعَةُ وَهَذا لَفْظُ البُخَارِيِّ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، مَكَانَ مَا نَسِيَ منَ الجُلُوسِ"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- الأوليين: تثنية "أُولى"، والأولى مؤنث "الأول"، وجمع أولي: أوليات.

- ولم يجلس: أي: بين هاتين الركعتين الأوليين، وبين الركعتبين الأخريين، وذلك في صلاة الظهر، كما في مسند السراج.

- قضى: يقضي قضاءً، فقضى صلاته، بمعنى: فرغ منها، وأوشك على السلام، والقضاء له عدة معانٍ، منها: الفراغ من الشيء، وهو المراد هنا.

- وهو جالس: جملة اسمية وقعت حالاً من الضمير في "سجد".

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

فيه دليل على أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم سهى في صلاة الظهر، فقام عن التشهد الأول، ولم يجلس، فتبعه أصحابه على ذلك، ولعلهم هابوا التسبيح به، إذ ظنوا

(1) البخاري (829)، مسلم (570)، أحمد (5/ 345)، أبو داود (1034)، الترمذي (391)، النسائي (1177)، ابن ماجه (1256).

ص: 329

أنَّ أمرًا قد طرأ في حكم الصلاة.

2 -

ذَكر صلى الله عليه وسلم تركه لهذه الجلسة، والتشهد فيها وهو في الصلاة، فلما أنهى الدعاء الذي بعد التشهد الأخير، سجد قبل السلام سجدتين، هما سجدتا السهو.

3 -

أنَّ سجدتي السهو كسجود صلب الصلاة، من حيث التكبير والهيئة وما يقال فيهما، فهما داخلتان في عموم الأمر بأذكار السجود، ولو كان لهما ذكر خاص لبيَّنه صلى الله عليه وسلم، فهذا وقت الحاجة إلى بيانه.

4 -

أنَّ سجود السهو يكون قبل السلام، وسياتي له تمام بحث إن شاء الله تعالى.

5 -

أنَّ سجود السهو هو مكان ما ذهل عنه، ونسيه في صلاته.

6 -

لم يذكر في هذا الحديث أنَّه بعد سجدتي السهو تشهَّد أو دعا، بل يشعر قوله:"قبل أن يسلم" أنَّه سلم بعدها، بلا تشهد ولا فصل.

7 -

فيه طروء السهو والنسيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم المحفوف بالعصمة، مما يدل على أنَّ الأمور البشرية الطبيعة لا تُخِلُّ بعصمته، ولا تقدح في رسالته، وإنَّما هو تشريع وتعليم وتوجيه لأمته، وأنه ما دام السهو يطرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّه لا يكون نقصًا في دين غيره، وتقصيرًا في عبادته.

8 -

مشروعية سجود السهو لمن نسي التشهد الأول.

9 -

أنَّ سجود السهو سجدتان.

10 -

وجوب متابعة الإمام في ترك الجلوس للتشهد الأول، وإن لم يكن المأموم ناسيًا.

11 -

أنَّ التَّشهد الأول ليس من أركان الصلاة؛ إذ لو كان منها لتعين الإتيان به.

12 -

أنَّ التكبير في سجود السهو هو تكبير انتقال، حتى في الأولى منها.

13 -

كونه صلى الله عليه وسلم سجد سجدتين فقط دليلٌ على أنه إذا سها سهوًا واحدًا، أو أكثر أنه تكفيه سجدتان فقط.

ص: 330

* فوائد:

الأولى: اتَّفق العلماء على مشروعية سجود السهو، لكن عند الشافعي سنة وليس بواجب، وعند أبي حنيفة ومالك واجب في النقصان، وعند أحمد واجب في الزيادة، والنقصان، والشك.

الثانية: قال الخطابي: المعتمد عند أهل العلم في السهو هذه الأحاديث الخمسة: حديثا ابن مسعود، وحديث أبي سعيد، وحديث أبي هريرة، وحديث عبد الله بن بحينة.

الثالثة: أجمع العلماء على أنَّ الصلاة لا تبطل بعمل القلب ولو طال، نقل الإجماع النووي وغيره؛ وذلك لما في البخاري (6287)، ومسلم (127):"إنَّ الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به نفسها، ما لم تعمل أو تتكلم".

قال شيخ الإسلام: إذا غلب الوسواس على أكثر الصلاة لا يبطلها.

الرابعة: قال شيخ الإسلام: أجمع العلماء على بطلان الصلاة بالقهقهة؛ لأنَّ فيها أصواتًا عالية تنافي حال الصلاة، وفيها أيضًا من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها ما يناقض مقصودها، لا لكونه كلامًا. وحكى ابن المنذر والوزير الإجماع على بطلان الصلاة بالضحك.

***

ص: 331

266 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَيِ العَشِيِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبهٍ فِي مُقَدَّمِ المَسْجِدِ، فَوَضَعَ يَدَهُ علَيْهَا، وَفِي القَوْمِ أبُو بكرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما فَهَابَا أنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فقَالُوا: أقَصُرَتِ الصَّلَاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَا اليَدَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: لَمْ أنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ؟ قَالَ: بلَى، قَدْ نَسِيْتَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأسَهُ فَكَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثمَّ رَفَعَ رَأسَهُ وَكبَّرَ". مُتَّفَقٌ عليهِ، وَاللَّفْظُ للبُخَارِيِّ.

وَفي رِوَايَةٍ لمُسْلِمٍ: "صَلَاةَ العَصْرِ".

ولأبي داوُدَ، فقَالَ:"أَصَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ؟ فَأَوْمَؤُوا: أَيْ نَعَمْ". وَهِيَ فِي الصَّحِيْحَينِ، لكِنْ بِلَفْظِ:"فَقَالُوا".

وفي رِوَايَةٍ لَهُ: "وَلَمْ يَسْجُدْ، حَتَّى يَقَّنَهُ الله تَعَالَى ذلِكَ"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- العَشِي: -بفتح العين المهملة، وكسر الشين المعجمة، وتشديد المثناة التحتية- قال الأزهري: هي ما بين زوال الشمس وغروبها، وقال الراغب: العشي من زوال الشمس إلى الصباح، والصلاة التي وقع فيها السهو، قيل:

(1) البخاري (1229)، مسلم (573)، أبو داود (1008، 1012).

ص: 332

الظهر، وقيل: العصر، لكن جاء في الصحيحين أنَّها الظهر من غير شكٍّ.

- هابا أن يكلماه: هابه يهابه من باب تعب يتعب، قال ابن فارس: الهيبة: الإجلال، فهابا أن يكلماه: أجلَاّه وأعظماه، قال الصنعاني:"ووجهه أنَّ هذا أمر مهم ليس من الأمور العادية".

- سَرَعَان الناس: -بفتح السين المهملة وفتح الراء-: وهم أوائل الناس المسرعون إلى الخروج، ويلزم الإعراب نونه في كل وجه من ضبطه.

- قصرت الصلاة: روي بضم القاف مبني للمجهول، وبفتحها وضم الصاد.

- ذا اليدين: صاحب يدين فيهما طول، فلقب بذلك، واسمه: الخرباق بن عمرو، قيل: من بني سليم، وقيل: من خزاعة.

- أنسيتَ أم قصرت الصلاة؟: الاستفهام هنا على بابه، ولم يخرج عن موضوعه؛ لأنَّ الزمان زمان نسخ.

- لم أَنْسَ، ولم تقصر: أي في ظنه صلى الله عليه وسلم.

- لم أَنْسَ، ولم تقصر: هذا مثل قوله: "كل ذلك لم يكن"، والمعنى: كلٌّ من القصر والنسيان لم يكن، على شمول النفي وعمومه؛ لوجهين:

أحدهما: أنَّ السؤال عن أحد الأمرين بـ "أَمْ"؛ وذلك لطلب التعيين، بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم.

الثاني: أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات: "كل ذلك لم يكن" أشمل من لو قيل: "لم يكن كل ذلك"؛ لأنَّه من باب تقوي الحكم، فيفيد التأكيد في المسند، والمسند إليه، بخلاف الثاني؛ إذ ليس فيه تأكيدٌ أصلاً، فإنَّه يصح أن يقال: لم يكن كل ذلك، بل كان بعضه، ولا يصح أن يقال: كل ذلك لم يكن، بل كان بعضه، ولذا قال المتكلم:"قد كان بعض ذلك"، ومعلوم أنَّ الثبوت للبعض إنَّما ينافي عن كل فردٍ، لا النفي عن المجموع.

