المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب المساجد مقدمة المساجد: جمع مسجد، والمسجد لغة: بفتح الميم وكسر الجيم، - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٢

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌باب المساجد مقدمة المساجد: جمع مسجد، والمسجد لغة: بفتح الميم وكسر الجيم،

‌باب المساجد

مقدمة

المساجد: جمع مسجد، والمسجد لغة: بفتح الميم وكسر الجيم، اسم مكان السجود.

قال الصقلي: ويقال مسيد، بفتح الميم، حكاه غير واحد.

وأما شرعًا: فكل موضع في الأرض فإنَّه مسجد.

وهذا من خصائص هذه الأمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ لي الأرض مسجدًا"[رواه البخاري (335)، ومسلم (521)].

قال القرطبي: هذا ما خصَّ الله به نبيه، وكانت الأنبياء قبله إنَّما أبيحت لهم الصلوات في مواضع مخصوصة، ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة، لقرب العبد من ربه فيه، اشتق منه اسم مكان، فقيل: مسجد.

وللمساجد أحكام ذكرها الفقهاء في "باب الاعتكاف"، وأفرد بعض العلماء كتبًا مستقلة بأحكام المساجد، من أهمها:"إعلام الساجد بأحكام المساجد" للزركشي الشافعي.

وكانت المساجد -زمن عز الإِسلام وقوته- منارة العلم ومثابة العلماء، فيها تزدحم الحلقات، وتلقى المحاضرات، وتعقد الندوات، وتسمع المناظرات، والمساجلات، فكان المسجد هو الأساس في الإِسلام، فقد كان من رسالته:

أولًا: إنه مكان للعبادات وإقامة الشعائر، فكان المسلمون يلتقون فيه،

ص: 111

يجتمع قويهم بضعيفهم، وغنيهم بفقيرهم، وعالمهم بجاهلهم، فكان المحرومون من هذه المواهب يتلقونها، ويأخذونها ممن منَّ الله عليهم بها، من إخوانهم العلماء، والأقوياء، والأغنياء، والعقلاء.

ثانيًا: كان المسجد هو الجامعة العلمية التي تلقى فيها الدروس، وتعقد فيها الحلقات، فتجد علماء الشريعة وعلماء اللغة، وعلماء الاجتماع، وتجد الوعاظ والمرشدين والموجهين، فيخرج التلميذ من المسجد عالمًا تقيًّا زكيًّا، حمل العلم الشرعي، وتحلَّى بالسلوك الإِسلامي، فأخذ العلم، شريعة وحقيقة وطريقة.

ثالثًا: كانت تعقد في المسجد رايات الجهاد، ويُعيَّن فيه القوَّاد، وتُجهَّز الجيوش، وتتلقى أخبار الفتوح والانتصارات، فتبلغ المسلمين من أعواد منابر المساجد.

رابعًا: كان المسجد كل شيء في حياة المسلمين، ذلك أنَّ أساس حياتهم كانت قائمة على الدين، وكانت أمورهم تسير وفق أحكام الإِسلام، ولما فصلوا الإِسلام عن الحياة، وقصروه على العبادات، وأبعدوه عن مجال الحياة والسياسة، ضعف أمر المسجد وهان شأنه، واستخفَّ بمقامه، وصار لا يتمسك به إلَاّ الطبقة المحرومة من الجاه والمال، والثقافة العصرية، التي صار لها الشأن الأكبر في الأوساط العلمية، فهانوا وضعفوا.

فانصراف المسلمين عن المسجد، وبُعدهم عنه، واستخفافهم بأمره، وبعدهم عن القيام برسالته، والتخلي عن دوره -هو الذي حط من قدرهم، وهو الذي قلل من شأنهم، وهو الذي فرَّقهم فأضعفهم، فإذا كانوا يريدون العزة، وإذا كانوا يرجون السيادة، فليعيدوا إلى المسجد رسالته، وليهتموا بأمره، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلَاّ بما صلح به أولها، والله من وراء القصد، وهو المستعان.

ص: 112

197 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "أَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِبِنَاءِ المسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَ إِرْسَالَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ.

قال ابن عبد الهادي في "المحرر": إسناد بعضهم على شرط الصحيحين، وصححه ابن حبان، وقال الساعاتي: سنده صحيح، إلَاّ أنَّ الترمذي رجَّح إرساله.

* مفردات الحديث:

- الدور: بضم الدال ثم بعدها واو ثم راء، جمع؛ "دار"، وهي مؤنثة، يحتمل أنَّ المراد بها البيوت، ويحتمل إرادة الأحياء، فيُبنى في كل حي مسجدٌ، والمعنى الأخير أجود وأقرب.

- تطيب: يجعل فيها الطيب، وتطييبها يكون بالبخور ونحوه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الدور هنا تحتمل معنيين: إما أن يراد بها أحياء القبائل، فيستحب بناء المساجد في الأحياء المسكونة؛ ليجتمع أهل الحي للصلوات فيها، ولا شكَّ في عِظم أجر ذلك؛ لما جاء في البخاري (450)، ومسلم (533)، عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بني مسجدًا، بني الله له مثله في الجنة".

(1) أحمد (6/ 279)، أبو داود (455)، الترمذي (594).

ص: 113

ويحتمل أنَّ المراد بها: البيوت، فإنَّه يستحب تعيين مكان للصلوات النوافل، أو الفرائض، ممن لا تجب عليهم في المسجد؛ لما جاء في البخاري (424)، ومسلم (263)، وغيرهما عن عتبان بن مالك أنَّه قال:"يا رسول الله، إنَّ البيوت تحول بيني وبين مسجد قومي، فأحب أن تأتيني فتصلي في مكانٍ من بيتي أتَّخذه مسجدًا، فقال: سنفعل، فلما دخل قال: أيَّ مكان تريد؟ فأشرتُ له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصففنا خلفه، فصلَّى بنا ركعتين".

