الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صلاة الجمعة
مقدِّمة
الجمعة فيها لغتان: التحريك مع الضم، اسم فاعل فهي سبب لاجتماع الناس، والثانية ساكنة الميم فهي اسم مفعول، فهي محل لاجتماع الناس.
والأصل في مشروعيتها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} [الجمعة: 9]، والأدلة من السنة في مشروعيتها كثيرةٌ، قولاً وفعلاً.
قال العراقي: مذاهب الأئمة متفقة على أنَّها فرض عين، بل صلاة الجمعة من أوكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، وصلاة الجمعة أفضل من صلاة الظهر بلا نزاع.
وهي صلاة مستقلة، ليست بدلاً من الظهر، وإنما الظهر بدل عنها إذا فاتت، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وقد خصَّ الله به المسلمين، وأضل عنه من قبلهم من الأمم كرماً منه، وفضلاً على هذه الأمة؛ فقد جاء أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة"[رواه مسلم].
قال العراقي: اتَّفق الأئمة على أنَّ الجمعة أكبر فروض الإسلام، وهي أعظم مجامع المسلمين، سوى مجمع عرفة.
ولهذا اليوم خصائص من العبادات:
أعظمها هذه الصلاة التي هي آكد الفروض، واستحباب قراءة سورة السجدة، وسورة الإنسان في صلاة فجرها، وقراءة سورة الكهف في يومها،
وكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والاغتسال، والتطيب، ولبس أحسن الثياب، والذهاب إليها مبكراً، والاشتغال بالذكر والدعاء، إلى حضور الخطيب.
وفيها ساعة إجابة الدعاء، التي اختلف العلماء في وقتها، وأرجح الأقوال أنَّها من جلوس الخطيب على المنبر إلى فراغ الصلاة، أو بعد العصر.
وقد أفرد لها الإمام ابن القيم فصلاً مطولاً في "زاد المعاد" وصنَّف فيها كثير من أهل العلم مصنفاتٍ مستقلةً.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الشارع من حكمته، ومحاسن شرعه، أنه شرَعَ للمسلمين الاجتماعات لأنواع العبادات من الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، ومصلى العيد، ومشهد الحج في البقاع المقدسة، ففي هذه الاجتماعات مِن الحِكم والأسرار ما يفوت الحصر، فمنها:
1 -
إظهار دين الله تعالى، وإعلاء كلمته.
2 -
إظهار شعائر الإسلام، وبيان جمالها.
3 -
إظهار محاسن الإسلام، وجمال تشريعاته.
4 -
تعارف المسلمين، وتآلفهم.
5 -
التعرف على بلدانهم، وأحوالهم، وآمالهم، وآلامهم.
6 -
التشاور وتبادل الآراء النافعة.
7 -
التعاون على الحق، والتآزر على الدين.
8 -
اجتماع كلمة المسلمين ووحدة صفهم، وتوحيد هدفهم نحو الخير.
وغير ذلك مما أشارت إليه الآية الكريمة: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]، فاجتماع المسلمين في عباداتهم خير وبركة وإصلاح وفلاح، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
أسال الله تعالى أن يوحد كلمة المسلمين، وأن يجمع قلوبهم على الحق، وأن يعزهم بدينه، فهو القادر على ذلك، وهو نعم المولى ونعم النصير.
361 -
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرهِ: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهُمُ الجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهُم، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلِيْنَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- مِنْبَره: بكسر الميم وسكون النون وفتح الباء ثم راء وهاء، وكان منبره صلى الله عليه وسلم من أعواد الطرفاء؛ وهي نوع من الإثل ينبت في السباخ.
- لينتهين أقوام: "اللام" للابتداء، وتصلح أن تكون موطئة للقسم، والفعل مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، ومحله الرفع؛ لتجرده من الناصب والجازم.
- ودْعِهِم: بفتح الواو وسكون الدال المهملة، فكسر العين المهملة، من ودع الشيء إذا تركه.
ولفظ الحديث يدل على أن ودع لها مصدر، خلاف ما قرره أكثر النحاة، من أنَّه ليس لها مصدر، ولا ماضٍ.
- الجمعات: جمع جمعة، وهو جمع مؤنث سالم، والجمعات بتثليث الميم، والضم أفصح.
قال العيني: التاء ليست للتأنيث، وإنما هي للمبالغة.
- ليختمن الله على قلوبهم: الختم هو الطبع حتى تصير مغلقة، لا يصل إليها الخير والهدى، وذلك: بأن يمنعهم الله لطفه وفضله، وهذا أكبر الخذلان.
(1) مسلم (865).
- من الغافلين: الغافل: هو الذاهل عما يفيده وينفعه، فهو معدود من جملة الغافلين، المشهود عليهم بالغفلة والشقاء.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النهي الشديد عن ترك صلاة الجمعة، والوعيد الأكيد لمن تركها، بأنَّ الله يطبع على قلبه عقوبة الغفلة، ونقمة نسيانه نفسه، فيصبح من الغافلين عمَّا ينفعه في سعادته، حتى تنزل به مصيبة الموت، فيخسر الحياة الأبدية السعيدة، وذلك هو الخسران المبين.
2 -
أمرَ الله تعالى كل رجل مؤمن مكلف بإتيان الجمعة إذا أُذِّن لها؛ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] والمراد بالسعي؛ الاهتمام بها، وسرعة التهيؤ بإعداد البدن، وجاءت أحاديث صحيحة صريحة؛ في أنَّها حقٌّ واجبٌ على كل مكلف، وبأن غسلها واجبٌ على كل محتلم، وبإحراق منزل المتخلف عنها، كل هذه لا تدع مجالاً للشك في أنَّ صلاة الجمعة واجبة على الأعيان، وليست فرض كفاية.
3 -
قال القاضي عياض: أحد الأمرين كائن لا محالة، إما الانتهاء عن ترك الجمعات، وإما ختم الله على قلوب المتخلفين.
والختم على القلب: هو ما يمنعهم من لطفه وفضله، أو خلق الكفر والنفاق في صدورهم، حتى يصبحوا من جملة الغافلين، المختوم عليهم بالغفلة والشقاء.
4 -
قال في "شرح الإقناع": ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام، أو قبل فراغها -لم يصح ظهره؛ لأنَّه صلى ما لم يخاطب به، وترك ما خوطب به؛ فلم تصح.
5 -
فيه دليل على أنَّ المعاصي بفعل المحرمات، أو ترك الواجبات -تسبب
ارتكاب غيرها عقوبة من الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ولأنَّ المذنب مرة أخرى لمَّا جَسُرَ على الذنب في المرة الأولى، درب عليه في الثانية، فصار عادة له.
6 -
فيه دليل على أنَّ أعظم العقوبات هو إصابة الإنسان بالخذلان، والغفلة عن آخرته، حتى يموت فينتبه، ويقول:{رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} فلا رجعة، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} [المؤمنون].
7 -
في الحديث دليل على أنَّ صلاة الجمعة أهم الفروض، حيث لم يشدد في ترك شيء من الواجبات بمثل ما شدد فيها، فالجمعة أفضل من الظهر، بلا نزاع.
8 -
الجمعة واجبة بإجماع المسلمين، وواجبة على الأعيان عند الجمهور، قال العراقي: مذاهب الأئمة متفقة على أنَّها فرض عين، لكن هناك شروط يشترطها أهل كل مذهب.
9 -
قوله: "أو ليختمن الله على قلوبهم" فيه إثبات أفعال الله الاختيارية، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، فإنَّهم ينسبون لله تعالى أفعاله الاختيارية، المتعلقة بمشيئته وإرادته.
أما المعطلة: فيؤلونها بحجة أنَّ الفعل الحادث لا يقوم إلَاّ بحادث، والله سبحانه وتعالى ليس بحادث، وإنما هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو قول مردود بالنقل الصحيح، والعقل السليم.
فأما النقل: فالنصوص كثيرة جدّاً؛ مثل قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج]، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الأنبياء]، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)} [الأنبياء]، ومن حيث العقل: فإنَّ الذي يفعل أفضل وأكمل من الذي لا يفعل، والله تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى.
وأما من حيث المتعلق: فإنَّ صفات الله قديمة النوع، متجددة الآحاد.
362 -
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوعِ رضي الله عنه قَالَ: "كُنَّا نُصَلِّي معَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الجُمُعَةَ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ، وَلَيْسَ لِلْحِيْطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظلُّ بِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: "كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَهُ، إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الفَيْءَ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الحيطان: جمع "حائط"، قال في "المصباح" -بتصرف-: الحائط: الجدار، والجمع جدر؛ مثل: كتاب وكُتُب، وسكون الدال في الجَدْر لغة، وجمعه: جدران.
- نُجمِّع: -بضم النون وفتح الجيم وتشديد الميم ثم عين مهملة-: نصلي الجمعة.
- نتتبع: من التتبع؛ أي: نطلب.
- فيء: بفتح الفاء آخره همزة-: هو الظل بعد الزوال، فيكون أخص من الظل.
…
(1) البخاري (4168)، مسلم (860).
363 -
وَعَنْ سَهْلٍ بنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: "مَا كُنَّا نَقِيلُ، وَلَا نَتَغَدَّى إِلَاّ بَعْدَ الجُمُعَةِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: "فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- نقيل: من القيلولة أو القائلة، و"قال" من باب ضرب، وهي استراحة نصف النهار، قال تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} [الفرقان].
قال ابن جزيء: هو مفعل من: النوم في القائلة، وإن كانت الجنة لا نوم فيها، ولكن جاء على ما تتعارفه العرب من الاستراحة وقت القائلة.
- نتغدَّى: بالغين المعجمة والدال المهملة من "الغداء"، وهو الطعام الذي يؤكل أول النهار أو وسطه.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الحديث رقم (362) صريح في أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه صلاة الجمعة تارةً إذا زالت الشمس، وتارةً ينصرفون من الخطبتين والصلاة، وما لها من السنن، وليس للحيطان ظل يُسْتَظَلُّ بها.
وهذا التقسيم من الراوي لوقت صلاة الجمعة، يدل على أنَّهم تارةً يصلونها قبل الزوال، وتارةً يصلونها بعده.
2 -
أما الحديث رقم (363): فصريح في أنَّهم ما كانوا يقيلون، ويتغدون إلَاّ بعد صلاة الجمعة، مما يدل على أنَّهم يصلونها قبل الزوال؛ لأنَّ القيلولة
(1) البخاري (939)، مسلم (859).
والراحة لا تكون إلا بعد الظهر.
قال ابن قتيبة: لا يسمى غداءً، ولا قائلةً إلَاّ بعد الزوال، فكانوا يبدؤون بصلاة الجمعة قبل القيلولة.
* خلاف العلماء:
اتَّفق العلماء على أنَّ آخر وقت صلاة الجمعة يخرج بانتهاء وقت صلاة الظهر؛ وذلك بدخول وقت صلاة العصر.
واختلفوا في أول وقتها: فذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّ وقتها يبتدىء بزوال الشمس كالظهر، واستدلوا على ذلك: بما رواه البخاري (904) عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس".
وذهب الإمام أحمد في المشهور من مذهبه إلى: أنَّ دخول وقتها يبتدىء بدخول وقت صلاة العيد، واستدل على ذلك: بما رواه مسلم (858) عن جابر: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا، فنريحها حين تزول الشمس".
وللجمهور تأويلات بعيدة متعسفة على هذا الحديث وأمثاله.
وحديث أنس في البخاري لا ينافي حديث جابر في مسلم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم تارةً يصليها قبل الزوال، وتارةً بعده.
والأفضل أن تكون الصلاة بعد الزوال، لأنَّه الغالب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنَّه الوقت المجمع عليه بين المسلمين، والاجتماع وعدم التفرق أولى وأحسن، والله الموفق.