- بلى: حرف جواب، يختص وقوعه بعد النفي، فتجعله إثباتًا؛ فإنَّه لما قال:

ص: 333

"لم أنس ولم تقصر"، أجابه: بلى نسيت.

- نعم: حرف جواب، يتبع ما قبله في إثباته ونفيه، فقوله:"أصدق ذو اليدين؟ "، أثبتوا صدقه بجوابهم بـ"نعم".

- حتى يقَّنَهُ: بتشديد القاف؛ يعني: حتى علم عن سهوه علم اليقين، بالتحقيق وإخبار الثقات.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

جواز السهو على الأنبياء في أفعالهم البلاغية؛ لأنَّهم بشرٌ يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من البشر، إلَاّ أنَّهم لا يقرون عليه، أما الأقوال البلاغية فالسهو ممتنع على الأنبياء بالإجماع.

2 -

الحِكَمُ والأسرار التي تترتب على سهوه صلى الله عليه وسلم، بيان التشريع، والتخفيف عن الأمة، وما يعتريها مما يقع فيها من السهو.

3 -

أنَّ الخروج من الصلاة قبل إتمامها -مع ظن أنَّها تمت- لا يبطلها، فيبني بعضها على بعض، إن قرب الزمن عرفًا، فإن طال الفصل عُرْفًا، أو أحدث، أو خرج من المسجد -فقال العلماء: يعيد الصلاة.

4 -

أنَّ الكلام في صلب الصلاة من الناسي، والجاهل لا يبطلها، على الصحيح من قولي العلماء.

5 -

أنَّ الحركة الكثيرة سهوًا لا تبطلها، ولو كانت من غير جنس الصلاة.

6 -

وجوب سجدتي السهو لمن سها، وسلَّم عن نقص فيها؛ ليجبر خلل الصلاة، ويرغم به الشيطان.

7 -

أنَّ سجود السهو يكون بعد السلام إذا سلم عن نقص، كهذا الحديث، ويكون قبل السلام فيما عدا هذه الصورة، وهذا التفصيل هو الذي يجمع الأدلة، وهو مذهب الحنابلة.

أما الحنفية: فيرون أنه كله بعد السلام.

ص: 334

وأما الشافعية: فيرون أنه كله قبل السلام.

8 -

أنَّ سهو الإمام لاحقٌ بالمأمومين؛ لتمام المتابعة والاقتداء، ولأنَّ ما طرأ من نقص على صلاة الإمام يلحق بالمأمومين معه.

9 -

قال القاضي عياض: لا خلاف بين العلماء أنه لو سجد بعد السلام، أو قبله للزيادة، أو للنقص -أنه يجزئه، ولا تفسد صلاته، وإنما اختلافهم في الأفضل.

10 -

قال شيخ الإسلام: التشهد بعد سجدتي السهو لم يرد فيه أي شيء من أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا أفعاله، وعمدة من يراه حديث غريب ليس له متابع، وهذا يوهي الحديث ويضعفه، والله أعلم.

11 -

النفس الكبيرة تشعر بالنقص الذي يعتريها؛ لأنَّها ألفت الكمال، فلا تقف دونه.

12 -

إجلال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإعظامهم إياه، وهيبتهم منه، حيث لم يجرؤوا على مخاطبته.

13 -

أنَّ سجود السهو كسجود صلب الصلاة في أحكامه؛ إذ لو اختلف عنه، لبيَّنه، والله أعلم.

***

ص: 335

267 -

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ، فَسَهَا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ". رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديثٌ شاذٌّ.

رواه أبو داود -وسكت عنه- والترمذي وقال: حسن غريب صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحَّحه الحازمي في "الاعتبار".

أما لفظ "ثُمَّ تشهد": فقال ابن سيرين: لم أسمع بالتشهد شيئًا، وضعَّفها البيهقي، وابن عبد البر، وقال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت، وقال كثير من المحققين: إنَّه ليس فيه ذكر التشهد، وإنما انفرد به أشعث بن عبد الملك الحمراني، وقد خالف غيره من الحفاظ، فهو شاذٌّ.

* مفردات الحديث:

- فسها: يقال: سها عن الشيء يسهو سهوًا: غفل عنه، قال في "المصباح": وفرَّقوا بين الساهي والناسي؛ بأنَّ الناسي إذا ذكرته تذكر، والساهي بخلافه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث هو إحدى روايات الحديث السابق المسمى بـ"حديث ذي اليدين" وهذه الرواية ساقها أصحاب السنن، فإنَّ الراوي عن محمد بن سيرين قال له: أسلم في السَّهو؟ فقال: لم أحفظه من أبي هريرة، ولكن

(1) أبو داود (1039)، الترمذي (395)، الحاكم (1/ 323).

ص: 336

ثبت أنَّ عمران بن حصين قال: ثم سلم.

قال محرره: وهذا السجود وقع بعد السلام، كما هو صريح من أصله، وهو حديث ذي اليدين.

2 -

الحديث صريح بأنَّه أتى بالتشهد بعد سجدتي السهو، وهو مذهب طائفة من أهل العلم، وهو المشهور من مذهب الحنابلة والمالكية.

ودليلهم هذا الحديث.

قال في "شرح الزاد": وإن أتى بسجود السهو بعد السلام جلس بعده، وتشهد -وجوبًا- التشهد الأخير، ثم سلَّم؛ لأنَّه في حكم المستقل في نفسه.

والقول الثاني: يسلم ولا يتشهد، اختاره الشيخ تقي الدين، ومال إليه الموفق والشارح؛ لأنَّ التشهد لم يذكر في الأحاديث الصحيحة، بل إنَّها على خلافه.

***

ص: 337

268 -

وَعَنْ أَبيْ سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى، أثَلَاثًا أمْ أرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَح الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يُسَلِّمَ، فَإنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لهُ صَلَاتَهُ، وإنْ كَانَ صَلَّى تَمَامًا كَانَتَا تَرْغِيمًا للشَّيطَانِ". روَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- الشك: يقال: شك في الأمر يشك شكًّا: ارتاب، فالشك خلاف اليقين، جمعه: شكوك، قال في "التعريفات": هو التردد بين النقيضين، بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاكّ، وهو ما اختاره الأصوليون، وأما الفقهاء: فالشك عندهم: تردد الفعل بين الوقوع وعدمه، ولو ترجح أحدهما على الآخر.

- فليطرح: فَلْيُلْقِ ما شك فيه، ويبعده عنه، وَلْيَبْنِ صلاته على ما تيقنه.

- ترغيمًا للشيطان: بفتح التاء وسكون الراء؛ أي: إلصاقًا لأنفه في الرغام، وهو التراب، والمراد: إذلاله.

- وَلْيَبْنِ على ما استيقن: يقال: بنى يبني بناءً، والجمع: أبنية، والبناء حقيقةٌ في الأجسام، تقول: بني الدار والجدار، ومجازٌ في المعاني، كمثل هذا الحديث:"ولْيَبْنِ على ما استيقن"، يعني: يعتمد ما تيقن أنَّه أتى به من الصلاة، بخلاف المشكوك فيه فلا يعتبره.

(1) مسلم (571).

ص: 338

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أحد أسباب سجود السهو الشك في الصلاة، وهذا الحديث في حكم سجود السهو للشك فيها، هذا ما لم يكن الشك وسواسًا يلازم الإنسان، يعمل العمل، ويقول في نفسه: إنَّه لم يعمله، قال ابن قدامة: ما كان في الصحابة موسوس، ولو أدرك النبي صلى الله عليه وسلم الموسوسين لقتلهم.

2 -

دلَّ الحديث على أنَّ الشاك في صلاته؛ إذا كان لا يدري هل ما صلَاّه -مثلاً- ركعتان، أو ثلاثٌ، أنه يطرح الشك ويبني على اليقين، وهو الأقل، وقبل السلام يسجد سجدتي السهو.