3 -

استحباب تنظيف المساجد وتطييبها، قال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36]، وقال تعالى:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ....} [الحج: 26].

4 -

احترام شعائر الله تعالى ومواطن عبادته، قال تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، وقال تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج].

5 -

قال في "شرح الإقناع": ويسن أن يُصان المسجد عن رائحة كريهة، من بصل وثوم وكراث ونحوها، وإن لم يكن فيه أحد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس"[رواه ابن ماجه (3367)].

6 -

استحباب صلوات النوافل في البيوت، حتى ممن تجب عليه الجماعة، جاء في البخاري (731)، ومسلم (781)، عن زيد بن ثابت؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أفضل صلاة المرء في بيته، إلَاّ المكتوبة".

***

ص: 114

198 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ؛ اتَّخذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ". مُتَّفَق علَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ:"وَالنَّصَارَى"(1).

ولَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: "كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالحُ، بنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا"، وفِيهِ:"أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ"(2).

ــ

* مفردات الحديث:

- قاتل الله اليهود: لعنهم الله وأبعدهم من رحمته، وقد جاء في حديث عائشة في البخاري (435)، ومسلم (529)؛ أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لعن الله اليهود والنصارى؛ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد". قال ابن عباس: كل شيء في القرآن "قتل" فهو لعن، وقال ابن عطية: قاتلهم الله: دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومن قاتله الله فهو المغلوب.

- أوْلئكِ: بكسر الكاف، خطابٌ للأنثى.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الرواية الأولى قالها النبي صلى الله عليه وسلم في سياق الموت؛ قالت عائشة: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر مما صنعوا.

2 -

الرواية الثانية: عن عائشة قالت: إنَّ أمَّ حبيبة وأم سلمة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها في الحبشة، فيها تصاوير، فقال: "إنَّ أولئك إذا كان فيهم

(1) البخاري (437)، مسلم (530).

(2)

البخاري (427)، مسلم (528).

ص: 115

الرجل الصالح، فمات، بنَوْا على قبره مسجدًا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".

3 -

في الحديث تحريم التصاوير في المساجد، لاسيما للرجال الصالحين، فالفتنة فيهم أكبر وأعظم، وإذا كانت الصورة تماثيل مجسمة، كان الإثم أكبر، والفتنة أعظم.

4 -

في الحديث تحريم بناء المساجد على القبور، أو دفن الموتى في المساجد؛ للعلة التي سنذكرها إن شاء الله تعالى.

5 -

في الحديث عدم صحة الصلاة في تلك المساجد التي فيها القبور، أو فيها التماثيل؛ لمشابهة ذلك بعبادة الأصنام، وكما جاء النهي عن الصلاة في المقابر.

6 -

وفيه: أنَّ من بني مسجدًا على قبر، أو دفن ميتًا في مسجد، ووضع الصور والتماثيل في المسجد، -فهو من شرار الخلق؛ لما يحدث بسبب فعله من الفتنة الكبيرة، وهي الشرك بالله تعالى.

7 -

وفيه: أنَّ بناء المساجد على القبور، ونصب الصور في المسجد -هو عمل اليهود والنصارى، وأنَّ من فعل هذا، فقد شابههم واستحق العذاب الذي يستحقونه.

8 -

قال شيخ الإِسلام: العلة التي لأجلها نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور -هي التي أوقعت كثيرًا من الأمم: إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإنَّ الشرك بالرجل الذي يعتقد صلاحه، أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها، ويخشعون، ويخضعون، ويعبدونها بقلوبهم، عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها، والدعاء، ما لا يرجونه في المساجد؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها،

ص: 116

حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته.

وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور، تبركاً بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى.

9 -

قال ابن القيم: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، جزم بما لا يحتمل الشك أنَّ هذه المبالغة، واللعن والنهي، ليس لأجل نجاسة الأرض من رفات الأموات، وإنما خشية من التدرج عندها إلى عبادتها، أو عبادة أهلها، فإنَّه -لعمر الله- من هذا الباب دخل الشيطان على عُبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ودخل على عبَّاد الأصنام، منذ كانوا إلى يوم القيامة.

10 -

قال الشيخ عبد العزيز بن باز: وضع الزهور على قبر الجندي المجهول بدعة، وغلو في الأجداث، وهو شبيه بعمل أولئك في صالحيهم من جهة التعليم، واتخاذ شعار لهم، ويخشى منه أن يكون ذريعة -على مدى الأيام- إلى بناء القباب عليهم، والتبرك بهم، واتخاذهم أولياء من دون الله.

***

ص: 117

199 -

وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْلاً، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ

" الحدِيث، مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- برجل: جاء في الصحيحين وغيرهما: أنَّ الرجل: ثمامة بن أثال الحنفي، من سادات بني حنيفة، أسلم بعد ذلك.

- خيلًا: قال القرطبي: الخيل مؤنثة، والمراد بالخيل: راكبوها من الفرسان، وواحد الخيل: خائل، وقيل: لا واحد له من لفظه، وسميت خيلاً؛ لاختيالها في المِشْيَة.

- بسارية من سواري المسجد: السارية مفرد، والجمع: سواري، مثل: جارية وجواري، وهي الأسطوانة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

ثمامة بن أثال من سادات بني حنيفة، أَسَرَتْهُ خيل المسلمين، فربطه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فكان يمر من عنده النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيقول:"ما عندك يا ثمامة؟! " ثلاثة أيام.

2 -

فيه: جواز ربط الأسير في المسجد، وإن كان كافرًا.

3 -

فيه: دليلٌ على جواز دخول المشركين والكتابيين المسجد للحاجة؛ كأعمال تتعلق بالمسجد هم أقدر من غيرهم عليها، ونحو ذلك، فقد كان الكفار يدخلون عليه مسجده، ويطيلون الجلوس.

(1) البخاري (4372)، مسلم (1764).

