الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صلاة الجماعة والإمامة
مقدِّمة
سميت: "جماعة"؛ لاجتماع المصلين في فعلها زمانًا ومكانًا، فإذا أخلَّوا بهما، أو بإحداهما، لم تسم جماعة، ومن هذا يُعلم أنَّ الصلاة خلاف الإمام بواسطة المذياع، أو التلفاز، لا تصح؛ لأنَّها ليست صلاة مع جماعة.
اتَّفق العلماء على مشروعية صلاة الجماعة، واختلفوا في حكمها.
فذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى: أنَّها سنة غير واجبة؛ لما في الصحيحين: "تفضل صلاة الجماعة صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة"، ففيها فضل، ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنْكر على الرجلين اللذين قالا: صلينا في رحالنا.
وذهب الإمام أحمد إلى: وجوبها للصلوات الخمس على الرجال المكلفين، وقال به طائفة من السلف من الصحابة والتابعين.
ودليلهم: ما في البخاري (644) ومسلم (651) عن أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "والَّذي نفسي بيده، لقد هممتُ أن آمر بحطب
…
إلى آخر الحديث".
وجاء رجل أعمى يستأذنه في الصلاة في بيته لبُعْدِ مكانه، فقال:"لا أجدُ لك رخصة"[روَاهُ أبو داود (553)]، وبأنَّه أمر بها حال الخوف والقتال، مع ما في ذلك من خلل في أركانها وشروطها وواجباتها.
وشط شيخ الإسلام، فقال: إنَّ الجماعة شرط لصحة الصلاة، فلا تصح
بدونها، وقد قال الموفق بن قدامة: لا نعلم أحدًا أوجب الإعادة على من صلَّى وحده.
والمشهور من المذهب: أنَّ له فعل الجماعة في بيته، والمسجد أفضل.
ولكن ابن القيم ردَّ ذلك، واستدل على وجوبها في المسجد، فقال: ومن تأمل السنة حق التأمل، تبيَّن له أنَّ فعلها في المساجد فرض على الأعيان، إلَاّ لعارض يجوز معه ترك الجماعة، وبهذا تجتمع الأحاديث والآثار.
وقال الشيخ تقي الدين: الصلاة في المساجد من أكبر شعائر الدين وعلاماته، ففي تركها محو لآثار الصلاة.
ومن أدلة الشيخين على وجوبها في المسجد: ما جاء في صحيح مسلم (654) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من سرَّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليصلِّ هذه الصلوات الخمس؛ حيث ينادى بهن، فالله شرع سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، وإنَّكم لو صلَّيتم في بيوتكم، كما صلى هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة فبيكم لضللتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلَاّ منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين، حتى يقام في الصف".
* حكمةُ الجماعة في المساجد:
شرَع الله عز وجل لهذه الأمة المحمدية الاجتماعات المباركة في أوقات، منها: ما هو في اليوم والليلة، وهو الصلوات المكتوبة، حينما يجتمع أهل الحي في مسجد واحد، يتعارفون فيه ويتآلفون.
ومنها: ما هو في الأسبوع، وهو صلاة الجمعة، حينما يجتمع أهل البلد، أو أهل الحي الكبير في مسجد جامع، لنفس الأغراض الكريمة.
ومنها: ما هو في العام؛ كصلاة العيدين، الذي يجمع أهل المصر الواحد في صعيد واحد، أو يجمع وفود المسلمين من أقطار الدنيا كلها في عرفة، وفي
مشاعر الحج؛ ليشهدوا منافع لهم من التعاون والتآلف والتشاور، وتبادل الأفكار والآراء، فيما يعود على المسلمين بالخير والبركة.
ومن فوائد صلاة الجماعة الائتلاف والتعارف، وتعلم الجاهل من العالم، والتنافس في أعمال الخير، وعطف القوي على الضعيف، والغني على الفقير، وغير ذلك مما يفوت الحصر
…
والله الموفق.
***
320 -
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةُ الجَمَاعَةِ أفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِيْنَ دَرَجَةً". مُتَّفقٌ علَيْهِ (1).
وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "بِخَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ جُزْءًا"(2).
وَكَذَا لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وقَالَ:"دَرَجَةً"(3).
ــ
*مفردات الحديث:
- الفَذ: -بفتح الفاء والذال المعجمة المشددة-، أي: الفرد، جمعه: فذوذ، يقال: فذ الرجل من أصحابه إذا بقي وحده.
- أفضل: أفعل تفضيل، وهو مصاغ على وزن أفعل؛ للدلالة على أنَّ شيئين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر فيها.
قال العيني: عامة نسخ البخاري بلفظ: "تفضيل صلاة الفذ"، والذي في مسلم:"أفضل" التي هي للتفضيل، والتكثير في المعنى المشترك، وهي أبلغ من "تفضيل".
- درجة: تمييز للعدد المذكور، والمراد: أنَّه يحصل من صلاة الجماعة، مثل أجر صلاة المنفرد سبعًا وعشرين جزءًا؛ كما في الرواية الأخرى، فالجزء مؤول بالدرجة.
(1) البخاري (625)، مسلم (650).
(2)
البخاري (648)، مسلم (649).
(3)
البخاري (646).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
في هذا الحديث بيان فضل صلاة الجماعة، وأنَّها تفضل على صلاة المنفرد بسبعٍ وعشرين درجة، والمراد: أنَّه يحصل له من صلاة الجماعة مثل أجر المنفرد سبعًا وعشرين مرة.
2 -
لا يقنع بالدرجة الواحدة من الدرجات الكثيرة إلَاّ أحد رجلين: إما غير مصدق لتلك النعمة العظيمة، أو سفيه لا يهتدي لطريق الرشد والتجارة المربحة.
3 -
المراد بالمنفرد: الذي صلَّى وحده في بيته بدون عذر، أما المعذور فأجره تام، وهذا الحديث مبيَّن بأحاديث أخر؛ مثل حديث:"إذَا مرض العبد، أو سافرة كُتبَ لَهُ ما كان يعمل، صحيحًا مُقيمًا"[رواه البخاري (2996)].
4 -
أنَّ الجماعة ليست شرطًا لصحة الصلاة؛ فإنَّها تصح صلاة المنفرد، مع الإثم الذي يلحقه، إذا لم يكن عذر في ترك الجماعة.
والدليل على صحتها وإجازتها: أنَّ فيها أجرًا أو فضلاً، فإنَّ قوله:"أفضل" أفعل تفضيل، وهي صيغة تدل على أنَّ شيئين اشتركا في صفة، وزاد واحد على الآخر فيها، فقد اشترك المنفرد والمصلي في جماعة، وزاد المصلي مع الجماعة على المنفرد بالأجر والدرجات.
قال الموفق: لا نعلم أحدًا أوجب الإعادة على من صلَّى وحده.
5 -
تفاضل الأعمال الصالحة بحسب تأديتها.
قال الطيبي: في حديث أبي هريرة: "بخمس وعشرين"، وفي حديث ابن عمر:"بسبع وعشرين"؛ ووجه التوفيق؛ أنَّ الزائد متأخر عن الناقص؛ لأنَّ الله يزيد عباده من فضله، ولا ينقصهم عن الموعود شيئًا؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم بشر المؤمنين أولاً بمقدار فضلها، ثم رأى صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تعالى يمن عليه، وعلى أمته، فبشرهم به، وحثَّهم على الجماعة، وهذا الذي ذكرنا هو الضابط في
التوفيق بين الأحاديث المختلفة من هذا النوع.
6 -
التفاوت هنا خاص بالصلاة جماعة، أو منفردًا بلا عذر، وهناك تفاوت كبير في الأجر أيضًا من حيث الخشوع، والحضور في الصلاة، وأدائها بإحسان، أو أقل من ذلك إلى آخر درجة في الثواب.
7 -
وجه قصر أبواب الفضيلة في خمس وعشرين تارة، وعلى سبع وعشرين تارة أخرى، يرجع إلى علوم النبوة التي قصرت عقول الألباء عن إدراك حلها، وتفاصيلها.
ولعل اختلاف ذلك يرجع إلى حال المصلي والصلوات، بحسب كمال الصلاة والمحافظة على هيئتها وخشوعها، وكثرة جماعتها، وحال الإمام، وشرف البقعة، وهناك تفاوت من حيث نوعية المسجد بالقرب والبعد، وقدم الطاعة فيه من عدمها، وهناك اعتبارات أخر لفضل صلاة على صلاة أخرى، ترجع إلى تكميلها وتقويمها، فإنَّ المصلي قد لا يرجع من صلاته إلَاّ بنصفها، أو بثلثها، أو رُبعها، أو سدسها، أو بِعشرها، وكل هذا التفاوت راجع إلى تكميلها وعدمه.
8 -
الحديث لا يدل على وجوب صلاة الجماعة، كما أنَّه لا يدل على عدم الوجوب، فليس فيه دليل للطرفين؛ ذلك أنَّ فضل العمل، وترتب الثواب عليه، يكون في الأعمال الواجبة، الأعمال المستحبة؛ فقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف: 10، 11]،، فالإيمان بالله ورسوله من أوجب العبادات.
وجاء في "جامع الترمذي"(1857) من حديث عبد الله بن سلام؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال؛ "أيُّهَا النَّاسُ"، أفْشُوا السلام، وأطْعِمُوا الطَّعام، وصِلُوا الأرحام، وصلوا بالليل والنَّاس نيام، تدخلوا الجنة بِسلام"
فهذه طائفة بعضها مستحب، وبعضها واجب.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في الجمع بين حديث: "السبع والعشرين" و"الخمس والعشرين" وأقربها إلى الصواب أن يقال: إنَّ العدد القليل لا ينافي العدد الكثير؛ لأنَّ مفهوم العدد غير وارد، على الصحيح من أقوال الأصوليين، فهو داخل ضمنه.
***
321 -
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤذِّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلى رِجَالٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بيهوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ، لَوْ يَعْلَمُ أحَدُهُمْ أنَّه يَجِدُ عَرْقًا سَمِيْنًا، أوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ -لَشَهِدَ العِشَاءَ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- والذي نفسي بيده: أي: والله الذي نفسي بيده، وهو قسمٌ كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقسمُ به.
- لقد هممت: "اللام" واقعة في جواب القسم، والجملة جواب القسم أكَّده باللام، وكلمة:"قد هممت بالأمر"؛ الهَمُّ: هو العزم على القيام به، ولم يفعله.
- فيحتطبَ: بالنصب؛ أي: يجمع الحطب.
- فأحرِّق: بالتشديد، من: التحريق، والمراد به: التكثير، يقال: حرَّقه إذا بالغ في تحريقه.
- آمر بالصلاة: الألف واللام إن كانت للجنس فهو عامٌّ، وإن كانت للعهد ففي رواية:"أنَّها العشاء"، وفي أخرى:"أنَّها الفجر"، وفي ثالثة: مطلقة، ولا تشاح بينها؛ لجواز تعدد الواقعة.
- فَيَؤُمَّ الناس: الفعل منصوب؛ لأنَّه معطوف على "آمر" و"الناس" منصوب؛
(1) البخاري (644)، مسلم (651).
لأنَّه مفعول، والجملة في محل نصب على أنَّها صفة لقوله:"رجلًا".
- أخالف: قال في "الصحاح": خالف إلى فلان: أتاه إذا غاب عنه، والمعنى: خالفت ما أظهرت من إقامة الصلاة، واشتغال بعض الناس بها.
- بيوتهم: جمع "بيت"، قال صاحب "المُغرب": البيت اسم للسقف، سمي به؛ لأنَّه يُبات فيه.
- عرْقًا: بفتح المهملة وسكون الراء ثم قاف، جمعه:"عراق"، هو العظم إذا أخذ أكثر ما عليه من الهبر، وعليه لحوم رقيقة طيبة، وقد جمع بين السمن في العرق، والحُسن في المرماتين، ليوجد الباعث النفساني في تحصيلهما.
- وَمرْماتَيْنِ: تثنية -مرماة- بكسر الميم فَراء ساكنة فميم مفتوحة فألف فتاء التأنيث، هي ما بين أضلاع الشاة من اللحم، وقيل: ما بين ضلعي الشاة من اللحم.
ثم جاء حرف العطف في هذا الحديث ثلاث مرات، مترقيًا من الأهون إلى ما هو أشد منه، ثم إلا أغلظها، فكل مرتبة أعلى مما قبلها؛ وذلك لتفاوت ما بين مدخولاتها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّ صلاة الجماعة في المساجد فرض عين على الرجال البالغين؛ على الصحيح من أقوال العلماء.
2 -
أنَّ من ترك صلاة الجماعة -بلا عذر- استحق العقوبة الرادعة.
3 -
فضل صلاتي العشاء والفجر؛ لما في الإتيان إليهما من المشقة، ولما فيهما من الأجر.
4 -
أنَّما ثقلت صلاتا العشاء والفجر على أرباب البطالة والكسل؛ لضعف الداعي الإيماني في قلوبهم، فيغلب عليهم جانب الراحة والدعة والنوم، ولأنَّهم لا يُرَوْنَ في هاتين الصلاتين، فلا يُفْتقَدُون.
5 -
الحديث دليل على القاعدة الشرعية: "درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح"، فالمصلحة التي تحصل من إقامة العقوبة على المتخلفين عن الجماعة- تسبب مفسدة تعذيب من لايستحق العقوبة من النساء والذرية، فامتنع هذا لهذا.
6 -
جواز القسم على الأمر المهم حيًّا أو منعًا، أو إثباتًا أو نفيًا.
7 -
جواز مخادعة الفساق في أماكن فسقهم؛ للقبض عليهم متلبسين بجريمتهم، لتقوم الحجة عليهم، ويسقط اعتذارهم.
8 -
أنَّ ضعيف الإيمان يقدم خسيس الدنيا، ويفضله على ما عند الله من حسن الجزاء، وعظيم الثواب، فينبغي للمؤمن أن ينتبه ويفطن لها، ويسأل الله العافية.
9 -
قال في "الفتح": ولا منافاة بين الاستدلالين على وجوب الجماعة بهذا الحديث، وبين الحديث المتقدم عن ابن عمر:"صلاة الجماعة تفضل عن صلاة الفذ .. إلخ"؛ فإنَّ حديث ابن عمر يدل على صحة صلاة الفذ، وحديث أبي هريرة هذا يدل على إثم من تخلف عن الجماعة، غير أنَّه ليس بشرط في صحة الصلاة، فتصح صلاة الفذ ويأثم، إلَاّ أن يكون تخلفه عن عذر.
