الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صلاة المسافر والمريض
مقدِّمة
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": خصَّ تبارك وتعالى المسافر في سفره بالترفه، فخصَّه بالفطر والقصر، وهذا من حِكْمة الشارع؛ فإنَّ السفر في نفسه قطعة من العذاب، وهو في نفسه مشقة وجهد، ولو كان المسافر من أرفه الناس، فإنَّه في مشقة وجهد بجسمه، فكان من رحمة الله بعباده وبِرِّه بهم أن خفَّف عنهم شطر الصلاة، واكتفى منهم بالشطر.
فلم يفوِّت عليهم مصلحة العبادة بإسقاطها في السفر جملة، ولم يُلزم بها في السفر كإلزامه بها في الحضر، وأما الإقامة فلا موجب لإساقط الواجب فيها، ولا تأخيره، وما يعرض فيها من المشقة والشغل فأمرٌ لا ينضبط ولا ينحصر، فلو جوِّز لكل مشغول، وكل مشقوق عليه، الترخيص -ضاع واضمحل بالكلية، وإن جوِّز للبعض لم ينضبط، فإنه لا وصف يضبط ما تجوز معه الرخصة، وما لا تجوز، بخلاف السفر.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: من قواعد الشريعة: "أنَّ المشقة تجلب التيسير"، ولما كان السفر قطعة من العذاب، يمنع العبد نومه، وراحته وقراره، رتَّب الشارع عليه ما رتَّب من الرخص، وحتى لو فرض خلوه عن المشقات؛ لأنَّ الأحكام تتعلَّق بعللها التامة، وإن تخلفت في بعض الصور والأفراد.
فالحكم الفرد يلحق بالأعم، ولا يفرد بالحكم، وهذا هو معنى قول الفقهاء:"النادر لا حكم له"، يعني: لا ينقض القاعدة، ولا يخالف حكمها، فهذا أصل يجب اعتباره.
وجاء التخفيف في أداء الواجبات عن المريض، في الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة؛ قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وقال تعالي:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وجاء في البخاري وغيره من حديث عمران بن حصين؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطيع فعلى جنب"
قال ابن المنذر: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم أنَّ للمريض أن يتخلف عن الجماعات من أجل المرض.
وقال النووي: أجمعت الأمة أنَّ من عجز عن القيام في الفريضة، صلاها قاعدًا، ولا إعادة عليه، ولا ينْقُصُ من ثوابه للخبر.
قال في "الروض والحاشية": ولا ينقص أجر المريض إذا صلَّى، عن أجر الصحيح المصلي؛ لحديث أبي موسى:"إذا مرض العبد أو سافر، كُتبَ له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا"[رواه البخاري (2996)].
وقال الشيخ تقي الدين: من نوى الخير وفعل ما قدر عليه، كان له كأجر الفاعل. واحتج بحديث أبي كبشة وغيره.
واختلف العلماء: متى تسقط الصلاة عن المريض؟
فمذهب أحمد كما قال عنه في "الروض": لا تسقط الصلاة ما دام العقل ثابتًا؛ لقدرته على الإيماء بطَرْفه مع النيَّة بقلبه؛ لعموم أدلة وجوبها. والرواية الأخرى عن الإِمام سقوطها.
قال الشيخ في "الاختيارات": متى عجز المريض عن الإيماء برأسه، سقطت عنه الصلاة، ولا يلزمه الإيماء بطرفه، وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أما صلاة المريض بطرْفه وقلبه، فلم تثبت، ومفهوم الحديث يدل على أنَّ صلاته على جنبه مع الإيماء هي آخر المراتب الواجبة، والمذهب أحوط.
* قرار مجمع الفقه الإِسلامي بشأن الأخذ بالرخصة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (74/ 1/ د 8)؛ بشأن: الأخذ بالرخصة وحكمه
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من (1 - 7 محرم 1414 هـ، الموافق: 21 - 27 يونيو 1993 م).
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "الأخذ بالرخصة وحكمه".
وبعد استماعه إلا المناقشات التي دارت حوله -قرر ما يلي:
1 -
الرخصة الشرعية هي ما شرع من الأحكام لعذر، تخفيفًا عن المكلفين، مع قيام السبب الموجب للحكم الأصلي.
ولا خلاف في مشروعية الأخذ بالرخص الشرعية إذا وجدت أسبابها، بشرط التحقق من دواعيها، والاقتصار على مواضعها، مع مراعاة الضوابط الشرعية المقررة للأخذ بها.
2 -
المراد بالرخص الفقهية ما جاء من الاجتهادات المذهبية، مبيحًا لأمرٍ، في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره، والأخذ برخص الفقهاء، بمعنى: اتباع ما هو أخف من أقوالهم، جائز شرعًا بالضوابط الآتية في "البند 4".
3 -
الرخص في القضايا العامة تعامل معاملة المسائل الفقهية الأصلية، إذا كانت
محققة لمصلحةٍ معتبرةٍ شرعًا، وصادرةً عن اجتهاد جماعي ممن تتوافر فيهم أهلية الاختيار، ويتصفون بالتقوى والأمانة العلمية.
4 -
لا يجوز الأخذ برخص المذاهب الفقهية لمجرد الهوى؛ لأنَّ ذلك يؤدي إلى التحلل من التكليف، وإنما يجوز الأخذ بالرخص بمراعاة الضوابط التالية:
(1)
أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعًا، ولم توصف بأنَّها من شواذِّ الأقوال.
(ب) أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة؛ دفعًا للمشقة، سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع، أم خاصة، أم فردية.
(ج) أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك.