ص: 118

4 -

قال الشيخ صديق حسن في تفسير قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ

} [التوبة: 28]: عدم قربانهم الحرم متفرع عن نجاستهم، وإنما نهوا عن الاقتراب للمبالغة في المنع من دخول الحرم، ونهي المشركين أن يقربوا الحرم، راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم من ذلك، والمراد بالمسجد الحرام: جميع الحرم.

* خلاف العلماء:

اختلف أهل العلم في دخول المشرك غير المسجد الحرام من المساجد: فذهب أهل المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد، وقال الشافعي: الآية عامَّةٌ في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد.

أما مذهب الإِمام أحمد: فإنه لا يحل لأي كافر دخول حرم مكة، أما المساجد الأخر فليس له دخولها، ولو كانت مساجد الحل، إلَاّ لحاجة، كما لو استؤجر، لعمارتها وإصلاحها.

قال الزركشي في "إعلام الساجد": يمكن الكافر من دخول المسجد واللبث فيه، فإن الكفار كانوا يدخلون مسجده صلى الله عليه وسلم، وقد ترجم البخاري:"باب دخول المشرك المسجد"، وأدخل حديث الأعرابي السائل عن الإِسلام، وحديث اليهود الذين ذكروا أنَّ امرأة ورجلاً زنيا، وغير ذلك.

***

ص: 119

200 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:- "أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه مَرَّ بِحَسَّانَ يُنْشِدُ فِي المَسْجِدِ، فَلَحَظَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ كنْتُ أُنْشِدُ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- حسان: بتشديد السين، وهو ابن ثابت الأنصاري الخزرجي، شاعرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- ينشد: أنشد الشعر إنشادًا، يعني: يسمع الناس في المسجد شيئًا من الشعر، ويتغنى به.

- لحظ إليه: قال في "المصباح": لَحَظته بالعين، ولحظتُ إليه: نظرتُ إليه بمؤخر العين، عن يمين ويسار، فاللِّحاظ -بالكسر- مؤخر العين مما يلي الصدغ، والمراد: نظر إليه نظر إنكار وعتب.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

جاء في "صحيح البخاري" أنَّ حسان أنشد في المسجد، ما أجاب به المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم به فنظر إليه عمر رضي الله عنه كالمنكِر عليه، فقال:"كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك".

2 -

جاء في الترمذي وأبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المسجد"، وقال الترمذي: حديث حسن.

3 -

جمع العلماء بين الحديثين؛ بأنَّ المنهي عنه في المسجد وغيره، الأشعار

(1) البخاري (3212)، مسلم (2485).

ص: 120

التي فيها هجاء الأبرياء، أو الغزل المقصود، أو نحو ذلك من الكلام الباطل، أما المنافحة عن دين الله، ورد الباطل بالكلام الحق، ونظم الحِكم والمواعظ، مما له غرض صحيح -فلا مانع منه.

فالشعر كلامٌ، قبيحه قبيح، ومليحه مليح، فقد قال في "شرح الإقناع": يجب صون المسجد عن إنشاد شعر محرم، ويباح فيه إنشاد الشعر المباح.

4 -

يقاس على الشعر كل كلام، فما كان منه خير ومصلحة للدين، فهو مرغوب فيه، وما لا فائدة منه، أو فيه مضرة، فإنَّ بيوت الله تنزه عن ذلك.

5 -

كما أنَّه لابد من مراعاة عدم إشغال المصلين، والذاكرين، والتالين كتاب الله تعالى، فتراعى حالهم، ولا يشوش عليهم، فإنَّ أصل بناء المساجد لإقامة الصلاة، وذِكر الله تعالى.

***

ص: 121

201 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي المسْجِدِ، فَلْتقُلْ: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ المسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- ينشد: -بفتح الياء المثناة التحتية، وسكون النون وضم الشين المعجمة- من باب نصر، من: نشد الضالة، إذا طلبها وسأل عنها، وكذا إذا عرَّفها.

يقول أهل اللغة: نشدت الدابة إذا طلبتها، وأنشدتها إذا عرفتها، ورواية هذا الحديث:"ينشد" -بفتح الياء وضم الشين- إذا طلب، ومثله الرواية الأخرى.

- ضالة: كل ما ضلَّ، -جمعه ضوال- قال في "المصباح": ضالة بالهاء، للذكر والأنثى، والجمع: الضوال، ويقال لغير الحيوان: ضائع ولقطة، فالضالة خاصة بالحيوان.

- لا ردَّها الله عليك: دعاء عليه بنقيض قصده، وهو نوع من أنواع التعزير.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ من سمع من ينشد ضالة في المسجد، فليدْعُ عليه جهرًا، بقوله: لا ردها الله عليك؛ فإنَّ المساجد لم تبن لهذا.

2 -

هذا الحكم عامٌّ؛ سواء كانت حيوانًا، أو متاعًا، أو نقدًا، أو غير ذلك؛ بجامع أنَّ المساجد لم تبن لهذا.

3 -

الحديث يدل على تحريم نشدان الضالة في المسجد، ووجوب الدعاء عليه

(1) مسلم (568).

ص: 122

بهذا الدعاء، وإعلامه باستحقاقه الدعاء؛ حيث اتَّخذ المسجد لنشدان الضوال، وإشغال المصلين والمتعبدين، بأعمال الدنيا.

4 -

ظاهره أنَّه لو خرج عند باب المسجد فنشدها، فإنَّه لا يحرم؛ لأنَّه ليس من المسجد.

5 -

فيه بيان وظيفة المسجد، بأنَّها للصلاة وذكر الله وتلاوة كتابه، والمذاكرة في الخير، ونحو ذلك.

6 -

قال ابن كثير: المساجد أحب البقاع إلى الله تعالى في الأرض، وهي بيوته التي يعبد الله فيها، قال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] أمر بتطهيرها من الدنس، واللغو، والأقوال، والأفعال، التي لا تليق بها.