***
364 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِماً، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّام، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إلَاّ اثْنَا عَشْرَ رَجُلاً". رَوَاهُ مُسلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- عِيْر: بِكسر العين المهملة ثم ياء تحتية مثناة ساكنة فراء، قال في "النهاية": هي الإبَل بأحمالها، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها.
- فَانْفَتَلَ الناس: بالنون الساكنة وفتح الفاء فمثناة فوقية، أي: انصرف الناس عن سماع الخطبة، وخرجوا من المسجد إلى لقاء العير.
- إلَاّ اثنا عشر رجلاً: الكلام تام منفي، فيجوز في المستثنى منه الرفع عل البدلية من فاعل "يبقى"، ويجوز نصبه على الاستثناء.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
وجوب خطبتي الجمعة؛ لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قال أكثر المفسرين: إنَّها الخطبة، وحكى النووي الإجماع على وجوبها.
2 -
استحباب كون الخطيب حال الخطبة قائماً، قال تعالى:{وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] واستفاض ذلك من غير وجهٍ، وحكى ابن عبد البر: إجماع علماء المسلمين على أنَّ الخطبة لا تكون إلَاّ قائماً ممن أطاقه، ولا يجب ذلك؛ لأنَّه ليس من شروطها.
3 -
انصراف الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، واكتفاؤه منهم باثني عشر رجلاً، دليل على صحة الجمعة بمثل هذا العدد.
(1) مسلم (863).
4 -
كان هذا في أول الإسلام قبل أن تثبت حرمة الشعائر في قلوبهم، وكان بالناس حاجةٌ ماسةٌ إلى الطعام، ومع هذا فإنَّ الله تعالى عاب فعلهم، فقال:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] الآية.
5 -
هذا الحديث من أدلة الإمام مالك في أنَّ العدد المعتبر لصحة صلاة الجمعة هو اثنا عشر رجلاً، ولكن الاستدلال غير وجيه.
وسيأتي ذكر الخلاف في الحديث رقم (380) إن شاء الله.
***
365 -
وَعَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا، فَلْيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وابْنُ مَاجَهُ وَالدَّارقُطْنِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ، لَكن قَوَّى أبو حاتمٍ إِرْسَالَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرجه البيهقي بسند صحيح على شرط الشيخين، ورواه النسائي، وابن ماجه، والدارقطني واللفظ له، ولكن قوى أبو حاتم إرساله.
وقد أخرج الحديث من ثلاثة عشر طريقاً عن أبي هريرة، ومن ثلاثة طرق عن ابن عمر، وفي جميعها مقال.
قال الألباني: وجملة القول: أنَّ الحديث بذكر "الجمعة" صحيح من حديث ابن عمر مرفوعاً، وموقوفاً.
* مفردات الحديث:
- فليضف: أضاف الشيء إلى الشيء إضافة: ضمَّه إليه؛ أي: فليضف إلى الركعة التي أدرك مع الإمام ركعةً أخري؛ لتتم صلاته، و"اللام" لام الأمر.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أن من أدرك ركعةً من صلاة الجمعة مع الإمام، فليضف إليها ركعة أخرى، وقد تمت صلاة جمعته.
2 -
مفهوم الحديث أنَّه إن لم يدرك مع الإمام ركعة من الجمعة، وذلك بأن رفع
(1) النسائي (757)، ابن ماجه (1123)، الدارقطني (2/ 12).
الإمام من الركعة الثانية، قبل أن يركع معه فإنه قد فاتته الجمعة، وعليه أن يصليها ظهراً.
قال في "شرح الزاد وحاشيته": ومن أدرك مع الإمام من الجمعة ركعةً، أتمها جمعةً إجماعاً، وإن أدرك أقل من ذلك، بأن رفع الإمام رأسه من الركعة الثانية، ثم دخل معه، أتمها ظهراً، إن نوى الظهر ودخل وقته؛ لحديث أبي هريرة مرفوعاً:"من أدرك ركعة من الجمعة، فقد أدرك الصلاة"[رواه البيهقي (3/ 202)، وأصله في البخاري (580)، ومسلم (607)].
3 -
قال المحدثون: إنَّ حديث الباب صحيح مرفوعاً وموقوفاً بذكر الجمعة فيه، وله طرق كثيرة يقوي بعضها بعضاً، قال الصنعاني: كثرة طرقه يقوي بعضها بعضاً.
4 -
قوله: "وغيرها" أي: غير الجمعة من الصلوات كالجمعة؛ في أنَّها لا تدرك إلَاّ بإدراك ركعة؛ لما روى أبو هريرة مرفوعاً: "من أدرك ركعة من الصلاة أدركها"[أخرجه البخاي (580) ومسلم (607)].
قال شيخ الإسلام: مضت السنة؛ أنَّه من أدرك ركعةً من الصلاة، فقد أدرك الصلاة.
***
366 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِماً، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِماً، فَمَنْ أنْبَأك أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِساً، فقَدْ كَذَبَ". رَوَاهُ مُسلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أنبأك: فعل ماضٍ، من: الإنباء، من باب الإفعال، والمعنى: من أخبرك؟.
- كذب: يكذب كذباً، والكذب: هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه؛ سواء فيه العمد والخطأ، ولا واسطة بين الصدق والكذب على مذهب أهل السنة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب قيام الخطيب أثناء أداء الخطبتين يوم الجمعة؛ كما قال تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] وحكى ابن المنذر إجماع علماء الأمصار على هذا.
2 -
للقيام في الخطبة فوائد كثيرةٌ، من إظهار القوة والنشاط، ومن الحماس في الإلقاء، ومن إسماع الحاضرين وإبلاغهم، ومن اتباع السنة، وامتثال القرآن.
3 -
يستحب أن يجلس بين الخطبتين جلسةً خفيفةً ليفصل بها بين الخطبتين، وليستريح، وليتبع السنة.
قال جماعة من العلماء: الجلسة تكون بقدر قراءة سورة الإخلاص.
4 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ما كان يخطب جالساً أبداً، فالصحابي الجليل جابر بن سمرة
(1) مسلم (862).
الملازم للجُمَعِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكَذِّبُ من أخبر أنه كان صلى الله عليه وسلم يخطب جالساً.
5 -
القيام في الخطبة سنة مؤكدة عند جمهور العلماء، ومنهم الحنفية والحنابلة، وذهب مالك إلى وجوبه، وأما الشافعي فقال: إنَّه شرط من شروط صحة الخطبة؛ للآية، ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولما جاء من الأخبار.
قال في "سبل السلام": وأما الوجوب وكونه شرطاً في صحتها، فلا دلالة عليه من اللفظ، إلَاّ أن ينضم إليه دليل التأسي به صلى الله عليه وسلم.
6 -
قال ابن القيم: لم يُحفظ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد اتخاذه المنبر أنَّه كان يرقاه بسيفٍ، ولا قوسٍ، وكثيرٌ من الجهلة يظن أنَّه يحمل السيف على المنبر، إشارةً إلى أنَّ الدين إنما قام بالسيف، وهذا جهلٌ قبيحٌ من وجهين:
أحدهما: أنَّ المحفوظ أنَّه إنما كان للاتكاء على العصا، أو القوس.
الثاني: أنَّ الدين إنما قام بالوحي، وأما السيف فلحق أهل العناد والشرك، والدين لم يُكْرَهْ عليه أحد، ولا خير في إسلام من أكره عليه.
***
367 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمسَّاكُمْ، وَيَقُولُ: أَمَّا بعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضلَالَةٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الجُمُعَةِ: يَحْمَدُ الله وَيُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إثر ذلِكَ، وَقَد عَلَا صَوْتُهُ".
وَفي رِوَايَةٍ لَهُ: "مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ".
وَلِلْنَّسَائِيِّ: "وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
القسم الأول في مسلم، أما زيادة:"وكل ضلالة في النار" من زيادة النسائي، ففي سندها: جعفر بن محمد الهاشمي، وهو ضعيف، وأخذ الحديث وجادة، ولهذا نفى الشيخ ابن تيمية هذه الزيادة، فقال في "مجموع الفتاوى"(19/ 191)، ولم يقل صلى الله عليه وسلم:"وكل ضلالة في النار".
* مفردات الحديث:
- خطب: يخطُب -من باب قتل- خُطبةً، بضم الخاء، جمعها: خطب، وهي
(1) مسلم (867)، النسائي (1578).
فعلة بمعنى مفعولة؛ كنسخة بمعنى منسوخة، وهي الكلام المؤلَّف المتضمن وعظاً وإبلاغاً.
- احمرَّت عيناه: هذه حالات تعتري الخطيب الناصح المتحمِّس.
- علا صوته: ارتفع؛ ليكون لكلامه وقعٌ، وتأثيرٌ، بالمستمعين.
- اشتد غضبه: قوي وزاد، والغضب استجابة للانفعال.
- كأنه منذر: الإنذار: الإخبار مع التخويف، فالمنذر: هو المخبر بتحذير.
- صبَّحكم: من باب التفعيل؛ أي: نزل بكم العدو صباحاً ومساءً.
- أما بعد: "أما" بفتح الهمزة أداة تفصيل، و"بعد" ظرف مبهم مقطوع عن الإضافة، مبني على الضم، ويؤتى بـ"أما بعد" للفصل والانتقال من موضوع إلى آخر، وبعضهم جعلها هي فصل الخطاب التي في الآية:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)} [ص] واختلفوا في أول من قالها، فقيل: النبي داود، وقيل: قس بن ساعدة، وقيل: كعب بن لؤي، وقيل: يعرب بن قحطان.
- هُدَى محمد: ضبط بضم الهاء وفتح الدال، فيكون معناه: الدلالة والإرشاد، وضبط بفتح الهاء وسكون الدال، فيكون معناه: أحسن الطرق طريق محمد.
- محدثاتها: أي: مخترعاتها، مما لم يكن ثابتاً بشرع من الله، ولا من رسوله، والمراد به البدع في الدين.
- بدعة: قال الشاطبي: أصل مادة بدع للاختراع، على غير مثال سابق، ومن هذا سمي العمل الذي لا دليل عليه من الشرع بدعةً، وسيأتي البحث عنها بأتم من هذا، إن شاء الله تعالى.
- ضلالة: الضلالة هي ضد الهداية؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} [الرعد].
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث فيه مشروعية خطبتي الجمعة.
قال في "الحاشية": ويشترط لصحة صلاة الجمعة تقدم خطبتين؛ وفاقاً لمالك والشافعي وجماهير العلماء.
وحكاه النووي إجماعاً، ومشروعيتهما مما استفاضت به السنة.
2 -
الحديث فيه صفة الخطيب، وما ينبغي أن يكون عليه عند إلقاء الخطبة من أحوالٍ وصفاتٍ، ترجع إلى إثارة الحماس والانفعال، الذي يسري من نفس الخطيب إلى نفوس السامعين، فينبههم ويوقظ ضمائرهم، ويلهب شعورهم، ويحرك قلوبهم نحو الإقبال على الله تعالى بالطاعات، والابتعاد عما نهى الله عنه من المعاصي.
فمن ذلك أن:
تحمر عيناه؛ وذلك إشارة إلى الغضب والانفعال.
يعلو صوته؛ ليصل إلى مسامعهم، وليهز قلوبهم.
يشتد غضبه، ليوقظ حماسهم ويثير شعورهم بحماسه، وثورته، وهيجانه، وانفعاله، حتى كأنه منذر جيش أحاط بالبلاد، ويوشك أن يصبحهم، أو يمسيهم؛ ليستولي على بلادهم، فيفتك بهم، ويسْبي نساءَهم، ويسترق ذراريهم، ويسلب أموالهم.