قال النووي: من شكَّ ولم يترجح له أحد الطرفين، بنا على الأقل بالإجماع، بخلاف من غلب على ظنه أنَّه صلَّى أربعًا مثلاً.

قال الشيخ: المشهور عن أحمد: يبني على غلبة ظنه، وعلى هذا غالب أمور الشرع.

3 -

الحديث صريح في صحة الصلاة، وأنَّه لم يطرأ عليها ما يبطلها، هذا هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، وأحمد، والشافعي. وقال في "الشرح": ذهب جماعة من التابعين إلى وجوب الإعادة عليه، ولكن حديث الباب مع الأوَّلين، الذين يرون صحتها مع إصلاحها.

قال القرافي في "الذخيرة": التقرب إلى الله تعالى بالصلاة المرقعة المجبورة -إذا عرض فيها الشك- أولى من الإعراض عن ترقيعها، والشروع في غيرها، والاقتصار عليها بعد الترقيع أولى من إعادتها، فإنَّه منهاجه صلى الله عليه وسلم.

4 -

الشك -هنا- عند الفقهاء هو ما دون اليقين، فيشمل الظن الذي هو تجويز أمرين: أحدهما أضعف من الآخر، ويشمل الشك الذي هو مستوي الطرفين، فهذا كله شك عند الفقهاء، يجب فيه البناء على اليقين؛ لأنَّ الذمة مشغولة باداء الواجب، فلا تبرأ إلَاّ بيقين.

ص: 339

فهنا في باب السهو يجب على المصلي أن يبني على اليقين عنده، ويطرح ما شكَّ فيه، ويسجد سجدتي السهو ترغيمًا للشيطان، وهذا مذهب جمهور الفقهاء.

والرواية الأخرى عن الإمام أحمد: البناء على غلبة الظن، قال الشيخ تقي الدين في "الاختيارات": من شكَّ في الركعات، بنى على غالب ظنه، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود، وعلى هذا عامة أمور الشرع، ويقال مثله في الطواف، والسعي، ورمي الجمار، وغير ذلك.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: وأصح الأقوال في شك المصلي في عدد الركعات أنَّه يبني على اليقين، وهو الأقل إن كان الشك مساويًا، أو الأقل أرجح، وأنه يبني على غلبة الظن إذا كان له ظن راجح.

وعلى هذا تتنزل الأحاديث الصحيحة، فحديث أبي سعيد يدل على رجوعه إلى الأقل مع الشك، وحديث ابن مسعود يدل على رجوعه إلى ظنه، وهو الصريح في ذلك؛ لقوله:"فليتحرَّ الصواب".

***

ص: 340

269 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيْلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيءٌ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا، قَالَ: فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبلَ القِبْلَةَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَال: إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاهِ شَيْءٌ أَنْبَأُتُكُمْ بِهِ، وَلكِنْ إِنَّمَا أنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيْتُ فَذَكِّرُونِي، وَإذَا شَكَّ أحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَتَحرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثَمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ". مُتَّفقٌ عَليه.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "فَلْيُتِمَّ، ثُمَّ يُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ".

ولِمُسْلِمٍ: "أَنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَالكَلَامِ"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيءٌ؟: الهمزة فيه للاستفهام، و"حَدَثَ" بفتح الدال، ومعناه: السؤال عن حدوث شيء من الوحي، يوجب تغيير حكم الصلاة بالزيادة على ما كانت معهودة.

- وما ذاك؟: سؤال من لم يشعر بما وقع منه، ولا يقين عنده، ولا غلبة ظن، وهو خلاف ما عندهم.

- أنبأتكم: يقال: أنبأ ينبيء إنباء، بمعنى: أخبر، فالنبأ: الخبر، وجمع النبأ: أنباء.

(1) البخاري (401)، مسلم (572).

ص: 341

قال في "الكليات": "النبأ والإنباء لم يرد في القرآن إلَاّ لما له وقع وشأن عظيم"

- أنا بشر: تطرأ عليَّ، وتلحقني الحالة البشرية.

- بشر: بفتحتين، يطلق على عدة معانٍ، والمراد هنا: الإنسان: ذكرًا كان، أو أنثى، مفردًا أو جمعًا.

- أنسى: النسيان في اللغة: خلاف الذكر والحفظ، وفي الاصطلاح: النسيان غفلة القلب عن الشيء، فهو جهل طارىء يزول به العلم عن الشيء، مع ذكره لغيره، ليخرج النوم ونحوه.

ويأتي النسيان بمعنى الترك؛ كما في قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة، الآية: 67].

- إذا شكَّ أحدكم: الشك في اللغة: خلاف اليقين، وفي الاصطلاح: الشك ما يستوي فيه طرفا العلم والجهل، وهو الوقوف بين الشيئين؛ بحيث لا يميل إلى أحدهما، فإذا قوي أحدهما، وترجح على الآخر، فهو الظن.

- فليتحرَّ الصواب: التحري: القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول.

- فَلْيُتِمّ عليه: أي: فَلْيُتِمّ بانيًا عليه، ولولا تضمين "الإتمام" معنى "البناء"، لما جاز استعماله مع كلمة الاستعلاء.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

في هذا الحديث أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى إحدى الصلوات الرباعية خمسًا، ولم ينبهه الصحابة؛ لظنهم أنَّ تغييرًا طرأ على الصلاة بالزيادة، فلما سلَّم سألوه: أحَدَثَ في الصلاة شيء؟ فقال: "وما ذاك؟ " قالوا: صليتَ خمسًا، "فثنى رجليه، واستقبلَ القِبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم".

2 -

في الحديث دلالة على سجود السهو للزيادة سهوًا في الصلاة، وأنَّها لا تعاد، بل يسجد سجود السهو، ويجبر بهما خلل صلاته.

ص: 342

3 -

فيه دليل على أنَّ سجدتي السهو يُؤتى بهما من جلوس، فلا يشرع أن يقوم حينما يريد أن يسجدهما.

4 -

فيه دليلٌ على أنَّ المتابعة خطأَ لا تبطل الصلاة، ولكن إذا علم بخطأ إمامه فلا يتابعه إلَاّ في التشهد الأول، فإنه يقوم معه حينما لم يعلم الإمام بالخطأ إلَاّ بعد أن استتمَّ قائمًا.

5 -

فيه دليل على أنَّ سجدتي السهو، كسجود صلب الصلاة في الأحكام.

6 -

فيه دليل على أنَّ الانصراف عن القِبلة سهوًا، أو خطأ -لا يبطل الصلاة.

7 -

فيه دليل على أنَّ الكلام مع ظن إتمام الصلاة لا يبطلها، ولو طال.

8 -

فيه دليل على أنَّ محل سجود السهو يكون بعد السلام في مثل هذه الصورة.

9 -

حديث أبي سعيد فيه: "إذا شكَّ أحدكم في صلاته، فلْيطرح الشكَّ، وليبنِ على ما استيقن"، وحديث ابن مسعود:"إذا شكَّ أحدكم في صلاته، فليتحرَّ الصواب، فليتم عليه".

أحسن جمع بينهما: أنَّ الحديث الأول: هو في الشاك الذي لم يغلب على ظنه أحد الطرفين، والحديث الثاني: فيمن ترجح عنده أحد الطرفين، فهو يبني على ما وقع عليه تحريه، وقد تقدم تحقيق العمل بغلبة الظن.

10 -

قوله: "فإذا نسيتُ فذكروني" -دليل على أنَّه يجب على المأمومين أن ينبهوا الإمام إذا سها في الصلاة.

قال في "الروض المربع وحاشيته": ويلزم المأمومين تنبيه الإمام على ما يوجب سجود السَّهو؛ لارتباط صلاتهم بصلاته، ولأمره عليه الصلاة والسلام بتذكيره.