7 -

جاء في الطبراني في الكبير (8/ 132)، وابن ماجه (750) من حديث وائلة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"جنبوا مساجدكم مجانينكم، وصبيانكم، ورفع أصواتكم". لكن قال عبد الحق عن هذا الحديث: إنَّه لا أصل له، وقال ابن حجر: له طرق وأسانيد، كلها واهية.

8 -

كما يحرم على صاحب الضالة أن ينشد ضالته في المسجد، فإنَّه يحرم أيضًا على من وجد ضالة، أن ينشد في المسجد صاحبها؛ ذكر ذلك الفقهاء، ومنهم الحنابلة.

***

ص: 123

202 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا رَأيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أوْ يَبْتَاعُ فِي المَسْجِدِ، فَقُولُوا لهُ: لَا أرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ". رَوَاهُ النَّسَائيُّ، والتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ.

قال الترمذي: حديث حسنٌ غريب، وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير، وصححه الحاكم (2/ 65)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: سنده صحيح على شرط مسلم.

* مفردات الحديث:

- أو يبتاع: أصله من: الباع، وهو ما بين الكفين إذا بسط بهما يمينًا وشمالاً، ولما كان المتبايعان يمدان باعيهما عند البيع، اشتق منه البيع، وابتاع بمعنى: اشترى.

- تجارتك: التجارة بالكسر مصدر، سمي به حرفة البيع والشراء.

- لا أربح الله تجارتك: أي: لا يجعلها نافعة ناجحة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

ظاهر الحديث أنَّه يجب على من سمع من يبيع، أو يشتري في المسجد، أن يقول له جهرًا: لا أربح الله تجارتك؛ فإنَّ المساجد لم تبن للبيع والشراء.

2 -

تحريم البيع والشراء في المسجد، وهل ينعقد البيع والشراء مع التحريم، أم لا؟ ذهب الإِمام الشافعي، وكثير من العلماء إلى: انعقاده مع التحريم.

(1) النسائي في الكبرى (6/ 52)، الترمذي (1321).

ص: 124

وذهب الإِمام أحمد إلى: أنَّه يحرم ولا ينعقد، قال ابن هبيرة: منع صحته وجوازه أحمد، قال في "الفروع": والإجارة كالبيع، قال في "الإقناع": ويحرم في المسجد البيع والشراء والإجارة، فإن فعل فباطل، ويسن أن يقال لمن باع أو اشترى: لا أربح الله تجارتك، ردعًا له.

3 -

المساجد إنما بنيت لطاعة الله وعبادته، فيجب أن تجتنب أحوال الدنيا، قال القرطبي: ومما تصان عنه المساجد، وتنزه عنه: الروائح الكريهة، والأقوال والأفعال السيئة، فذلك من تعظيمها، فإنَّ معنى قوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ

} [النور: 36] يعني: أمر وقضى أن تبنى وتعلى، وقد جاءت أحاديث كثيرة تحض علي بنيان المساجد، ومعنى "ترفع": تعظم ويرفع شأنها، وتطهَّر من الأنجاس والأقذار، قالت عائشة "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتَّخذ المساجد في الدور، وأن تطهر وتطيب"، رواه أحمد (5854).

4 -

قال القرطبي: وتصان المساجد عن البيع والشراء وجميع الأشغال؛ لما روى مسلم (569) من حدثني بريدة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما صلى قام رجل فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا وجدت؛ إنما بنيت المساجد لما بنيت له"، وهذا يدل على أنَّ الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلاة، والأذكار، وقراءة القرآن.

***

ص: 125

203 -

وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقَامُ الحُدُودُ فِي المَسَاجِدِ، وَلَا يُسْتَقَادُ فِيهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسنٌ لغيره.

قال المؤلف في "التلخيص": لا بأس بإسناده، وصححه السيوطي في الجامع الصغير.

والجملة الثانية داخلة في الجملة الأولى، والجملة الأولى لها شاهد من حديث ابن عباس عند الحاكم، فالحديث قوي.

* مفردات الحديث:

- لا تقام: من الإقامة؛ أي: لا تنفذ ولا تجري.

- الحدود: هي العقوبات التي حدَّها الله تعالى، وسيأتى تعريفها في بابها إن شاء الله.

- لا يستقاد: من: قاد قودًا، والقود بفتحتين: القصاص

قال في "اللسان": القود: القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل والمعنى: أي: لا يقام القود في المساجد.

* ما يؤخد من الحديث:

1 -

النَّهي عن إقامة الحدود وتنفيذها في المساجد، سواء أكان قتلًا، أو قطعًا، أو جلدًا.

(1) أحمد (15151) أبو داود (4490).

ص: 126

2 -

الحكمة في هذا -والله أعلم:- أن إقامة الحدود يحصل فيها لَغَطٌ، وارتفاع أصوات، كما أنَّ الحد قد يلوث المسجد بالدم، أو غيره مما يخرُج ممن يقام عليه الحد.

3 -

الحديث يدل على تحريم إقامة الحدود في المسجد؛ لأنَّ النَّهي يقتضي التحريم، قال في "شرح المنتهى": ويحرم إقامة الحد بمسجد؛ لحديث حكيم بن حزام، ولأنَّه لا يُؤمَن من حدوث ما يلوث المسجد.

فإن أقيم به لم يُعد؛ لحصول الزجر.

***

ص: 127

204 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْمَةً فِي المَسْجِدِ؛ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيْبٍ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- الخندق: أخدود أحاطه النبي صلى الله عليه وسلم على شمال المدينة، لما حاصرها المشركون، عام خمسة من الهجرة؛ ليمنع العدو من الهجوم المباغت على المدينة وأهلها.

- سعد: هو: سعد بن معاذ، سيد قبيلة الأوس من الأنصار، من فضلاء الصحابة، رضي الله عنه.

- خيمة: هو كل بيتٍ يقام من أعواد الشجر، أو يتخذ من الصوف، أو القطن، ويقام على أعواد، ويشد بأطناب، جمعه: خيمات وخيام.