3 -
وكان مما يحث عليه في الخطبة هو العمل بكتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والحث على سنة وهدْي رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي هو صنو الكتاب في الهداية، والدلالة على الخير.
قال ابن القيم: مقصود الخطبة هو الثناء على الله تعالى، وتمجيده بالشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جناته، ونهيهم عمَّا يقربهم من سخطه وناره.
وزاد ابن القيم بقوله: إنما كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم تقريراً لأصول الإيمان
بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه، وأهل معصيته.
4 -
كان ينهى عن الابتداع في الدين ومحدثات الأمور، فقد أكمل الله الدين وأتم نعمته على عباده المسلمين، ويذكر أنَّ أية بدعة فهي ضلالة، وأنَّ كل ضلالة سبب في دخول النار، ذلك أنَّ الضال الذي يرى أنه مهتدٍ أصعب أمراً من العاصي، الذي يعلم أنَّه يعصي الله تعالى، فالأول يبْعُدُ رجوعه عن ضلالته وبدعته، أما الثاني فهناك أمل كبير أن يرجع إلى الله تعالى بالتوبة عما هو عليه من المعاصي.
5 -
وقوله: "وكل بدعة ضلالة" دليل على أنَّ تقسيم البدعة إلى بدعة حسنة، وبدعة سيئة، لا يصح، بل البدعة كلها ضلالة، أيّاً كانت.
6 -
وذكر في الرواية الأخرى: أنَّ من أدب الخطبة افتتاحها بحمد الله تعالى والثناء عليه؛ لأنَّ الكلام الذي لا يبدأ بحمد الله فهو منزوع البركة، وإنَّ الهداية والتوفيق بيد الله تعالى، وإنَّ ضلال العبد بتدبيره، فلا يخرج شيء عن قدرته وإرادته، فكله راجع إلى تدبير الحكيم، والإرادة العالية.
7 -
قال البغوي: يستحب ختم الخطبة بقوله: "أستغفر الله لي ولكم"، وعمل الأكثر عليه.
قال في "الروض": ويباح الدعاء لمعيَّن كسلطان، فقد دعا أبو موسى لعمر، رضي الله عنهما
قال الإمام أحمد: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان؛ لأنَّ في صلاحه صلاح المسلمين.
قال النووي: الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق ونحو ذلك -مستحبٌّ بالاتفاق.
8 -
ينبغي للخطيب وغيره من الداعين لولاة أمور المسلمين ألا يخص بقلبه
السلطة العليا فيهم فقط، وإنما يعم الدعاء لكل من ولي أمراً من أمور المسلمين؛ سواء منهم المقامات العالية، أو من تحتهم: من وزراء، ومديرين، ورؤساء أقسام، وأهم من ذلك الدعاء لعلماء المسلمين وقضاتهم؛ فإنَّ صلاح الرعية هو بصلاح ملوكها وعلمائها، وفسادها بضد ذلك.
9 -
ينبغي للخطيب والإمام ونحوهما أن لا يلازما الأحكام المستحبة في كل صلاة، أو في كل خطبة، لأنَّ العامة يعتقدون أنَّ هذا العمل واجبٌ، لا يجوز الإخلال به، ولكن الأفضل هو تركه في بعض الأحيان؛ ليكون ذلك تعليماً.
10 -
هذا الوصف البليغ من جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لحالة النبي صلى الله عليه وسلم أثناء إلقاء خطبته -نفهم منه آداب الخطيب، التي ينبغي أن يتَّصف بها، عندما يقوم في الناس خطيباً.
11 -
أن يكون عنده القدرة على إقناع السامعين بالرأي الذي يدعو إليه بما يُبديه من الحجج والبينات.
12 -
أن يكون عنده الموهبة التامة لاستمالة السامعين إلى الإصغاء إليه، والقناعة بما يدعو إليه.
13 -
أن يدور محور خطبته على إثارة المشاعر، لفعل الخير، وتجنب الشر، وتوجيه النفوس نحو الله تعالى، فيحاول رفع نفوس السامعين، ويسمو بها من حقارة الدنيا، فيربطها بما أعدَّ الله تعالى لعباده من الثواب، فنفوس السامعين في أماكن العبادة أكثر استعداداً لقبول ما يلقيه الخطيب، وأكثر تأثراً بما تسمعه منه.
14 -
أن يوحِّد موضوع الخطبة، فلا يشغل أفكار السامعين بالانتقال من موضوع لآخر، بما يفتر حماسهم ويخمد نفوسهم.
15 -
أن تكون الخطب فيما يهتم به السامعون، من المواضيع التي تشغل بالهم،
وتثير اهتمامهم، وترددها ألسنتهم؛ فإنَّهم لها أسمع، وإليها أقبل، وبها أعرف.
16 -
أن يكون في إلقائه متحمساً، ثائراً، منذراً، ومحذّراً، ومبشراً، وأن يلقي خطبته بفقرات جزلة، يظهر فيها التكرار، واستعمال المترادفات، وضرب الأمثال، وتضمين الآيات والأحاديث، ويكون تارةً مستفهماً، وأخرى منكراً، وثالثة متعجباً.
فالأسلوب الخطابي له أداؤه الخاص، والخطيب له موقفه المثير، حتى يسري ذلك في السامعين، ويؤثِّر فيهم، ويصدرون وهم أكثر قناعةً وقبولاً لما سمعوا.
* فائدة:
قال الشاطبي: أصل مادة "بدع" للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة] أي مُحْدِثهما من غير مثال سابق.
فمن هذا المعنى، سمي العمل الذي لا دليل عليه من الشرع "بدعة"، والفاعل له "مبتدعاً"، فالبدعة إذن هي عبارة عن طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه.
والبدعة: حقيقية، وإضافية.
فالبدعة الحقيقية هي التي لا يدل عليها دليل شرعيٌّ، وإن زعم المبتدع أنَّ ما ابتدعه داخلٌ تحت مقتضى الأدلة، لكنها دعوى غير صحيحة، من ذلك:
1 -
تحكيم العقل، ورفض النصوص في دين الله تعالى.
2 -
قول الكفار: إنَّما البيع مثل الربا.
3 -
صلاة بركوعين، وسجود واحد.
4 -
صلاة مبدوءة بالتسليم، مختومة بالتكبير.
5 -
صلاة يتشهد في قيامها، ويقرأ في سجودها وركوعها.
6 -
السعي بين جبلين غير الصفا والمروة بَدَلهما.
وأما البدعة الإضافية: فهي التي لها شائبتان:
إحداهما: لها من الأدلة تعلق؛ إذ إنَّ دليلها من جهة الأصل قائم.
الثانية: ليس لها تعلق، إذ أنَّها من جهة الكيفيات والأحوال لم يقم عليها دليل، مع أنَّها محتاجة إليه؛ لأنَّ وقوعها في التعبدات، لا في العادات المحضة، ولها أمثلة كثيرة منها:
1 -
صلاة الرغائب: وهي اثنتا عشرة ركعة في أول ليلة جمعة من رجب، قال العلماء: إنَّها بدعة منكرة.
2 -
صلاة ليلة النصف من شعبان، ووجه كونها بدعة إضافية أنَّها مشروعة باعتبار مشروعية الصلاة، وغير مشروعة باعتبار ما عرض لها من التزام الوقت المخصوص، والكيفية المخصوصة، فهي مشروعةٌ باعتبار ذاتها، مبتدعةٌ باعتبار ما عرض لها.
قال النووي: صلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان.
وقال في "شرح الإحياء": بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا تغتر بذكرهما في كتاب "القوت"، وكتاب "الإحياء" وليس لأحد أن يستدل على شرعيتهما بقوله صلى الله عليه وسلم:"الصلاة خير موضوع"؛ فإنَّ ذاك يختص لصلاة لا تخالف الشرع بوجه.
* قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن خطبة الجمعة والعيدين بغير العربية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد، وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في السؤال المحال إليه، حول الخلاف القائم بين بعض المسلمين في الهند؛ بشأن جواز خطبة الجمعة باللغة المحلية غير العربية، أو عدم جوازها؛ لأنَّ هناك من يرى عدم الجواز،
بحجة أنَّ خطبة الجمعة تقوم مقام ركعتين من صلاة الفرض، ويسأل السائل أيضاً: هل يجوز استخدام مكبر الصوت في أداء الخطبة، أو لا يجوز، وأنَّ بعض طلبة العلم يعلن عدم جواز استخدامه، بمزاعم وحججٍ واهيةٍ، وقد قرر مجلس المجمع بعد اطِّلاعه على آراء فقهاء المذاهب:
1 -
أنَّ الرأي الأعدل الذي يختاره هو أنَّ اللغة العربية في أداء خطبة الجمعة والعيدين -في غير البلاد الناطقة بالعربية- ليست شرطاً لصحتها، ولكن الأحسن أداء مقدمات الخطبة، وما تتضمنه من آيات قرآنية باللغة العربية، لتعويد غير العرب على سماع العربية والقرآن، مما يسهل عليهم تعلمها، وقراءة القرآن باللغة التي نزل بها، ثم يتابع الخطيب ما يعظهم، وينورهم به بلغتهم التي يفهمونها.
2 -
أنَّ استخدام مكبر الصوت في أداء خطبة الجمعة والعيدين، وكذا القراءة في الصلاة، وتكبيرات الانتقال -لا مانع منه شرعاً، بل إنَّه ينبغي استعماله في المساجد الكبيرة المتباعدة الأطراف؛ لما يترتب عليه من المصالح الشرعية.
فكل أداة حديثة وصل إليها الإنسان بما علمه الله، وسخر له من وسائل، إذا كانت تخدم غرضًا شرعيّاً، أو واجبات الإسلام، وتحقق فيه من النجاح ما لم يتحقق دونها -تصبح مطلوبة بقدر درجة الأمر الذي تخدمه، وتحققه من المطالب الشرعية؛ وفقاً للقاعدة الأصولية المعروفة، وهي أنَّ ما يتوقف عليه تحقيق الواجب فهو واجب، والله سبحانه هو الموفق.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
***
368 -
وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- قِصر: بكسر القاف وفتح الصاد؛ أي: تقصيرها.
- مَئِنَّة: بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة، أي: علامة ودلالة.
- من فقهه: الفقه لغة: الفهم، وشرعاً: معرفة الأحكام الشرعية الفرعية العملية بأدلتها التفصيلية.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب قصر خطبة الجمعة وإيجازها، مع الإتيان بالمعنى المراد منها.
2 -
قال في "شرح الإقناع": ولا تصح الخطبة بغير العربية مع القدرة عليها، وتصح مع العجز عنها؛ لأنَّ المقصود الوعظ والتذكير، وحمد الله، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يجزىء بغير العربية.
3 -
استحباب إطالة صلاة الجمعة الطول الشرعي، الذي لا يشق على العاجز الضعيف، والمريض، وذوي الحاجة.
4 -
أنَّ قِصر الخطبة، وإطالة الصلاة دليل على فقه الخطيب والإمام؛ فإنَّه استطاع أن يأتي بمعاني الخطبة بألفاظ قليلة، وبوقفة قصيرة، أما تشقيق الكلام وتطويله، فهو دليل على العي والعجز عن الإبانة، فخير الكلام ما قلَّ ودلَّ.
(1) مسلم (869).
أما إطالة الصلاة، فلأنَّ الإمام عرف مقام هذه الفريضة الجليلة، التي هي أفضل فرض من فروض الصلاة، فأعطاها حقها من الطمأنينة، واستيعاب الواجبات والمستحبات فيها.