11 -

أما الإمام فإذا سبح به ثقتان، فإنه يلزم الرجوع إليهما؛ سواء نبَّهاه عن زيادة أو نقصان؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبِلَ قولَ أبي بكرٍ وعمر في قصة ذي

ص: 343

اليدين، وأمر بتذكيره، وهذا ما لم يتيقن صواب نفسه، فإن تيقن صواب نفسه، فلا يجوز له الرجوع إليهما؛ لأنَّ قول الثقتين يفيد الظن، واليقين مقدم عليه، والدليل على لك قصة ذي اليدين، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما كان جازمًا بصواب نفسه، لم يرجع إلى كلام ذي اليدين، فلما طرأ عليه الشك، وتحقق عنده النسيان من إخبار أبي بكر وعمر، رجع إلى قولهما؛ فالحديث دليل لحال جزمه بصواب نفسه، ورجوعه إلى التيقن مع عدم الجزم بصوابه.

12 -

تقدم لنا أنَّ المذهب عند أحمد: أنَّ ما لم يصل إلى درجة اليقين فإنه يعتبر شكًّا، يجب طرده والبناء على اليقين، والقول الآخر: أنَّ الواجب هو العمل بغلبة الظن، فإذا ترجح للإنسان شيء، وَجبَ أن يصير إليه؛ وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ويقول: إنَّ جميع أمور الشرع مبناها على غلبة الظن لا على اليقين.

وهذه القاعدة في كثير من أبواب العلم.

ومن أدلتها: قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "وإذا شكَّ أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، وليتم عليه".

* خلاف العلماء:

اختلف الأئمة في محل سجود السهو:

فذهب الحنفية: إلى أنَّ محله بعد السلام؛ لرواية البخاري في هذا الحديث: "فليتم، ثم يسلم، ثم يسجد"، ولما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن المغيرة أنَّه أتمَّ الصلاة وسلم، وسجد سجدتي السهو، وقال:"هكذا رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع".

وذهب الشافعية: إلى أنَّ محله قبل السلام، ودليلهم: ما رواه مسلم (571) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم يسجد سجدتين قبل أن

ص: 344

يسلم"، وما جاء في الصحيحين من حديث عبدالله بن بحينة: "أنَّه صلى الله عليه وسلم كبَّر وهو جالس، وسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم".

وذهب المالكية: إلى اختيار السجود قبل السلام إن كان سببه النقصان، أو النقصان مع الزيادة معًا، وإلى اختياره بعد السلام إن كان سببه الزيادة فقط.

ودليلهم على السجود قبل السلام في حال النقصان: حديث أبي هريرة في البخاري (1232)، ومسلم (389)؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ أحدكم إذا قام يصلي، فجاءه الشيطان فلبَّس عليه، حتى لا يدري كم صلَّى -فليسجد سجدتين وهو جالس".

وأما دليل الزيادة تكون قبل السلام: فحديث عبدالله بن بحينة الذي معنا.

وأما مذهب الحنابلة: فلا خلاف عندهم في جواز السجود قبل السلام أو بعده، وإنما التفصيل عندهم في الأفضل، فإن كان السجود بسبب السلام قبل إتمام الصلاة، بان سلم عن نقص ركعة فأكثر -فأفضلية هذا السجود أن يكون بعد السلام؛ لأنَّه من تمام الصلاة، ولحديث أبي سعيد في مسلم، ولما في الصحيحين من حديث عبدالله بن بحينة، وما عداه فأفضليته قبل السلام، والله أعلم.

قال في "فتح العلام" لصديق حسن: ولما وردت أحاديث محل سجود السهو وتعارضت، اختلفت آراء العلماء في الأخذ بها: فقال داود: في مواضعها على ما جاءت به، ولا يقاس عليها، ومثله قال أحمد.

وقال آخرون: هو مخير في كل سهو، إن شاء سجد بعد السلام، وإن شاء قبله في الزيادة والنقص.

وقال في "سبل السلام": وطريق الإنصاف أنَّ الأحاديث الواردة في ذلك قولاً وفعلاً فيها نوع من تعارض، فالأولى الحمل على التوسيع في جواز الأمرين.

ص: 345

وقال القاضي عياض: لا خلاف بين العلماء أنَّه لو سجد بعد السلام، أو قبله للزيادة أو للنقص أنَّه يجزئه، ولا تَفْسُدُ صلاته، وإنما اختلافهم في الأفضل.

قال محرره: وهذا قول سديد يجوز العمل بجميع هذه السنن الصحيحة، والله أعلم.

***

ص: 346

270 -

وَلأِحْمَدَ وَأَبِي دَاودَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ مَرْفُوعًا: "مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعدَمَا يُسَلِّمُ." وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيفٌ، قال الحافظ في "الفتح": في إسناده ضعف؛ لأنَّه من رواية مصعب بن شيبة، وفيه مقال.

قال أحمد: يروي المناكير، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال النسائي: منكر الحديث، وقال الدارقطني: ليس بالقوي، ولا بالحافظ.

فقال المنذري: وأما الذين قبلوا الحديث في "تهذيب سنن أبي داود": مصعب بن شيبة احتج به مسلم في صحيحه، وقال يحيى بن سعيد: ثقة.

ولذا صحَّحه الشيخ أحمد شاكر في "شرح المسند".

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ الشك في الصلاة بالزيادة فيها، أو النقص منها من أسباب سجود السهو.

2 -

فمن شكَّ في صلاته، فلا يدري أصلى -مثلاً- ثلاثًا أو اثنتين؟ أو شكَّ هل أتى بالركن، أو لم يأت به؟ فليطرح الشك وليبن على اليقين، وليأت بما شكَّ فيه، وليسجد سجدتي السهو بعد السلام.

3 -

تقدم أنَّ غلبة الظن أرفع من الشك، وأنَّه إذا كان عنده غلبة ظن فليعمل به، وليكن عنده بمنزلة اليقين، وهذا القول هو الراجح، وإلَاّ فالمذهب أنَّ غلبة

(1) أحمد (1/ 205)، أبو داود (1033)، النسائي (1248)، ابن خزبمة (2/ 159).

ص: 347

الظن من جملة الشكوك التي تطرح، ويبني معها على اليقين.

4 -

تقدم كلام الموفق بن قدامة: أنَّ الشكوك إذا كثرت لا تعتبر، ولا يلتفت إليها، وأنَّ طريق الخلاص منها قوَّة الإرادة والعزيمة.

***

ص: 348

271 -

وَعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا شَكَّ أحَدُكمْ، فَقَامَ فِي الرَّكعَتَينِ، فَاسْتَتمَّ قَائِمًا، فَلْيَمْضِ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ". رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وابْنُ مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ بِسَنَدٍ ضَعِيْفٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ، وله ثلاث طرق:

الأولى: رواها الترمذي من طريق المسعودي، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة.

قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

الثانية: رواها الترمذي من طرق محمد بن أبي ليلى، عن الشعبي، عن المغيرة.

قال أحمد: لا يحتج بحديث ابن أبي ليلى.

الثالثة: أخرجها أبو داود وابن ماجه والدارقطني من طريق جابر الجعفي، عن المغيرة بن شبيل، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة.

وجابر الجعفي ضعيف جدًّا؛ قال الترمذي: تركه يحيى بن سعد، وعبد الرحمن بن مهدي.

لكن تابعه قيس بن الربيع وإبراهيم بن طهمان، عن ابن شبيل، وإسناده صحيح.

قال الألباني: وجملة القول: أنَّ الحديث بهذه الطرق والمتابعات

(1) أبو داود (1036)، ابن ماجه (1208)، الدارقطني (1/ 378).

ص: 349

صحيح، لاسيَّما وبعض طرقه صحيحة عند الطحاوي.

* مفردات الحديث:

- استتم: يقال: استتم يستتم؛ أي: تمَّ قيامه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تقدم القول أنَّ الأرجح هو أنَّ القعود للتشهد الأول، والتشهد فيه واجبان من واجبات الصلاة، وأنَّ من تركهما عمدًا بطلت صلاته، ومن تركهمما سهوًا جبره بسجود السهو.

2 -

الحديث الذي معنا يدل على أنَّ من سها عن القعود للتشهد الأول، فقام فإن استتم قائمًا قبل أن يذكرهره، فإنه لا يعود، لكنَّه يسجد سجدتين قبل السلام.

3 -

وأما إن ذكره قبل أن ينتصب قائمًا، فإنه يجب عليه الرجوع، والجلوس، والإتيان به.

4 -

ظاهر الحديث: أنَّه لا سجود عليه إذا رجع؛ لأنه استدرك الواجب، فأتى به، وأخذ بهذا جماعة من أهل العلم، فلم يوجبوا عليه سجود السهو.