(د) ألَاّ يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع، الآتي بيانه في "البند 6".
(هـ) ألَاّ يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع.
(و) أن تطمئن نفس المترخص للأخذ بالرخصة.
5 -
حقيقة التلفيق في تقليد المذاهب، هي أن يأتي المقلد في مسألةٍ واحدةٍ، ذات فرعين مترابطين فأكثر، بكيفية لا يقول بها مجتهد، ممن قلدهم في تلك المسألة.
6 -
يكون التلفيق ممنوعًا في الأحوال التالية:
(أ) إذا أدى إلى الأخذ بالرخص لمجرد الهوى، أو الإخلال بأحد الضوابط المبينة في مسألة الأخذ بالرخص.
(ب) إذا أدى إلى نقض حكم القضاء.
(ج) إذا أدى إلى نقض ما عمل به تقليدًا في واقعة واحدة.
(د) إذا أدى إلى مخالفة الإجماع، أو ما يستلزمه.
(هـ) إذا أدى إلى حالة مركبة، لا يُقِرَّها أحد من المجتهدين، والله أعلم.
347 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "أوَّلُ مَا فرِضَتِ الصَّلَاهُّ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاة السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلَاة الحَضَرِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وللبُخَارِيِّ: "ثُمَّ هَاجَرَ، فَفُرِضَتْ أرْبَعًا، وَأُقِرَّتْ صَلَاة السَّفَرِ عَلَى الأَوَّلِ".
وزاد أحمد: "إلَاّ المَغْرِبَ؛ فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ، وإلَاّ الصُّبْحَ؛ فَإِنَّهَا تُطَوَّلُ فِيْهَا القِرَاءَة"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- فرضت: الفرض في اللغة: الواجب، والمعنى: أوجبها الله على المكلفين من عباده.
- الصلاة: أي: الصلاة الرباعية.
- أُتِمَّت صلاة الحضر: أي: زيد فيها حتى صارت أربعًا، فالزيادة في عدد الركعات.
- أُقرَّت: قال ابن فارس: "قرَّ" أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تمكن، وهو المراد هنا.
يقال: قرَّ واستقرَّ، وقال في "المحيط": أقرَّه في المكان: ثبته.
قلتُ: ومنه: أقرَّت صلاة السفر، بإبقائها ركعتين.
- أول: مرفوع على أنَّه مبتدأ، وخبره "ركعتان" على إحدى الروايتين في
(1) البخاري (1090، 3935)، مسلم (685)، أحمد (25511).
الحديث، ويجوز نصب "ركعتين" على أنَّها حالٌ، سدَّ مسد الخبر.
- أُتِمَّت: بالبناء للمجهول، وفي بعض الروايات:"وزيد في صلاة الحضر"، وهو أوضح من "أتمت"؛ والمعنى: زيد فيها حتى صارت أربعًا، فالزيادة في عدد الركعات.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
من عظم هذه الصلوات الخمس أنَّ الله تعالى فرضها على نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم في السماء، وأنَّ فرضها من الله تعالى مشافهة للنبي صلى الله عليه وسلم، بلا واسطة، وذلك ليلة الإسراء والمعراج حينما عُرج به صلى الله عليه وسلم إلى السموات وما فوقهن، وأنَّها فرضت خمسين في اليوم والليلة، فخففت إلى خمس، ولكن بقي ثواب الخمسين في الخمس، فلم ينقص إلَاّ العدد.
2 -
أوَّل ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، واستمرَّت مدة بقائه عليه الصلاة والسلام بمكة، فلما هاجر زِيدَ في صلاة الظهر، والعصر، والعشاء، ركعتين ركعتين، حتى صِرن رباعيات، أما المغرب فقد فرضت ثلاثًا، وبقيت على ما فرضت عليه؛ لتكون وتر النهار، وأمَّا الفجر فبقيت ركعتين، وذلك لطول القراءة فيها، فكان من الأولى ألا يزاد فيها ركعتين، هذا في الحضر، وعلى هذا فتسميته قصرًا هو أمر نسبي، لا حقيقي؛ لأنَّه لم يحصل قصر في الصلاة وإنما حصل زيادة في صلاة الحضر، وإبقاء لصلاة السفر على حالها، كما فرضت.
3 -
قوله: "أول ما فرضت" الفرض في الشرع: هو ما أُمر به على وجه الإلزام به، وهو والواجبُ مترادفان، وهو مذهب الإِمام أحمد وغيره، وذهب الحنفية إلى أنَّ الفرض: ما وجب بدليل قطعي، وأما الواجب: فهو ما ثبت بدليل ظني، فهو أخف إلزامًا من الفرض، والصحيح هو القول الأول؛ من أنَّ الواجب والفرض بمعنًى واحدٍ، والله أعلم.
4 -
أما في السفر فإنَّ الرباعيات الثلاث أبقين على عددهن الأول: ركعتين ركعتين، فهن المقصورات من أربع ركعات إلى ركعتين، أما المغرب فأُبقيت ثلاثًا، ولم تقصر؛ لأنَّها وتر النهار، فإذا سقط منها ركعة بطل كونها وترًا، وإن سقط منها ركعتان بقيت ركعة واحدة، ولا نظير له، وأما الصبح فهي ركعتان، ولو قصرت على واحدة بقيت ركعة واحدة، ولا نظير له، فالمغرب والصبح لا يقصران إجماعًا.
5 -
القصر رحمة من الله تعالى بعباده؛ فإنَّ المسافر يلحقه مشقةٌ وتعبٌ، ونصبٌ، فمن لطف الله تعالى بعبده أن خفَّف عنه شطر الصلاة، واكتفى منه بالشطر الثاني؛ لئلا تفوت عليه مصلحة العبادة، فينقطع عن ربه ومناجاته.