5 -
أنَّ تصرفات الإمام في الصلاة، من ترتيب القراءة في الصلاة، وترتيب السور، وإطالة الأولى، وقصر الثانية، وقراءة كل صلاة بما يناسبها، واختيار السور النظائر في صلاة واحدة، وغير ذلك مما ينبغي للإمام الإتيان به في الصلاة -دليل على علمه، ومعرفته بكلام الله تعالى، وفقهه في دينه.
***
369 -
وَعَنُ أَمِّ هِشَامٍ بنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنها قَالَتْ: "مَا أَخَذْتُ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إِلَاّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى المِنْبَرِ، إذَا خَطَبَ النَّاسَ". روَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب قراءة سورة {ق} أو بعضها في خطبة الجمعة؛ فإنَّ ذلك من عادة النبي صلى الله عليه وسلم الغالبة.
2 -
سبب اختياره صلى الله عليه وسلم هذه السورة، هو ما اشتملت عليه من ذكر إحصاء ما يلفظ به الإنسان من خير وشر، وما جاء فيها من ذكر الموت والبعث، وذكر الجنة والنار، وما جاء فيها من المواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة، فهي خير ما يُوعظ به السامعون.
3 -
فيه مشروعية قراءة شيء من القرآن في الخطبة، وهي واجبة عند بعض العلماء، ومنهم الحنابلة، فلابد من قراءة آية من كتاب الله.
4 -
فيه استحباب ترديد المواعظ؛ تذكير الناس في الخطبة.
5 -
فيه أنفع ما يوعظ به العامة والعصاة هو ذكر الموت، والبعث، والجزاء؛ فإنَّ من ذكر ذلك وتحقَّقه، ارتدع وخاف، إن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
…
(1) مسلم (873).
370 -
وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الجُمُعَةِ -وَالإِمَامُ يَخْطُبُ- فَهُوَ كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً، وَالَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ، لَيْسَتْ لَهُ جُمُعَةٌ". روَاهُ أَحمَدُ بإسْنَادٍ لا بأسَ بِهِ (1).
وَهُوَ يُفَسِّرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ مَرْفُوعاً: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ يَوْمَ الجُمُعَةِ -وَالإِمَامُ يَخْطُبُ- فَقدْ لَغَوْتَ"(2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث فيه فقرتان:
إحداهما: "إذا قلتَ لصاحبك: أنصت يوم الجمعة -والإمام يخطب- فقد لغوت"؛ هذا حديث مرفوع في الصحيحين، وهذه الفقرة هي الأصل في الحديث.
الثانية: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب
…
إلخ"؛ فهذه مفسرة للجملة الأخرى.
قال المؤلف: رواه أحمد بإسنادٍ لا بأس به.
قال الصنعاني: وله شاهد قوي مرسل في "جامع حماد".
* مفردات الحديث:
- أسفاراً: جمع "سِفر" بكسر السين، والسِّفر: الكتاب الكبير، جمعه:
(1) أحمد (2034).
(2)
البخاري (934)، مسلم (851).
"أسفار"، وسمي الكتاب الكبير: سفراً؛ لأنَّه يسفر عن المعنى إذا قرىء، وإنما شُبِّه القارىء الذي لا يستفيد ولا يعمل، بالحمار يحمل أسفاراً؛ لأنَّه فاته الانتفاع من سماع الذكر، مع تكلفة مشقة التهيؤ للجمعة، والحضور إليها.
- أَنْصِتْ: فعل أمر، من: أنصت ينصت إنصاتاً، والإنصات: هو السكوت للاستماع والإصغاء والمراعاة، يقال: أنصته، وأنصت له.
- والإمام يخطب: "الواو" واو الحال، والجملة جملة حالية، من فاعل "أنصت".
- لغوت: لغا الشيء لغواً، من باب قال؛ أي: بطل، واللغو: هو الكلام الذي لا يعتد به، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع، وهو الساقط من الكلام، ومن تكلم يوم الجمعة، سقط نصيبه من أجر الجمعة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
في الحديث دلالة على تحريم الكلام، والإمام يخطب يوم الجمعة.
2 -
فيه دلالة على أنَّ النَّهي عن الكلام مختص بحال الخطبة، وهو رد على قول من يقول: إنَّ النَّهي عن الكلام من خروج الإمام.
3 -
فيه دليل على إباحة الكلام بين الخطبتين؛ لأنَّ المنع هو حال خطبة الإمام.
4 -
فيه دلالة على تحريم تسكيت المتكلم أثناء الخطبة، وأنَّ من سكت المتكلم فقد لغا؛ حيث أتى بكلام في حالٍ، هو مأمور فيها بالإنصات والاستماع.
5 -
قوله: "ليست له جمعة" الأصل في النفي أنَّه لنفي الحقيقة الشرعية، بمعنى: أنَّه لم تصح له جمعة، ولكن صرفها إلى نفي الكمال أرجح؛ ذلك أنَّ الخلل هنا ليس في نفس الصلاة، وإنما هو خارجها، وإذا لم يتعد الخلل إلى العبادة يحمل على نفي الكمال.
6 -
إذا كان لابد من تسكيت المتكلم، فليكن بالإشارة، فهي أخف وأبعد عن الانشغال بالكلام والمحاورة.
7 -
مُثِّل المتكلم أثناء الخطبة بالحمار، الذي يحمل على ظهره أسفار الكتب، ومراجع العلم؛ ذلك أنَّ المتكلم قد تكلف لحضور الجمعة، وسماع الخطبة، والاستعداد لها، والمجيء إليها، والمشقة في حضورها، ثم لم ينتفع بأهم ما في صلاة الجمعة، وهي الخطبة التي قال الله عنها:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فهو مثل الحمار الذي حمل على ظهره أسفار الكتب، وذخائر العلم، ومع ذلك لا يستفيد منها، فهذا لم يستفد من جمعته، التي بذل المشقة في الوصول إليها، فبين هذا اللاغي وبين الحمار الموصوف بالبلادة شبَه؛ من حيث عدم الانتفاع والاستفادة مما حمل.
8 -
وجوب الإنصات للخطيب يوم الجمعة، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على وجوب ذلك.
9 -
تحريم الكلام حال سماع الخطبة، وأنَّه منافٍ للمقام.
10 -
استثني من هذا من يخاطبه الإمام، أو يخاطب الإمام؛ كما جاء في قصة الرجل الذي شكا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم القحط، والرجل الذي دخل المسجد، ولم يصلِّ تحية المسجد، فأمره بالقيام والصلاة.
11 -
الخطبتان من أعظم شعائر الجمعة، فيجب الإنصات لهما، ولذا فإنَّ أقلَّ كلمة والإمام يخطب، تعتبر لغواً؛ لمنافاتها سماع الذكر والخطبة.
12 -
أجمع الأئمة الأربعة على وجوب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، لكن اختلفوا في حكم رد السلام؛ ونحوه: فبعضهم أجاز تشميت العاطس، ورد السلام، ومنهم الثوري والأوزاعي وأحمد وأتباعه.
وبعضهم: لم يجز التشميت ورد السلام، فهو مقابل للقول الذي قبله؛ ويروى عن الشعبي، وسعيد بين جبير، وإبراهيم النخعي.
وبعضهم: فرَّق بين من يسمع الخطبة فلا يجوز، ومن لا يسمعها فيجوز؛ وهو رواية عن أحمد، ومروي عن عطاء وجماعة.
والجمهور على أنَّ صلاته لا تفسد إذا تكلم.
13 -
قال القاضي عياض: اختلف العلماء فيمن لا يسمع الخطبة، هل يجب عليه السكوت كما لو كان يسمع، وقال الجمهور: نعم؛ لأنَّه إذا تكلم يشوش على السامعين، ويشغلهم عن الاستماع.
وقال النخعي وأحمد والشافعي في أحد قوليه: لا يلزمه، ولكن يستحب له.
قال محرره: استثنى بعض العلماء من لايسمع لصممه؛ أنه لا ينبغي له السكوت، بل يشتغل بالقراءة والذكر؛ وهو قول وجيه.
***
371 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَالَ: صلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ". مُتَّفَقٌ عَلْيهِ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعية خطبة الجمعة، وَأنَّها من شعائر الصلاة التي يلزم الإتيان بها.
2 -
استحباب ركعتي تحية المسجد وتأكدها؛ حيثُ قُدِّمَت على سماع الخطبة، وأمر بها صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بالخطبة.
3 -
الحديث وإن كان أمراً بتحية المسجد، والأمر يقتضي الوجوب، إلَاّ أنَّ هناك أدلةً أخرى صحيحةً، صارفة الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب.
ومن تلك الأحاديث: "أنَّ سائلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هل عليَّ غير الصلوات المكتوبة؟ فقال: لا"، وحديث الثلاثة الذين دخلوا المسجد، فجلس منهم رجلان يسمعان العلم بدون الصلاة، ودخول كعب بن مالك المسجد بعد التوبة عليه، ولم يصل، وكل هذا على مرأى من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرهم بتحية المسجد.
4 -
أنَّ الجلوس القليل لا يفوت وقت الركعتين؛ فإنَّ الرجل جلس ثم قام، فصلَّى.
5 -
جواز الكلام حال الخطبة من الخطيب ومن يخاطبه، لأنَّه في هذه الحال لا يوجد انشغال عن سماع الخطبة.
6 -
أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم لا يقر خطأ يراه، وإنما ينبه عليه في وقته، فهو وقت البيان.
(1) البخاري (931)، مسلم (875).
7 -
أنَّه لا يزيد في تحية المسجد حال الخطبة على ركعتين؛ لأنَّه لابد من الإنصات للخطبة، كما أنه في غير هذه الحال فإنَّ تحيَّة المسجد ركعتان، وما زاد فهو تطوع مطلق.
8 -
قوله: "قم فصل ركعتين" الخطاب خاص مع هذا الرجل الداخل، لكن الحكم عام فيه وفي غيره؛ فقد قال شيخ الإسلام: إنَّه ليس في النصوص نصٌّ يخص شخصاً بعينه لعينه، ولكنه يخصه لوصفه؛ لأنَّ الناس عند الله تعالى سواء.
هذا فيما عدا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّ له أحكاماً تخصه لنبوته ورسالته، وإن كان الأصل العموم.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء فيمن دخل المسجد والخطيب يخطب: هل يصلي تحية المسجد، أو يجلس وينصت للخطيب؟
فذهب الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث إلى: أنَّ المستحب له الصلاة، مستدلين بهذا الحديث.
وذهب مالك وأبو حنيفة إلى: أنَّه يجلس ولا يصلي؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف، الآية: 204] وحديث: "إذا قلت لصاحبك: أنصت، فقد لغوت".
وأجابوا عن حديث الباب بأجوبةٍ واهيةٍ.
ولذا قال النووي عند هذا الحديث في شرح مسلم: هذا نص لا يتطرق إليه تأويل، ولا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظ، ويعتقده صحيحاً يخالفه.
أما الآية فالخطبة ليست قرآناً، ومع هذا فهي مخصصة، وأما الحديث:"فقد لغوت"، فهو أمر الشارع، فلا تعارض بين أمرين، بل القاعد ينصت، وأما الداخل فيصلي تحية المسجد.
372 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَاسٍ رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الجُمُعَةِ سُورَةَ الجُمُعَةِ وَالمُنَافِقِينَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
373 -
وَلَهُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ يَقْرَأُ فِي العِيدَيْنِ، وَفِي الجُمُعَةِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} "(2).
ــ
* مفردات الحديث:
- سَبِّح: فعل أمر من "التسبيح"، وهو تنزيه الله تعالى عن النقص والعيب، وهو تنزيه يثبت ضده من الكمال والجلال.