ودليلهم أيضًا: الحديث الصحيح: "لا سهو في وثبة من الصلاة، إلَاّ قيام عن جلوس، أو جلوس عن قيام"[رواه الدارقطني (1/ 377) والحاكم (1/ 471) وضعفه الحافظ في "التلخيص" (2/ 3)].

وذهب الحنفية إلى: أنَّه لو استتم قائمًا، فإن عاد، وهو إلى القيام أقرب، سجد للسهو، وان كان إلى القعود أقرب لا سجود عليه في الأصح.

وذهب الحنابلة إلى: أنَّه يجب عليه سجود السهو لحركته هذه؛ وذلك لما روي البيهقي (2/ 343) وغيره عن أنس؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "تحرك للقيام في الركعتين الأخيرتين من العصر، فسبحوا به، فقعد ثم سجد للسهو".

قال الحافظ: رجاله ثقات، ولحديث الباب؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يسشتم قائمًا فليجلس، ويسجد سجدتي السهو".

ص: 350

272 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الإِمَامِ سَهْوٌ، فَإِنْ سَهَا الإِمَامُ، فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ". رَوَاهُ البَزَّارُ وَالبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيفٌ.

وقال البيهقي: ضعيف، قال الشوكاني: فيه خارجة بن مصعب، وهو ضعيف، وأبو الحسين المديني، وهو مجهول.

تنبيه: وقع في المطبوع من "بلوغ المرام" وشرحه "سبل السلام" عزو الحديث للترمذي وهو خطأ، وإنما عزاه إلى البزار كما في النسخة المقابلة على أصل المؤلف.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على أنَّ الإمام يتحمل عن المأموم السهو، فإذا سها المأموم دون إمامه، فليس على المأموم سجود السهو، وقد حكاه ابن المنذر إجماعًا، وأصول الشريعة تؤيد هذا الحكم؛ ذلك أنَّ المأموم يتابع إمامه، حتى إنَّ المتابعة تقدم على الإتيان بالتشهد الأول، وجلسته إذا تركهما الإمام.

2 -

يدل على أنَّ سهو الإمام يوجب السجود على المأموم، ولو لم يَسْه المأموم، أو كان سهو الإمام فيما لم يدركه المأموم، فيسجدة لعموم قوله:"فإذا سجد، فاسجدوا"، وقد حكاه ابن المنذر إجماعًا؛ ذلك أنَّ الائتمام يوجب على المأموم متابعة الإمام والاقتداء به، ولأنَّ النقص الذي طرأ على صلاة

(1) البيهقي (2/ 352)، الدارقطني (1/ 377).

ص: 351

الإمام يلحق صلاة المأموم.

3 -

ظاهر الحديث أنَّ الإمام يتحمل سهو المأموم مطلقًا؛ سواء دخل المأموم معه من أول الصلاة، أو فاته شيء منها.

والمشهور في مذهب الإمام أحمد: أنَّ المأموم إذا لم يدرك الصلاة كلها مع الإمام، فإنَّ إمامه لا يتحمل عنه سجود سهوه مع إمامه، أو سهوه فيما انفرد به من بقية الصلاة؛ لأنَّه يعتبر منفردًا في صلاته عن الإمام فيما يقضيه، ولأنَّ سجود السهو قبل السلام، وهو في ذلك الوقت يصلي منفردًا.

4 -

هذه الصورة من فوائد إدراك الجماعة مع الإمام، ومن تلك الفوائد أنَّ صلاة بعضهم تحمل صلاة البعض الآخر، بالدعاء وشمول المغفرة، والقبول، وغير ذلك.

5 -

وفيه بيان أهمية مقام الإمام ومرتبته، وأنَّها لا تجوز مخالفته والاختلاف عليه، ولذا فإنَّ كثيرًا من الأعمال الواجبة يتركها المأموم؛ مراعاة لإمامه والاقتداء، فلينتبه الذين أولعوا بمسابقة الإمام، وعدم التقيد بمتابعته؛ فإنَّهم لا وحدهم صلوا، ولا بإمامهم اقتدوا، والله الهادي إلى سواء السبيل.

6 -

في هذا تنبيه من الإمامة الصغرى على الإمامة الكبرى، وهي الولاية العامة من تحريم الاختلاف على ولاة الأمور وعصيانهم وشقاقهم، والخروج عليهم، ومخالفة أوامرهم بالمعروف، فقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} [النساء: 59] وقد جاء في البخاري (7053) ومسلم (1849) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كرِهَ من أميرهِ شيئًا، فليصبر؛ فإنَّه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا، فمات عليه، إلَاّ ماتَ ميتة جاهلية". والأحاديث في الباب كثيرة.

***

ص: 352

273 -

وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "لِكُلِّ سهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدمَا يُسَلِّمُ". رَوَاهُ أَبُو دَاودَ وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسنٌ، ومنهم من ضعَّفه؛ لأنَّ في إسناده إسماعيل بن عياش، وفيه مقالٌ، قال البيهقي: إسماعيل ابن عياش ليس بالقوي، وقال العراقي: مضطرب، وقال الحافظ: في إسناده اختلاف، قال البخاري: إذا حدث عن أهل بلده الشاميين فصحيح، فتضعيف الحديث به فيه نظر؛ لأنَّه رواه عن شامي، وهو عبدالله الكلاعي، لكن فيه زهير ابن سالم العنسي، وهو لين الحديث، ولذا تجد أنَّ المنذري سكت عنه، كأنه لا يرى ضعفه، والله أعلم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يحتمل معنيين:

الأول: أنَّ كلَّ سهو يقع في الصلاة، فله سجدتا سهو، ويتعدد سجود السهو بتعدد السهو الواقع في الصلاة، هذا هو أظهر المعنيين من الحديث، وهذا خلاف ما ذهب إليه جمهور العلماء من إجزاء سجدتي سهو، ولو تعدد السهو.

الثاني: أنَّ المراد بذلك: عموم أنواعه الوارد منها وغير الوارد، وأنَّ السهو اسم جنس، فأي سهو يقع في الصلاة بزيادة فعل من جنسها، أو نقص مما يجب فيها، أو شك في الجملة؛ سواء ورد بمثله حديث أو لم يرد -فإنَّه

(1) أبو داود (1308)، ابن ماجه (1219).

ص: 353

يوجب سجود السهو، وهذا المعنى -ولو مع عدم ظهوره- فهو أولى الاحتمالين لموافقته النصو السابقة، ولأنَّه مذهب جمهور العلماء.

2 -

الحديث من أدلة من يرى أنَّ سجود السهو بعد السلام؛ وهم الحنفية.

***

ص: 354

274 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ". رواهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

*ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث في سجود التلاوة، وقد أجمع العلماء على أنَّه مشروع.

قال النووي: أجمع العلماء على إثبات سجود التلاوة، فقد شرعه الله تعالى ورسوله، عبودية وقُربة إليه، وخضوعًا لعظمته، وتذلُّلاً بين يديه عند تلاوة آيات السجود واستماعها.

2 -

جمهور العلماء يرون أنَّه سنة، ويرى أبو حنيفة وجوبه دون فرضيته، واستدلوا على وجوبه بقوله تعالى:{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} [الانشقاق] فذمَّهم على ترك السجود، وإنما استحق الذم بترك الواجب، كما استدلوا بمطلق أمر:{فاسجدوا} .

3 -

قال ابن القيم: سجدات القرآن إخبار من الله تعالى عن سجود مخلوقاته، فسُنَّ للتالي، والمستمع أن يتشبه بها عند تلاوة آية السجدة أو سماعها، وبعض السجدات أوامر، فيسجد عند تلاوتها بطريق الأولى.

4 -

سجود التلاوة بحق القارىء، والمستمع -وهو قاصد الاستماع- لاشتراكهما في الثواب، دون السامع الذي لم يقصد الاستماع، فلا يشرع بحقه، وعند الحنفية تجب على كل سامع.

5 -

قال شيخ الإسلام: ومذهب طائفة من العلماء أنَّه لا يشرع فيه تكبيرة

(1) مسلم (578).