6 -
أنَّ الحديث يدل على أنَّ الركعتين هما فرض السفر، ما دام أنَّ صلاة السفر باقية، وأما الحضر فطرأ عليها الزيادة، فهذا يؤكِّد على المسافر ألا يصلي في السفر إلَاّ قصرًا؛ خشيةَ من بطلان صلاته بالزيادة ما دامت الزيادة ليست أصلية في الصلاة، ولعلَّ هذا من حجة الذين أوجبوا القصر في السفر، ومنهم الظاهرية والحنفية، ونقل عن الإِمام أحمد أنَّه توقف في صحة صلاة من صلَّى أربعًا، وبهذا يكون القصر مؤكَّد الاستحباب، وإذا تأكد استحبابه كُرِهَ تركه، ولكن الراجح أنَّها تسمى مقصورة؛ لتوافق قوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء، الآية: 101] وتوافق الأحاديث الواردة في الموضوع.
قال شيخ الإِسلام: الأصح أن الآية أفادت قصر الصلاة في العدد، والعمل جميعًا. قال شيخ الإِسلام: قصر الصلاة المكتوبة الرباعية إلى ركعتين: مشروع بالكتاب، والسنة، وجائز بإجماع أهل العلم، منقولٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتواتر، وأظهر الأقوال قول من يقول: إنَّ القصر سنة، وإنَّ الإتمام مكروه.
وقال ابن القيم: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه أتمَّ الرباعية في السفر البتة.
وقال الموفق: القصر أفضل من الإتمام، في قول جمهور العلماء.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في القصر؛ أهو عزيمة، أم رخصة؟
ذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّه يستحب قصرها؛ لقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء، الآية: 101] فنفي الجُناح يفيد أنَّه رخصة، وليس عزيمة، والأصل الإتمام.
وذهب أبو حنيفة إلى: أنه واجب، ونصره ابن حزم، فقال: إنَّ فرض المسافر ركعتان؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم داوم عليه، ولما في الصحيحين عن عائشة:"فُرضت الصلاة ركعتين، فأقرَّت صلاة السفر، وأُتِمَّت صلاة الحضر".
وأجاب الجمهور عن الحديث بأجوبة: أحسنها: أنَّ هذا من كلام عائشة، ولم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال محرره: الأولى للمسافر ألا يدع القصر؛ اتباعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وخروجًا من خلاف من أوجبه بحجة قوية، ولأنَّ القصر أفضل إجماعًا.
***
348 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ، وَيُتِمُّ، وَيَصُومُ، وَيُفْطِرُ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرُواتهُ ثِقَاتٌ، إِلَاّ أَنَّهُ مَعْلُولٌ، وَالمَحْفُوظُ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ فِعْلِهَا، وَقَالَتْ:"إِنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ". أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف، قال ابن القيم: هذا الحديث لا يصح، وسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول صلى الله عليه وسلم، وأنكره الإِمام أحمد.
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير": فيه اختلاف في اتصاله، واختلف قول الدارقطني فيه، فقال في "السنن": إسناده حسن، وقال في "العلل": المرسل أشبه.
وقد ثبت في الصحيحين خلاف ذلك، وينظر "نصب الراية"(2/ 192).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة الرباعية، ويتمها أربعًا، وأنه كان يصوم رمضان وهو مسافر، وكان يفطر، فهما رخصتان، تارةً يأخذ بهما، وتارةً لا يأخذ بهما.
2 -
الرواية الثانية في الحديث: أنَّ عائشة هي التي كانت تفعل ذلك، فهي تترخص تارةً، وتتوك الرخصة تارةً أخرى، وأنَّها تعلل ذلك؛ بأنَّه لا يشق عليها الصيام، ولا الصلاة أربعًا؛ حيث إنَّ سبب الرخص السفرية، هو المشقة غالبًا.
(1) الدارقطني (2/ 189)، البيهقي (3/ 141، 143).
3 -
الحديث هذا ضعيفٌ جدًّا، قال ابن القيم: سمعت شيخ الإِسلام يقول: هو كذبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزاد ما روي عن عائشة أنَّها اعتمرت معه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، ثم قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أتممتُ وقصَرْتُ، وأفطرتُ وصمت، فقال:"أحسنت يا عائشة".
وقال شيخنا ابن تيمية: هذا باطل، فما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميع أصحابه، فتصلي خلاف صلاتهم.
4 -
قال شيخ الإِسلام: المسلمون نقلوا بالتواتر، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يصل في السفر إلَاّ ركعتين، ولم ينقل عنه أحد أنَّه صلَّى أربعًا قط.
وقال ابن القيم: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتمَّ الرباعية في السفر ألبتة، وجاء في البخاري (1102)، ومسلم (689) من حديث ابن عمر، أنَّه قال:"صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر، كذلك".
قال الخطابي: مذاهب أكثر علماء السلف، وفقهاء الأمصار على أنَّ القصر هو المشروع في السفر، ولهذا كان المسلمون على جواز القصر في السفر، مختلفين في جواز الإتمام؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم داوم عليه، ولم ينقل عنه أحد أنه صلَّى أربعًا قط.
***
349 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كمَا يَكْرَهُ أنْ تُؤْتَى مَعْصِيتهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: "كمَا يُحِبُّ أنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ؛ فسنده على شرط مسلم، وله شواهد من حديث ابن عباسٍ، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأنس، وأبي الدرداء، وأبي أمامة.