- اسم: اختلف العلماء فيه، فقال بعضهم: إنَّه زائد؛ لأنَّ الذي يُسَبَّح هو الرب، والتقدير:"سبح ربك"، فالتسبيح وارد على المسمى.
وقال بعضهم: إنَّ الاسم هو المسمى، والراجح الأول، ولكن زيادات القرآن تكون لفائدة، ومنها: التوكيد.
- الأعلى: مجرور على أنَّه صفة لـ"رب"، والكسرة لا تظهر على آخره للتعذر، وهو اسم تفضيل محلى بـ "أل"؛ ليفيد العلو المطلق للذات والصفات.
- هل: استفهام يراد به التحقيق؛ لأنَّها متضمنة معنى التقدير.
- أتاك: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وما خوطب به، فهو خطاب لأمته.
- حديث: النبأ، وحديثها: ما جاء في نفس السورة من أخبار الفريقين، وما جاء من وصف الجزاءين.
(1) مسلم (879).
(2)
مسلم (878).
- الغاشية: الغشي هو: الإغماء، وما يصيب من فتور الأعضاء، وتعطل لقوى الإرادة والحركة من أثر شدة الصدمة، والمراد هنا:"يوم القيامة" الذي يصيب الناس بأهواله، فيفقدون وعيهم وإحساسهم، فتراهم سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
استحباب الجهر في صلاة الجمعة، ولو كانت صلاة نهارية؛ وذلك لجمعها الخلق الكثير، فينبغي أن يسمعوا القرآن ممن يحسن القراءة.
2 -
استحباب قراءة سورة {الجمعة} في الركعة الأولى، وسورة {المنافقين} في الركعة الثانية، كل ذلك بعد الفاتحة.
3 -
أما الحديث رقم (373): فيدل على الجهر في صلاة الجمعة، وصلاة العيد.
4 -
يدل على استحباب قراءة سورة الأعلى، في الركعة الأولى من الجمعة والعيدين، وسورة {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} في الركعة الثانية، بعد الفاتحة فيهما.
5 -
قوله: "كان يقرأ الجمعة والمنافقين"، وقوله:"كان يقرأ سبح والغاشية" -دليلٌ على أن "كان" لا يراد بها الدوام، وإلَاّ لتعارض الحديثان، وإنما المراد أنَّ أكثر قراءته في هذه السور الأربع، تارةً هاتين السورتين، وتارةً السورتين الأخيرتين.
6 -
مناسبة سورة الجمعة في صلاة الجمعة ظاهرة؛ ففيها الحث على هذه الشعيرة الكبيرة، والحض على الإتيان إليها، وإلى ذكر الله فيها، وترك ما يشغل عنها من أعمال الدنيا ولهوها، ولو كان مباحاً نافعاً، فكيف إذا كان ما يشغل ضارّاً محرَّماً؟! كما أنَّ فيها تمثيلَ من عنده أسفار العلم النافعة، ولا يستفيد منه فمثله كمثل الحمار، الذي يحمل تلك الأسفار، ولا ينتفع بها، وهو مَثَل يُضربُ لمن يأتي إلى الجمعة، ولكنه يشتغل عن سماع الذكر بالكلام، والانشغال بما لا فائدة فيه.
7 -
أما سورة المنافقين: فقال بعض العلماء: إنَّ مناسبتها إسماعها المنافقين الذين لا يحضرون إلَاّ لهذه الصلاة فقط، ولكني أرى فيها شيئاً من سورة الجمعة، حينما انفض المسلمون: وأعرضوا عن سماع الذكر، حينما قدمت العير، ففيها ما ينبه على هذه الغلطة منهم بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون].
8 -
في سورة المنافقين أيضاً التحذير من هذا الخلُق الذميم وهو النفاق سواء كان هذا النفاق اعتقادياً وهو النفاق الأكبر المخرج من الملة، أو كان نفاقاً عمليّاً، وهو النفاق الأصغر، الذي صاحبه على خطر كبير، إلَاّ أنَّه لم يخرج من الملة.
9 -
أما مناسبة سورة {الأعلى} : فالأعلى هو صاحب العلو المطلق في الذات والصفات، فعلو الذات هو أنَّه سبحانه وتعالى عالٍ بذاته، فوق جميع مخلوقاته، فله العلو المطلق فليس فوقه شيء، ولا يحيط به شيء، بل هو المحيط بكل شيء، العالي على كل شيء، ولو أحاط به شيء، أو كان فوقه أو ساواه شيءٌ، لانتفى عنه العلو المطلق، ومن وصف الله بغير ذلك من العلو، فقد نقصه، ورضي له بأدنى الأمكنة، وعلو الله تعالى شهد به القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وإجماع أهل السنة، والعقل الكامل، والفطرة السليمة.
كما بينت هذه السورة أحوال يوم القيامة والجزاء فيها، وعدم الاغترار بالحياة الدنيا، وبيَّنتها سورة الغاشية، فقد احتوت على حالي الآخرة بالنعيم والجحيم، فهذا وجه جمع هاتين السورتين في المواضع العامة، لمناسبة مخاطبة الجمهور، وتذكيرهم بسرعة، وإيجاز عن معادهم.
374 -
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقمَ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم العِيدَ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الجُمُعَةِ، فَقَالَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلَاّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف، وقَوِيَ بشواهده؛ قال الشوكاني: حديث زيد بن أرقم أخرجه النسائي والحاكم، وصححه ابن المديني وابن خزيمة، وفي إسناده: إياس بن أبي رملة، وهو مجهول.
قال محرره: الحديث له شواهد، منها:
1 -
حديث أبي هريرة، أخرجه الحاكم (1/ 425)، وفي إسناده: بقية بن الوليد. قال المنذري: فيه مقال.
2 -
حديث ابن عمر: أخرجه ابن ماجه (1312)، وإسناده ضعيف.
3 -
حديث عطاء بن أبي الزبير: "صلَّى في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار، ثم رحنا إلى الجمعة، فلم يخرج إلينا، فصلينا وحدنا، فذكرنا ذلك لابن عباس، فقال: أصاب السنة"[رواه أبو داود (1071)].
قال محرره: والحديث بهذه الشواهد قد قوي.
* مفردات الحديث:
- رخص في الجمعة: الرخصة لغة: السهولة واليسر، واصطلاحاً: ما يثبت على خلاف دليلٍ شرعيٍّ لمعارضٍ راجحٍ.
(1) أحمد (18831)، أبو داود (1070)، النسائي (1591)، ابن ماجه (1310)، ابن خزيمة (2/ 359).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
في الحديث دلالة على أنَّه إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد، فإنَّه يجوز لمن صلَّى صلاة العيد، ألا يصلي صلاة الجمعة، ويكتفي بصلاة الظهر.
2 -
ذلك أنَّه اجتمع عيدان في يوم واحد، فدخل أحدهما في الآخر، فاكتفي بحضور صلاةٍ واحدةٍ منها.
3 -
ومن أسباب اكتفاء إحداهما بالأخرى قوة الشبه بين الصلاتين؛ من حيث إنَّ كلاًّ منهما ركعتان يُجهر فيهما بالقراءة، وفي كل منهما خطبتان، وفيهما الجمع الكبير، والاحتفال العظيم، لكنه لا تسقط صلاة الظهر عمن لم يحضر الجمعة.
4 -
أما من لم يحضر العيد أو فاتته، فلا يجوز له التخلف عن صلاة الجمعة؛ لئلا تفوته الفريضتان، ولئلا يتأخر عن المشهدين الكبيرين.
5 -
قوله: "رخَّص" يدل على أنَّ المستحب هو الحضور؛ فإنَّ الرخصة إنما تفيد التخفيف والتسهيل فقط، بل إنَّ جمهور الفقهاء لا يرون سقوط صلاة الجمعة بصلاة العيد إذا اجتمعا في يوم واحد.
6 -
أما الإمام فلا يتخلف، وإنما يجب عليه الحضور لإقامة الجمعة للناس الذين سيحضرون؛ فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه عن الجمعة، وإنا مجمعون"، فهو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف، ولأنَّ صلاة الظهر هي فرض الوقت، فتغني عن الجمعة فى الأحوال التي لا تصلى فيها.
7 -
قال بعض الناس: إنَّ الجمعة والظهر يسقطان عمن صلى العيد، وهذا قول ضعيف جدًّا.
قال شيخ الإسلام: إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد، فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:
أصحها: أنَّ من شهد العيد، سقطت عنه الجمعة، فقد اجتمع عبادتان من جنس واحد، فدخلت إحداهما في الأخرى، ولأنَّ في إيجابهما على الناس تضييقاً لمقصود عيدهم، وما سُنَّ لهم فيه من السرور والانبساط، فحينئذ تسقط الجمعة.
8 -
يدل على أنَّه ينبغي أن ينبه الناس إلى الأحكام التي تخفى عليهم، ويكون التنبيه وقتها؛ لأنَّه وقت الحاجة إلى معرفتها.
***
375 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَلَّى أحَدُكُمُ الجُمُعَةَ، فَلْيُصَلَّ بَعْدَهَا أرْبَعًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
فيه دلالة على أنَّ للجمعة سنة بعدها، وأنَّها أربع ركعات تصلى ركعتين ركعتين.
2 -
جاء في البخاري (937)؛ ومسلم (882) عن ابن عمر: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين"، وجاء في سنن أبي داود:"أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ستًّا".
قال الإمام أحمد: إن شاء صلَّى ركعتين، وإن شاء صلَّى أربعًا، وإن شاء صلَّى ستًّا، فأيها فعل فحسن، والكل كان يفعله صلى الله عليه وسلم.
3 -
ولا سنة راتبة للجمعة قبلها، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته، ويصعد المنبر، ثم يأخذ بلال في الأذان، فإذا انتهى منه كمله أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل.
قال شيخ الإسلام، وابن القيم: لا سنة للجمعة قبلها، وهو أصح قولي العلماء، وعليه تدل السنة.
قال الشيخ: وهو مذهب الشافعي، وعليه جماهير الأئمة، وعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم رواتب الصلوات، ولمَّا لم يذكر لها راتبة إلَاّ للَّتي بعدها، عُلِمَ أَنَّهُ لا راتبَة لها قبلها.
وهذا مما انعقد سبب فعله في عهده صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يفعله، ولم يشرعه، كان تركه هو السنة.
(1) مسلم (881).
قال أبو شامة: وما وقع من بعض الصحابة أنَّهم كانوا يصلون قبل الجمعة، فمن باب التطوع المطلق، وليس بمنكر، وإنما المنكر اعتقاد العامة وبعض المتفقهة أنَّ ذلك سنة للجمعة قبلها.
قال الشيخ: الأولى لمن جاء الجمعة أنَّ يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام؛ لما في الصحيح "ثم يصلي ماكتب له".
***
376 -
وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ: "إِذَا صَلَّيْتَ الجُمُعَةَ، فَلَا تَصِلْهَا بصَلَاةٍ، حتَّى تَتَكَلَّمَ أوْ تَخرُجَ، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمَرَنَا بِذلِكَ: ألَاّ نُوصِلَ صَلَاةً بِصَلَاةٍ، حَتَّى نَتكلَّمَ، أَوْ نَخْرُجَ". رَوَاهُ مُسلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- فلا تصِلْها: من "الوصل"، من باب ضرب.
- أو تخرج: أي: من المسجد، أو من موضع الصلاة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
كراهة وصل صلاة النافلة -ولو راتبة- بصلاة الفرض، حتى يخرج، فيصليها بالبيت، كما هو الأفضل، أو يفصل ذلك بأذكار الصلاة المكتوبة؛ فإنَّ للشارع الحكيم نظرًا للتمييز بين الفرض والنفل، وبين العبادات بعضها عن بعض؛ لئلا يُشَبَّه الفرض بغيره، فربما -مع الجهل، وتطاول الأمر- زيد في الفرائض ما ليس فيها.