- ليعوده: "اللام" للتعليل، والفعل منصوب بها، وزيارة المريض تسمى: عيادة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

سعد بن معاذ أحد سادات الأنصار، شهد بدرًا وأُحُدًا، وأصيبَ يوم الخندق في أكحله، فأصابه نزيف لم يرقأ، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم يُمَرَّض في خيمة في المسجد؛ ليعوده من قريب، ولتمرضه امرأة، يقال لها:"رفيدة" تعالج المرضى، وسأل رضي الله عنه ربه ألا يميته، حتى يقر عينه بمعاقبة بني قريظة، الذين خانوا وصاروا مع الأحزاب، فاستجاب الله دعاءه، فلم يمت حتى قُتِلَ رجالُهم، وسُبِيَ نساؤُهم وأطفالُهم.

(1) البخاري (463)، مسلم (1769).

ص: 128

2 -

غزوة الخندق في شوال عام خمسة من الهجرة، حاصر المدينة فيها قريش، وبعضُ قبائل نجد، بمؤامرة وتدبير من يهود بني النضير الذين بقي منهم حيي بن أخطب اليهودي النضري، وامتد الحصار خمسة وعشرين يومًا، أما المسلمون فحفروا خندقًا شمال المدينة حين علموا بالمؤامرة وعلموا بزحف عدوهم إليهم:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب].

3 -

وفي الحديث: دلالة على جواز النوم في المسجد، وبقاء المريض فيه، وإن كان جريحًا.

4 -

فيه: تقدير أهل الفضل، والسابقة في الإِسلام، وتنزيلهم منازلهم، من الشفقة والعناية والتكرمة.

5 -

فيه: هذه الفضيلة لسعد بن معاذ رضي الله عنه لمواقفه الكريمة في الإِسلام، فقد أسلم بإسلامه قبيلته جميعًا، وهم بنو عبد الأشهل، وله كلام ومقام كريم يوم بدر، حينما استشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في القتال، وله حكم فاصل في بني قريظة، ولذا جاء في فضله أحاديث كثيرة، رضي الله عنه.

6 -

في الحديث بيان دَور المسجد في صدر الإِسلام، وأنَّه ليس للصلاة فقط، وإنما تلقى فيه العلوم، وتُعقد فيه الرايات، وتفض فيه الخصومات، وتعقد فيه المشاورات، وتحكم فيه جميع الأمور.

***

ص: 129

205 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَسْتُرُنِي، وَأنَا أنْظُرُ إِلَى الحَبشَةِ، يَلْعَبُونَ في المسْجِدِ

" الحديث. مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- الحبشة: جيل من الناس من السود في أفريقيا، وتسمى بلادهم الآن أثيوبيا، وعاصمتها "أديس أبابا" تحدها شمالاً أرتيريا، وشرقًا الصومال، وغربًا السودان، دخلها الإِسلام في القرن السابع.

- يلعبون: يطلق اللعب على كل ما يلعب به، ورواية مسلم:"يلعبون في المسجد بحِرابهم".

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحبشة جُبِلُوا على حب اللعب والطرب؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم سمح لهم بإقامة غرضهم هذا في المسجد، مراعيًا في ذلك سياسية شرعية هامة، أشار إليها في بعض ألفاظ الحديث، وهي:

(أ) إعلام الطوائف التي لم تدخل في الإِسلام -لخوفها من شدته وعنفه- أنَّ الإِسلام دين سماح، وانشراح، وسعة، لاسيما من تلك الطوائف، طائفة اليهود، الذين ينأون عنه وينهون عنه؛ ولذا جاء في بعض ألفاظ الحديث أنَّ عمر أنكر عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"دعهم؛ لتعلم اليهود أنَّ في ديننا فسحة، وأني بعثتُ بالحنيفية السمحة".

(1) البخاري (454)، مسلم (892).

ص: 130

(ب) أنَّ لعبهم كان في يوم عيد، والأعياد هي أيام فرح ومسرة، وتوسُّع في المباحات.

(ج) أَنَّه لعب رجال فيه خشونة، وحماس، وشجاعة.

2 -

أنَّ لعبهم بحرابهم فيه تدريب على الشجاعة، والبسالة، والقتال، والاستعداد للعدو، وفيه مصلحة شرعية عامة.

فسماحة الإِسلام ويسره مع تلك المبررات الهادفة، سوَّغت قيام مثل هذا في المسجد النبوي الشريف.

3 -

أما رد الخبر بأنه منسوخ، أو بأنَّ اللعب خارج المسجد ونحو ذلك -فتعسفات لا دليل عليها ولا سند لها.

ولا يعارضه ما أخرجه ابن ماجه (750)، والطبراني في الكبير (8/ 132)، والبيهقي (10/ 103) عن وائلة بن عدي؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"جَنبِّوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم" فهؤلاء ليسوا بصبيان، ولا بالمجانين، الذين يأتون بما يشغل المصلين وقت الصلاة.

وأيضًا هذا الحديث ضعيفٌ جدًّا، قال ابن حجر: له طرق وأسانيد، كلها واهية. وقال عبد الحق: لا أصل له.

4 -

في الحديث دليلٌ على أنَّ المرأة تنظر إلى الرجال الأجانب، إذا لم يكن ذلك نظر شهوة.

5 -

وفي الحديث بيان يسر الشريعة وسماحتها، وأنَّ نهجها مخالف لما عليه كثير من المتشددين والمتنطعين، الذين يرون الدين شدةً وجفاءً، وغلطة وعنفًا؛ فقد جاء في صحيح البخاري (3931):"أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم "دَخَلَ عَلَى عائشة أيام مني، وعندها جاريتان تغنيان بغناء بُعاث، فاضطجع على فراشه وحوَّل وجهه، فدخل أبو بكر، فانتهرهما، فكشف عن وجهه، وقال: يا أبا بكر! دعهما؛ إنَّ لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا". فهذه سماحة الإِسلام وأحكامه.