ص: 355

الإحرام، ولا التحليل، هذا هو السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليها عامة السلف، فلا يشترط لها شروط الصلاة، بل تجوز على غير طهارة.

قال في "سبل السلام": الأصل أنَّه لا تشترط الطهارة إلَاّ بدليل، وأدلة وجوب الطهارة وردت للصلاة، والسجدة لا تسمى صلاة، فالدليل مطلوب ممن اشترط ذلك.

6 -

الحديث دلَّ على سجدتي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، و {اقْرَأْ} في سجدات التلاوة، وهذا يُرَدُّ به على الشافعية، الذين لا يرون سجدات المفصَّل.

قال الطحاوي: تواترت الآثار عنه صلى الله عليه وسلم بالسجود بالمفصَّل، وأحاديث أبي هريرة مقدمة على خبر ابن عباس.

7 -

أرجح الأقوال في سجود التلاوة أنَّه سنَّة، وليس بواجب؛ لأنَّ عمر سجد مرَّة، وتركه أخرى، ونبَّه الناس على عدم وجوبه.

8 -

يقال في سجود التلاوة ما يقال في سجود الصلاة: "سبحان ربي الأعلى"؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في سجودكم"، ولا بأس من زيادة بعض الأدعية، لاسيما المأثورة.

9 -

أنَّه يكبر إذا سجد وإذا رفع، إذا كان السجود في الصلاة؛ لحديث:"يكبر كلما خفض، وكلما رفع"، أما ترك التكبير فلم يُبْنَ على أصلٍ صحيح، هذا إذا كان السجود في الصلاة.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في عدد سجدات القرآن:

فقال الحنفية: هي أربعة عشر محلاًّ، فتُعتبر سجدة (ص)، ولا يرون في سورة الحج إلَاّ سجدة واحدة.

وذهب الشافعية إلى: أنها أحد عشر موضعًا، فهم لا يعتبرون سجدات المفصل.

ص: 356

وذهب الحنابلة إلى: أنَّها أربع عشرة سجدة، ولا يعتبرون سجدة (ص) من عزائم السجود.

قال الحافظ: المجمع عليه عشرة مواضع، وهي متوالية، إلَاّ الثانية في الحج، وسجدة (ص).

واختلف العلماء في أحكام سجود التلاوة، من حيث التكبير والسلام، على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه يكبر للسجود، ويكبر عند الرفع منه، ويسلم، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، ولكن لا دليل عليه، والعبادات توقيفية، لا تثبت إلَاّ بدليل.

الثاني: أنَّه لا يكبر في السجود، ولا في الرفع منه، ولا يسلم منها؛ لأنَّه لم يرد في ذلك شيء، وأما حديث ابن عمر:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجدة، كبَّر وسجد وسجدنا معه"[رواه أبو داود (1413)]-فضعَّفه أصحاب هذا القول.

الثالث: أنَّه يكبر إذا سجد، ولا يكبر إذا قام، ولا يسلم؛ لأنَّ تكبير السجود ورد فيه هذا الحديث، وأما تكبير الرفع والتسليم، فإنَّه لم يرد فيه شيء فيما نعلم، وهذا القول الوسط هو أعدل الأقوال، وقد اختاره ابن القيم في "زاد المعاد".

***

ص: 357

275 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: " {ص} لَيْسَتْ مِن عَزَائِم السُّجُودِ، وَقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِيهَا". رواه البُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- ص: قال المفسرون: اختلف أهل التأويل في الحروف المُقَطَّعة التي في أوائل السور: فقال بعضهم: هي سر الله في القرآن، فالله أعلم بمراده منها.

وقال بعضهم: إنَّها أسماء للسور.

وقال بعضهم: إنَّ الله تحدى بها العرب؛ كأنَّه يقول: إنَّ القرآن مؤلف من هذه الأحرف التي تعرفونها: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة].

وفي قراءة (ص)، وإعرابها، والنطق بها -أقوال كثيرة، والمشهور في قراءتها على السكون.

- ليست من عزام السجود: العزائم جمع "عزيمة"، وهي التي أُكِّد على فعلها، فسجدة (ص) ليست مما ورد في السجود فيها أمر موجب، وإنما ورد بصيغة الإخبار بأنَّ داود عليه السلام فعلها شكرًا لله تعالى، فسجدها نبينا صلى الله عليه وسلم اقتداءً به.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على أنَّ سجدة (ص) ليست من عزائم السجود؛ أي: ليست مما ورد أمر في السجود فيها، أو حث عليها كغيرها من سجدات القرآن،

(1) البخاري (1069).

ص: 358

وإنما وردت بصفة الإخبار عن داود عليه السلام بأنَّه سجدها شكرًا لله، وسجدها نبينا صلى الله عليه وسلم اقتداءً به، وعند النسائي (957) أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:"سجدها داود توبة، ونسجدها شكرًا"، فينبغي أن نقتصر في سجودها على خارج الصلاة، وسجدة الشكر محلها خارج الصلاة.

2 -

المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّ السجود لأجل سجدة (ص) يبطل الصلاة، وقيل: لا تبطل بها الصلاة؛ لأنَّها تتعلق بالتلاوة، فهي كسائر سجدات التلاوة.

قال الشيخ عبدالرحمن السعدي: الصحيح أنَّ سجدة (ص) لا تبطل الصلاة؛ لأنَّ سببها القراءة المتعلقة بالصلاة.

وعدم السجود بها في الصلاة هو الراجح من مذهب الإمام الشافعي، قال في "فتح الباري": استدل الشافعي بقوله "شكرًا" على أنه لا يسجد فيها في الصلاة؛ لأنَّ سجود الشكر لا يشرع في داخل الصلاة.

وقد صح الحديث بسجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها خارج الصلاة.

4 -

قال مجاهد: سألتُ ابن عباس عن سجدة (ص)، فقال: أُمِرَ نبيكم أن يقتدي بالأنبياء في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] قال الرازي: أوجب أن تجتمع به جميع خصائص الأنبياء، وأخلاقهم المتفرقة.

5 -

قال الشيخ عبد الله بن محمد السوداني في تفسيره: "كفاية أهل الإيمان": اعلم: أنَّ الله لم يحك لنا ما فعل داود مفصلاً، بل ستره عليه، فيجب على كل مسلم ألا يخوض فيه، إلَاّ على أحسن المخارج.

***

ص: 359

276 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أنَّ النِّبيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ بِالنَّجْمِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث فيه مشروعية سجود التلاوة للقارىء.

2 -

وفيه دليل على اعتبار سجدات المفصل من سجدات التلاوة، خلافًا للشافعي في عدم اعتبار سجدات المفصل من سجود التلاوة، فقد روى البخاري:"أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرأ {والنجم} فسجد، وسجد معه المسلمون والمشركون".

قال الطحاوي: تواترت الآثار عنه صلى الله عليه وسلم بالسجود في المفصل، وتقدم.

3 -

سبب سجود المشركين معه في مكة -عند سماع سورة {النجم} - ما سمعوه في آخر السورة من إهلاك الأمم المكذبين لرسلهم، قال تعالى:{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)} [النجم] فهذه القوارع هي التي أخافتهم، فسجدوا.

ولهم مواقف مثلها عند سماع القرآن؛ فإنَّ عتبة بن ربيعة لما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم {حم} فصلت، وواصل صلى الله عليه وسلم تلاوته عليه إلى قوله تعالى:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} [فصلت] أمسك بفم النبي صلى الله عليه وسلم، وناشده الرحم أن يكف عن القراءة، وعاد إلى قريش بغير الوجه الذي ذهب به منهم، ونصحهم، ولكن لم يقبلوا النصيحة. وحكيم بن حزام لما سمع قوله تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور] أرجف منها، وهو في حال كفره.

(1) البخاري (1071).