2 -
الحكمة في ذلك -والله أعلم-: تمييز العبادات بعضها عن بعض، فتميز النافلة عن الفريضة: لذا نهى عن الصيام قبل رمضان بيوم أو يومين، وله نظائر كثيرة في الشرع.
3 -
المستحب أنَّ مصلي الجمعة يصلي سنتها، أو سننها في المسجد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، ولكنه لا يصِلُ الراتبة بها، وإنما يصليها بعد كلامٍ، ومنه أذكار الصلاة المشروعة بعدها.
(1) مسلم (883).
قال العلماء: الأولى التحول لصلاة النافلة عن مكان صلاة الفريضة، ففيه تكثير لمواضع الصلاة والسجود؛ ليشهد له المكانان، فقد أخرج أبو داود (1006) من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"أيعجز أحدكم أن يتقدم، أو يتأخر، أو عن يمينه، أو شماله في الصلاة؟ يعني: السبحة"، وسكت عنه أبو داود، وما سكت عنه فهو عنده صالح، وقال البخاري في صحيحه: يُذْكر عن أبي هريرة يرفعه: "لا يتطوع الإمام في مكانه".
5 -
قال شيخ الإسلام: والسنة: أنَّ يفصل بين الفرض والنفل في الجمعة وغيرها، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، ولا يفعل ما يفعله كثير من الناس ممن يصل السلام بركعتي السنة؛ فإنَّ هذا ركوب لنهيه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا من الحكمة التمييز بين الفرض والنفل، كما يميز بين العبادة وغيرها.
6 -
صلاة النافلة في البيت لها مزايا جيدة، من تنوير البيت بالصلاة وذكر الله، ومن امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به، ومن البعد عن الرياء، ومن تعويد الأولاد والأتباع على الصلاة؛ ليكون المصلي لهم قدوةً صالحةً.
377 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اغتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى الجُمُعَةَ، فَصَلَّى مَا قُدَّرَ لَهُ، ثُمَّ أنْصَتَ، حَتَّى يَفْرُغَ الإِمَامُ مِنْ خُطْبتَهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ -غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1)
ــ
* مفردات الحديث:
- مَنْ: -بفتح الميم وسكون النون-: اسم شرط جازم يجزم فعلين، الأول: فعل الشرط، وهو " اغتسل"، والثاني: جوابه، وهو "غفر".
- ما قُدِّر له: بالبناء للمجهول من التقدير؛ أي: فصلى حسب ما وفقه الله، وقدره له.
- أنصَت: ينصت إنصاتًا، بمعنى: أستمع وهو ساكتٌ.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أن من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلَّى ما قُدِّر لهُ وقت انتظار الخطيب، ثم أنصت للخطبة، حتى يفرغ الخطيب منها، ثم صلَّى معه صلاة الجمعة -غُفِرتْ له ذنوبه، من هذه الجمعة إلى الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام.
2 -
الغفران المذكور مرتب على هذه الأعمال الحميدة لصلاة الجمعة: اغتسالٍ لها، فذهابٍ إلى مسجده، فصلاة ما تيسر في مكانها، فإنصاتٍ للخطيب، فصلاة الجمعة، فحصول الغفران مرتب على هذا كله.
3 -
استحباب الغسل للجمعة، وتقدم الخلاف في وجوبه، والصحيح أنَّه مستحب، إلَاّ في حق من فيه رائحة كريهة يؤذي بها المصلين؛ فيتعيَّن عليه الغسل.
(1) مسلم (857).
قال ابن عبد البر: أجمع علماء المسلمين -قديمًا وحديثًا- على أنَّ غسل يوم الجمعة ليس بفرض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن اغتسل، فالغسل أفضل"[رواه الترمذي (496)]، وليس شرطًا إجماعًا، وأوجبه الشيخ على من له عرقٌ، أو ريحٌ.
وقال ابن القيم: وجوبه أقوى من وجوب الوتر.
ومن قال بوجوبه، صحح الصلاة بدونه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "واجب" محمول على تأكد الاستحباب، وهو آكد الأغسال المستحبة مطلقًا، وأحاديثه مستفيضة، والغُسل عن جِماع أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"غسَّل، واغتسل".
4 -
استحباب شَغْلَ وقت انتظار الخطيب بالصلاة، وتقدم أن هذه الصلاة ليست سنة راتبة للجمعة، وإنما هي نفل مطلق،
5 -
وجوب الإنصات للخطيب، والدليل على وجوبه قوله صلى الله عليه وسلم:"من قال لصاحبه: أنصت، فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له".
6 -
أنَّ الإنصات الواجب هو وقت الخطبة فقط، لا قبلها ولا بعدها؛ فإنَّ لفظ "حتى" للغاية، ولا يدخل ما بعدها فيما قبلها.
7 -
فضل هذا العمل الذي يسبب غفران الذنوب، وتكفير السيئات.
8 -
المراد هنا بالسيئات التي تُكَفَّر في هذا العمل: صغائر الذنوب، أما كبائر الذنوب فلا يكفرها إلَاّ التوبة النصوح، وهذا عام في جميع الأعمال الصالحة التي وردت أنَّها تكفر الذنوب؛ كصوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والحج المبرور، وغير ذلك مما أتت به النصوص، وهذا قول جمهور العلماء.
* فوائد:
الفائدة الأولى: المشهور من مذهب الحنابلة: الكراهة في الإيثار بالقُرب
من المكان الفاضل، لا قبول الإيثار.
وقال ابن القيم: لا يكره، فقد طلب أبو بكر من المغيرة أن يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام وفد ثقيف، وقد آثرتْ عائشة عمرَ بدفنه في بيتها، بجوار النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره في مقامه في الصف الأول -لم يكره له السؤال، ولا ذلك البذل.
الفائدة الثانية: قال الشيخ تقي الدين: وما يفعله كثير من الناس، من تقديم مفارش ونحوها إلى المسجد يوم الجمعة قبل صلاتهم، فهذا منهيٌّ عنه، بل محرَّمٌ باتفاق المسلمين، وهل تصح الصلاة في ذلك المفروش؟ فيه قولان للعلماء؛ لأنَّه غَصَبَ بقعةً في المسجد.
الفائدة الثالثة: الحديث يشير إلى مسألةٍ هامةٍ، افترق فيها طائفتان ضالتان، وهدى الله تعالى إليها الفرقة الناجية:"أهل السنة والجماعة".
الطائفة الأولى: هي "القدرية" وهم نفاة القدر، فقد نفوا القدر من عموم خلق الله تعالى، ومشيئته وإرادته؛ زاعمين أن إثبات ذلك لله تعالى يبطل مسؤولية العبد عن فعله، ويلغي التكاليف التي حُمِّل بها، وأُنيطت به، ويخصصون النصوص الدالة على عموم الخلق، والمشيئة بما عدا أفعال العباد، وأثبتوا أنَّ العبد خالق فعله بقدرته وإرادته، وبهذا أثبتوا خالقَيْن، فاستحقوا أن يسموا: مجوس هذه الأمة: لأنَّ المجوس يزعمون أنَّ الشيطان يخلق الشر، وأن خالق الخير هو الله.
الطائفة الثانية: "الجبرية"، وهؤلاء غلوا في إثبات القدر، حتى أنكروا أن يكون للعبد فعلٌ حقيقةً، وإنما الأفعال تُسْند إليه مجازًا، فيقال: صلى، وصام، وزنى، وسرق، مجازًا لا حقيقةً، وإنما هو كالريشة في مهب الريح.
وهذا -في زعمهم- تحقيق أنه لا مقدر في الحقيقة إلَاّ الله وحده، وأنَّ الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز.
وهؤلاء اتَّهموا ربَّهم بالظلم؛ لأنَّه يعذب الناس على أفعالٍ وأعمالٍ لا تنسب إليهم، ولم تقع بإرادتهم ولا قدرتهم، وإنما هي بفعل من عذَّبهم، واتَّهموا ربَّهم؛ بأنه كلف عباده بأعمالٍ لا قدرة لهم عليها، ونهاهم عن أعمالٍ لا يستطيعون الامتناع منها، فهم مُجبرون عليها.
واتَّهموا ربهم بالعبث في تكليف عباده بما لا قدرة لهم عليه.
وعطَّلوا أوامر الله تعالى ونواهيه؛ لأنَّها وُجِّهتْ إلى من ليس له قدرةٌ على القيام بها، ولا عن الامتناع منها.
وهدى الله تعالى الفرقة الناجية: "أهل السنة والجماعة" إلى الحق، فيما اختلفت فيه هاتان الطائفتان الضالتان.
فقرَّروا أنه لا منافاة بين عموم خلق الله تعالى لجميع الأشياء، وبين كون العبد هو فاعل فعله، حقيقةً لا مجازًا.
فقالوا: إنَّ العبد هو المصلي والصائم، وهو الزاني والسارق حقيقةً، فأي عملٍ: خيرٍ أو شرٍّ هو الذي فعله بإرادته، واختياره إياه، فهو غير مُجْبر على الفعل أو الترك، فإنه لو شاء فعل، ولو شاء ترك، وبهذا فهو مستحقٌّ للجزاء على ما قدم، من فعلٍ طيبٍ أوسيءٍ.
وإنَّ هذه الحقيقة ثايتة شرعًا وحسًّا وعقلاً.
ومع إثبات ذلك للإنسان، فإنَّ الله تبارك وتعالى هو الذي خلق قدرتهم، وإرادتهم، ومشيئتهم، التي بها يريدون ويفعلون، وأعطاهم هذه الإرادة والاختيار، فهو الخالق لجميع الأسباب التي وقعت بها أعمالهم.
وبهذا القول الوسط السليم الحكيم، تجتمع النصوص النقلية، والبراهين العقلية.
أولاً: قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير].
وجاء في البخاري (4945) من حديث علي بن أبي طالب؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "اعملوا؛ فكلٌّ ميسَّرٌ لما خلق له"، كما جاء في حديث الباب قوله صلى الله عليه وسلم:"من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلَّى".
فهذه أفعال مسندةٌ حقيقةً إلى العبد، فهو الفاعل لذلك بقدرته واختياره، فقوله:"صلَّى ما قدر له" هذا تقدير الله تعالى ومشيئته في فعل عبده، فالحديث أثبت فعل العبد، المربوط بتقدير الله وتدبيره وإرادته.
ثانيًا: المعنى اللغوي؛ فإنَّ العمل ينسب إلى فاعله حقيقة، أما لمجاز فلا يُعدل إليه، إلَاّ إذا لم تمكن الحقيقة، وهنا ممكنة وصالحة.
ثالثًا: العقل؛ فإنه لا يُعْرَفُ مصدرٌ للفعل إلَاّ ممن وقع منه الفعل.
رابعًا: الحسّ ومن الحس؛ المشاهدة، فإننا نرى أن الأفعال تصدر من المخلوقين، وتنسب إليهم، ويعترفون بوقوعها، ويعترفون بمسؤوليتها.
خامسًا: يوجد عند كل عاقل علم ضروري؛ بأنَّ كل ما صدر من الإنسان من عمل، فهو صادر منه باختياره، وإرادته ومشيئته، وهذ العلم الضروري لا يمكن دفعه، ولا تصور سواه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
***
378 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ:"فِيهِ سَاعَةٌ، لَا يُوافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ -وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي- يَسْأَلُ اللهَ عز وجل شيئًا، إلَاّ أعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَأشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا". مُتَّفَقٌ علَيهِ.