فثبوت عذر التخلف لمرض، أو مطر، أو خوف، أو نحو ذلك لا شكَّ فيه عند أهل العلم؛ لحديث الإذن بالصلاة في الرحال في الليلة المطيرة، فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر:"أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يأمر المنادي، فينادي بالصلاة: صلوا في رحالكم" في الليلة الباردة، وفي الليلة المطيرة، وكما جاء ذلك أيضًا في الصحيحين من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما.
10 -
فيه دليل على جواز استخلاف الإمام من يصلي بالناس، إذا عرض له
شغل، ولكنه لا يعطى عذرًا لمن ينصب نفسه إمامًا بالمسجد، ثم يهمله إلى نائب ببعض ما جعل له في أرزاق وجُعُل.
* خلاف العلماء:
أجمع المسلمون على مشروعية صلاة الجماعة، وأنَّها من أفضل الطاعات، وإنما اختلف الأئمة في حكمها، فقد تقدم أنَّ الأئمة الثلاثة يرون أنَّ صلاة الجماعة سنة مؤكدة، لا واجبة.
وأنَّ الظاهرية يرونها شرطًا لصحة الصلاة، وتبعهم ابن عقيل، وتقي الدين بن تيمية.
وذهب الإمام أحمد إلى: أنَّها واجبة على الأعيان، ولو لم تكن في مسجد.
قال ابن القيم: من تأمل السنة، تبيَّن له أنَّ فعلها في المساجد فرض عين، فقد قال صلى الله عليه وسلم للرجل الأعمى: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب.
ولولا ما في بيوت المتخلفين عن الجماعة من النساء، لحرَّق عليهم بيوتهم بالنار، وإذا كان المنفرد لا تصح صلاته خلاف الصف، فكيف من صلَّى منفردًا في بيته؟!.
وقال ابن مسعود: من سرَّه أن يلقى الله مسلمًا، فليصلِّ هذه الصلوات الخمس؛ حيث ينادى بهن، فما يتخلَّف عنها إلَاّ منافق معلوم النفاق.
وقال ابن عباس عن رجل لا يحضر الجماعة، هو في النار.
وقال شيخ الإسلام: وجوبها على الأعيان هو إجماع الصحابة وأئمة السلف، وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة.
***
322 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "أثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى المُنَافِقِيْنَ: صَلَاةُ العِشَاءِ، وصَلَاةُ الفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأتَوْهُمَا، وَلَوْ حَبْوًا". مُتَّفقٌ علَيْهِ (1).
وَعَنْهُ قَالَ: "أتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى، فَقالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلى المَسْجِدِ، فَرخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعمْ، قَالَ: فَأَجبْ". رَوَاهُ مُسْلمٌ (2)
ــ
*مفردات الحديث:
- ما فيهِمَا: أي: صلاتي الفجر والعشاء من الثواب والفضل.
- حبوًا: بفتح المهملة وسكون الباء وآخره واو؛ أي: مشيًا على اليدين والركبتين؛ كحبو الصبي.
- حبوًا: منصوب على أنَّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: لأتوهما، ولو كان إتيانًا حبوًا.
- النداء بالصلاة: المراد به: الأذان.
- رجل أعمى: هو عبد الله بن أم مكتوم، كما جاء في رواية أبي داود، وغيره من أصحاب السنن.
(1) البخاري (657)، مسلم (651).
(2)
مسلم (653).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
لما كان المنافقون يراؤون الناس بعبادتهم، ولا يريدون بها وجه الله تعالى، صارت الصلاة عليهم ثقيلة، وأثقلها عليهم هما الصلاتان اللتان لا يراهم فيهما الناس-: العشاء والفجر؛ فإنَّ الناس يؤدونهما في ظلام، قبل إسراج المساجد.
2 -
كما أنَّ هاتين الصلاتين تقعان في وقت الراحة، والدعة، والنوم، فلا ينشط لهما إلَاّ من في قلبه وازع من إيمان بالله تعالى، يزعجه ويقلقه حتى يؤديهما، أما الذي قلبه خال من الإيمان -وأول من يوصف بذلك هم المنافقون- فلا ينشطون لهاتين الصلاتين.
3 -
هاتان الصلاتان عظيمتا الأجر، كبيرتا الأمر، فلو علم هؤلاء المتخلفون عنهما، ما أعدَّ الله من الثواب لِمَنْ أداهما جماعة -لأتوهما ولو حبوًا على رُكبهم كحبو الطفل.
4 -
في الحديث دليلٌ على وجوب صلاة الجماعة في المسجد؛ ذلك أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يجد رخصة لرجل أعمى، ليس له قائد يأتي به إلى المسجد، فكيف بالبصير القادر؟!
5 -
فيه بيان نعمة الإيمان بالله تعالى، ورجاء ثوابه؛ فإنَّ ذلك يخفف الطاعة على صاحبها ويحببها إليه، ويسهلها له، وييسرها عليه، كما أنَّ نقمة النفاق -والعياذ بالله- تكون ظلامًا على صاحبها فيظلم قلبه، وتعمي بصيرته، وينسى نفسه، حتى تثقل عليه الطاعات، ويكره العبادات، فينزل به هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وهو على حاله من الغفلة والضلال.
6 -
قال شيخ الإسلام: حديث الأعمى نصٌّ في إيجاب الجماعة، والرجل الأعمى هو ابن أم مكتوم؛ كما جاء ذلك صريحًا في بعض الروايات.
وقال ابن عباس عن رجل يصلي بالليل، ولا يحضر الجماعة، فقال: هو
في النار.
وقال الشافعي: أما الجماعة، فلا رخصة فيها إلَاّ من عذر.
وقال النووي: الجماعة مأمور بها؛ للأحاديث الصحيحة المشهورة، وإجماع المسلمين.
وقال شيخ الإسلام: من أصرَّ على ترك الجماعة فهو آثم مخالف للكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة.
وقد مرَّ أنَّه رحمه الله يرى أنَّ الجماعة، شرط لصحة الصلاة في حق غير المعذور.
وقال ابن كثير: وما أحسن ما يستدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة بصلاة الخوف؛ حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنَّها واجبة ما ساغ ذلك.
7 -
ظاهر حديث الأعمى تقييد وجوب الإتيان إلى النداء بسماع النداء سماعًا مجردًا؛ لأنَّه قد يسمع غير مجرد، والمسألة عرفية.
8 -
ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الأعمى بترك الجماعة، ثم رده -يحتمل أنَّه كان بوحي نزل في الحال، ويحتمل أنَّه قد تغيَّر اجتهاده صلى الله عليه وسلم.
***
323 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَاّ مِنْ عُذُرِ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، والدَّارَقُطْنِيُّ، وابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ.
وإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، لكِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ وقْفَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضيعيف؛ قال في "التلخيص": رواه أبو داود والدارقطني، وفيه: أبو جناب ضعيف ومدلس، وقد ضعفه الحافظ ابن الملقن من هذا الوجه، وقد رواه ابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم من طريق أخرى مرفوعًا:"من سمع النداء فلم يجب، فلا صلاة له إلَاّ من عذر"، لكن قال الحاكم: وقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة.
وله شواهد منها: حديث أبي موسى، رواه الحاكم والبيهقي، وقال: الموقوف أصح، ورواه العقيلي عن جابر وضعفه، ورواه ابن عدي عن أبي هريرة وضعفه.
* مفردات الحديث:
- عذر: بضم الذال للاتباع، وتسكن، وجمعه:"أعذار"، والعذر: الحجة التي يعتذر بها، وما يرفع اللوم عما حقه أن يلام عليه، فيقال: معذور؛ أي: غير ملوم فيما صنع.
(1) ابن ماجه (793)، الدارقطني (1/ 420)، ابن حبان (5/ 450)، الحاكم (1/ 245).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث حجة قوية لمن يقول: إنَّ صلاة الجماعة فرضُ عينٍ، وأنَّه يجب أداؤها بالمسجد.
2 -
قوله: "من سمع النداء" مفهوم الحديث أنَّ الذي لا يسمع النداء؛ لبعده عن مكان النداء -فإنه لا يجب عليه الحضور، فأما من كان بمكان بحيث يسمعه، فإنَّه يجب عليه الحضور.
3 -
أما سماع النداء من مكان بعيد يشق الوصول إليه بواسطة مكبر الصوت-: فهذا سماع لا يتعلق به حكم، فلا يجب على سامعه الحضور؛ فإنَّ العبرة بالمعاني المرادة في هذه الفقرة، وفي التي قبلها، ومراد الشارع معروف من الأمر.
4 -
أما قوله: "فلا صلاة له"، فإنَّ النفي في الأصل يكون نفيًا لذات الشيء، فإن لم يمكن نفي الذات كان نفيًا لحقيقته الشرعية، وهذا معناه نفي الصحة، فإن لم يمكن فهو نفي لكمال الشيء.
وفي هذا الحديث نفي الذات متعذر؛ لأنَّ سورة الصلاة موجودة، ونفي الصحة ممكن، لو لم يعارضه أحاديث تنافيه، وتصحح صلاة المنفرد، ولو بدون عذر، ومنها: حديث يزيد بن الأسود الآتي.
فيكون الجمع بين هذا الحديث، وبين ما عارضه من الأحاديث-: هو أنَّ النفي يكون لنفي الكمال، وتكون صلاة المنفرد بلا عذر صلاة ناقصة، قليلة الثواب، إلَاّ أنَّها مجزئة للذمة، مع الإثم الذي حمله المتخلف عن الجماعة بلا عذر.
قال الطيبي: اتَّفقوا على أنَّه لا رخصة في ترك الجماعة لأحدٍ، إلَاّ من عذرٍ؛ لحديث ابن عباس، وحديث الأعمى.
قال عطاء: ليس لأحد رخصة أن يدع الجماعة إذا سمع النداء، لا في
الحضر، ولا في السفر.
5 -
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من سرَّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليصل هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإنَّ الله شرع لنبيه سنن الهدى، وأداء هذه الصلوات الخمس في المساجد من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلَاّ منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به، يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف"[رواه مسلم (654)].
6 -
قال ابن القيم: ومن تأمَّل السنة، تبيَّن له أنَّ فعلها في المساجد فرض عين، إلَاّ لعارض يجوز معه ترك الجماعة، وقد علم من الدين بالضرورة أنَّ الله شرع الصلوات الخمس في المساجد، كما قال تعالى:{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29].
والنصوص من الكتاب والسنة كثيرة.
7 -
قال جمهور العلماء: صلاة الفرض إذا أتى بها المصلي على وجهها الكامل ترتَّب عليه شيئان: سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب، فإن أداها على غير وجهها الكامل، حصل سقوط الفرض عنه دون حصول الثواب.
***
324 -
وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الأسْوَدِ رضي الله عنه: "أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِيَا، فَدَعَا بهِمَا، فَجِيءَ بِهِمَا تَرْعُدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: مَا مَنَعَكُمَا أنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنا، قَالَ: فَلَا تَفْعَلَا، إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أدْرَكتُمَا الإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَصَلِّيَا معَهُ، فَإنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَصحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّان (1).
ــ
*درجة الحديث:
الحديث صحيح؛ قال في "التلخيص": رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني (1/ 413) وابن حبان والحاكم كلهم من طريق: يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه، ويعلى بن عطاء من رجال مسلم، وجابر وثَّقه النسائي وغيره، فسند الحديث صحيح.
*مفردات الحديث:
- إذا: فجائية، بعلامة دخولها على الجملة الاسمية.
- تَرْعُد: -بفتح التاء وسكون الراء المهملة وضم العين المهملة فدال مهملة- أي: ترجف من الخوف.
- فرائصهما: الفريصة هي: اللحمة بين الجنب والكتف.
(1) أحمد (4/ 160)، أبو داود (575)، الترمذي (219)، النسائي (858)، ابن حبان (6/ 155).
- رحالنا: مسكن الإنسان وما يتبعه من أثاث، وفي الحديث:"إذا ابتلت النعال، فالصلاة في الرحال".
- فلا تفعلا: "لا" ناهية، والفعل بعدها جزم بها بحذف النون، والألف فاعل.
- أدركتما: يقال: أدركت الشيء: إذا طلبته فلحقته.
- نافلة: يعني: الصلاة الأولى لهما فريضة، وهذه المُعَادَةُ تطوع، والنافلة للزيادة في الأجر.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على استحباب إعادة الجماعة لمن صلَّى، ثمَّ جاء المسجد، فوجد الناس يصلون، أو أقيمت الصلاة، وهو في المسجد.
2 -
يدل على صحة الصلاة في البيت، ولو من دون عذر، ولكنه يأثم بترك الجماعة في المسجد بدون عذر، كما تقدم في حديث أبي هريرة وغيره.
3 -
يدل على أنَّ صلاة الفريضة هي الأولى؛ سواء كانت في جماعة أو صلاها وحده، وأنَّ المعادة هي النافلة.
4 -
فيه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكون بالحكمة والموعظة الحسنة.
5 -
فيه حُسْن خُلقِ النبي صلى الله عليه وسلم، وحُسن تعليمه؛ فإنَّه سأل في بادىء الأمر عن سبب عدم دخولهما في الصلاة، فلما علم أنَّه لا عذر لهما، أرشدهما إلى ما ينبغي لهما فعله، كل ذلك بلطف وتوجيه حسن.
6 -
حضور الجماعة، وعدم الدخول مع الإمام فيها مما يسيء الظن؛ بأنَّ المتخلف يكره الإمام، أو بأنَّه لا يصلي، أو غير ذلك من الظنون، والإنسان يطلب منه دفع سوء الظن عن نفسه، ولا يعتبر هذا رياء.
7 -
أنَّ العبادة إذا انتهت لا يجوز إلغاؤها، وإنما قد وقعت موقعها، ولو صلح إلغاؤها لأَمرَ هذين الرجلين بإلغاء الصلاة التي وقعت في البيت، وجعل الفريضة هي التي مع الجماعة، والأولى نافلة.
325 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّما جُعِلَ الإِمَامُ ليُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كبَّرَ فَكبِّروا، وَلَا تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكبرِّ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكعُوا، وَلَا تَرْكعُوا حَتَّى يَرْكَعَ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبنَّا لَكَ الحَمْدُ، وَإذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ، وَإذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وإِذَا صلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أجْمَعِيْنَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيْحَيْنِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ؛ وورد عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: أنس، وعائشة، وجابر، وأبو هريرة.
فأما حديث أبي هريرة، وهو حديث الباب، فله عدة طرق:
الأولى: الأعرج عنه، أخرجه البخاري (701)، ومسلم (414)، وأحمد (7104).
الثانية: أبو علقمة عنه، رواه مسلم (416).
الثالثة: أبو يونس مولى أبي هريرة عنه، أخرجه مسلم (414).