ص: 360

فهذا هو ما دعا المشركين إلى السجود في هذه السورة، لا ما تفوه به الزنادقة، والمخدوعون من قصة الغرانيق الباطلة، فهي واهية المعنى، ساقطة الدلالة، بعيدة عن مقام النبوة، ولكن أعداء الإسلام يولعون بمثل هذه الافتراءات، ويجدون من يتابعهم: إما من تلاميذهم في الكفر، وإما من السذج، وإلَاّ فإنَّه قد وصف رسوله صلى الله عليه وسلم في أول السورة بأنه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} ، ثم جاء باداة الاستفهام الإنكاري من هذه الأصنام، وتسميتهم لها، وعبادتهم إياها، وقد أبطلها، وردّ هذه الرواية أئمة الإسلام، ولكن المقام لا يتسع لنقل كلامهم، فلا تغتر بمحاولة بعض العلماء لتصحيح أسانيد روايتها، فإنَّ كل ما خالف القرآن، أو صادم الدين -مرفوض.

***

ص: 361

277 -

وعَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: "قَرَأْتُ علَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {النَّجْمَ}، فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا". مُتَّفقٌ عَلَيهِ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

فيه دليل على أنَّ القارىء إذا لم يسجد، فإنه لا يسجد المستمع.

2 -

فيه دليل أنَّ سجود التلاوة مندوب، وليس بواجب؛ إذ لو كان واجبًا، لأنكر على زيد عدم سجوده.

ويحتمل أنه ترك السجود لعذر، ولكن تقدم أنَّ مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد: أنَّه سنة.

وأبو حنيفة يرى: أنَّه واجب، وليس بفرض، والواجب عندهم أقل من الفرض، فإنَّه ما ثبت بدليل ظني، أما الفرض فما ثبت بدليل قطعي.

3 -

الحديث لا يصلح دليلاً للشافعية في قولهم: إنَّه منذ هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يسجد في شيء من المفصل؛ فإنَّ حديث أبي هريرة؛ أنه سجد في {الانشقاق} و {العلق} يرد هذا، فإنَّ أبا هريرة الذي لم يسلم إلَاّ بعد الهجرة بست سنين، حيث أسلم بعد غزوة خيبر -يقول:"سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ {الانشقاق} و {العلق} ".

فترك السجود في هذا لا يصلح دليلاً على نسخه، فيحتمل أنَّه تركه لبيان الحكم من حيث عدم الوجوب، أو أنَّ القارىء لم يسجد، فلا يسجد المستمع، أو من باب تركه عليه السلام العمل وهو يُحِبُّ أن يفعله، خشية فرضه، فالمحامل كثيرة.

(1) البخاري (1073)، مسلم (577).

ص: 362

278 -

وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ رضي الله عنه قَالَ: "فُضِّلَتْ سُورَةُ الحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ". رَوَاهُ أَبُو دَاودَ فِي "المَرَاسِيلِ"(1).

وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مَوْصُولاً مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَزَادَ:"فَمَنْ لَمْ يَسْجدْهُمَا، فَلَا يقْرَأْهَا". وسَنَدُهُ ضَعيفٌ (2).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث مرسلٌ، وله شواهد يشد بعضها بعضًا، كما قال ابن كثير.

وأما حديث عقبة: فقال ابن كثير: رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن لهيعة، قال الترمذي: وليس بالقوي.

قال في "التلخيص": وأكده الحاكم بأنَّ الرواية صحت فيه من قول عمر، وابنه، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وعمار.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على ميزة سورة الحج على غيرها من سورة القران؛ بأنَّ فيها سجدتين، ولكنه لا يدل على تفضيلها على غيرها من السور مطلقًا، وإنَّما يفضل الشيء على الشيء بحسب ما قيِّد به.

2 -

يدل على أنَّ سجدة الحج الأخيرة من سجدات القرآن المعتبرة، ففيه رد على أبي حنيفة وأتباعه، من عدم اعتبارها من سجدات القرآن.

3 -

يدل على وجوب السجود في هذه السورة به. بسجدتيها؛ فإنَّ النَّهي عن قراءتها إلَاّ لمن أراد أن يسجد فيهما -دليل على وجوبه؛ لأنَّ النَّهي لا يكون إلَاّ لترك

(1) أبو داود في المراسيل ص (113).

(2)

أحمد (4/ 151)، الترمذي (578).

ص: 363

الواجب، ولكن يحمل على تأكيد السجود فيها، من غير وجوب، كما هو مذهب الجمهور، وهو عدم وجوب سجود التلاوة، وقد وردت نصوص كثيرة بترك السجود، منها الأثر الآتي عن عمر رضي الله عنه أنَّه قال:"إنَّ الله تعالى لم يفرض علينا السجود، إلَاّ أن نشاء". [رواه البخاري].

4 -

أن وجه النهي عن قراءتها لمن لم يسجدهما، هو أنَّ السجدة شرعت في حق التالي بتلاوته، والإتيان بالسجدة من حق التلاوة، وهي لا تخلو إما أن تكون واجبة فيأثم بتركها، أو سنة فيستضر بالتهاون بها.

***

ص: 364

279 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: "يَا أيُّهَا النَّاسُ، إنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَد فَقَدْ أصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَفِيهِ: "إنَّ اللهَ تَعَالَى لَم يَفْرِضِ السُّجُودَ، إلَاّ أنْ نَشَاءَ". وَهِوَ فِي "المُوَطَّأِ"(1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الأثر من أمير المؤمنين قاله في خطبة الجمعة، أمام الصحابة كلهم، فلم ينكر عليه أحد منهم؛ فدلَّ على عدم المعارضة، فحينئذٍ يكون قول الصحابي حجة، لاسيما الخليفة الراشد، الذي هو أولى باتباع السنة، وبحضور جميع الصحابة، فيكون إجماعًا، كما أنَّه جاء في بعض ألفاظ الأثر:"يا أيُّها الناس، إنا لم نؤمر بالسجود" وهذا حديث له حكم الرفع، والمؤلف ما ساقه هنا إلَاّ للاستدلال به، على أنَّه ليس بواجب، وإنما هو مستحب.

2 -

إذا كان هذا الأثر ينفي وجوب سجود التلاوة، فإنَّه يدل على استحبابه، وأنه ليس مندوبًا إليه.

قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: ولم يأت بإيجابه قرآنٌ، ولا سنةٌ، ولا إجماعٌ، ولا قياسٌ.

(1) البخاري (1077)، الموطأ (482).

ص: 365

280 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرأُ عَلَيْنَا القُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بالسَّجْدَةِ كَبَّرَ، وَسَجَدَ، وسَجَدْنَا مَعَهُ". رَوَاهُ أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ فِيهِ لِيْنٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث فيه ضعفٌ، لكن أصله في الصحيحين.

قال في "التلخيص": رواه أبو داود، وفيه عبدالله العمري، المكبر، وهو ضعيف، وأخرجه الحاكم (1/ 421) من رواية عبيد الله العمري، المصغر، وهو ثقة، وقال: إنَّه على شرط الشيخين.

قلتُ: وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر بلفظ آخر.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على مشروعية سجود التلاوة.

2 -

يدل على أنَّ المستمع يسجد إذا سجد القارىء.

3 -

يدل على أنَّ القارىء إمام للمستمعين في تلك السجدة.

4 -

يدل على أنَّ القارىء إذا لم يسجد، فإنَّ المستمع لا يسجد.

5 -

يدل على أنَّه يكبر إذا سجد، والظاهر أنَّه يكتفي بتكبيرة واحدة، تجزىء عن تكبيرة الانتقال، ويكون الأصل فيها للإحرام، ولم يذكر في الحديث تكبيرة للرفع من السجود، مما يدل على أنه لم يشرع.

6 -

أما شيخ الإسلام فيقول: ولا يشرع في سجود التلاوة تحريم، ولا تحليل، وهذا هو السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليها عامة السلف، وعلى هذا

(1) أبو داود (1413).

ص: 366

فليس هو صلاة، فلا يشترط له شروط الصلاة، بل يجوز على غير طهارة، وإلى غير القبلة كسائر الذكر، وكان ابن عمر يسجد على غير طهارة، واختارها البخاري، للكن السجود بشروط الصلاة أفضل.

وقال ابن القيم: لم يذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يكبر للرفع من هذا السجود.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: سجود التلاوة إذا فعل خارج الصلاة، فالصحيح أنَّه لا يجب فيه تكبير ولا تسليم، ولا يشترط فيه الطهارة، ولا استقبال القبلة، ولكنه بشروط الصلاة أكمل، وإن كان في نفس الصلاة، فحكمه حكم سجود الصلاة؛ وهو اختيار الشيخ تقي الدين.