وفِي رِوَاية لِمسْلِمٍ: "وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا يوافقها: أي: لا يصادفها، وهذه اللفظة أعم من أن يقصد لها، أو يتفق وقوع الدعاء فيها.
- وهو قائم: جملة اسمية محلها النصب؛ لأنَّها حال من الفاعل، وهذا خرج مخرج الغالب، فلا يعتبر مفهوم المخالفة هنا.
- يصلي ويسأل: جملتان حاليتان من الأحوال المترادفة، أو المتداخلة، ولا يصح أن تكونا صفتين لـ"مسلم"؛ لأنَّ "مسلمًا" صفة لـ"العبد"، والصفة والموصوف في حكم شيءٍ واحدٍ، والنكرة إذا اتصفت يكون حكمها حكم المعرفة، فلا يجوز وقوع الجُمل بعدها صفات لها؛ لأنَّ الجُمل لا تقع صفة للمعرفة، بل إذا وقعت بعدها تكون حالاً.
- شيئًا: مما يليق أن يدعو به المسلم، ويسأل الله تعالى به.
- يقللها: جملة وقعت حالاً، والتقليل خلاف التكثير، فهو يشير إلى أنَّ وقتها قليل، والساعة اسم لجزء مخصوص من الزمن، ويردُ على أنحاء منها أو يراد به جزء غير مقدر.
(1) البخاري (935)، مسلم (852).
379 -
وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "هِيَ مَا بَيْنَ أنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ، إِلَى أنْ تُقْضَى الصَّلَاة". روَاهُ مُسْلمٌ، وَرَجَّح الدَّارَقْطنِيُّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي بُرْدَةَ (1).
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ عِنْدَ ابنِ مَاجَه (2)، وَعَن جَابِرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِي:"أنَّهَاَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ العَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمسِ"(3) وقَدْ اخْتُلفَ فِيهَا علَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ قولاً أَمْلَيْتُهَا في شَرْحِ البُخَاريِّ.
ــ
* مفردات الحديث:
- ما بين صلاة العصر وغروب الشمس: "بين" ظرفٌ، وأصل الكلام: ما بين صلاة العصر وبين غروب الشمس؛ ليقترن الظرف بطرفي الزمان.
- أمليتها: من "الإملاء"، وهو أن تملي العبارة وتنشئها ويكتبها غيرك؛ أي: كتب تلك الأقوال في "شرح البخاري"، وهو "فتح الباري"، الشرح الشهير.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
من فضائل يوم الجمعة أنَّ فيها ساعة شريفة، هي نفحة من نفحات الله تعالى، يستجيب فيها تعالى دعاء الداعي.
2 -
لا يوافق هذه الساعة الفاضلة عبدٌ مسلمٌ، وهو قائمٌ يصلي، فيسأل الله عز وجل شيئًا من أمر الدين، أو الدنيا، إلَاّ أعطاه إياه، ما لم يدع بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ.
(1) مسلم (853).
(2)
ابن ماجه (1139).
(3)
أبو داود (1048)، النسائي (3/ 99).
3 -
الساعة المرادة هي القطعة من الزمن، قد تطول وقد تقصر، إلَاّ أنَّ ساعة الجمعة هذه ساعة خفيفة ليست بالطويلة.
4 -
أخفى تعالى وقت هذه الساعة، فلا يُعلم هل هي في أول النَّهار، أو آخره، أو وسطه؟ وإخفاؤها عين الحكمة والرحمة؛ ذلك أنَّه لو عُلمَ وقتها، لما التمسها المسلمون بالعبادة والدعاء إلَاّ تلك الساعة، ولكن إخفاءها يجعلهم يلتمسون كل يوم الجمعة، عَلَّهُم يقعون عليها، فتكثر أعمالهم الصالحة، وإخفاؤها كإخفاء ليلة القدر، وإخفاء اسم الله الأعظم، ونحو ذلك من الأشياء المفضلة.
5 -
أرجى ساعة لساعة الإجابة ساعتان:
إحداهما: حين يصعد الخطيب حتى تُقضى الصلاة؛ كما جاء ذلك في حديث أبي بردة، وهذا الوقت له ميزته باجتماع المصلين، والاجتماع على العبادة له أثره في إجابة الدعاء، كما أنَّ هذه الساعة هي المقصودة من يوم الجمعة، وهي التي نادى الله المؤمنين للسعي إليها.
أما الساعة الثانية: ما بين صلاة العصر وغروب الشمس؛ كما جاء ذلك في حديثي: عبد الله بن سلام، وجابر.
6 -
هذان الوقتان هما أرجى وقت لهذه الساعة الفاضلة؛ ذلك أنَّ وقت صعود الخطيب المنبر للخطبة حتى تنقضي الصلاة، هو ثمرة ذلك اليوم وزبدته، فما فضل هذا إلَاّ لهذه العبادة الجليلة، والذكر الكريم.
أما بعد العصر فهو آخر النهار، وهو ختام أعمال النهار، والجوائز توزع وتُعطى في آخر العمل؛ قال صلى الله عليه وسلم:"اعطوا الأجير أجره، قبل أن يَجف عرقه"[رواه ابن ماجه (2443)].
7 -
استحباب التفرغ لهذه الساعة المباركة، والاجتهاد في ذلك اليوم، لعله يصادفها، ويقدر أنَّ كل ساعة تمر عليه في هذا اليوم وهي ساعة الإجابة.
8 -
الإسلام شرط أساسي لقبول الأعمال، واستجابة الدعاء، فمهما عمل الكافر من عمل فمردود عليه؛ قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان].
9 -
العبودية هنا لها معنى خاص، فليست العبودة العامة، وإنما هي عبودية الاتصال بالله تعالى، والالتجاء إليه، والتضرع بين يديه.
10 -
جاء في الحديث: "يُسْتَجَابُ للعبد ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم"[رواه مسلم (2735)]، فالدعاء المستجاب هو المشروع في لفظه وقصده، والله أعلم.
***
380 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا جُمُعَةً". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيفٌ.
قال المؤلف: رواه الدارقطني بإسناد ضعيف؛ وذلك لأنَّه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن بن راجح، قال أحمد: اضرب على أحاديثه؛ فإنَّها كذبٌ، أو موضوعة.
قال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يجوز أن يُحتج به.
وفي الباب أحاديث لا أصل لها، قال عبد الحق: لا يثبت في العدد حديث.
وقال البيهقي: هذا الحديث لا يحتج بمثله، وضعفه ابن الجوزي.
* مفردات الحديث:
- مضت السنة: أي: جرت ونفذت.
- فصاعدًا: يقال: بلغ العدد كذا فصاعدًا، يعني: فما فوقه فصاعدًا، منصوب على الحال، أو بنزع الخافض، فهو معطوف على لفظ "كل".
* مايؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على أن كل أربعين رجلاً، مقيمين بناءٍ مسماه واحد -فعليهم أن يقيموا صلاة الجمعة.
(1) الدارقطني (2/ 3).
2 -
مفهوم الحديث: أنَّهم إن نقصوا عن هذا العدد، فلا تقام فيهم الجمعة، بل يصلون ظهرًا.
3 -
الحديث ضعيف، ففيه عبدالعزيز بن راجح، وأحاديثه بين موضوعةٍ أو مكذوبةٍ، وقال البيهقي: هذا حديث لا يحتج به، ثم لو صحَّ، فليس فيه حجة.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: هذا ساقط لا يحتج به، ولذا اختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في العدد الذي به تنعقد الجمعة وتجب.
فذهب الإمامان: الشافعي وأحمد إلى: أنَّها لا تقام إلَاّ باربعين رجلاً فأكثر؛ لما روى البيهقي (3/ 180) عن ابن مسعود: "أنَّه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة، وكانوا أربعين رجلاً"، ولم يثبت أنَّه صلَّى بأقلَّ من أربعين، ولحديث الباب، وكلاهما لا تقوم به حجة.
وذهب المالكية: إلى أنَّ العدد المعتبر لإقامة صلاة الجمعة هو اثنا عشر رجلاً؛ لما روى مسلم (863) عن جابر في قصة العير القادمة، فانفضَّ الناس إليها حتى لم يبق معه إلَاّ اثنا عشر رجلاً، وهذه قضية لا تدل على العدد المذكور، وإنما هي اتفاق وصدفة لا تعتبر دليلاً قويًّا، ولكن الحديث يرد على مذهب الشافعية والحنابلة، فليس عندهم عليه جواب صحيح.
وذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن إلى: أنَّ أقلَّ الجمع في الجمعة ثلاثة رجال، سوى الإمام؛ لأنَّ الثلاثة هم أقل الجمع الصحيح، والجمعة مشقة من التجمع.
واختار جماعة منهم القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، وشيخ الإسلام، وابن القيم، إلى-: أنَّها تنعقد بثلاثةٍ: إمام ومستمعين اثنين، وهذا
نص الإمام أحمد.
قال علماء الدعوة: هذا القول أقوى، ففي الحديث الصحيح:"إذا كانوا ثلاثة، فيؤمهم أحدهم"[رواه مسلم (672)]، وهو عامٌّ في الصلوات كلها، الجمعة والجماعة.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: ما سوى هذا القول يحتاج إلى برهان، ولا برهان يخرجه عن هذا العموم.
قال الحافظ ابن حجر: لا يصح في عدد الجمعة شيء، ووردت أحاديث تدل على الاكتفاء بأقل من أربعين.
وقال عبد الحق: لا يثبت في العدد حديث.
وحكى النووي وغيره إجماع الأمة على اشتراط العدد، وأنَّها لا تصح من منفرد، وأنَّ الجماعة شرط لصحتها.
والقول الراجح في العدد: أنَّهم إمام واثنان يستمعان، كما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
***
381 -
وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ كُلَّ جُمُعَةٍ". رَوَاهُ البَزَّارُ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيفٌ جدًا.
قال المؤلف: رواه البزار، ولا نعلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلَاّ بهذا الإسناد الذي فيه يوسف بن خالد السَّمْتي، وهو ضعيف جدًّا.
وقال في"التقريب": تركوه، وكذَّبه ابن معين.
…
(1) البزار (1/ 307).
382 -
وَعَنْ جَابرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي الخُطْبَةِ يَقْرَأُ آيَاتٍ مِنَ القُرْآنِ، يُذَكِّرُ النَّاسَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
وهو في مسلم والسنن عن جابر بن سمرة؛ بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائمًا، ويجلس بين الخطبتين، ويقرأ آيات يذكر الناس".
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
تقدم حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إنَّ في الجمعة ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ يسأل الله عز وجل شيئًا إلَاّ أعطاه"، وتقدم في صحيح مسلم:"أنَّها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة" هذه الساعة هي وقت قيام الإمام لخطبة الجمعة.
2 -
يضاف إلى حصول هذه الساعة الفاضلة الجمع الكبير، يدعو بهم الإمام، وهو يؤمِّنون على دعائه، فينبغي اغتنام هذه النفحة المباركة بوجود هذا الجمع العظيم؛ بأن يدعو الإمام بالأمور الهامة، التي منها:
الدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات؛ فإنَّ هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل جمعة، وعلى المأموم التأمين، فتأمينه كدعائه.
3 -
بعض العلماء يرى وجوب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الخطبة، وبعضهم يري استحباب ذلك، لا وجوبه، وهذا هو الصحيح لأمرين:
(1) أبو داود (1101)، مسلم (866).
الأول: أنَّ الحديث فيه ضعف.
الثاني: أنَّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على الوجوب، وإنما إن كان عبادة، دلَّت على الاستحباب، وإن كان عادة، دلَّت على الإباحة.
4 -
أن يدعو للمسلمين بالنصر، والتأييد، والعز، والتمكين، وقهر الأعداء.