ص: 131

6 -

أما استغلال هذه النصوص الشريفة وأمثالها، واستغلال سماحة الإِسلام لإفشاء الأغاني المحرمة، والمجالس الخليعة، والأصوات الفاتنة الرقيقة الرخيمة، والمناظر المخجلة -فهذا لا يجوز؛ فهذا شيء، وهذ شيء آخر، والإِسلام وسط بين الغالي والجافي، والله الهادي إلى سواء السبيل.

***

ص: 132

206 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أنَّ وَلِيدَةً سَوْدَاءَ كَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي المَسْجِدِ، فَكَانَتْ تَأْتِينِي، فَتَحَدَّثُ عِنْدِي

" الحَديث. مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- وليدة: الأمة الصبية إلى أن تبلغ، جمعها: ولائد.

- خِباء: -بِكسر الخاء المعجمة ثم موحدة تحتية فهمزة ممدودة-: الخيمة تكون من وبر أو صوف، وقد تكون من شعر، جمعها أخبية، مثل كساء وأكسية، وتكون على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذه الوليدة السوداء كانت لحي من العرب، فأعتقوها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد النبوي، فكانت تأتي إلى عائشة فتتحدث عندها.

2 -

الحديث يدل على جواز الإقامة، والمنام في المسجد حتى من النساء، لاسيما لمن لم يكن له مأوى يقيم فيه، كما كان أهل الصُّفة ملازمين صفة في مسجده صلى الله عليه وسلم.

3 -

جواز ضرب الخباء والخيمة في المسجد، للمقيم فيه والمعتكف، إذا لم يضيق على المصلين، فإن ضيَّق أزيل؛ لأنَّ حاجتهم العامة إلى العبادة مقدمة على حاجته الخاصة.

4 -

أصحاب الصفة -وهو مكان مظلَّل في المسجد النبوي- هم طائفة من فقراء

(1) البخاري (439)، ولم يروه مسلم.

ص: 133

الصحابة منقطعين للعبادة، وفي نفس الأمر مستعدون للجهاد، ونصر دين الله وإعلاء كلمته، فهم حين يحصل النفير، أو الأمور الهامة للإسلام والمسلمين في مقدمة الصفوف، ولم ينقطعوا فيها، ويهملوا أمر المسلمين، كما يتذرع بذلك جهَّال المتصوفة إلى الانقطاع في الزوايا، والخلوات؛ ليتركوا الجهاد وأمور المسلمين، التي ورد الشرع بالقيام بها.

فالإِسلام دين الفتوة والنشاط والحركة، وليس دين المسكنة، والانزواء، والانطواء، فالمؤمن القوي خير وأحب إلا الله من المؤمن الضعيف، فالانزواء والانطواء، والبعد عن أحوال المسلمين، ومهام أمورهم سلبية لا يرضاها الإِسلام.

***

ص: 134

207 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "البُصَاقُ في المَسْجِدِ خَطِيْئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- البصاق: بضم الباء، وفيه ثلاث لغات: بالزاي والصاد والسين، والأوليان مشهوران، والبصاق: هو ماء الفم إذا خرج منه، وما دام فيه فهو ريق.

- خطيئة: بوزن فعيلة، بالهمزة، ويجوز قلبها ياءً، والخطيئة: هي الإثم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

البصاق -ومثله المخاط- في المسجد من الخطايا والذنوب؛ لأنَّ هذا يدل على أنَّ من فعل ذلك، فإنه لا يعظم المسجد، والله تعالى يقول:{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30].

2 -

يعارض هذا الحديث ما تقدم من حديث أنس في الصحيحين: "فليبصق عن يساره تحت قدمه".

ووجه الجمع بينهما ما قاله الإِمام النووي: هما عمومان، لكن الإذن في البصق إذا لم يكن في المسجد، ويبقى عموم الخطيئة إذا كان في المسجد، من دون تخصيص.

3 -

المراد بالبصاق هنا: إذا وقع خطأً من غير إرادة، فهو خطيئة معفو عن إثمها، ويؤيد هذا التقييد: ما جاء في البخاري (414)، ومسلم (548):"من أنَّه صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد، فشق عليه، فقام فحكه بيده".

وفي رواية النسائي (2/ 52): "فغضب حتى احمرَّ وجهه، فقامت امرأة من

(1) البخاري (415)، ومسلم (552).

ص: 135

الأنصار فحكتها، وجعلت مكانها خلوقًا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا! ".

4 -

الممكن أن يقال: البصاق في المسجد خطيئة، عام خُصَّ منه المصلي حال الصلاة؛ لأنَّه مكفوف عن الحركة، ويبقى البصاق لمن في المسجد، وهو لا يصلي على الأصل في النهي المقتضي للتأثيم، الذي لا يحتمل منه إلَاّ بدفنها، وإنَّ قرينة حكة النخامة من جدار المسجد، ثم سياق الحديث -لتؤكد أنَّ المقصود ترخيص البصاق للمصلى، إذا كان تحت قدمه اليسرى في مسجد أو غيره، وهو ظاهر، والله أعلم.

5 -

وجوب العناية بالمساجد وتنظيفها واحترامها، قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ

} [الحج: 26]، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ

} [النور: 36]، وقالت عائشة:"إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تُنظف وتُطيب".

***

ص: 136

208 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى يَتَباهَى النَّاسُ فِي المَسَاجِدِ". أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ التِّرْمِذِيَّ، وصَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ.

صححه السيوطي في "الجامع الصغير"، ولم يتعقبه المناوي.

وقال في "بلوغ الأماني": أخرجه الأربعة، وأورده البخاري تعليقًا عن أنسٍ، وصحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، وأخرجه أبو داود من طريق أبي قلابة بسند صحيح.