1 -
حديث ابن عباس أخرجه ابن حبان وأبو نعيم (6/ 276) والشيرازي بلفظ: "إنَّ الله يحب أن تؤتى رُخصه، كما يحب أن تُؤتى عزائمه".
2 -
حديث ابن مسعود أخرجه الطبراني في "الكبير"(10/ 84).
3 -
حديث أبي هريرة أخرجه أبو نعيم.
4 -
حديث أنس أخرجه الطبراني في "الكبير"(8/ 153)، والدولابي بإسناد ضعيف، وله طريق آخر.
5 -
حديث أبي الدرداء أخرجه الطبراني في "الأوسط"(5/ 155)، قال الشيخ الألباني: وجملة القول: أنَّ الحديث صحيح بلَفْظَيه: "كما يكره أن تؤتى معصيته"، و"كما يحب أن تؤتى عزائمه".
* مفردات الحديث:
-تعالى: وصف من النبي صلى الله عليه وسلم لربه بالعلو، ومعناه: اتصافه جلَّ وعلا بالعلو، فهو عليٌّ بذاته، وَعَلِيٌّ بصفاته، عَلِيٌّ بقدْره، فالعلو ثابثٌ لله بالكتاب،
(1) أحمد (5832)، ابن خزيمة (3/ 259)، ابن حبان (2/ 69).
والسُّنَّة، والإجماع، والعقل، والفطرة، فله العلو بالذات، وله العلو بالصفات، وله العلو بالقدر، فهو الكبير المتعال، سبحانه.
- أن تُؤْتَى: بالبناء للمجهول.
- رُخَصُهُ: الرخصة لغة: اليسر والسهولة، وشرعًا: ما يثبت على خلاف دليل شرعيٍّ لمعارضٍ راجحٍ، و"رُخَصُه" مرفوعٌ؛ لنيابته عن الفاعل، وهو بضم الراء وفتح الخاء، جمع "رخصة".
- عزائمه: جمع: "عزيمة". والعزيمة لغة: القصد المؤكد، وشرعًا: حكم ثابت بدليل شرعيٍّ خال عن معارضٍ راجحٍ، والرخصة والعزيمة وصفان للحكم الوضعي.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الرخصة شرعًا: هي ما ثبت على خلاف دليل شرعيٍّ لمعارض راجح، وهي تيسيرٌ وتسهيلٌ من الله تعالى على عباده، وسهَّل بعضهم تعريف الرخصة بأنها: إسقاط الواجبب؛ كالصوم في السفر، أو إباحة المحرم؛ كأكل الميتة للمضطر.
2 -
في الحديث إثبات الرخصة في الشريعة الإِسلامية، ولكن الرخصة لا يمكن أن ترِد إلَاّ بسبب، وإلَاّ كان الشرع متناقضًا.
3 -
الله تعالى من كرمه يحب من عباده أن يترخصوا فيما سهَّله عليهم، ويسَّره لهم، فيتمتعوا به، ويفعلوه لمِنَّتِهِ عليهم، ورحمته بهم.
4 -
من تلك الرخص الإلهية، والسنن الربانية رُخص السفر في عبادته، فقد أباح لهم قصر الصلاة، وأباح لهم جمع الصلاتين في وقت إحداهما، وأباح لهم الفطر في نهار رمضان، وأباح المسح على الخفين ثلاثة أيام، كل ذلك ترخيصٌ وتسهيلٌ من الله تعالى على عباده.
5 -
فيه إثبات صفة المحبة لله تعالى إثباتاً حقيقيًا، يليق بجلاله وعظمته، لا تكييف، ولا تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، وإنما هي صفة من صفاته العُلَيا، تليق بكماله وجماله، أما المُؤَوِّلةُ من الأشاعرة والماتريدية، فهم يفسرون المحبة بأنَّها إرادة الإنعام والثواب، ولا يثبتون لله صفة محبةٍ حقيقيةٍ؛ لأنَّهم يفسرون المحبة: بأنَّها ميل إلى ما فيه جلب منفعةٍ أو دفع مضرةٍ، والله منزَّه عن هذا، وهذا تفسيرٌ للمحبة بلازمها عند المخلوق، أما الله عز وجل فإنه يحب الشيء لكمال وجوده، لا لأن ينتفع بهذا الشيء، ومُؤَوِّلة صفات الله جمعوا بين التشبيه والتعطيل، فهم تصوروا صفات الله بصفات المخلوق، وهذا تشبيهٌ منهم، ثم هربوا من هذا التشبيه إلى تعطيل صفات الله تعالى.
أما أهل السنة: فوفقهم الله فأثبتوا لله حقيقة الصفة، ووكلوا علم كيفيتها إليه تعالى، فَسَلِمُوا من التشبيه والتعطيل ولله الحمد.
6 -
أما العزيمة فهي؛ الحكم الثابت بدليل شرعيٍّ خالي من معارضي راجعٍ، وهذه هي أحكام الله تعالى التي كلف بها عباده؛ ليعبدوه بفعلها، ويتقرَّبوا إليه بالإخلاص فيها، والعزائم واجبات ومحرمات، فالواجبات: عزائم من الله تعالى لفعلها، والمحرمات: عزائم من الله تعالى لتركها.
7 -
القيام بأحكام الله تعالى؛ سواء كانت رخصة أو عزيمةً، أجرها وفضلها متساويان، الجميع طاعةٌ لله تعالى، وامتثالٌ لشرعه.
ولمّا عظمت المنة في الرخصة، ساوت العزيمة في المحبة عند الله تعالى.
***
350 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا خَرَجَ مَسِيْرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ فَرَاسِخَ صلَّى رَكْعَتَيْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أميال أو فراسخ: شكٌّ من الراوي "شعبة بن الحجاج"، وليس بيانًا لمختلف الأحوال.