الرابعة؛ أبو صالح عنه، رواه أبو داود (603) والنسائي (921)، وزاد:"وإذا قرأ فأنصتوا"، قال أبو داود: هذه الزيادة ليست بمحفوظة، وقد صحَّت هذه الزيادة عند مسلم، وأخرجها في صحيحه (404)، ومما يقوي هذه
(1) أبو داود (603)، البخاري (734)، مسلم (417).
الزيادة أنَّ لها شاهدًا من حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم (404) وغيره.
* مفردات الحديث:
- إنَّما: للحصر، وهو إثبات الحكم في المحصور فيه؛ كوجوب الاقتداء في هذا الحديث، ونفيه عمَّا عداه.
- جُعِلَ الإمام: مبني للمجهول، والجعل يأتي لمعنيين: أحدهما: قدري، والآخر: شرعي، فإن كان بمعنى الخلق فهو قدري؛ كقوله تعالى:{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)} [الحجر]، وإن كان أمرًا، أو نهيًا، فهو شرعي؛ لقوله تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] والفرق بين الجعلين: أنَّ القدري لا يتخلف، بخلاف الشرعي فقد يتخلف.
- ليؤتَمَّ به: أي: لِيُقْتَدى به في الصلاة، ويتابع.
- فإذا كبر: "إذا" ظرف زمان للمستقبل، متضمن معنما الشرط، مضاف إلى الجملة بعده.
- فكبروا: الفاء رابطة لجواب الشرط، وهي عاطفة، وتفيد الترتيب مع التعقيب؛ فتكون أفعال المأموم عقب أفعال الإمام، بلا تراخ.
- ولا تكبروا حتى يكبر: جاءت لتأكيد ما قبلها، بإبراز المفهوم بصورة المنطوق.
- ربنا ولك الحمد: جاء في بعض روايات الحديث بحذف الواو، وبعضها بإثباتها؛ أي:"ربنا ولك الحمد"، فمن أثبتها قال: إنَّ فيها معنى زائدًا، ومن حذفها قال: الأصل عدم التقدير.
قال النووي: ثبتت الرواية بإثبات الواو وحذفها، والوجهان جائزان بغير ترجيح.
- فصلوا قعودًا: أي: قاعدين وهو الحال.
- أجمعين: توكيد معنوي لواو الجماعة في "فصلوا".
وأما "قعودًا" فهي حال من واو الجماعة أيضا، نصب على الحال، وأكثر الروايات "أجمعون" بالرفع تأكيدًا لضمير الجمع قي "فصلوا".
* ما يؤخذ من الحديث:
الحديث يدل على الآتي من الأحكام:
1 -
وجوب متابعة الإمام، وأنَّه القدوة في تنقلات الصلاة، وسائر أعمالها وأقوالها؛ فلا يجوز الاختلاف عليه.
2 -
أنَّ الأفضل أن تأتي تنقلات المأموم بعد تنقلات الإمام، فتكون عقبه، فلا تخلف في الانتقال من ركن إلى ركن؛ ذلك أنَّه عطف بين تنقلات الإمام وتنقلات المأموم بالفاء، الدالة على الترتيب والتعقيب.
3 -
أنَّ مسابقة الإمام محرَّمة، وإذا وقعت عمدًا بطلت صلاته، وسيأتي بيان ذلك وتفصيله إن شاء الله تعالى.
4 -
أنَّ التخلف عنه كمسابقته، لا تجوز.
5 -
أنَّ المشروع في حق الإمام والمنفرد هو قول: "سمع الله لمن حمده" عند الرفع من الركوع، وأنَّ ذلك لا يشرع في حق المأموم.
6 -
يستفاد من الحديث أنَّ حالة المأموم تنقسم إلى أربع حالات:
إحداها: أن يسبقه، فهذا محرم مع العمد، ومبطل للصلاة على القول الراجح، كان كان السبق في تكبيرة الإحرام، فإنَّ الصلاة لم تنعقد.
الثانية: أن يوافق المأموم في أقواله وتنقلاته، فهذا مكروه، وبعضهم حرَّمه، ولا يبطل الصلاة إلَاّ في تكبيرة الإحرام، فإنَّ الصلاة لم تنعقد معه.
الثالثة: أن يتخلف عنه، والتخلف كالسبق في أحكامه.
الرابعة: أن يتابعه في أقواله وأفعاله، وهذا هو المشروع الذي يدل عليه الحديث، المرتِّب فعل الماموم بعد الإمام بـ"الفاء" المفيدة للترتيب والتعقيب.
7 -
قوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" الائتمام: هو الاقتداء والاتباع، ومن شأن التابع ألا يسابق متبوعه ولا يوافقه، بل يأتي على أثره.
8 -
أنَّ المشروع في كل من الإمام والمأموم والمنفرد بعد الرفع من الركوع -قول "ربنا ولك الحمد
…
إلخ"؛ فـ"سمع الله لمن حمده" هو الذكر المناسب من الإمام، وأما "ربنا ولك الحمد" فهي مناسبة من الكل.
9 -
أنَّ الإمام الراتب إذا صلَّى قاعدًا لعذر، فإنَّ من تمام الاقتداء والمتابعة أن يصلي المأمومون قعودًا، ولو من دون عذر.
10 -
قال شيخ الإسلام: إنَّ الحديث يدل على أنَّ المأموم إذا كان يرى مشروعية جلسة الاستراحة مطلقًا، والإمام لا يراها أنه يتابع إمامه، ولا يجلس لها، وبالعكس إذا كان الإمام يراها، والمأموم لا يراها، فإنه يجلس، وهذا كله تحقيق للمتابعة.
11 -
مذهب الإمام أحمد: أنَّها لا تصح إمامة العاجز عن القيام إلَاّ بمثله، إلَاّ الإمام الراتب، فإذا عجز عن القيام لمرض يرجى زواله، صحَّت خلفه، ويصلون وراءه جلوسًا ندبًا، ولو مع قدرتهم على القيام، إن ابتدأ بهم الصلاة قائمًا، وعجز عن القيام أثناءها فجلس، صلُّوا خلفه قيامًا وجوبًا.
12 -
اتَّفق العلماء على تحريم مسابقة المأموم لإمامه، واختلفوا في بطلان صلاته:
فذهب الجمهور إلى: أنَّها لا تبطل.
وذهب الإمام أحمد إلى: أنَّ من سبق إمامه بركن كركوع وسجود، فعليه أن يرجع ليأتي به بعد الإمام، فإن لم يفعل عمدًا حتى لحقه الإمام فيه، بطلت صلاته.
13 -
قال الشيخ تقي الدين أيضًا: اتَّفق الأئمة على تحريم مسابقة الإمام عمدًا، وهل تبطل الصلاة بمجرده؟ قولان في مذهب أحمد وغيره، وقد
استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، كما أجمعوا على أنَّها لا تبطل إذا سبقه سهوًا، إلَاّ أنَّه لا يعتد بما سبق به إمامه؛ لأنَّه فعله في غير محله، ووجه عدم بطلانها بالسبق سهوًا: أنَّها زيادة من جنس الصلاة وقعت سهوًا لا عمدًا.
وقال الشيخ تقي الدين: الصحيح ما ذكره الإمام أحمد في رسالته من أنَّ مجرد السبق عمدًا يبطل الصلاة؛ لأنَّ الوعيد للنهي، والنهي يقتضي الفساد.
14 -
الحديث حجة في أنَّ المأموم لا يجمع بين التسميع والتحميد عند الرفع من الركوع، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، وإنما الذي يجمع بينهما هو الإمام والمنفرد.
بخلاف الشافعية: فإنَّهم يرون الجميع بينهما؛ لما في مسلم (476) من "أنَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع، قال: سمع الله لمن حمده، اللهمَّ ربنَّا ولك الحمد" وقال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلي".
قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا في أن المنفرد يقول: سمع الله لمن حمده، ربَّنا ولك الحمد.
وقال ابن حجر: فأما الإمام فيسمع ويحمد، يجمع بينهما؛ لما ثبت في البخاري أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما.
15 -
"سمع الله لمن حمده" محلها عند رفع رأسه من الركوع، وأما "ربَّنا ولك الحمد" فمحلها بعد الاعتدال من الركوع.
16 -
أنَّ تكبيرة المأموم تأتي بعد تكبيرة الإمام بلا تخلف؛ سواء في تكبيرة الإحرام، أو في تكبيرات الانتقال، فإن وافقه في التكبير، فإن كبَّر الإمام والمأمومون معًا، ففي تكبيرة الإحرام، لا تنعقد صلاة المأموم، وفي سائر التكبيرات يُكره ذلك.
17 -
يقاس ما لم يذكر من أعمال الصلاة على ما ذكر منها هنا، فيستحب المتابعة والاقتداء؛ فإنَّ قوله:"إنَّما جُعل الإِمام؛ ليُوْتَمَّ به" أداة حصر، تشمل جميع أعمال الصلاة.
18 -
المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لا يصح ائتمام مفترض بمتنفل، ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، ولا عكسه، ولا كل مفترض خلاف مفترض لفرض آخر، مخالف له وقتًا أو اسمًا؛ لحديث:"فلا تختلفوا" والرواية الأخرى عن الإمام صحة ذلك كله، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنَّه رحمه الله يجيز أن يصلي شخص خلف شخص آخر، يخالفه في النية والأفعال، فمن صلَّى العشاء خلف من يصلي المغرب، إذا سلم إمامه قام وأتى بالركعة الرابعة، ومن صلَّى المغرب خلف إمام يصلي العشاء فهو مخيَّر، فإما أن ينتظر حتى يلحقه الإمام في التشهد فيسلم بعده، وإما أن ينوي الانفراد، ويسلم قبله.
ومثله لو صلَّى العشاء خلف من يصلي التراويح، فإذا سلم الإمام من الركعتين، قام وأتي بالركعتين الباقيتين.
19 -
عموم الحديث بمنع مخالفة المأموم للإمام يشمل النية؛ فلا يجوز أن يصلي الإمام فريضة بمن يصلي نافلة، وبالعكس، لكن حديث معاذ مخصص لهذا الحديث في مسألة اختلاف النية؛ فإنَّ معاذًا يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الفريضة، ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة، هي له نافلة ولهم فريضة.
20 -
قال شيخ الإسلام: مسابقة الإمام عمدًا حرامٌ باتفاق الأئمة، فلا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه، ولا يرفع قبله، ولا يسجد قبله، وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لأنَّ المؤتم تابع لإمامه، فلا يتقدم على متبوعه، وفي بطلان صلاته قولان معروفان للعلماء.
* خلاف العلماء:
أجمع الأئمة على وجوب القيام في صلاة الفرض، وأجمعوا على أنَّ إمامة العاجز عن القيام بالقادر عليه، لا تصح إذا كان الإمام ليس إمامًا راتبًا.
واختلفوا في صحة إمامة الإمام الراتب المرجو زوال علته، إذا صلَّى قاعدًا بالمأمومين القادرين على القيام:
فذهب إلى جوازها الإمام أحمد؛ عملاً بهذا الحديث، ولصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه قاعدًا حين انفكت قدمه، وصلاته صلى الله عليه وسلم في مرض موته.
وذهب الحنفية إلى: أنه يصح اقتداء قائمٍ بقاعدٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى في مرض موته جالسًا، والناس خلفه قيامًا، وهي آخر صلاة صلَاّها إمامًا.
وذهب مالك والشافعي إلى: أنَّها لا تصح إمامة العاجز عن القيام بالقادر عليه مطلقًا، سواء كان هو الإمام الراتب، أو لا؛ وسواء رُجي زوال علته، أو لا.
ودليلهم: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا على إمامكم"[رواه مسلم (414)].
***
326 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رأى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ:"تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأُتمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ". روَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- تأخرًا: أي: تخلفًا، وبُعْدًا في صفوف الصلاة.
- ليأتم: بلام الأمر الساكنة، أو المكسورة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب الدنو من الإمام، فأوائل الصفوف خير للرجال من أواخرها؛ لحديث:"خير صفوف الرجال أولها"، ولحديث:"لو يعلم الناس ما في الصف الأول، لاستهموا عليه".
2 -
أنَّ الإمام هو القدوة في الصلاة في جميع أعمالها وأقوالها، فلا يُخْتَلَف عليه فيها.
3 -
في الصلاة الانضباط والنظام الإسلامي؛ ليتعود المسلمون على حسن التنظيم، وجمال الترتيب، والامتثال والطاعة بالمعروف، فهو من جملة أسرار صلاة الجماعة.
4 -
أنَّ المامومين الذين لا يرون الإمام، ولا يسمعونه، يقتدون بمن أمامهم من المأمومين المتقدمين.
5 -
قوله: "وليأتم بكم من بعدكم" يحتمل أن يراد به الاقتداء في الصلاة، فيليه العلماء ثم العقلاء، والصف الثاني يقتدون بالصف الأول.
(1) مسلم (438).
ويحتمل حمل العلم عنه، فليتعلم منه صلى الله عليه وسلم الصحابة، وليتعلم منهم التابعون، وهكذا.
6 -
المشهور من مذهب الإمام أحمد ما قاله صاحب "شرح العمدة": يصح اقتداء مأموم بإمام، وهما في مسجد مطلقًا؛ سواء رأى إمامه أو رأى من خلفه، أو لا؛ لأنَّ المسجد معد للتجمع بهم في موضع الجماعة، وكذا يصح اقتداء مأموم خارج المسجد إن رأى الإمام، أو بعض المأمومين.
ولا يصح إن كان بين الإمام والمأموم طريق، أو نهر جارٍ، ولو سمع التكبير.
7 -
قال شيخ الإسلام: صلاة الجماعة سميت بذلك؛ لاجتماع المصلين بالفعل مكانًا وزمانًا، فإن أخلُّوا بذلك، كان منهيًّا عنه باتفاق الأئمة.
8 -
بهذا النقل عن شيخ الإسلام الذي حكى فيه اتفاق الأئمة، نعلم أنَّها لا تصح الصلاة خلاف المذياع، والتلفاز، إذا كان المقتدي ليس مع الجماعة، وإنما يفصل عنه مسافة بعيدة؛ لأنَّه ليس مع الجماعة في مكان التجمع.
9 -
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ المأموم إذا أمكنه الاقتداء بإمامه بالرؤية، أو السماع -أنَّه يصح اقتداؤه؛ سواء كان في المسجد، أو خارج المسجد، ولو حال بينهما طريق؛ لأنَّه لا دليل على المنع.