7 -

أما المشهور من مذهب الإمام أحمد: فقال عنه في "شرح الزاد": وإذا أراد السجود فإئَه يكبر تكبيرتين: تكبيرة إذا سجد، وتكبيرة إذا رفع؛ سواء كان في الصلاة أو خارجها، ويجلس إن لم يكن في صلاة، ولا يتشهد، ويسلم وجوبًا، وتجزىء تسليمةٌ واحدة، ويرفع يديه ندبًا إذا سجد، ولو في الصلاة، وسجود من قيام أفضل، ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، كما يقول في صلب الصلاة، كان زاد غيره مما ورد فحسن.

8 -

قال الشيخ تقي الدين: وأحاديث الوضوء مختصة بالصلاة، لكن السجود بشروط الصلاة أفضل، ولا ينبغي أن يخل بذلك إلَاّ لعذر، فالسجود بلا طهارة خير من الإخلال به.

***

ص: 367

281 -

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إِذَا جَاءَهُ أمرٌ يَسُرُّهُ، خَرَّ سَاجِدًا للهِ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ النَّسَائيَّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي، وقال الترمذي: حسن غريب.

وفي إسناده: بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة الثقفي، وهو ضعيف عند العقيلي وغيره، وقال ابن معين: صالح، وقال ابن عدي: أرجو أنَّه لا بأس به، وهو من الضعفاء الذين يكتب حديثهم، وذكره العقيلي في "الضعفاء".

وللحديث شواهد من حديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد، ومن حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي داود، وفي الباب عن جابر وابن عمر وأنس، وقد سجد أبو بكر لما قُتل مسيلمة، وسجد كعب بن مالك لما بُشِّرَ بالتوبة، والله أعلم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث يدل على سجدة يقال لها: "سجدة الشكر"، وهي مستحبة عند تجدد نعمة، أو اندفاع نقمة؛ سواء أكانت النقمة، أو النعمة خاصة بالساجد، أم عامة للمسلمين.

2 -

حكمها حكم سجود التلاوة، فمن اعتبر الأولى صلاة اعتبر هذه صلاة، لها أحكام الصلاة من اشتراط الطهارة، والاستقبال، والتكبير، والتسليم، وغير ذلك من أحكام الصلاة، ومن لم ير سجود التلاوة صلاة -كابن تيمية

(1) أحمد (5/ 45)، أبو داود (2774)، الترمذي (1578)، ابن ماجه (1394).

ص: 368

وغيره- اعتبر هذه مثلها.

ولذلك قال الشيخ في "الاختيارات": وسجود الشكر لا يفتقر إلى طهارة؛ كسجود التلاوة.

3 -

ذهب إلى استحباب سجود الشكر الشافعية والحنابلة:

قال ابن القيم: لو لم تأت النصوص بالسجود عند تجدد النعم، لكان هو محض القياس، ومقتضى عبودية الرغبة.

أما الحنفية والمالكية: فلم يستحب عندهم سجود الشكر.

4 -

يختلف سجود الشكر عن سجود التلاوة؛ بأنَّ سجود التلاوة يجوز في الصلاة، حينما يمر القارىء في صلاته بقراءة آية سجدة، أما سجود الشكر فتبطل به الصلاة عند الحنابلة.

قال في: "شرح الزاد": يستحب في غير صلاة سجود الشكر، عند تجدد النعم، واندفاع النقم، وتبطل به صلاة غير جاهل وناسٍ، والله أعلم.

***

ص: 369

282 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: "سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ، وَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أتانِي فَبَشَّرَنِي، فَسَجَدْتُّ للهِ شُكْرًا". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

قال الحاكم: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

قال في "التلخيص": رواه أحمد والبزار والعقيلي والحاكم، كلهم من طريق محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الرحمن بن عوف، وهو لم يسمع منه، ورواه الإمام أحمد من طريق عبد الواحد بن محمَّد بن عبد الرحمن بن عوف، ولم يوثق عبد الواحد إلَاّ ابن حبان، وسيأتي في الحديث الآتي ما يؤيده.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

استحباب سجود الشكر عند تجدد نعمة.

2 -

استحباب إطالة السجود، شكرًا لله تعالى، واعترافًا بنعمه، وثناءً عليه، وسؤاله المزيد من فضله وجوده.

3 -

البشارة التي جاء بها جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هو أنَّه أخبره أنَّ من صلَّى عليه صلى الله عليه وسلم صلاة واحدةً، فإنَّ الله تعالى يصلي عليه بها عشر مرات، واستبشر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الفضل لأمرين:

الأول: أنَّ الله تعالى أعلى درجته، ورفع ذكره، وكثَّر أجره بكون المسلمين يصلون عليه صلى الله عليه وسلم، ويدعون له.

الثاني: هذا الثواب العظيم لأمته حينما يصلون على نبيهم؛ فإنَّ الله

(1) أحمد (1/ 191)، الحاكم (1/ 550).

ص: 370

تعالى من فضله وكرمه يصلي عشر مرات، على من صلَّى صلاة واحدة على نبيه صلى الله عليه وسلم.

4 -

الفضل العظيم، والشرف الكبير لنبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم عند ربه، وعِظم هذه المنزلة عنده.

5 -

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، واستحباب الإكثار منها؛ ليحصل للعبد هذا الأجر، وليقوم بشيء من حق نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم.

6 -

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم المشروعة هي الصيغة المعروفة بالأحاديث الصحيحة، والتي تؤدى كما كانت تؤدى زمن الصحابة وصدر الإسلام، أما صيغ الصلوات المبتدعة، والاجتماعات التي ما كانت معروفة، ولا أصل لها في الشريعة، فهذه لا تعتبر صلاة شرعية، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردٌّ" وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌّ".

***

ص: 371

283 -

وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيًّا إلىَ اليَمَنِ -فَذَكَرَ الحَدِيثَ- قال: فَكَتَبَ عَلِيٌّ بِإسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الكِتَابَ، خَرَّ سَاجِدًا". رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيُّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث أصله في البخاري، وهو مؤيد للحديث الذي قبله، وسجود الشُّكر في تمام الحديث صحيح على شرط البخاري، وأيَّد ذلك ابن عبد الهادي في "المحرر".

* مفردات الحديث:

- خَرَّ: يَخِرّ خَرًّا وَخُرُورًا، من باب ضرب، والمراد هنا: انْكَبَّ؛ على الأرض ساجدًا لله.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ من أعظم نعم الله تعالى على عباده المسلمين، هو عزّ الإسلام، وإعلاء كلمة الله، ونصر دينه؛ فإنَّ حياة المسلمين الحقيقة، وسعادتهم الأبدية هي في عز دينهم ونصرته، فإسلامُ طوائفَ كبيرةٍ، ودخولهم في الإسلام، عزٌّ للمسلمين، وتكثير لسوادهم.

2 -

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق، وإنقاذهم من ظلام الكفر إلى نور الإيمان، فهو يبعث البعوث إليهم؛ ليدعوهم إلى دين الله تعالى، ويفرح الفرح العظيم بهدايتهم؛ لأنَّ في هذا أمورًا كثيرة:

(1) البيهقي (2/ 369).

ص: 372

أولاً: إنقاذ هذا الجمع البشري من النار، والتسبب في دخولهم الجنة.

الثاني: له الأجر الكبير في هدايتهم، ودلالتهم على الخير، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"لأنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ منْ حُمُرِ النَّعَم". أرواه البخاري (2942)].

الثالث: إنَّ في هذا نجاحًا لدعوته، وامتثالاً لأمر ربه، وأداءً لرسالته.

3 -

في الحديث دليل على أنَّ سجود الشكر يكون من قيام، أفضل من كونه من قعودٍ؛ لقوله:"وخرَّ ساجدً"؛ فإنَّ الخرور لا يكون إلَاّ من قيام، ويحتمل أنَّ البشارة جاءته وهو قائم، فحينئذٍ لا يكون في الحديث دليل على استحباب سجود الشكر من قيام.

4 -

مشروعية هذا السجود عند وجود نعم الله تعالى وفضله، وكمال نعمته وتجددها، والله أعلم.

***

ص: 373