- أميال: واحد "ميل"، والميل: هو "1600 متر" تقريباً.
- فراسخ: واحده "فرسخ "، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل والفرسخ فارسيٌّ مُعَرَّبٌ.
- صلى ركعتين: يعني قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، وهنَّ صلوات الظهر، والعصر، والعشاء.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بلد إقامته -المدينة المنورة- مسيرة ثلاثةِ أميالٍ، أو فراسخ قصر الصلاة الرباعية، فصلاها ركعتين.
2 -
اعتبار أنَّ هذه المسافة تباح فيها رُخص السفر، من الجمع والقصر وغيرها، ولكنه لا يفهم من الحديث أنَّها أقل مسافة للقصر، وإنما يرجع هذا لأدلة أخر.
3 -
قوله: "إذا خرج" يعني: إذا قصد بخروجه هذه المسافة، لا أنَّه لا يقصر في سفره حتى يبلغ هذه المسافة.
4 -
الفرسخ ثلاثة أميال، والميل "1600 متر"، وقول الراوي: "أميال أو
(1) مسلم (691).
فراسخ" شكٌّ من الراوي وليس التخيير في أصل الحديث.
5 -
قال في "الروض وحاشيته": إذا فارق عامر قريته قصر؛ وفاقًا للأئمة الثلاثة، وجماهير العلماء من الصحابة ومن بعدهم، وحكاه ابن المنذر إجماعًا؛ لأنَّ الله أباح القصر لمن ضرب في الأرض، وقبْلَ المفارقة لا يكون ضاربًا فيها، ولا مسافرًا، ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يقصر إذا ارتحل.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في تقدير المسافة التي تقصر فيها الصلاة، ويباح فيها الرخص السفرية:
فذهب أبو حنيفة إلى: أنَّ أقلَّ مسافة تقصر فيها الصلاة هي مسيرة ثلاثة أيام، وتقدر بثلاث مراحل لسير الإبل المحمَّلة، ولا يصح بأقل من هذه المسافة.
وذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّ أقلَّ مسافة للقصر، هي مرحلتان لسير الإبل المحملة أيضًا.
وتقدر المسافة بأربعة بُرد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، فتكون على وجه التقريب حوالي (77) كيلومتر، وتباح رخص السفر، ولو قطع هذه المسافة في ساعةٍ واحدةٍ، كما لو قطعها بسيارةٍ أو طيارةٍ، أو غير ذلك.
وذهب كثير من محققي العلماء إلى: أنَّه لا يوجد دليلٌ صريحٌ صحيحٌ على تحديد مسافة القصر، بل المشرع العظيم أباح رخص السفر، ولم يحدده، لا بمدة، ولا بمسافة، فكل ما عُدَّ سفرًا، أبيحتْ فيه الرخص.
قال في "المغني": تواترت الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر في أسفاره، حاجًّا، أو معتمرًا، أو غازيًا، وكان لا يزيد على ركعتين، وأجمع أهل العلم على أنَّ من سافر سفرًا تقصر في مثله الصلاة، أنَّ له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين.
وذهب أبو عبد الله: إلى أنَّ القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخًا، والفرسخ ثلاثة أميال، فيكون ثمانية وأربعين ميلاً، وذلك مسيرة يومين قاصدين، وقد روي عن ابن عباسٍ، وابن عمر خلاف ما احتج به أصحابنا، وإذا لم تثبت أقوالهم، امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكره؛ لوجهين:
أحدهما: أنَّه مخالفٌ للسُّنَّة، ولظاهر القرآن، الذي أباح القصر لمن ضرب في الأرض، فظاهر الآية متناول لكل ضرب في الأرض.
الثاني: أنَّ التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر.
وقال شيخ الإِسلام: الفرق بين السفر الطويل والقصير لا أصل له في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها مطلقًا، فالمرجع في السفر إلى العُرف، فما كان سفرًا في عُرف الناس فهو السفر، الذي علَّق به الشارع الحكيم.
وقال ابن القيم في "الهدي": لم يحدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته مسافةً محدودةً للقصر والفطر، بل أطلق لهم في مطلق السفر، والضرب في الأرض.
وهذا ما اختاره كثير من محققي علماء السلفية في "نجد".
أما الشيخ محمد بن بدير فقال: إنَّ الحكم إذا خلا من ضابطٍ يضبطه، كان عرضةً للتلاعب، والخضوع للهوى، وإن الفقهاء نظروا فوجدوا أنه ليست كل مسافةٍ معتبرة لاستباحة الرخص، فوجب وصف السفر الذي تستباح به الرخص، حتى لا يتعرض المكلفون لإشكالاتٍ، أو تهاونٍ بسبب سحب الرخص على غير ما أبيحت له.
فقد ورد في الصحيح: أنَّ بعض الصحابة كان يحافظ على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وهم من أقصى العوالي، وهي على أربعة أميال، وطبعًا لم تكن لهم رخصة القصر، ولا الفطر.
وورد في الصحيح أنَّ أهل الصفة كانوا يحتطبون فيبيعون الحطب؛ ليطعموا به الفقراء، ومسافة الاحتطاب قد تزيد على الوارد في حديث أنس هذا.