وقال الإمام النووي: يشترط لصحة الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام؛ سواء صلاها في المسجد، أو غيره بالإجماع، ويحصل العلم له بذلك بسماع الإمام، أو من خلفه، أو جواز اعتماد واحد من هذه الأمور، واشترط النووي رحمه الله ألا تطول المسافة في غير مسجد، وهو قول جمهور العلماء.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء: متى يستحب أن يقام إلى الصلاة؟
فذهب أبو حنيفة وأصحابه: إلى أنه يقوم عند قول المقيم: "حيَّ على الصلاة"؛ وبه قال سويد بن غفلة والنخعي، واحتجوا يقول بلال:"لا تسبقني بآمين".
وذهب مالك وأحمد إلى: أنَّه يقوم عند قول المقيم: "قد قامت الصلاة" قال ابن المنذر: على هذا أهل الحرمين.
وذهب الشافعي إلى: أنه يقوم إذا فرغ المقيم من الإقامة.
وبه قال عمر بن عبد العزيز ومحمَّد بن كعب، وسالم، وأبو قلابة، والزهري، وعطاء.
قال في "المغني": وإنما قلنا: إنَّه يقوم عند قوله: لاقد قامت الصلاة"؛ لأنَّ هذا خبر بمعنى الأمر، ومقصوده الإعلام ليقوموا، فيستحب المبادرة إلى القيام؛ امتثالاً للأمر، وتحصيلاً للمقصود.
وذكر ابن رشد قولاً للإمام مالك آخر، وهو أنَّه لم يحد في ذلك حدًّا، فإنَّه وكل ذلك إلى قدر طاقة الناس، وليس في هذا شرع مسموع، إلَاّ حديث أبي قتادة أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني"[رواه البخاري (637)] فإن صحَّ وجب العمل به.
قلْتُ: الحديث في الصحيحين، وهذا لفظ البخاري في "باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام؟ ".
والمستحب عند جمهور العلماء -ومنهم الحنابلة:- أن يكبر الإمام والمقتدون إذا فرغ من الإقامة.
قال في "المغني": وعليه جُل الأئمة في الأمصار.
***
327 -
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: "احْتَجَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حُجْرَةً بِخَصَفَةٍ، فَصَلَّى فيها، فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، وَجَاءوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ
…
" الحَديث.
وفيه: "أفْضَلُ صَلَاةِ المَرْءِ فِي بيتِهِ إلَاّ المَكْتُوبة" مُتَّفقٌ علَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- احتجر حجرة: بالراء؛ أي: اتَّخذ شيئًا كالحجرة.
- بخصفة: أي: من حصير، فهي منسوجة من سعف النخل.
- فتتبع إليه رجال: فتتطلبه رجال؛ ليقتدوا به في صلاته.
- المكتوبة: المفروضة، وهي الصلوات الخمس.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جواز اقتداء المأموم ولو كان الإمام في حجرة لا يراه المأموم، أو كان أحدهما في السطح، والآخر في المكان الأسفل، فالعبرة بإمكان الاقتداء إذا كانا جميعًا بالمسجد، فجواز هذا محل اتفاق بين الأئمة.
2 -
جواز حجز مكان في المسجد، والاختصاص به للعبادة والراحة، إذا كان هناك حاجة، وكان لا يضيق بالمصلين.
3 -
أنَّ صلاة النافلة بالبيت أفضل؛ لتنوير البيت بالصلاة، والبُعد عن الرياء والسمعة، أما المكتوبة فالواجب الإتيان بها في المسجد، إلَاّ من عذر، هذا في حق الرجال المكلفين.
4 -
جواز تعيين نية الجماعة في الصلاة من الإمام والمأموم، ولو لم يحصل ذلك
(1) البخاري (731)، مسلم (781).
إلَاّ في أثناء الصلاة، فتنتقل نية المنفرد إلى نية الإمام، وهذا لا يجوز في مشهور مذهب أحمد، ما لم يكن يظن حضور مأموم يأتي معه، ويأخذونها من صلاة ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم.
5 -
جواز اقتداء المتنفل بالمفترض، فإنَّ صلاة التهجد في حقه صلى الله عليه وسلم واجبة، وفي حق أمته سنة، لا واجبة، وهذا هو المشهور من المذهب، أما اقتداء المفترض بالمتنفل ففيها روايتان عن الإمام أحمد:
إحداهما: لا تجوز، وهي المشهور من المذهب.
والأخرى: تجوز، وهي الصحيحة دليلاً؛ لقصة في الصحيحين.
6 -
فيه دليل على أنَّ الحائل بين الإمام والمأمومين غير مانع من صحة الصلاة والاقتداء، وقال النووي: يشترط لصحة الاقتداء علم المأموم بانتقال الإمام؛ سواء صليا في المسجد، أو في غيره، أو أحدهما فيه، والآخر في غيره بالإجماع. اهـ.
وإن كان أحدهما خارج المسجد، ورأى الإمام أو المأمومين، ولو لم تتصل الصفوف صحت؛ لانتفاء المفسد، ووجود المقتضي للصحة، وهو الرؤية، وإمكان الاقتداء.
وفي "الإنصاف": المرجع في اتصال الصفوف إلى العرف، على الصحيح من المذهب.
قال في "المغني": فلا يتقدر بشيء، وهو مذهب مالك والشافعي؛ لأنَّه لا حدَّ في ذلك، ولأنَّه لا يمنع الاقتداء، فإنَّ المؤثر في ذلك ما يمنع الرؤية، أو سماع الصوت، واشترط النووي ألا تطول المسافة في غير المسجد، وهو قول جمهور العلماء.
***
328 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: "صَلَّى مُعَاذٌ بِأَصْحَابِهِ العِشَاءَ، فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتُرِيدُ أنْ تَكُونَ يَا مُعَاذُ فَتَّانًا، إذَا أمَمْتَ النَّاسَ، فَاقْرَأ بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، واللَّفظُ لمُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- فتَّانًا: الفتَّان بفتح الفاء، جاء على صيغة المبالغة، والمراد: أتريد أن تفتن الناس عن دينهم، بتثقيل العبادة عليهم.
- أتريد: بهمزة الاستفهام على سبيل الإنكار، ومعناه: أأنتَ منفِّر؟!.
- إذا أممت الناس: إذا صليت إمامًا بهم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جواز إمامة المتنفل بالمفترض؛ فإنَّ صلاة معاذ الأولى فريضة، وصلاته بقومه هي النافلة.
2 -
أنَّ الإمامة ينبغي أن تكون في أصحاب الفضل والصلاح والتقى والعلم، فهذا معاذ يخرج ليؤم قومه من المدينة إلى ضاحيتهم، وهم مغتبطون بذلك؛ لما يعلمون عنه من الخير رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم أقرَّهم على ذلك.
3 -
أنَّه لا ينبغي للإمام أن يشق على المأمومين بتطويل الصلاة، ففيهم من لا يتحمل التطويل من الكبر، أو الضعف، أو ذوي الحاجات.
4 -
قال الحافظ: من سلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم في الإيجاز والإتمام لا يُشتكى منه
(1) البخاري (705)، مسلم (465).
تطويل، وصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة، وعليه فالتخفيف المأمور به أمر نسبي، يرجع إلى ما فعله صلى الله عليه وسلم، وواظب عليه، وأمر به، لا إلى شهوة المأمومين؛ ففي البخاري (708)، ومسلم (469) عن أنس قال:"ما صليتُ خلف إمام قط أخف صلاة، ولا أتمَّ صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم".
قال في "المبدع": وقد حزروا صلاته صلى الله عليه وسلم فكان سجوده قدر ما يقول: "سبحان ربي الأعلى" عشر مرات، وركوعه كذلك، وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"[رواه البخاري]، قال شيخ الإسلام: ليس له أن يزيد على قدر المشروع، وينبغي أن يفعل غالبًا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله غالبًا، ويزيد وينقص للمصلحة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد وينقص للمصلحة.
قال ابن عبد البر: التخفيف للأئمة أمرٌ مجمع عليه، لا خلاف في استحبابه، على ما اشترط من الإتمام.
5 -
أنَّ الفتنة تكون حتى في أعمال الخير، إذا خرج بها الإنسان عن حدها، فإضجار الناس في العبادة، وتثقيلها على نفوسهم -من الفتنة.
6 -
أنَّ القراءة بهذه السور المذكورة وأمثالها في القدر من الوسط في الصلاة، والمشروع أن يكون الركوع والسجود مناسبًا للقراءة.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في صحة إمامة المتنفل للمفترض:
فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى: عدم الصحة، مستدلين بحديث:"إنما جعل الإمام؛ ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه"، واختلاف نيتهما اختلاف عليه.
وذهب الشافعي والأوزاعي والطبري إلى صحة ائتمام المفترض بالإمام المتنفل، وهي رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام وابن القيم، مستدلين: بحديث معاذ في الصحيحين، ولصلاته صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف صلاتين، كل طائفة بصلاة يسلم بينهما. [رواه أبو داود].
329 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قِصَّةِ صَلَاةِ رَسُولِ الله بِالنَّاسِ، وَهُوَ مَرِيضٌ، قَالَتْ:"فَجَاءَ حَتَّى جَلسَ عَنْ يَسَارِ أبِي بكْرٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا، وَأبُو بكرٍ قَائِمًا، يَقْتَدِي أبُو بكرٍ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أبِي بكرٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
حينما كان النَّبي صلى الله عليه وسلم. مريضًا قَال: "مُرُوا أبا بكرٍ، فَليصل بالناس"، فصار أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس، فأحس النبي صلى الله عليه وسلم نشاطًا، فجاء والناس في الصلاة، فجلس عن يسار أبي بكر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام، يصلي بالناس جالسًا، وأبو بكر يصلي قائمًا، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر؛ هكذا في الصحيحين.
2 -
جواز إمامة العاجز عن القيام بالقادرين عليه، وخصت الحنابلة هذا بالإمام الراتب؛ قصرًا للحديث على أضيق مدلولاته.
3 -
جواز المبلِّغ عن الإمام في الصلاة، إذا كان هناك حاجة من سعة في المكان وكثرة المصلين، ففي رواية مسلم:"أنَّ أبا بكر كان يُسْمِعُهم التكبير".
4 -
أنَّ المأموم يكون عن يمين الإمام؛ حيث جلس النبي صلى الله عليه وسلم عن يسار أبي بكر، رضي الله عنه.
5 -
جواز نية الإمامة في الصلاة ولو في أثنائها، كما يجوز أن ينتقل الإمام مأمومًا أثناء الصلاة، كفعل أبي بكر.
6 -
وقع اختلاف بين العلماء في هذه القصة: هل أبو بكر بعد أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم
(1) البخاري (713)، مسلم (418).
استمرَّ إمامًا، أم أنَّه مأموم والإمام هو النبي صلى الله عليه وسلم؟ الراجح أنَّه صار مأمومًا، لا إمامًا؛ لأمور كثيرة، منها:
(أ) قول عائشة: "يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر".
(ب) أنَّ أبا بكر رضي الله عنه لا يرضى أن يكون إمامًا للنبي صلى الله عليه وسلم، كما حدث في ذهابه عليه الصلاة والسلام للإصلاح في بني عمرو بن عوف في قباء.
(ج) جاء في رواية البخاري: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جلس عن يسار أبي بكر"، وهذا هو مجلس الإمام من المأموم. وهناك أدلة أخر.
***
330 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ، فَلْيُخَفِّفْ، فَإنَّ فِيهمُ الصَّغِيرَ وَالكَبِيرَ والضَّعِيْفَ وَذَا الحَاجَةِ، فَإذَا صَلَّى وَحْدَهُ، فَلْيُصَلِّ كيْفَ شَاءَ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- إذا أمَّ أحدكم: "إذا" شرطية، و"أمَّ" شرطها.
- فليخفف: هو الجواب؛ فلذا دخلت الفاء.
- فإنَّ فيهم: تعليل.
- الصغير: نصب على أنَّه اسم "إنَّ"، وما بعده عطف عليه، وأما خبر "إنَّ" فهو "فيهم".
- الضعيف: المراد به: ضعيف الخلقة؛ من مرضٍ، أو كبرٍ، أو نحافةٍ، وغيرها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب تخفيف الصلاة، إذا أمَّ الناس في صلاة فريضة أو نافلة، والحكمة في ذلك وجود الصغير والكبير والضعيف، ممن لا يطيقون إطالة الصلاة؛ لضعفهم وعجزهم.
وكذلك صاحب الحاجة، الذي فكره عند حاجته، ويخاف فواتها، أو فسادها، أو نحو ذلك.
2 -
يؤخذ منه أنَّه لو كان العدد محدودًا، وآثروا التطويل، أنَّه جائز؛ لأنَّهم أصحاب الحق في ذلك، وقد جاءت الرغبة منهم، فلا بأس إذن بالتطويل.
(1) البخاري (703)، مسلم (467).
3 -
أما إذا صلَّى وحده، فليصل ما شاء؛ لأنَّ ذلك راجع إلا رغبته ونشاطه، وينبغي تقييده بما لا ينشغل به عن الواجبات.
4 -
فيه مراعاة الضعفاء والعجزة في جميع الأمور، التي يشاركهم فيها الأقوياء؛ سواء في الأمور الدينية، أو الاجتماعية؛ لأنَّه الذي يجب مراعاته والعمل به.
5 -
قال في "تهذيب العمدة": ويسن للإمام تخفيف الصلاة معه الائتمام، ومحل التخفيف ما لم يُؤْثِر مأمومٌ التطويل، وتكره سُرعة تمنع مأمومًا فعل ما يسن.
***
331 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبِي: "جِئْتكُمْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا؛ قَالَ: فَإذا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ أحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أكْثَرُكُمْ قُرآنًا، قَالَ: فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أكْثَرَ مِنِّي قُرآنًا، فَقَدَّمُونِي، وَأنَا ابْنُ سِتِّ أو سَبْعِ سِنِيْنَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاودَ وَالنَّسَائيُّ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
فيه أنَّ الأذان فرض كفاية، إذا قام به من يكفي، سقط عن الباقين.
2 -
فيه أنَّ الأحق بالإمامة في الصلاة من هو أكثر حفظًا للقرآن الكريم.
3 -
فيه جواز إمامة من لم يبلغ من المميزين حتى في الفرض، فإن قيل: لعلَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم عن إمامته قومه؟
فالجواب: أنَّ الله قد علم ذلك بلا شك، وكون الله تعالى أقرَّه، ولم يَنْزِل على نبيه وحيٌ على بطلان إمامته -دليلٌ على أنَّ ما فعله حق، وليس ببَاطل.
4 -
فيه أنَّ التمييز يكون بالسادسة أو السابعة، حسب قوة إدراك الأطفال، وكونها سبعًا، عند بعض الفقهاء، إنَّما هي أمرٌ أغلبيٌّ، علق به الحكم.
5 -
فيه أنَّ القران سبب لرفعة الإنسان، وعلو مقامه في الدنيا والآخرة.