* مفردات الحديث:

- يتباهى: أي: يتفاخرون بالبناء المزخرف، فيقول بعضهم: مسجدي أحسن من مسجدك، علوًا وزينةً وزخرفةً.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

التباهي بالمساجد هو التفاخر بحسن بنائها وزخرفتها وتزويقها وعلوها وارتفاعها وارتفاع سقوفها؛ بأن يقول الرجل للآخر: مسجدي أحسن من مسجدك، وبنائي أحسن من بنائك في مسجدك.

وقد تكون المباهاة بالفعل دون القول، كان يبالغ كل واحد في تزيين مسجده، ورفع بنائه، وغير ذلك؛ ليكون أبهى من الآخر، فالواجب ترك

(1) أحمد (3/ 134)، أبو داود (449)، النسائي (689)، ابن ماجه (739)، ابن خزيمة (2/ 282).

ص: 137

الغلو فيها، والتزين، ويكتفي بقوة إنشائه وبساطته.

2 -

هذه الظاهرة من علامات الساعة، التي لا تقوم إلَاّ على تغير أحوال الناس، ونقص دينهم، وضعف إيمانهم، حينما تكون أعمالهم ليست لله تعالى، وإنما للرياء، والسمعة، والتباهي، والتفاخر.

3 -

دلَّ الحديث على تحريم هذا الأمر، وأنه عمل غير مقبول؛ لأنَّه لم يُعمل لله، وقد قال تعالى في الحديث القدسي:"من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه". [رواه مسلم (2185)].

قال الشيخ تقي الدين: ولا يظن المرائي أنَّه يكتفي بحبوط عمله، لا له ولا عليه، بل هو مستحق للذم والعقاب.

4 -

في الحديث أنَّ نقص الإيمان، وضعف الدين، والإقبال على زهرة الحياة الدنيا من أمارات الساعة وعلاماتها، وأنَّ على المرء الفَطِن الكَيِّس ألا تغره هذه المظاهر، ولا تخدعه تلك الزينات، فإنَّما هي زائلة، ولا ينفع إلَاّ الباقيات الصالحات.

5 -

فيه: أنَّ المسلم قد يقوم بالعمل الذي صورته الصلاح، ويظن أنَّه قام بعمل خيري، ولكنه لم يَحْتَطْ لنفسه، فيدخل عليه الشيطان من جانب آخر، فينخدع فيبطل أصل عمله، فعلى العامل لوجه الله أن يحتاط لدينه، ولذا قال تعالى في حق مثل هؤلاء:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف].

6 -

فيه: إثبات قيام الساعة وإثبات المعاد، وهو معلوم من الدين بالضرورة، ولله الحمد.

***

ص: 138

209 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ المسَاجِدِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ أبنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ.

قال الحافظ: اختلف في وصله وإرساله، وقال الشوكاني: صححه ابن حبان، ورجاله رجال الصحيح.

* مفردات الحديث:

- بتشييد المساجد: يقال: شاد البناء يشيده: طَلَاه بالشيد -بالكسر- والشيد: كل ما طلي به البناء من جص أو نُورَةٍ أو رخام أو دهان، وتشييد البناء أيضًا بإعلائه وتطويله، ورفع سقوفه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قال صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشييد المساجد" قال ابن عباس: لتزخرف كما زخرفت اليهود والنصارى معابدهم. وهذا الإدراج عن ابن عباس مهم، له حكم الأخبار النبوية؛ فإنَّ فيه من أنباء الغيب، فلا يكون بالرأي، وقد وقع هذا الأمر.

2 -

دلَّ ظاهر الحديث على تحريم الزخرفة والتزويق في المساجد؛ لأنَّه من عمل اليهود والنصارى، والتشبه بهم محرَّم، فمن تشبه بقوم فهو مثلهم.

3 -

زخرفة المساجد ليست من السنة، بل من البدع، على ما فيه من الإسراف في

(1) أبو داود (448)، ابن حبان (1615).

ص: 139

النفقة، وهو محرَّم، مع ما في ذلك من إشغال القلوب، وإذهاب الخشوع الذي هو روح العبادة.

4 -

قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أمرت" استفيد منه أنَّه لا يحسن ذلك، وأنَّه لو كان حسنًا وقُربة لأمر الله تعالى به، فالمساجد في الإِسلام ما أكنَّت من البرد والحر، وأذرت من المطر، وما زاد فهو مشغلة للقلب، ومضيعة للمال.

5 -

قال في "شرح الإقناع": ويكره أن يزخرف المسجد بنقش، وصبغ، وكتابة، وغير ذلك، مما يلهي المصلي عن صلاته.

6 -

كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم باللَّبِن، وسقفه بالجريد، وعُمُده خشب النخيل، ولم يزد فيه أبو بكر رضي الله عنه ولما نخرت خشبه وجريده زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أعاده علي بنائه الأول، وزاد فيه، ولما كان في عهد عثمان رضي الله عنه زاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جدرانه بالأحجار والجص، وجعل عُمُده من الحجارة، وسقفه الساج، فأدخل فيه ما يفيد القوة، ولا يقتضي الزخرفة.

قال ابن بطال: وهذا يدل على أنَّ السنة في بنيان المساجد هو ترك الغلو في تحسينها، فقد كان عمر مع كثرة الفتوحات في أيامه، وكثرة المال عنده، لم يغير المسجد، كما كان عليه، وكذلك في زمن عثمان زاده، ولم يزخرفه.

***

ص: 140

210 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حَتَّى القَذَاهُّ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ المَسْجِدِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَاسْتَغْرَبَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف، لكن له شواهد.

ورواه أبو داود، وقال الترمذي: هد ذا حديث غريب لا نعرفه إلَاّ من هذا الوجه، وقد ذاكرت به البخاري، فلم يعرفه واستغربه، وقال: لا أعرف للمطلب سماعًا من أنس. ونقل المناوي "في فتح القدير" عن الحافظ ابن حجر، قال: في إسناده ضعف، لكن له شواهد.

* مفردات الحديث:

- عُرضت: فعل ماضٍ، مبني للمجهول، وهو من: عرض يعرض عرضًا، من باب ضرب، وعرضت الشيء: أظهرته وأبرزته.