والذي يمكن حمله على بداية القصر لا غاية أو نهاية السفر، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف السفر وقدَّره بحدٍّ في موضعٍ آخر، وهو وجوب المحرم للمرأة، والذي يدل بمفهومه على أنَّ ما كان أقل منه فهو معتبر، فالسفر الذي تعلق بآراء متباينة لا تجتمع على ماهية معلوم، كما قيَّد العلماء كل رقبة في الكفارات بالمؤمنة، التي وردت في قتل الخطأ، فهذه مثلها، ومهما أمكن اتباع علمائنا وأئمتنا فهو العصمة، وإنَّ جمهورهم على هذا، وإنهم قد استفرغوا وُسعَهم في تحري رضا الله تعالى.
وإنه من الخطر أن نعوِّد الطلاب التجرؤ على مخالفة الأئمة، فإنه من جراء ذلك شردت جماعات بأسرها عن العبادة، لمَّا لم يُعَدّ لفقه الأئمة عندهم وزنٌ، والخير -والله- في أتباع أئمتنا، وهم بيَّنوا النصوص التي بنوا عليها هذه الأحكام، فليس اتباعهم في ذلك من اتباع الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم، وللكن يجب أن نربي أبناءنا وإخواننا على استعظام مخالفة السلف فيما اتَّفقوا عليه، وتحري أصح الأمور، وأسعدها بالدليل فيما لو اختلفوا فيه؛ بحيث لا نخرج عن اتفاقهم ولا عن خلافهم، فإذا اخترنا لا نختار إلَاّ من فقههم الذي وضحت حجته ولاح دليله، وليس كل خلافٍ معتبرًا حتى لا يقال: إنَّ فلانًا وفلانًا يقولون بعدم التحديد، والأولى الرجوع إلى أقوال الأئمة الجامعة المبنية على الاحتياط فيها والسداد، والله تعالى أعلم وأحكم.
***
351 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم منَ المَدِيْنَةِ إِلى مَكَّةَ، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعْنا إِلَى المَدِيْنَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).
352 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ".
وَفِي لَفْظٍ: "بمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لأِبَي دَوُادَ: "سَبْعَ عَشْرَةَ".
وفِي أُخْرَى: "خَمْسَ عَشْرَةَ"(2).
وَلَهُ عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ: "ثَمَانِيَ عَشْرَةَ"(3).
353 -
وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: "أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِيْنَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ". ورُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، إِلَاّ أَنَّه اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ (4).
ــ
* درجة الحديث:
أما روايات حديث ابن عباس: فقال البيهقي: أصح الروايات في ذلك رواية البخاري.
وأما حديث عمران: ففي سنده: علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
(1) البخاري (1081)، مسلم (693).
(2)
البخاري (1080)، أبو داود (1230، 1231).
(3)
أبو داود (1229).
(4)
أبو داود (1235).
وأما حديث جابر: فقد رواه الإِمام أحمد وأبو داود، وصححه ابن حزم.
وقال النووي: هو حديث صحيح الإسناد، على شرط البخاري ومسلم.
* مفردات الحديث:
- تبُوك: -بالفتح ثم الضم ثم واو ساكنة آخره كاف-: واقعة قرب الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية، بينها وبين المدينة المنورة (680) كيلو، مع طريق مسفلت يربط المملكة بالأردن، وهي الآن مدينة كبيرة فيها الدوائر الحكومية، والمرافق المختلفة، والأسواق العامرة، والمزارع المثمرة، فهي منطقة هامة من مناطق البلاد السعودية، أما غزوة النبي صلى الله عليه وسلم لتبوك ففي السنة التاسعة من الهجرة، ولم يلق حربًا.
* ما يؤخذ من الأحاديث: (351، 352، 353):
1 -
يدل الحديث رقم: (351) على استحباب قصر الصلاة الرباعية في السفر ركعتين ركعتين، وأنَّ هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
يدل على أنَّ الإنسان ولو مرَّ في بلد قد تزوج فيه، فإنه يعتبر نفسه مسافرًا، وهذا خلاف القول المشهور في مذهب الحنابلة، الذين قالوا: إنَّ من مرَّ مسافرًا ببلدٍ قد تزوج فيه أَتمَّ.
3 -
يدل على أنَّ المسافر يترخص من حين يخرج من بلده، ولو لم يجاوز ميلاً.
4 -
يدل على أنه يقصر حتى يعود إليها، ويدخل البلد.
5 -
ويدل على أنه يترخص ولو لم يجد به السير، فقد استقرَّ صلى الله عليه وسلم عشرة أيام، ومع هذا يقصر، فإنَّ الجدّ في السير ليس بموجب معتبر في السفر، حتى تناط به الأحكام.
6 -
أما الحديث رقم (352): فيدل على أنَّ الإقامة لا تحدد بأربعة أيام، بل يقصر ويترخص، ولو أقام تسعة عشر يوماً، وهذا خلاف المشهور من مذهب الحنابلة، الذين قالوا: لو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أتمَّ، ولم يقصر.
7 -
لا تعارض ولا منافاة بين اختلاف العدد في الروايات، فكل من الرواة حكى
ما حفظ، ولكن البيهقي رجح رواية الإِمام البخاري وهي تسعة عشر يومًا.
8 -
أما الحديث رقم (353): فيدل على أنَّ الإقامة في مكان -ولو بلغت عشرين يومًا- لا تمنع القصر، ولا رُخص السفر، ما دام أنَّه لم ينوِ الإقامة، وإنما ينوي العودة حين تنتهي مهمته.