6 -
وفيه أنَّ الإمامة أفضل من الأذان؛ لأنَّ الإمامة أناطها بالعالم، أما الأذان فأجازه من أي أحد، ولأنَّ الإمامة يتعلَّق بها -من أحكام الصلاة- ما لا يتعلق بالأذان.
7 -
روى البخاري أنَّ سبب كثرة حفظ عمرو بن سلمة للقرآن، أنَّه كان وهو ببلده
(1) البخاري (4302)، أبو داود (585)، النسائي (2/ 80).
يتلقى الركبان القادمين من المدينة، فيأخذ منهم ما حفظوه، فحصل له من حفظ كتاب الله الشىء الكثير، فالعلم بالجِد والاجتهاد.
* خلاف العلماء:
ذهب الحنفية إلى: عدم صحة إمامة الصبي، الذي دون البلوغ في فرض الصلاة ونفلها.
وذهب المالكية والحنابلة إلى عدم صحة إمامته في الفرض دون النفل.
وذهب الشافعية إلى: صحة إمامته في الفرض والنفل.
ودليل الأئمة الثلاثة: ما روي عن ابن عباس: "لا يؤم الغلام، حتى يحتلم"، ولأنَّ صلاة الصبي نافلة في حقه، فصلاته بالمفترضين اختلاف في النية بين الإمام والمأمومين، وقد قال صلى الله عليه وسلم. "فلا تختلفوا عليه"، وأيضًا لا يؤمَن على الصبي، ولا يستوثق من إتيانه بشروط الصلاة.
أما دليل الشافعية: فالحديث الذي معنا، وأنَّ من صحَّت صلاته لنفسه صحَّت لغيره، وهو رواية عن الإمام أحمد، ويشهد لها عموم قوله:"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله"[رواه مسلم (673)]، ومن جازت إمامته في النفل، جازت في الفرض، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السمعدي، رحمَهُ اللهُ تعالى.
***
332 -
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمُّ القَوْمَ أقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ تعَالَى، فَإِنْ كانُوا فِي القِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإنْ كانُوا فِي الهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا -وَفِي رِوَايَةٍ: سِنًّا- ولَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بيْتِهِ عَلَى تَكْرمَتِهِ إِلَاّ بإذْنهِ". رَوَاه مُسْلِمٌ (1).
ــ
مفردات الحديث:
- يؤم القوم أقرؤهم: إخبار بمعنى الأمر؛ كما في قوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ} [النور: 3].
- هِجْرَة: بكسر الهاء وسكون الجيم المعجمة التحتية ثم راء فتاء التأنيث، والهجرة: هي الانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، ولا يزال حكمها باقِيًّا.
- سِلْمًا: بِكسر السين المهملة، وسكون اللام، ثم ميم؛ أي: إسلامًا.
- سُلطانه: المراد به: ولايته؛ سواء كانت ولاية عامة، أو ولاية خاصة.
- تكرمته: بفتح المثناة الفوقية وسكون الكاف وكسر الراء، المراد به: الفراش، ونحوه مما يبسط، ويفرش لصاحب المنزل، ويختص به.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب ولاية الإمامة للأفضل فالأفضل، والفضل هو بالعلم الشرعي
(1) مسلم (673).
والعمل به.
2 -
الواجب أن يكون هذا درسًا للمسلمين في عموم الولايات، فلا يُقدَّم فيها ويولى عليها؛ إلَاّ من هو أهل لها، واجتمع فيه الشرطان العظيمان: الأمانة فيه، والقوة عليه؛ كما قال تعالى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص: 26]، وما ذلَّ المسلمون وفقدوا عزهم، وعمَّهم الفساد، إلَاّ بترك هذه الأمانة وإضاعتها، فقد جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة، فقال أعرابي: كيف يا رسول الله! إضاعتها؟ قال: إذا أُسْنِدَ الأَمْر إلى غير أهله".
3 -
تكون الإمامة لمن هو أكثر حفظًا لكتاب الله تعالى؛ لأنَّ كتاب الله تعالى أساس العلوم النافعة، فمن كان فيه أعلم كان من غيره أفضل، فالعبرة بمن هو أعلم بكتاب الله وفقهه، وفقه الصلاة، ولذا يُقدم الأفقه على من هو أكثر منه حفظًا، ولكن ليس في فقه الصلاة كذلك.
4 -
المراد بقوله: "أقرؤهم لكتاب الله" هو أكثرهم حفظًا للقرآن، والذي يوضحه الحديث الذي قبله:"وليؤمكم أكثركم قرآنًا"[رواه البخاري (4302)]، وما رواه النسائي (2011) والترمذي (1715)، وصححه من حديث هشام بن عامر ابن أمية الأنصاري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد: "قدِّموا أكثرهم قرآنًا".
5 -
فإن استويا في القراءة، فأعلمهم بسنة نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ السنة المطهرة هي الوحي الثاني، وهي المصدر الثاني للتشريع.
6 -
فإن استويا في العلم بالقرآن وحفظه، والعلم بالسنة وحفظها -فأقدمهم هجرةً من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، فإن لم تكن هجرةٌ فأقدمهم توبةً وهجرةً عمَّا نهى الله عنه، وأقربهم امتثالاً لما أمر الله تعالى به.
7 -
وفي رواية: "فأقدمهم سنًّا"؛ ذلك أنَّ من قدم سنه قدُم إسلامه، وكثرت أعماله الصالحة.
8 -
هذا الترتيب ينبغي ملاحظته عندما يحضر جماعة ليصلوا، أو عند إرادة تولية الإمامة لأحد المساجد، أما إذا كان للمسجد إمام راتب فهو المقدَّم، ولو حضر أفضل منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يؤمَّنَّ الرجل في سلطانه".
9 -
هنا يوجد أمكنة صاحب المحل الصالح للإمامة يكون أحق بها، وأولى من غيره.
(أ) إمام المسلمين، والوالى عليهم أحق بمكان ولايته من غيره.
(ب) صاحب البيت، أو صاحب الدائرة أولى بالإمامة من الزائر.
ولذا فإنَّه لا يجوز الجلوس على فراشه إلَاّ بإذن صاحب الحق، فهذا ترتيب ولاية إمامة الصلاة، تكون للأفضل فالأفضل، ولذا استدلَّ بها الصحابة على الأحقية في الخلافة الكبرى، فقوموا أبا بكر خليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا مستدلين على ذلك:"رضيَكَ رَسُولُ الله لِدِيننَا، أفلا نرضَاكَ لِدُنيَانَا؟! ".
والشَّرع نتعلم منه بهذا الترتيب وجوب ولاية الأفضل فالأفضل، حتى تستقيم أمورنا، وتصلح أحوالنا؛ فإنَّ من إضاعة الأمانة إسناد الأمر إلى غير أهله.
10 -
قال في "الغاية": وما بناه أهل الشوارع، والقبائل من المساجد، فالحقُّ في الإمامة لمن رضوا به، وليس لهم عزله ما لم تتغيَّر حاله.
قال الإمام أحمد في "رسالته": ومن الواجب على المسلمين أن يقدموا خيارَهم، وأهل الدين، والأفضل منهم أهل العلم بالله تعالى، الذين يخافون الله، ويراقبونه.
وقال الحارثي: يجب أن يولَّى في الوظائف وإمامة المساجد الأحق شرعًا.
وقال الماوردي: يحرم على الإمام نصب فاسق إمامًا للصلاة، لأنَّه مأمور بمراعاة المصالح.
333 -
وَلاِبْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابرٍ رضي الله عنه "وَلَا تَؤُمُّنَّ امْرأةٌ رَجُلاً، وَلَا أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلَا فاجِرٌ مؤْمِنًا". وإسْنَادُهُ وَاهٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
قال المؤلف: إسناده واهٍ؛ لأنَّ فيه عبد الله بن محمَّد العدوي عن علي بن جدعان، متهم بوضع الحديث، وشيخه ضعيف، وله طريق آخر فيها عبد الملك ابن حبيب، وهو متَّهم بسرقة الحديث، وخلط الأسانيد.
* مفردات الحديث:
- أعرابي: بفتح الهمزة وسكون العين المهملة فراء مفتوحة فألف ثم باء وياء مشددة، نسبة إلى الأعراب سكان البادية، وأصحاب الرحلة والظعن.
- مهاجرًا: بضم الميم فهاء مفتوحة فألف فجيم معجمة مكسورة فراء، وهو مَن انتقل فارًّا بدينه، من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام.
- فاجرًا: جمعه: "فجَّار"، يقال: فجر يفجر فجورًا، والفجر موضوع في الأصل لشق الشيء شقًّا واسعًا، وباقي معانيه متفرعة عن هذا، التي منها: انبعث الرجل في المعاصي، وَفَسَقَ.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
لا تصح إمامة المرأة للرجل، فليست من أهل الإمامة، ويكاد ينعقد الإجماع على عدم صحة إمامة المرأة للرجل، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يفلح قوم ولَّوا أمرهُم امرأة"[رواه البخاري (4425)].
(1) ابن ماجه (1081).
2 -
كراهة إمامة الأعرابي ساكن البادية للقروي؛ لغلبة الجهل والجفاء على سكان البادية، قال تعالى:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه} [التوبة: 97].
3 -
كراهة إمامة الفاجر للمؤمن الصالح؛ لنقص دينه، وتساهله بما يجب، وما يستحب للصلاة من الأحكام.
4 -
استحباب أن تكون الإمامة لأهل العلم من سكان الحاضرة، ومن المستقيمين وأهل الصلاح، الذين يؤتون الصلاة حقها بما يكملها.
5 -
قال شيخ الإسلام: الصلاة خلف الفاسق منهي عنها بإجماع المسلمين، ومع هذا فإنَّه تصح خلفه، ولكن لا منافاة بين تحريم التقديم، وصحة الصلاة.
قال -رحمه الله تعالى-: الأصل أنَّ من صحت صلاته صحت إمامته، وصلاة الفاسق صحيحة بلا نزاع، فقد أخرج البخاري في "تاريخه" عن عبدالكريم الجزري أنَّه قال:"أدركتُ عشرةً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون خلاف أئمة الجَوْر"، ولما جاء في صحيح البخاري (694) من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أئمتكم يصلون لكم ولهم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم"، وكذا عموم أحاديث الجماعة، وفي الصحيح أحاديث كثيرة تدل على صحة الصلاة خلف الفساق.
وقال رحمه الله: ويجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس، والجمعة، وغير ذلك خلاف من لم يعلم منه بدعةً، ولا فسقًا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، بل يصلي خلف مستور الحال.
* خلاف العلماء:
ذهب الحنفية والشافعية إلى: صحة إمامة الفاسق، مع أنَّ الأفضل تقديم التقي.
وذهب الإمام أحمد وأتباعه في المشهور من مذهبه إلى: عدم صحة إمامته.
ودليل المصحِّحين: أحاديث كثيرة تدل على صحة إمامته، ولكنها أحاديث لا تقوم بها حجة، وهي تدل على صحة الصلاة خلاف كل برٍّ وفاجرٍ، ولو صحَّت، فقد عارضها أحاديث أخر، منها:"لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه"، وهي أيضًا أحاديث ضعيفة.
قال العلماء: فلما ضعفت أحاديث الجانبين، رجعنا إلى الأصل وهو أنَّ من صحَّت صلاته صحت إمامته، ويؤيده فعل الصحابة.
قال البخاري في "تاريخه"(6/ 90) عن عبد الكريم بن مالك الجزري: "أدركتُ عشرة من أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم يصلون خلاف أئمة الجور".
وكان ابن مسعود يصلي خلف الوليد بن عقبة، وهو متَّهم بالشرب.
وكان عبد الله بن عمر يصلي خلاف الحجَّاج، وهو من هو في سفك الدماء، والتطاول على العلماء.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ إمامة الفاسق صحيحة؛ سواء كان فسقه من جهة الأقوال كالبدع، أو من جهة الأفعال؛ لأنَّ صلاة الفاسق لنفسه صحيحة، فصلاة غيره خلفه كذلك.
وقال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: تصح الصلاة خلاف المبتدع، وخلف المسبل إزاره، وغيره من العصاة: في أصح قولي العلماء.
فهذا القول هو الراجح، ولو قلنا: إنَّ الصلاة لا تصح من الفاسق -وهو من أتى كبيرة من الكبائر، ولم يتب، أو أدمن على صغيرة- لعَسُر علينا العثور على الإمام الصالح.
***
334 -
وَعنْ أَنسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح؛ فقد رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة (3/ 22) وابن حبان، ومع صحة إسناده، فله شواهد في الصحيحين وغيرهما، منها: حديث أنس في البخاري (690) ومسلم (433) وحديث النعمان في البخاري (685)، ومسلم (436)، وحديث أبي أمامة في "المسند"(21760) وغيرها.
* مفردات الحديث:
- رُصُّوا: بضم الراء والصاد المهملة، من رصَّ يرصُّ رصًّا -من باب قتل-: انضم بعضه إلى بعض وتقارب، ومنه: رصَّ البناءَ، قال تعالى:{كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [الصف: 4].
- حاذوا: تساووا؛ ليكون عنق أحدكم محاذيًا، ومساويًا لعنق من بجانبه.
- الأعناق: جمع "عنق" وهو الرقبة.
…
(1) أبو داود (667)، النسائي (815)، ابن حبان (14/ 51).
335 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أوَّلُهَا"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- خير - شر: أفعل تفضيل، إلَاّ أنَّ الهمزة حذفت من أولهما تسهيلاً؛ لكثرة استعمالهما، فهما بمعنى: أخير، وأشر.
* ما يؤخذ من الحديثين: (334، 335)
1 -
في الحديث رقم: (334) استحباب رصّ الصفوف وتسويتها، وتقارب المصلين بعضهم من بعض؛ بألا يدعوا خللاً في الصفوف، ففي صحيح مسلم (430) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟! قال: يتمَّون الصف الأول فالأول، ويرصون الصفوف" فلا نزل في أنَّ تسوية الصف سنة مؤكدة، والتراص وإلزاق الكعوب سنة مؤكدة، وشريعة مستقرة. فقد أخرج البخاري (717) من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا صفوفكم -ثلاثًا- قال: فرأيتُ الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وكعبه بكعبه" ومن قوله: "فرأيت الرجل
…
إلخ" مدرج من كلام النعمان.
2 -
قوله: "وكعبه بكعبه" المراد به المبالغة في تسوية الصفوف؛ كما قال الحافظ ابن حجر.
3 -
أما الحديث (335): فيدل على استحباب الصف الأول، وأنَّه أفضل
(1) مسلم (440).