5 -
أن يدعو لإعلاء كلمة الله، ونشر دينه، وتحكيم كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
6 -
أن يدعو لأئمة المسلمين بالتوفيق والتسديد، وتأليف قلوبهم، وجمع كلمتهم على الحق، وعلى نصر دين الله، وأن يرزقهم البطانة الصالحة، ويجنبهم بطانة السوء.
7 -
أن يحرص على الدعوات العامة الجامعة، وإذا كانت من الأدعية المأثورة، فهي أفضل في ساعات الإجابة، والأوقات الفاضلة، لاسيَّما في الأماكن الفاضلة؛ فإنَّها تغتنم ولا تُفَوَّت، فمن فوَّتها فهو المحروم، رزقنا الله جميعًا الاستعداد.
8 -
أما الحديث رقم (382): ففيه استحباب تذكير الناس في الخطبة بآيات من كتاب الله، فقد قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص]، وتقدم أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة {ق} ؛ لما فيها من المواعظ والزواجر، والتذكير بالموت، والجزاء بالنعيم المقيم، أو العذاب الأليم، فالقرآن نِعم المعلم المهذب والموجه، قال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)} [الإسراء].
9 -
ينبغي أن تكون الآيات التي يقرؤها الخطيب في الخطبة آيات تناسب موضوع الخطبة، وتكون دليلاً على ما قال وتأييدًا لخطبته، ولتكون خطبته تفسيرًا لها، ومشيرًا إلى معانيها، ولئلا يشتت على المستمعين أذهانهم باختلاف مواضيع الخطبة.
* فائدة:
إذا أُفْرِدَ الإسلام في النصوص الشرعية شمل الإيمان، وإذا أُفرد الإيمان شمل الإسلام، أما إذا اجتمعا في نص واحد؛ فالإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان أعمال القلوب؛ من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر؛ وذلك مصرحٌ به في حديث عمر، حينما جاءهم جبريل، يعلِّمهم دينهم.
***
383 -
وَعَنْ طَارِقٍ بنِ شِهَابٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ، إلَاّ أرْبَعَةً: مَمْلُوكٌ، وَامْرَأَةٌ، وَصَبِيٌّ، وَمَرِيْضٌ". روَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْ طَارِقٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْرَجَهُ الحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ طَارِقٍ المَذْكُورِ عَنْ أَبِي مُوَسَى (1).
ــ
* درجة الحديث:
قال في "التلخيص": رواه أبو داود من حديث طارق بن شهاب، ورواه الحاكم من حديث طارق هذا، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصحَّحه غير واحد.
قال النووي: قول أبي داود "إنَّ طارقًا رأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئًا" -غير قادح في صحته؛ فإنَّه يكون مرسل صحابي، وهو حجة، والحديث على شرط الشيخين، وله شواهد.
* مفردات الحديث:
- حقٌ واجبٌ: الحق الواجب هو الثابت فرضه بالكتاب والسنة.
- إلَاّ أربعة: "إلَاّ" بمعنى "غير"، ومحلها النصب على الاستثناء، لأنَّ "إلَاّ" قائمة مقام المستثنى، وهو كلام تام مثبت، واجب النصب، وما بعده مجرور بالإضافة.
- مملوك: المراد به: الرقيق.
- الصبي: مَنْ دون البلوغ من الذكور.
(1) أبو داود (1067)، الحاكم (1/ 288).
384 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى مُسَافِرٍ جُمُعَةٌ" رَوَاهُ الطَّبَرانِيُّ بإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيفٌ، تقوَّى بشواهده، قال المؤلَّف: رواه الطبراني بإسناد ضعيفٍ؛ لأن في إسناده: عبد الله بن نافع، ضعَّفه جماعة.
وقال الألباني: وفي الباب أحاديث أُخر، يقوى بها الحديث.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
يدل على أن الجمعة لا تجب على أربعة أصناف، هم:
(أ) العبد المملوك: قالوا: الحكمة في عدم وجوبها عليه؛ أنَّه محبوس على أعمال سيده، وهو تعليل غير جيد؛ لأنَّ حق الله تعالى أولى، وهو داخل تحت النداء في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} [الجمعة: 9]، وحق الله أوجب من حق سيده عليه؛ فتكون الصلاة عليه واجبة، كما اختاره شيخنا عبد الرحمن السعدي.
(ب) المريض: سقطت عنه؛ لعذر المرض، لأنَّه معذور بعدم استطاعته عليها، ولا يُكلِّفُ الله نفسًا إلَاّ وسعها.
(ج) المرأة: لأنَّ المرأة ليست من أهل حضور مجامع الرجال، قال ابن المنذر وغيره: أجمعوا على أنَّه لا جمعة على النساء، وأجمعوا على أنَّهنَّ إذا حضرن فصلين الجمعة، أنَّ ذلك يجزىء عنهن.
(د) الصبي: لأنَّه غير مكلَّف.
(1) الطبراني في الأوسط (1/ 249).
أما الحديث رقم: (384): فيدل على أن صلاة الجمعة لا تجب على المسافر، ولا تشرع في حقه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج والجهاد، فلم يصلِّ أحد منهم الجمعة في السفر، مع اجتماع الخلق الكثير.
وإذا سمع المسافر النداء لصلاة الجمعة، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه إن كان يجب عليه إتمام الصلاة، ولا يصح منه القصر -وذلك حينما لا يرون سفره سفر قصر- فإنَّها تلزمه الجمعة بغيره وإلَاّ فإنَّها لا تلزمه لا بنفسه ولا بغيره.
قال في "الإقناع" وغيره: ولا جمعة بمنى وعرفة، نص عليه الإمام أحمد؛ لأنَّه لم ينقل فعلها فيهما.
هؤلاء الخمسة الذين لا تجب عليهم الجمعة، بعضهم سقطت عنه؛ لفقد شرط الوجوب، وهما المرأة والصبي، فإنَّها لا تجب على امرأة؛ لأنَّها ليست. من أهل الجُمَع والجماعات، وبعضهم سقطت عنه؛ لوجود المانع في وجوبها، وهم العبد المحبوس على عمل سيده، والمريض الذي يشق عليه الذهاب إليها، والمسافر الذي هو مظنة المشقة، إلَاّ أنَّهم جميعًا إذا صلوا الجمعة صحَّت منهم، وأجزأت عنهم، لأنَّ سقوطها تخفيفًا.
2 -
قال في "شرح المنتهى": وحرم سفر من تلزمه الجمعة في يومها بعد الزوال، حتى يصلي؛ لاستقرارها في ذمته بدخول وقتها، ويكره السفر قبل الزوال، ولا يحرم؛ لأنَّها لا تجب إلَاّ بالزوال وما قبله وقت رخصة، هذا إن لم يأت بالصلاة في طريقه، فإن أتى بها في طريقه، فلا يحرم بعد الزوال، ولا يكره قبله.
3 -
لا تجب الجمعة، إلَاّ على مستوطنين ببناء معتاد -ولو من قصب- لا يرحلون عنه شتاءً ولا صيفًا، فأما البادية أهل الظعن والحِل، الذين يسكنون
بالخيام، أو بيوت الشعر، ونحوها فلا تجب عليهم؛ لأنَّ العرب كانوا حول المدينة، وكانوا لا يصلون الجمعة، ولم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بها؛ لأنَّهم على هيئة المسافرين.
4 -
الأجير: تجب عليه الجمعة حتى عند من لا يوجبونها على العبد، ويقولون: إنَّ وقت الصلاة مستثنى من زمن الأجرة، ما لم يكن في حراسة ونحوها ويخشى على حراسته من الضياع، أو الاعتداء، أو الذهاب، فهذا عذر في ترك الجمعة والجماعة.
***
385 -
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَوى عَلَى المِنْبَرِ، استَقْبَلنَاهُ بِوُجُوهِنَا". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بإسْنَادٍ ضَعِيفٍ (1)، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَديثِ البَرَاءِ عِنْدَ ابنِ خُزَيْمَةَ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيفٌ.
قال المؤلف: رواه الترمذي بإسناد ضعيف؛ لأنَّ فيه: محمد بن الفضل ابن عطية، وهو ضعيف، بل قال أحمد: حديثه حديث أهل الكذب، وقد ضعفه به الدارقطني وابن عدي وغيرهما.
وقال المؤلف: وللحديث شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة، ولم نجده في المطبوع، ورواه البيهقي (3/ 198).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعية الخطبة على منجرٍ أو مِنْ وَضْعٍ عالٍ، ليكون أبلغ في إسماع الحاضرين.
2 -
يستحب للحاضرين الاتجاه إلى الخطيب بوجوههم؛ وذلك بأن ينحرفوا إليه إذا شرع في الخطبة؛ لفعل الصحابة؛ لأنَّ هذا هو الذي تقتضيه آداب الاستماع، وهو أبلغ في الوعظ، قال النووي: وهو مجمع عليه.
وقال إمام الحرمين في سبب استقبالهم إياهم: إنَّه يخاطبهم، فلو
(1) الترمذي (509).
(2)
البيهقي (3/ 198).
استدبرهم، كان قبيحًا.
3 -
من فوائد استقبال الخطيب ونحوه، وإعطاؤه الوجه من المستمع-: أن ينشط الخطيب والواعظ ونحوهما على الكلام، إذا وجد له مصغيًا ومستفيدًا، كما أنَّه يتطابق النظر والتفكير، فتتساعد العين والقلب على استيعاب الفائدة؛ فيحصل كمال المقصود.
***
386 -
وَعَنِ الحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ رضي الله عنه قَالَ: "شَهِدْنَا الجُمُعَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ". رَوَاهُ أَبُو دَوُادَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال في "التلخيص": رواه أبو داود من حديث الحكم بن حزن الكُلفِي، وإسناده حسن، وفيه شهاب بن خراش، وقد اختلف فيه، والأكثر وثَّقوه، وقد صحَّحه ابن السكن وابن خزيمة (2/ 352).
وله شاهد من حديث البراء بن عازب عند أبي داود، صححه ابن السكن.
وفي الباب عن ابن عباس وابن الزبير رواهما أبو الشيخ وابن حيان.
* مفردات الحديث:
- متوكئًا: أي: مستندًا، أو معتمدًا على قوسٍ أو عصا.
- قوس: -بفتح القاف المثناة فسكون الواو فسين مهملة- هي سلاح قديم على هيئة هلال، تُرمى بها السهام، تذكَّر وتؤنَّث، جمعها:" أقواس وقسي".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّه يندب للخطيب أن يخطب متوكئًا على قوسٍ أو عصًا.
2 -
الحكمة في ذلك -والله أعلم-: أن ذلك أربط لقلب الخطيب، وأثبت لقيامه، وأبعد له عن العبث بيديه، وهي عادة عربية عند الخطباء، تُشعر بالقوة والعزة للخطيب، وتُدخل الانقياد والإذعان لسامعيه.
(1) أبو داود (1096).
3 -
قال بعضهم: يستحب للخطيب حمل السيف؛ إشعارًا بأن الإسلام إنَّما فتح به، وردَّ ذلك ابن القيم فقال: لم يُحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اتخاذ المنبر؛ أنَّه كان يرقاه بسيفٍ ولا قوسٍ ولا غيره، ولو كان ذلك سنة، ما تركه بعد اتخاذه المنبر، كما لم يحفظ عنه أنَّه اتَّخذ سيفًا قبل اتخاذ المنبر، وإنَّما كان يعتمد على قوسٍ أو عصًا، وما يظنه الجهال أنَّه كان يعتمد على السيف إشارة إلى أنَّ الدين قام به، من فرط جهلهم، فالدين إنما قام بالوحي والقرآن.
وتقدم مثل هذا الكلام.
***