9 -
القول الراجح أنَّ المسافر يقصر ويجمع ما دام أنه لم ينوِ الإقامة، ولو طالت مدته، ما دام لم ينو الإقامة، وقطع السفر. قال شيخ الإِسلام: للمسافر القصر والفطر، ما لم يُجمع على الإقامة والاستيطان، والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها، ليس هو أمرًا معلومًا لا بشرعٍ ولا عرفٍ.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: الإقامة العارضة للمسافر دون قصدِ مُكث بل أيام معيَّنة، وإنما الإقامة مرهونة بحاجته، ولا علم عنده متى تنقضي، فإذا انقضت سافر، ففي مثل هذا الحال يجوز له الترخص بقصر الصلاة، وغيرها من رخص السفر مدة إقامته، طالت، أو قصُرت.
10 -
هذا القصر في حجة الوداع التي منها أيام مني، فقد كان يقصر الصلاة فيها، وقصر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقَصَر بعدهم عثمان رضي الله عنه ست سنين من خلافته أو ثماني، ثم صار يتم الصلاة، فلامه الصحابة على الإتمام، ومخالفة النبي صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده، وأشدُّهم لومًا ابنُ مسعود رضي الله عنه ولكنهم تابعوه وأتموا معه، وقال ابن مسعود:"إنَّ الخلاف شرٌّ"، فإتمام الصحابة رضي الله عنهم مع عثمان دليلٌ على أنَّ القصر غير واجب، ولو كان واجبًا ما أقروه، أما الأعذار التي قالها العلماء لإتمام عثمان فكثيرة، ولعلَّ من أوجهها -وليس بوجيه أيضًا-: أنَّ الحجَّ يجمع عددًا كبيرًا من المسلمين من أقصى البلاد، يجهلون أحكام الصلاة، فإذا صلوها مقصورة ظنوا أن هذه هي الصلاة، فخشيةً من هذا الفهم، الذي يترتب عليه خطأٌ كبيرٌ، أتمَّ، اجتهادًا منه رضي الله عنه.
354 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ، أخَّر الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ العَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ، صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَفِي رِوَايَةِ الحَاكِمِ في "الأَرْبَعِيْنَ" بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ: "صَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ، ثُمَّ رَكِبَ".
وَلأبِي نُعَيْمٍ في "مُسْتَخْرَجِ مُسْلِمٍ": "كَانَ إذَا كَانَ في سَفَرٍ، فَزَالَتِ الشَّمْسُ، صَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث أصله في الصحيحين؛ أما زيادة الحاكم: فقال الحافظ في "الفتح"(2/ 583): هي زيادة غريبة صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه، والعلائي.
وأما رواية أبي نعيم: فقد صححها النووي، كما في "التلخيص"(2/ 49).
* مفردات الحديث:
- تزيغ الشمس: بفتح التاء فزاي معجمة مكسورة آخره غين معجمة؛ أي: مالت نحو الغرب، بعد أن توسطت السماء.
- فزالت الشمس: مالت نحو الغرب، بعد أن توسطت كبد السماء.
…
(1) البخاري (1111)، مسلم (704).
355 -
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: "خَرَجْنا معَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالعَصْرَ جَمِيعًا، وَالمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ جَمِيْعًا". روَاهُ مُسْلِمٍ (1).
356 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أقَلَّ مِنْ أَرْبَعَة بُرْدٍ؛ مِنْ مَكَّةَ إِلى عُسْفَانَ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضعِيْفٍ. والصَّحِيْحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، كذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (2).
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف، والصحيح أنه موقوفٌ.
فهو ضعيف؛ لأنَّ فيه إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، وعبد الوهاب بن مجاهد متروك، والصحيح: أنَّ ذلك من قول ابن عباس، كما قال البيهقي (3/ 137)، وضعَّفه ابن الملقن مرفوعاً، وصححه موقوفًا.
* مفردات الحديث:
- أربعة بُرُد: بضم الباء والراء، جمع "بريد"، والبريد: قال البخاري: ستة عشر فرسخًا، قال العيني: والفرسخ ثلاثة أميال.
قال محرره: والميل (1600) متر.
_________
(1)
مسلم (706).
(2)
الدراقطني (1/ 387).
- عُسْفَانَ: بضم أوله وسكون ثانيه، ثم فاء وآخره نون، على وزن "عثمان"، هي قرية عامرة تقع شمال مكة على بعد (80) كيلو، يمر بها الطريق السريع الذاهب والآيب من مكة إلي المدينة، وفيها إمارةٌ، وشرطةٌ، ومدارس، ومستوصف، وغير ذلك من المرافق والخدمات، ويحيط بها حِرَارٌ سودٌ، وسكانها -الآن- بنو بشر، من بني عمرو، من قبيلة حرب، ولها ذكر في السيرة النبوية.
* ما يؤخذ من الأحاديث: (354، 355، 356):
1 -
يدل الحديث رقم (354) على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر في وقت واحد، وذلك في السفر.
2 -
يدل على جواز الجمع بين هاتين الصلاتين جمع تقديم، وجمع تأخير، فكل من الجمعين جائز.
3 -
قال الشيخ: الجمع رخصة عارضة للحاجة إليه؛ فإنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلَاّ مرات قليلة؛ لذلك فإنَّ فقهاء الحديث كأحمد وغيره يستحبون تركه، إلَاّ عند الحاجة إليه؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وأوسع المذاهب في الجمع مذهب أحمد، فإنَّه نص على أنَّه يجوز للحاجة والشغل، وصوَّب الشيخ أنَّه يجوز في السفر القصير، وقال: إنَّ علة الجمع الحاجة، لا السفر، فليس معلقاً به، وإنما يجوز للحاجة، بخلاف القصر.
وقال الشيخ -أيضاً-: الصواب أنه صلى الله عليه وسلم لم يجمع بعرفة ومزدلفة لمجرد السفر، بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النزول، ولاشتغاله بالسير إلى مزدلفة، وهكذا يستحب الجمع عند الحاجة.