الأمكنة، وأنَّ شر الصفوف المؤخرة؛ لبُعد المصلي عن سماع القراءة، وبُعده من حرَم الإمام، والدلالة على قلة رغبة المتأخر في الخير والأجر، هذا بالنسبة لصفوف الرجال، كما أنَّ الأفضل هو تقدم ذوي الأحلام والنُّهَى، من أهل العلم والصلاح؛ ليكونوا خلاف الإمام، وليكونوا قدوة للمصلين مِنْ خلفهم في أقوالهم، وأفعالهم.
4 -
أما النساء: فالمستحب في حقهنَّ الستر، والبعد عن نظر الرجال، فتكون الصفوف المتأخرة في حقهن أفضل وأستر.
وأما الصفوف المتقدمة فهي شرها؛ لقربها من الفتنة، أو التعرض لها، هذا إذا صلَّين مع الرجال، أما إذا صلين وحدهن فحكم صفوفهن حكم صفوف الرجال.
قال النووي: لو صلت النساء بجماعة لا يرين الرجال، ولا يراهن الرجال -فإنَّه حينئذ يكون خير صفوف النساء أولها، وشرها آخرها.
5 -
فيه دليل على أنَّ للنساء صفوفًا كصفوف الرجال، وهو المشروع في حقهن؛ سواء صلين وحدهن، أو مع الرجال.
6 -
الأحق بالصف الأول، والقرب من الإمام هم أولو الأحلام والنُّهى؛ لما روى مسلم من حديث عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِيَلِنِي منكم أولو الأحلام والنُّهى".
* فائدة:
جاء في صحيح مسلم (432) من حديث ابن مسعود؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لِيَلِنِي منكم أولو الأحلام والنُّهى".
واختلف السلف في تأخير الصبيان السابقين إلى الصف الأول، والأمكنة الفاضلة: فبعضهم قال: يؤخرون لِيَلُوا ذوي الأحلام؛ فإنَّ الأحاديث دلَّت على تقديم أهل العلم والفضل، فكان عمر إذا رأى غلامًا في الصف أخرجه.
وكره أحمد أن يقوم مع الناس في المسجد خلاف الإمام؛ لِمَا روى أبو داود (677) من حديث أبي موسى: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أقام الصف، فصفَّ الرجال، وصفَّ الغلمان خلفهم، والنساء خلف الغلمان".
وقال بعض الأصحاب: الأفضل تأخير المفضول والصبي، واختاره الشيخ، وقطع به ابن رجب.
وذهب بعضهم إلى: أنَّ من سبق إلى مكان فهو أحق به.
قال في "الفروع": ليس له تأخير الصبيان السابقين، وهو مذهب الشافعية، وصوَّبه في "الإنصاف"، فإنَّ الصبيَّ إذا عقل القُرَبَ، كالبالغ في الجملة، والحديثان:"من سبق إلى مكان، فهو أحق به"[رواه البيهقي (6/ 150)]، "ولا يقيم أحدكم أخاه من مجلسه"[رواه البخاري (5914) ومسلم (2177)]، عامَّان، ولو كان تأخيرهم أمرًا مشهورًا لاستمرَّ العمل عليه، ولنُقل نقلاً لا يحتمل الاختلاف.
وقال الحافظ: إنَّ الصبيان مع الرجال، وإنَّهم يصفون معهم، ولا يتأخرون عنهم.
***
336 -
وَعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: "صلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِي مِنْ وَرَائي، فَجَعَلنِي عَنْ يَمِيْنِهِ". مُتَّفقٌ علَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- يساره: بفتح الياء وكسرها.
قال ابن دريد: زعموا أنَّ الكسر أفصح، واليد اليسار: ضد اليمين.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من شباب الصحابة الحريصين على الخير، وعلى تحصيل العلم، وبلغ به الحرص على أنَّه بات عند خالته ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليطَّلع بنفسه على صفة تهجد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم، قام ابن عباس؛ ليصلي بصلاته، فصفَّ معه عن يساره، فأداره النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه.
وجاء في بعض روايات الصحيحين: "أنَّ أباه العباس أرسله؛ ليرمق صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل".
2 -
فيه دليل على جواز إمامة مصلي الفرض بالمتنفل؛ لأنَّ صلاة الليل بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم واجبة.
3 -
فيه دليل على صحة إمامة البالغ بالصبي، ولو كان وحده.
4 -
فيه صحة مصافة الصبي وحده مع البالغ.
5 -
فيه أنَّ الأفضل للمأموم أن يقف عن يمين الإِمام إذا كان وحده.
(1) البخاري (726)، مسلم (763).
6 -
صحة وقوف المأموم عن يسار الإِمام مع خلو يمينه، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاة ابن عباس، وإنما أداره إلى الموقف الأفضل، وهذا مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة.
وإذا كان هذا الاستدلال ليس قويًّا لعذر ابن عباس بالجهل، والجاهل لا تقوم عليه حجة إلَاّ بعد علمه -فإنَّ الذي يؤيد مذهب الجمهور في صحة المصافة عن اليسار مع خلو اليمين، أنَّ العبادة -ومنها الصلاة- إذا كملت أركانها وشروطها، الأصل فيها الصحة، ولا تبطل إلَاّ بدليل، وإن تُرِك وصفٌ خارج عنها لا يبطلها إلَاّ بنص، ولا نص.
7 -
فيه أنَّ المأموم إذا استدار جاء من خلف الإِمام، كما ورد في بعض ألفاظ البخاري.
8 -
فيه استحباب صلاة الليل وفضلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم داوم عليها، وحثَّ عليها، ورغَّب فيها، وأمر بها، وأقرَّ عليها، فاجتمع فيها السنن الثلاثة.
9 -
فيه أنه لا يشترط لصحة الإمامة أن ينوي قبل الدخول في الصلاة أنَّه إمام.
10 -
حرص ابن عباس واجتهاده في الخير وطلب العلم وتحقيقه، وهو في ذلك الوقت عمره في الحادية عشرة تقريبًا، مما يكون قدوة طيبة، وأسوة حسنة لشباب المسلمين في الاجتهاد، والمثابرة على طلب العلم، والقيام بالأعمال الصالحة.
11 -
أنَّ العمل المشروع لمصلحة الصلاة إذا وقع فيها لا يبطلها.
12 -
قال عطاء: الرجل يصلي مع الرجل يحاذيه حتى يصف معه، فلا يتأخر عنه. وقد روي عن عمر، وابنه، وابن مسعود، كما في "الموطأ"، وهذا هو المذهب، إلَاّ أنَّه قال في "المبدع": ويندب تخلف المأموم عن الإِمام قليلاً، مراعاةً للرتبة، وخوفًا من التقدم.
13 -
فيه جواز صلاة النافلة جماعة، ما لم يتخذ ذلك شعارًا مستمرًّا.
14 -
فيه عدم جواز تقدم المأموم على إمامه؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس من خلفه، وكانت إدارته من بين يديه أيسر، ولكنه أداره من خلفه لئلا يمر أمامه، ولئلا يتقدم عليه، وهو مأموم.
* خلاف العلماء:
المشهور من مذهب الإِمام أحمد: فساد صلاة المأموم، إذا كان واقفًا عن يسار الإِمام مع خلو يمينه.
وذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة- إلى: صحة صلاته، ولو مع خلو يمينه، وهي الرواية الثانية عن الإِمام أحمد، واختارها بعض كبار أصحابه، مستدلين بهذا الحديث؛ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاة ابن عباس، وإنما صرفه للموقف الأفضل.
قال ابن هبيرة: أجمعوا على أنَّ المصلي إذا وقف عن يسار الإِمام، وليس عن يمينه أحد -أنَّ صلاته صحيحة، إلَاّ أحمد فقال: تبطل.
قال في "المغني" و"الشرح الكبير": القياس أنَّه يصح، وكون النبي صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس يدل على الأفضلية، لا على عدم الصحة.
قال الشيخ منصور البهوتي في "شرح المفردات": وما قاله في "المغني" من أنَّه القياس، هو قول أكثر أهل العلم.
***
337 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "صلَّى رَسُولُ الله فَقُمْتُ أَنا وَيَتِيْمٌ خَلْفَهُ، وَأَمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا". مُتَّفقٌ علَيهِ، واللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- اليتيم: هو من مات أبوه، وهو دون بلوغ، يقال: يَتِمَ الصبي بالكسر يتمًا، واليتيم من البهائم: من فقد أمه، والمراد باليتيم هنا: ضميرة بن أبي ضمرة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- فقمتُ أنا ويتيم: اليتيم معطوف على الفاعل، فهو مرفوع، وفي رواية البخاري:"وصففت واليتيم" وفي هذه الرواية دليل للكوفيين على جواز العطف على المرفوع المتصل بدون التأكيد، أما مذهب البصريين فيجب نصب المعطوف على أنَّه مفعول معه.
- أم سليم: هي: الغيمصاء بنت ملحان الأنصارية، والدة أنس بن مالك.
- أم سليم خلفنا: قال البخاري: باب المرأة وحدها تكون صفًّا". واعترض الإسماعيلي؛ بأنَّ الواحد والواحدة لا تسمى صفًّا إذا انفرد -وإن جازت صلاته منفردًا- فأقل الجمع الاثنين، ورُدَّ بقوله تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] فإنَّ الروح وحده صف، والملَائِكَة صف.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أم سليم والدة أنس بن مالك دعت النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته له، فأجاب دعوتها، وجاء إلى بيتها، ولما فرغوا من الطعام، قال صلى الله عليه وسلم: قوموا فلأصلي لكم، فقام أنس ويتيم معهم في البيت، فكانا صفًّا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وصفَّت
(1) البخاري (727)، مسلم (658).
أم سليم خلفهم.
2 -
فيه صحة مصافة الصبي الذي لم يبلغ الحلم. لأن اليتيم لا يكون إلَاّ صبيًّا، ومصافة الصغير هو مذهب الجمهور.
3 -
أنَّ الأفضل في موقف المأمومين أن يكونوا خلف الإِمام، إذا كانوا اثنين فأكثر.
4 -
أنَّ موقف المرأة خلف الرجال، ولو كانت وحدها، فتصح صلاتها خلف الرجال.
قال الشيخ: باتفاق العلماء، إذا لم يكن معها غيرها، وإن وقفت بصف الرجال لم تبطل صلاتها، ولا صلاة من خلفها، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد.
5 -
النساء لا تجب عليهن الجماعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة"[رواه البخاري (644)]، ولأنَّ الشارع لم يأمرهن بذلك، وإنما الجماعة ثبتت قولًا وفعلًا وتقريرًا للرجال
قال في "الإقناع وشرحه": وتستحب الجماعة للنساء، إذا اجتمعن منفردات عن الرجال؛ سواء كان إمامهن منهن أو لا، لفعل عائشة وأم سلمة، ذكره الدارقطني، ولما روى أبو داود (592) وغيره "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذِنَ لأمِّ ورقة أن تتخذ في دارها مؤذنًا، وأمرَهَا أن تؤم أهل دارها".
قال شيخ الإِسلام: ولا نزاع أنَّ للمرأة أن تصلي بالنساء جماعة، ولكن هل يستحب؟ الأشهر أنَّه يستحب؛ لحديث أم ورقة وغيره.
فعمل المدرسات في المدارس من صلاتهن جماعة عمل حسن، يقره الشرع، وفيه فوائد كثيرة.
6 -
جواز صلاة النافلة جماعة، إذا لم يتخذ ذلك شعارًا دائمًا، ونهجًا مستمرًّا.
7 -
جواز الصلاة لأجل تعليم الجاهل، أو لغير ذلك من المقاصد المفيدة.
8 -
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وكرم خلقه، ولطفه مع الكبير والصغير.
9 -
استحباب إجابة الداعي، لاسيَّما إذا كان يحصل بإجابته فائدة، من إزالة ضغينة، أو جبر خاطر، وتطمين قلب، ما لم تكن عُرسًا، فتجب الإجابة.
* خلاف العلماء:
ذهب جمهور العلماء إلى: صحة مصافة الصبي في الصلاة؛ فرضًا أكانت الصلاة أو نفلاً، مستدلين بهذا الحديث.
والمشهور من مذهب الحنابلة: صحة مصافته في النفل؛ عملًا بهذا الحديث دون الفرض، ولا دليل عليه، والصحيح جواز ذلك في الفرض والنفل، وما ثبت دليلاً لصلاة فإنَّه شامل فرضها ونفلها، ومن خصَّ إحداهما دون الأخرى فعليه الدليل، واختار هذا القول ابن عقيل وابن رجب. قال في "الفروع": هذا هو الظاهر.
قال شيخ الإِسلام: وهو قول قوي.
***
338 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه: "أنَّه انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ رَاكعٌ، فَرَكعَ قَبْلَ أنْ يَصِلَ إِلى الصَّفِّ، فذَكرَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: زَادَكَ اللهُ حِرْصًا ولَا تَعْدُ"، روَاهُ البُخَارِيُّ.
وَزَادَ أَبُو دِاودَ فيهِ: "فرَكعَ دُونَ الصَّفِّ، ثمَّ مشَى إلى الصَّفِّ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- حرصًا: بكسر الحاء المهملة وسكون الراء وفتح الصاد المهملة، ومعناه: الرغبة الشديدة في الخير، والمسارعة إليه.
- ولا تعد: الأصح في رواياتها الثلاث: "ولا تَعْدُ" بفتح التاء وسكون العين وضم الدال، آخره واو هي لام الكلمة، حذفت لجزم الفعل المعتل بـ "لا" الناهية، من "العدْو"، وهو الجري الشديد، المخالف للسكينة والوقار، والرواية الأخرى ضبطت:"تَعُدْ" بفتح التاء وضم العين؛ أي: إلى السرعة، لإدارك الركعة، والركوع دون الصف.
* ما يؤخد من الحديث:
1 -
أنَّ من أدرك الإمام راكعاً، فركع دون الصف، ثم دخل فيه، أو وقف معه آخر -فركوعه صحيح، وقد أدرك الركعة.
2 -
أنَّ المشي اليسير في الصلاة لمصلحتها لا يضر الصلاة، ولا يُخِلُّ بها.
3 -
أنَّ الركعة تدرك بإدراك الركوع مع الإِمام؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاز له ركعته، ولو كانت غير جزئة لأمره بالإعادة، كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة، وإنما يعذر المخل في عبادته بما فات وقته من الأعمال التي عملها -جهلًا- على
(1) البخاري (783)، أبو داود (684)،
وجه غير صحيح.
ولِمَا روى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك الركعة، فقد أدرك الصلاة".
قال الشيخ حمد بن عبد العزيز: إذا أدرك المأموم الإِمام راكعًا فدخل معه، فهو مدرك الركعة.