- أجور: جمع أجر، وهو الثواب على الحسنات، وهو نائب الفاعل.

- أمتي: أمة الرسول نوعان:

أحدهما: أمة الدعوة، التي تشمل كل من دُعِي إلى الدين.

والثاني: أمة الإجابة، وهم الذين اتَّبعوه، وهم المراد هنا.

- القَذاة: بفتح القاف المثناة، وبعدها ذال معجمة مفتوحة، ثم ألف ثم تاء التأنيث، جمعها: قذًى بزنة حَصًى، والقذاة: ما يسقط في العين والشراب، والمراد هُنا: كِسَرُ الأخشاب.

(1) أبو داود (461)، الترمذي (2916)، ابن خزيمة (2/ 271).

ص: 141

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ثواب أعمال أمته، كبيرها وصغيرها، حتى ثواب القذاة، التي يخرجها الرجل من المسجد.

2 -

فيه: دليل على أنَّ الأعمال تحصى كلها، الكبير منها والحقير، وتُوفَّى أصحابها؛ كما قال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة].

3 -

الظاهر أنَّ أعمال أمته عرضت عليه ليلة عرج به، فاطَّلع على أعمال أمته، وثوابهم عليها.

4 -

فيه: دليل على تعظيم المساجد واحترامها، ومشروعية تنظيفها وتطييبها، كما جاء في مسند أحمد (25854) عن عائشة قالت:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد، وأن تُنظف وتطيب" فتعظيمها من تعظيم حرمات الله.

5 -

المنقبة الكبيرة لنبينا عليه الصلاة والسلام حيث أراه الله تعالى من آياته، وأطلعه على شيء من غيبه؛ ليزداد بصيرة ويقيناً، مما يزيده نشاطًا في دعوته، وحماسًا في رسالته، فعين اليقين أرسخ من علم اليقين، ولذا قال تعالى عن خليله إبراهيم:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] فأراه الله تعالى ما طمأن قلبه، وزاد في إيمانه.

6 -

في الحديث أنَّ المسلم لا يَحْقِر من الأعمال شيئًا؛ سواء أكانت حسنة أم سيئة، فيأتي الحسنات كبرت أو صغرت، ويتجنب السيئات كبيرها وصغيرها، فالكل محصى في كتاب مبين.

***

ص: 142

211 -

وَعَنْ أَبِي قتادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ" مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- إذا دخل: "إذا" شرطية، وفعلها "دخل".

- فلا يجلس: "لا" ناهية، والفعل بعدها مجزوم، وهو جزاء الشرط.

- ركعتين: أطلق الجزء وأراد الكل، وهذا كثير، والغالب أنَّ الجزء المذكور لم يعين إلَاّ لأهميته.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

نُهِيَ داخل المسجد أن يجلس حتى يصلي ركعتين، تسميان تحية المسجد.

2 -

ظاهر الحديث الأمر بهما للوجوب، وحمله جمهور العلماء على الندب والاستحباب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للذي يتخطى رقاب الناس:"اجلس، فقد آذيت"، ولم يأمره بالصلاة.

ولقوله صلى الله عليه وسلم لمن علَّمه أركان الإِسلام، وفيها الصلوات الخمس، دون تحية المسجد.

3 -

ظاهر الحديث أنَّهما تصليان في أي وقت، سواء أكان وقت نهي أم لا، وفي ذلك خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى.

4 -

ظاهر الحديث أنَّ الداخل إذا جلس فاتتا عليه، ولكن قال جمع من أهل العلم: إذا لم يطل الوقت، فإنَّهما تستدركان، فيصليهما؛ لما روى ابن حبان

(1) البخاري (1163)، مسلم (714).

ص: 143

في صحيحه (2/ 76) من حديث أبي ذر: "أنَّه دخل المسجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ركعتَ ركعتين؟ قال: لا، قال: قُمْ فاركعهما".

5 -

قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي: الطواف تحية الكعبة، وتحية المسجد الحرام الصلاة، وتجزيء عنها الركعتان بعد الطواف.

وهذا لا ينافي أنَّ تحية المسجد الحرام الطواف؛ لأنَّه مجمل وذا تفصيل، ذكر معناه في الإقناع.

قال في "سبل السلام": لو دخل المسجد الحرام، وأراد القعود قبل الطواف، أو لم يرد الطواف، فإنَّه يشرع له التحية، كغيره من المساجد.

6 -

إذا دخل المسجد وهم في المكتوبة، وهو يريد الصلاة معهم، فإنَّه يجب عليه أن يدخل معهم، ولا يجوز له الانشغال بصلاة غير المكتوبة؛ لما في صحيح مسلم (710):"إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلَاّ المكتوبة".

وتجزيء عن تحية المسجد، فإنه إذا اجتمع عبادتان من جنس واحد، دخلت إحداهما في الأخرى.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في الصلوات ذوات الأسباب؛ كتحية المسجد، وركعتي الوضوء، وصلاة الكسوف، هل تصلى وقت النَّهي أم لا؟:

فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنَّ جميع التطوعات لا تصلى في وقت النهي عدا ركعتي الطواف، وعند الحنفية: حتى ركعتا الطواف، لا يصليها في أوقات النَّهي، مستدلين بعموم أحاديث النَّهي.

وذهب الشافعية وإحدى الروايتين في مذهب أحمد إلى: أنَّ النَّهي خاص بالنفل المطلق عن السبب، أما الصلوات ذوات الأسباب فجائزة عند وجود سببها.

ص: 144

واستدلوا بالأحاديث الخاصة بهذه الصلوات؛ فإنَّها مخصِّصة لأحاديث النَّهي العامة.

واختار هذه الرواية شيخ الإِسلام ابن تيمية، وغيره من أصحاب الإِمام أحمد.

قال المجوزون: إنَّه بهذا تجتمع الأدلة كلها، ويعمل بأحاديث الجانبين كلها.

***

ص: 145