وهذا هو المروي عن السلف، وعليه عامة الأمة من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة وأتباعهم، فلا يعرف عن السلف خلاف ذلك.
وقد حكى الإجماع على ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى.
4 -
نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرة عن العَدْو؛ لأنَّه مناف للسكينة والوقار، ولِما في البخاري (636)، ومسلم (602):"إذا سمعتم الإقامة، فامشوا وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فاقضوا".
قال ابن القيم في "بدائع الفوائد": وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكرة: "لا تَعدُ" نهي عن شدة السعي.
5 -
المستحب لمن أتى إلى الصلاة أن يأتي إليها بسكينة ووقار، فهذا هو أدبها، وَلْيُصَلِّ ما أدركه، وليقض ما فاته منها، وليمتثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ الحكم عام، ولما روى البيهقي في "سننه" (2/ 90) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تأتون الصلاة تسعون".
6 -
هذه المنقبة الكبرى لأبي بكرة رضي الله عنه من رضاء النبي صلى الله عليه وسلم، ودعائه له، وتأييد أنَّ ما فعله هو من دواعي الحرص على العبادة، وطاعة الله.
7 -
اشتراط المصافة في الصلاة؛ فإنَّ من صلَّى خلف الصف بدون عذر، فلا تصح صلاته؛ لحديث:"لا صلاة لمنفرد خلف الصف"[رواه أبو داود (682)] وهذا ما عليه أبو بكرة حينما دخل في الصف، وهو في الركوع، وأقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي بحث هذه المسألة.
8 -
المستحب الدخول في الصلاة مع الإِمام على آية حال وجده عليها.
339 -
وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رضي الله عنه:- "أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَأى رَجُلاً يُصَلِّيِ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوَد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرجه أحمد، وأبو داود، والطحاوي، والبيهقي (3/ 205)، والترمذي وقال: حديث حسن. ورجاله ثقات.
كما حسَّنه كلٌّ من أحمد وإسحاق وأبو حاتم، وقال ابن عبد البر: في إسناده اضطراب، لكن قال ابن سيد الناس: الاضطراب الذي فيه مما لا يضره.
…
(1) أبو داود (682)، أحمد (17541)، الترمذي (230)، ابن حبان (5/ 576).
340 -
وَلَهُ عَنْ طَلْقٍ رضي الله عنه: "لا صَلَاةَ لِلْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ"(1).
وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ في حديث وابِصَة: "أَلَا دَخَلْتَ مَعَهُمْ، أوِ اجْتَررْتَ رَجُلًا؟! "(2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث فيه فقرتان:
إحداهما: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف"، وهذه جملة صحيحة، ورجالها ثقات.
الثانية: "ألا دخلت معهم، أو اجتررت رجلًا؟! "، فهذه لا تصح؛ لضعفها، ولأنَّه قد تفرد بها المسري بن إسماعيل، وهو متروك.
تنبيه: وَهِمَ الحافظ في قوله: "عن طلق"، وإنما هو عن علي بن شيبان، رضي الله عنه.
* مفردات الحديث:
- لا صَلَاة: تقدم كلام ابن دقيق العيد من أنَّ الأولى حمل النفي على الفعل الشرعي؛ فيكون "لا صلاة" نفيًا للصلاة الشرعية.
- اجتررت: من جررت الحبل ونحوه جرًّا: لسحبته فانجر، والمراد: جذب الرجل من الصف بلطف وإقامته معك ليصافك.
- ألا دخلت: بهمزة الاستفهام مع النفي، والوجه الثاني: فتح الهمزة وتشديد
(1) أحمد (15862)، ابن حبان (2202) عن علي بن شيبان رضي الله عنه.
(2)
الطبراني في الكبير (22/ 145).
اللام، على أنَّها للتحضيض.
* ما يؤخذ من الحديثين: (339، 340):
1 -
الحديث رقم: (339) يدل على وجوب الصلاة في الصف، فمن صلَّى منفردًا، لم تصح صلاته، وعليه إعادة الصلاة.
2 -
الحديث قال به الإِمام أحمد، فلم يُجِز صلاة المنفرد خلف الصف، أما الشافعي فيقول: لو ثبت هذا الحديث لقلت به، قال البيهقي: الاختيار أن يتوقى ذلك؛ لثبوت الخبر المذكور، وهذا الحديث لا ينافي حديث أبي بكرة في مذهب الإِمام أحمد، فإنَّه يصحح صلاة من ركع دون الصف، ثم دخل فيه، أو وقف معه آخر قبل سجود الإِمام.
3 -
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: اختار تقي الدين، وابن القيم وغيرهما من المحققين؛ أنَّ من وجد في الصف محلاًّ يقف فيه، فلا يحل له أن يقف وحده خلف الصف، وإن لم يجد محلاً يقف فيه، وَجَبَ عليه أن يصف وحده، ولا يترك الجماعة.
وهذا هو الصواب الموافق لأصول الشريعة، وقواعدها.
4 -
أما الحديث رقم: (340) فيدل أيضًا على عدم صحة صلاة المنفرد خلف الصف، والأفضل حمله على من وجد محلاًّ في الصف، فلم يقف فيه، وإنما وقف وحده منفردًا، أما مع عدم وجود فرجة في الصف، فالأحسن هو القول بصحة صلاته؛ بناءً على قاعدة:"سقوط الواجبات عند عدم القدرة عليها"؛ فهذه هي قاعدة الشرع في كل الواجبات الشرعية.
قال شيخ الإِسلام: ومن الأصول الكلية أنَّ المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب، فلم يوجب الله تعالى ما يعجز عنه العبد، كما أنَّه لم يحرم عليه ما اضطر إليه.
5 -
أما قوله: "أو اجتررت رجلًا": فقال الألباني في "الأحاديث الضعيفة"
(922)
: هو ضعيف جدًّا، لا تقوم به حجة، وإذا لم يثبت الحديث، فلا يصح القول بمشروعية الجذب؛ لأنَّه تشريع بدون نص صحيح، بل الواجب أن ينضم إلى الصف إذا أمكن، وإلَاّ صلَّى وحده، وصلاته صحيحة. اهـ.
قال ابن القيم في "بدائع الفوائد": سمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية ينكر الجذب، ويقول: يصلي خلف الصف فذًّا؛ ولا يجذب غيره، وتصح صلاته في هذه الحالة فذًّا؛ لأنَّ غاية المصافة أن تكون واجبة، فتسقط بالعذر.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: وليس له جذب أحد من الصف؛ لأنَّ الحديث الوارد في ذلك ضعيف.
6 -
قلتُ: والجذب مع ضعف حديثه، فإنه يترتب عليه مفاسد كثيرةٌ، منها:
- تأخير المجذوب عن المكان الفاضل، إلى المكان المفضول.
- فتح فرجة في الصف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"تراصوا، وسدوا الخلل"[رواه البيهقي (3/ 101)].
- حركة كثيرة في الصلاة، لغير مصلحة صلاة المتحرك.
- التشويش على المصلي، وعلى من بجانبيه وإشغال بالهم.
- عمل في العبادة لم يشرع، والشرع مبنيٌّ في عباداته على التوقيف، وما زاد على ما لم يشرعه الله ولا رسوله، فهو داخل في باب البدعة.
***
341 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سمِعْتُمُ الإِقَامةَ، فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِيْنَةُ وَالْوَقَارُ، وَلا تُسْرِعُوا، فمَا أَدْرَكتُمْ فصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فأَتِمُّوا". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- السَّكينة: -بفتح السين وكسر الكاف ثم ياء مثناة تحتية فنون فتاء التأنيث- هي التأنِّي والهدوء في الحركات، والطمأنينة، والاستقرار، و"السكينة" مرفوع على أنَّه مبتدأ، و"عليكم" خبره.
- الوقار: بفتح الواو والقاف ثم ألف وآخره راء، وهو يكون في الهيئة من غض البصر، وخفض الصوت، والرزانة، ومعنى "السكينة والوقار" متقارب، فالثاني منهما مؤكد للأول، فكلتاهما تفيد حسن السمت.
- وما فاتكم فأتموا: هكذا في رواية البخاري، وقال العيني: وكذا هو في أكثر روايات مسلم.
- ولا تسرعوا: فيه زيادة، وتأكيد، لقوله:"فامشوا"، ولا منافاة بين هذا وبين قوله تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وإن كان معناه يشعر بالإسراع، إلَاّ أنَّ المراد بالسعي: مطلق المشي والذهاب، يقال: سعيت إلى كذا؛ أي: ذهبت إليه، ويؤيد هذا المعنى: قراءة عبد الله بن عمر: {فامضوا إلى ذكر الله} .
- أدركتم: أدركت الشيء: إذا طلبته فلحقته، والمراد: ما لحقتموه، وأدركتموه
(1) البخاري (636)، مسلم (602).
مع الإِمام.
- فاتكم: الفوات: مصدر فات يفوت فواتًا وفوتًا، وهو سبق لا يدرك.
- فأتموا: أكملوا ما فاتكم من الصلاة على ما أدركتم منها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
وجوب الصلاة مع الجماعة، والأحاديث المقتضية للوجوب كثيرة.
2 -
استحباب الإتيان إلى الصلاة بحالة سكينة ووقار؛ لأنَّ هذه الحال هي المناسبة للإتيان إلى هذه العبادة الجليلة، وهي الحال اللائقة بالإقبال لمناجاة الله تعالى، وهي المقتضية للدخول في بيت من بيوت الله تعالى، كرَّمه الله ورفعه وطهَّره، وجعله مثابة لصالحي عباده، ولأنَّ المُقبل إلى الصلاة هو في صلاة، فلتكن حاله قبل الدخول كحاله وهو داخل فيها، من الخشوع والخضوع والسكينة.
3 -
المشهور من مذهب الإِمام أحمد: أنَّ الجماعة تُدرَك بتكبيرة الإحرام قبل سلام الإِمام التسليمة الأولى، وحكى المجد إجماع أهل العلم.
4 -
إن لحق المسبوقُ الإمامَ في الركوع أدرك الركعة، ولا يضره سبقه بالقراءة؛ لما جاء في أبي داود؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك الركوع، فقد أدرك الركعة"، حكاه الشيخ وغيره إجماعًا، وعليه عمل الأمة من الصحابة والتابعين، ولا يُعرفُ عن السلف خلاف ذلك، ولما في الصحيح من حديث أبي بكرة، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة.
5 -
قوله: "إذا سمعتم الإقامة" يدل على أنَّ الإقامة مشروعة، وهي فرض كفاية كالأذان، وهي حق لمن أذَّن؛ لما روى الترمذي (199)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ومن أذن فهو يقيم".
6 -
"إذا سمعتم" يفهم منه مشروعية إسماعها الحاضرين في المسجد؛ ليقوموا إلى الصلاة، لاسيما مع سعة المسجد، وإسماعها من في خارجه ليمشوا
إلى الصلاة؛ لقوله: "فامشوا إلى الصلاة".
7 -
قوله: "إذا سمعتم الإقامة، فامشوا" يدل على أنه إذا شرع المقيم بالإقامة، فلا يشتغل مريد الصلاة بغير الصلاة المكتوبة، التي أقيمت لها الصلاة، وأصرح منه ما في صحيح مسلم (710) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلَاّ المكتوبة"، وكان عمر يضرب الناس بعد الإقامة.
قال النووي: والحكمة أن يتفرغ للفريضة من أولها، فيشرع فيها عقب شروع الإِمام، والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بما دونها.
قال في "الروض المربع": ولا تنعقد نافلة بعد إقامة الفريضة، التي يريد أن يفعلها مع ذلك الإِمام، الذي أقيمت له.
8 -
دلَّ الحديث على أنَّ ما أدركه المسبوق هو أول صلاته، وما فاته هو آخرها، فيتمه بعد انقضاء الصلاة.
وأما قوله في الرواية الأخرى: "وما فاتكم فاقضوا" فلا ينافي "فأتموا"؛ فالقضاء يراد به: الفعل، لا القضاء المعروف في الاصطلاح؛ لأنَّه اصطلاح متأخري الفقهاء، وإلَاّ فالعرب تطلق القضاء على الفعل، قال تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 103]، أي: أديتموها وفرغتم منها.
قال الحافظ وغيره: إذا كان مخرج الحديث واحدًا، واخْتُلف في لفظة منه، وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد، كان أولى، ويحمل:"فاقضوا" على معنى: الأداء والفراغ، فلا حجة لمن تمسك بلفظة:"فاقضوا".
وللبيهقي (2/ 298) عن علي: "ما أدركت مع الإِمام هو أول صلاتك"، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، وروي ذلك عن مالك.
قال الشافعي: وهو أولها حكمًا ومشاهدةً.
وقال الموفق والمجد وشيخ الإِسلام وابن القيم: إنَّ ما يدركه مع الإِمام أولها، وما يقضيه آخرها، وهو مقتضى الأمر بالإتمام، ومقتضا الشرع والقياس، وهو قول طوائف من الصحابة.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: الصحيح من قول العلماء أنَّ ما أدركه المسبوق من الصلاة يعتبر أول صلاته، وما يقضيه هو آخرها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا أتيتم الصلاة، فامشوا وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فاتموا"[رواه البخاري (609) ومسلم (603)].
أما المشهور من مذاهب الأئمة الثلانة: أبي حنيفة ومالك وأحمد-: أن ما أدركه المسبوق مع الإِمام هو آخر صلاته، وما يقضيه أولها، والقول الأول هو الراجح، والله أعلم.
***
342 -
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاهُّ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أزْكى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أزكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَع الرَّجُلِ، وَمَا كانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ عز وجل". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال في "التلخيص": رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث أُبي بن كعب، وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم.
قال النووي: أشار ابن المديني إلى صحته.
وفي إسناده: عبد الله بن أبي بصير، قيل: لا يُعرف، لكن أخرجه الحاكم من رواية العيزار عنه، فارتفعت جهالة عينه، كما وثَّقه ابنُ حِبَّان.
* مفردات الحديث:
- أَزْكَى: بفتح الهمزة فسكون الزاي المعجمة فألَّف مقصورة، والزكاء له معانٍ منها: النمو والزيادة، وهو المراد هنا، فالمعنى: أنَّ صلاة الرجل مع الجماعة أكثر أجرًا من صلاته وحده.
ويحتمل أنَّ المعنى -هنا- هو: الطهارة، فيكون المعنى: أنَّ المصلي سلِمَ من رجس الشيطان ووساوسه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّ الجماعة تنعقد باثنين: إمام ومأموم، وأنه يصدق
(1) أبو داود (554)، النسائي (843)، ابن حبان (5/ 405).
عليهما اسم جماعة، وقد روى ابن ماجه (972) من حديث أبي موسى؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"اثنان فما فوق جماعة"، واستدل بحديث مالك بن الحُويرث:"إذا حضرت الصلاة فأذِّنا، ثم ليؤمكما أكبركما"[رواه البخاري (658) ومسلم (674)].
2 -
يدل الحديث على فضل كثرة الجماعة، فإنه كما أكثر الجمع، كان الأجر أكثرة لما يحصل في ذلك من تكثير سواد المسلمين، في بيوت الله ومواطن العبادة، ولِمَا يحصل من دعاء بعضهم لبعض، ولِما يحصل في كثرة الجمع من تحقيق مقاصد الاجتماع للصلاة في المساجد، من تعلم الجاهل من العالم، وعطف الغني على الفقير، والتآلف والتعارف بين أفراد المسلمين، لاسيَّما أهل الحي الواحد، والجيران.
3 -
فيه أنَّ كثرة الجماعة محبوبة لله تعالى؛ لما يحصل منها من المباهاة، ولما يحصل في ذلك من إرغام الشيطان، ودحره في اجتماع المسلمين على طاعة الله تعالى، ومن أجل هذه الفوائد العظيمة في الجماعة، حَرُم أن يُبنى مسجد بجانب مسجد إلَاّ لحاجة.
قال في "كشاف القناع": ويحرم أن يبنى مسجد بجانب مسجد إلَاّ لحاجة؛ كضيق الأول، وخوف فتنة باجتماعهم في مسجد واحد.
4 -
إثبات صفة المحبة لله تعالى إثباتًا حقيقيًا يليق بجلاله وعظمته، فنثبت حقيقتها، ولا نكيفها ولا نمثلها، ولا نشبهه تعالى بأحد من خلقه، ولا نعطله من صفاته الثابتة.
وهذا هو مذهب أهل السنة في صفات الله تعالى، لا يعطلون الله من صفاته، ولا يشبهونه تعالى بأحد من خلقه، وهو المذهب الحكيم، نسأل الله تعالى الفقه فيه، والثبات عليه.
5 -
أن الأعمال الصالحة بعضها أزكى من بعض وأفضل، وهذا راجع إلى ما
تتصف به العبادة من اتباعٍ للسنةِ، وتحقيقٍ لها، ولِما تحققه العبادة نفسها من المقاصد والأسرار والحِكم، التي شرعها الله تعالى من أجلها.
6 -
أنَّ مشروعية الجماعة خاصة بالرجال، فهم أهل الاجتماع للصلاة، وهم الذين عليهم أداؤها في المساجد:{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ} [النور: 36، 37].
***
343 -
وَعَنْ أُمِّ وَرَقَةَ رضي الله عنها: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسنٌ؛ رواه أحمد (26739)، وأبو داود، وابن الجارود، (2/ 91)، والدراقطني (1/ 403)، والحاكم (1/ 320)، والبيهقي (3/ 130) وإسناده حسن، وقد أعلَّه المنذري بالوليد بن عبد الله، ولكن مسلمًا احتجَّ به، ووثقه جماعة كابن معين.
وقال العيني: حديث صحيح.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أم ورقة بنت نوفل الأنصارية من فُضْلَيَاتِ نساء الصحابة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، وقد جمعت القرآن، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤم أهل دارها، فكانت تؤمهم في الصلاة في بيتها.
2 -
الحديث دليل على صحة صلاة النساء جماعةً في البيت.
3 -
إذا أمَّت المرأة النساء، فصلاتهن جماعة لها من الأحكام ما لصلاة الرجال جماعة، إلَاّ ما خصه الدليل؛ كاستحباب وقوف الإمامة بينهنَّ في صفهن.
4 -
يدل الحديث على صحة إمامة المرأة بالنساء، اللاتي ليس معهن الرجال.
5 -
صلاة الجماعة -وجوبًا- منوطة بالرجال بالمساجد؛ ذلك أنَّ الأهداف الكريمة، والمقاصد النبيلة الحسنة، المترتبة على إقامة الجماعة -هي أعمال مطلوبة من الرجال، وليست مطلوبة من النساء، فالمشاورة، وتبادل
(1) أبو داود (592)، ابن خزيمة (3/ 89).
الآراء، والتناصر، والتعاون ضد أعداء الإِسلام، وإبرام الأمور وحلها، كلها أشياءٌ تتعلق بالرجال، لِبُعْدِ نظرهم، وسداد رأيهم، وجَلَدِهم، وتحملهم صعاب الأمور، فكانت الاجتماعات للعبادة في المساجد مفروضة عليهم للعبادة، وتحقيقًا لهذه المقاصد الطيبة.
أما جانب العبادة المحض، فالبيوت أقرب إلى الإخلاص، وسرية العمل، والبُعد عن الرياء، ففضل في حق النساء الحصول على هذه الفضيلة في البيوت؛ كما جاء في حديث أم ورقة هذا، مع ما يَنْكَفُّ من المفاسد عند عدم حضور المرأة إلى المسجد، وما يُخشى من فتنة الرجال بهنَّ، وفتنتهن بهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"وبيوتهنَّ خير لهن"[رواه أبو داود (567)].
6 -
إذا طلبت المرأة من زوجها، أو من محرمها حضور المساجد، فلا ينبغي منعها، ولكن بشرطه.
قال في "الروض المربع وحاشيته": وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد، كره منعها؛ لأنَّ الصلاة المكتوبة في جماعة فيها فضل كبير، وكذلك المشي إلى المساجد، ولما روى أحمد (9362)، وأبو داود (565) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرُجْنَ تَفِلات".
ولما في البخاري (5238)، ومسلم (442) من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المساجد، فأذنوا لهن".
وكل صلاة وجب حضورها للرجال، استُحب للنساء حضورها.
7 -
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وليخرجن تفِلات" أي غير متطيبات، ويلحق بالطيب ما هو في معناه، من المحرِّكات لداعي الشهوة؛ كحُسْنِ الملبس، والتحلي، والتجمل؛ فإنَّ رائحتها، وزينتها، وصورتها، وإبداء محاسنها -فتنة لها، وفتنة للرجل فيها، فإن فعلت ذلك، أو شيئًا منه، حرُم عليها الخروج؛ لما روى مسلم (444) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما
امرأة أصابت بخورًا، فلا تشهدنَّ معنا العشاء الآخرة".
ولِمَا في البخاري (869)، ومسلم (445)، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"لو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى من النساء ما رأينا، لمَنعَهُنَّ مِنَ المسَاجِدِ".
قال القاضي عياض: شرط العلماء في خروج النساء أن يكون بليلٍ، غير متزينات، ولا متطيبات، ولا مزاحمات للرجال، وفي معنى الطيب إظهار الزينة، وجنس الحلي، فإن كان شيء من ذلك، وَجَبَ منعهن خوف الفتنة.
وقال ابن القيم: يجب على ولي الأمر أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق، والمتنزهات، ومجامع الرجال، وهو مسؤول عن ذلك.
***
344 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَخلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَؤُمُّ النَّاسَ، وَهُوَ أَعْمَى". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ (1).
وَنَحْوُهُ لابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ؛ أخرجه أبو داود وأخرجه البيهقي (3/ 88) بإسناد حسن، رجاله كلهم ثقات، كما صححه ابن حبان، وحسَّنه ابن الملقن والصنعاني.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
صحة إمامة الأعمى حتى بالمبصرين، ويقدم عليهم ما دام أنَّه أعلم الحاضرين بالقرآن والسنة، وأفضلهم بالتقى والصلاح.
2 -
أنَّ ما يُخشَى من عدم توقيه النجاسات أمور مشكوك فيها، وهي في هذه الحال معفو عنها، فتكون مغمورة بجانب كفاءته، وصلاحيته لهذا العمل.
3 -
قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم للإمامة؛ لسابقته في الإِسلام، فهو من المهاجرين الأولين، وهو من القراء والعلماء، فاستحق الإمامة بهذه الفضائل.
4 -
أنَّ القوَّة على العمل، والأمانة عليه تكون بحسب العمل الذي يقام به، فإنَّ عاهة ابن أم مكتوم لا تُنقصُ من قوَّتهِ فِيه، وأَمَانَتِهِ عَلَيْهٍ شَيئًا.
5 -
الظاهر أنَّ ولاية النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم، ولاية عامة في الصلاة وغيرها،
(1) أحمد (12588)، أبو داود (595).
(2)
ابن حبان (5/ 507).
فله أن يفتي، وله أن يقضي بين الناس، ويدير أحوال المقيمين، في المدينة؛ وبهذا تصح ولاية الأعمى على القضاء والفُتْيَا وغير ذلك.
6 -
أنَّ المقامات الدينية، والقيادات الإِسلامية لا تُنال إلَاّ بهذه المؤهلات، من العلم النافع، والاستقامة، والتقوى.
7 -
هذه الميزة العظيمة، والثقة الكبيرة من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي الجليل، تعتبر من مناقبه الكبار، فهي ثقة مؤيدة بالعصمة النبوية، فهي كالشهادة النبوية على صلاحه، والله أعلم.
***
345 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا عَلَى منْ قَالَ: لَا إِلهَ إلَاّ اللهُ، وَصَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ: لَا إِلهَ إلَاّ الله". رَوَاهُ الدَّارقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعيفٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
قال في "التلخيص": له طرق:
1 -
رواه البيهقي من طريق عثمان بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عمر، وعثمان كذبه يحيى بن معين.
2 -
ورواه من طريق نافع عن ابن عمر، وفيه خالد بن إسماعيل متروك.
3 -
ورواه من طريق أبي الوليد المخزومي، وتابعه أبو البختري، وهو كذاب.
4 -
ورواه من طريق مجاهد عن ابن عمر، وفيه محمَّد بن الفضل، وهو متروك.
5 -
ورواه من طريق عثمان بن عبد الله عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وعثمان رماه ابن عدي بالوضع.
وقال البيهقي (4/ 19): أحاديثها كلها ضعيفة، غاية الضعف. قال أبو حاتم: هذا حديث منكر. وقال ابن الملقن: هذا الحديث من جميع طرقه لا يثبت.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على صحة إمامة من قال: "لا إله إلَاّ الله"؛ فإنَّ هذه الكلمة دليل إسلامه.
2 -
كما يدل على وجوب الصلاة على جنازة من مات، وهو يقول: "لا إله إلَاّ
(1) الدارقطني (2/ 56).
الله"؛ لأنَّها تدل على أنَّه مات مسلمًا.
3 -
استثنى بعض العلماء -ومنهم الحنابلة- الصلاة على الغالِّ، وعلى قاتل نفسه؛ فإنَّه يستحب للإمام الأعظم، أو نائبه ألا يصلي عليهما؛ تنكيلاً وتنفيرًا من حالهما، ليرتدع غيرُهما.
4 -
يدل الحديث على صحة إمامة الفاسق؛ لأنَّ كلمة الإخلاص تدل على إسلامه، ولا تدل على عدالته، ولو كانت العدالة شرطًا للزم البحث عنها، والتحقيق في وجودها.
5 -
قال شيخ الإِسلام: اتَّفق الأئمة على كراهة الصلاة خلف الفاسق.
وقال الماوردي: يحرم على الإِمام تنصيب الفاسق إمامًا في الصلوات؛ لأنَّه مأمور بمراعاة المصالح.
6 -
يدل الحديث على أن الإنسان يجوز أن يصلي خلف من لا يعلم حاله، من فسقٍ أو عدالةٍ، فلا يشترط العلم بحاله.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء: هل تصح الصلاة خلف الفاسق، أو لا؟
فذهب مالك وأحمد في المشهور من الروايتين عنه إلى: أنَّها لا تصح.
وذهب أبو حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد إلى: صحتها.
واختار هذا القول شيخ الإِسلام وابن القيم، والشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ عبد العزيز بن باز وغيرهم من محققي العلماء؛ فقد صلَّى ابن عمر خلف الحجَّاج، وهو يسفك الدماء، والمختار بن أبي عُبيد، وكان يتهم بالسحر والشعوذة.
والأصل أنَّ من صحَّت صلاته لنفسه، صحَّت إمامته، وصلاة الفاسق لنفسه صحيحة بلا نزاع.
قال الشيخ: ليس من شرط الائتمام أن يعلمَ المأموم اعتقادَ إمامه.
346 -
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ وَالإِمَامُ عَلَى حَالٍ، فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنعُ الإِمَامُ". رَوَاهُ التِّرْمذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف، ولكنه تقوى بشاهد، قال في "التلخيص": رواه الترمذي من حديث علي ومعاذ، وفيه ضعف وانقطاع، وقال: لا نعلم أحدًا أسنده إلَاّ من هذا الوجه.
قال الشوكاني في "النيل": والحديث وإن كان فيه ضعف، لكن يشهد له ما عند أحمد (2618) وأبي داود (507) من حديث ابن أبي ليلى عن معاذ، وابن أبي ليلى وإن لم يسمع من معاذ، فقد رواه أبو داود من وجه آخر عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحابنا؛ أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكر الحديث.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على استحباب الدخول مع الإِمام في صلاته في الحال التي يجده اللاحق عليها مطلقًا؛ سواء كانت قيامًا، أو ركوعًا، أو سجودًا، أو غيرها.
2 -
فإن أدركه قائمًا أو راكعًا، اعتدَّ بتلك الركعة، وإن كان قعودًا أو سجودًا، لم يعتد به.
والدليل على الحالة الأولى: ما رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا: "من
(1) الترمذي (591).
أدرك الركعة، فقد أدرك الصلاة"، وما أخرجه ابن خزيمة (3/ 45) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك ركعة من الصلاة، قبل أن يقيم الإِمام صُلبَه -فقد أدركها".
والدليل على الحالة الثانية: ما رواه ابن خزيمة (3/ 57) مرفوعًا: "إذا جئتَ ونحن سجود، فلا تعتدها شيئًا".
3 -
الداخل مع الإِمام في حال القعود والسجود، وإن لم يدرك الركعة -فقد أدرك فضيلة هذا العمل، الذي يعتبر عبادة في نفسه، وأدرك متابعة الإِمام، وأدرك فضيلة المبادرة من حين دخول المسجد.
4 -
ذكر العلماء أحكامًا للداخل مع الإِمام على آية حال وجد فيها، وهي: إن كان في حال السجود أو القعود، فإنه يكتفي بتكبيرة الإحرام، وينحط معه بلا تكبير، ولا يسن له استفتاح، بل يبادر إلى اللحاق بالإمام على الحال التي هو عليها.
وإن أدركه قائمًا، عمل ما يستحب للداخل في الصلاة من الاستفتاح والتعوذ والقراءة، وإن كان راكعًا، أتى بتكبيرة الإحرام، وتكفي عن تكبيرة الركوع، وإن أتى بالثانية مع التحريمة كان أفضل.
***