4 -
قال الشيخ: الجمع جائز في الوقت المشترك، فتارةً في أول الوقت، وتارةً في آخره، وتارةً يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معاً في آخر
وقت الأولى، وقد تقع هذه في هذا، وهذه في هذا، وكل هذا جائز؛ لأنَّ أصل هذه المسألة: أنَّ الوقت عند الحاجة مشتركٌ، والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة.
5 -
يدل على أنَّ الأفضل في حق الجامع المعذور أن يفعل الأرفق به، من جمع التقديم أو التأخير؛ لأنَّ الجمع لم يُبح إلَاّ لرفع المشقة، فيرى الأرفق به فيفعله.
6 -
يدل على أنَّ سبب الجمع صيرورة وقت إحدى الصلاتين وقتاً للأخرى؛ فليست إحداهما أداءً، والأخرى قضاءٍ في جمع التأخير، والأولى صليت في وقتها، والثانية قبل وقتها في جمع التقديم، فالصلاة قبل وقتها لا تصح.
7 -
يدل على أنَّ السفر هو أحد الأعذار المبيحة لجواز الجمع.
8 -
يدل على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر في وقت واحد، وعلى جواز صلاتي المغرب والعشاء في وقت واحد.
وأطلق الراوي الجمع، مما يدل على عمومه في جواز جمع التقديم والتأخير، فيما بين الظهر والعصر، وفيما بين المغرب والعشاء، وجاءت رواية الترمذي (550) تفصّله وتبينه؛ بلفظ:"كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخَّر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر، يصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس، عجَّل العصر إلى الظهر، وصلَّى الظهر والعصر جميعاً".
9 -
حديث رقم (355) يدل على جواز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، ولو كان الجامع نازلاً غير مُجِدٍّ في السفر.
10 -
أما الحديث رقم (356): فيدل على أنَّ الصلاة لا تقصر في مسافة تقل عن أربعة بُرُد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل "1600" متر، فتكون مسافة القصر على التقريب حوالي (77 كيلو)، وتقدم تحقيق ذلك.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في جواز الجمع إلى ثلاثة أقوال:
فذهب الجمهور -ومنهم الإمامان: الشافعي وأحمد- إلى: جواز جمع التقديم والتأخير، بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.
وذهب مالك في إحدى الروايتين عنه، وابن حزم إلى: جواز جمع التأخير دون التقديم.
وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى عدم: جوازه مطلقاً، إلَاّ أن يكون جمعاً صوريّاً، بمعنى أن تؤخر الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وتقدم الثانية في أول وقتها، فتصليان جميعاً هذه في آخر الوقت، والأخرى في أول الوقت.
وذهب الجمهور إلى: جواز الجمع مطلقاً؛ سواء كان المسافر نازلاً في سفره، أو جادّاً به السير.
واستدلوا: بما جاء في "الموطأ"(330) عن معاذ: "أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أخَّر الصلاة يوماً في غزوة تبوك، ثم خرج فصلَّى الظهر والعصر جمعاً، ثم دخل، ثم خرج فصلَّى المغرب والعشاء".
قال ابن عبد البر: هذا حديث ثابت الإسناد.
وذكر الشافعي في "الأم"، والباجي في "شرح الموطأ": أنَّ دخوله وخروجه لا يكون إلَاّ وهو نازل غير جاد في السفر، وفي هذا ردٌّ قاطعٌ على من قال: لا يجمع إلَاّ إذا جدَّ به السفر.
وذهب ابن القيم وجماعة إلى: اختصاص جواز الجمع لوقت الحاجة، وهي إذا جدَّ به السفر.
ودليلهم: حديث ابن عمر: "أنَّه كان إذا جدَّ به السير، جمع بين المغرب والعشاء، ويقول: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا جدَّ به السير، جمع بينهما"، رواه البخاري (1711)، ومسلم (703)، ولكن عند الجمهور زيادة دلالة في
أحاديثها، والزيادة من الثقة مقبولة، ولأنَّ السفر موطن المشقة؛ سواء كان نازلاً أو سائراً؛ لأنَّ الرخصة تعم، وما جعلت إلَاّ للتسهيل والتيسير.
وأما مذهب أبي حنيفة في الجمع الصوري: فلا تنصره السنن الصحيحة.
* فوائد:
الفائدة الأولى: ما ذكره المؤلف في الجمع هو عذر السفر، وهناك أعذار أخر تبيح الجمع منها: المطر؛ فقد روى البخاري (543): "أنَّ النبَّيَّ صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء، في ليلة مطيرة".
وَخُصَّ الجمع هنا بين المغرب والعشاء، دون الظهر والعصر، وجوزه جماعة من العلماء.
ومنها: المرض؛ فقد روى مسلم (705): "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر ولا سفر".
وقد ثبت جواز الجمع للمستحاضة، وهو نوع مرض.
وقد جوز الجمع -لهذه الأعذار وأمثالها- مالكٌ وأحمد، وإسحاق، والحسن، وقال به جماعة من الشافعية؛ منهم الخطابي والنووي.
الفائدة الثانية: اختلف العلماء في السفر الذي يباح فيه الجمع:
فمذهب الشافعي وأحمد: يومان قاصدان، يعني: ستة عشر فرسخاً، وذلك يقارب (77) كيلو متر.
أما مذهب الظاهرية وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والموفق في "المغني"-: فقد ذهبوا إلى أنَّ كل ما يعد سفراً يباح فيه الجمع، ولا يقدر بمسافة معينة، وأنَّ ما يروى من التحديدات ليس بثابت.
الفائدة الثالثة: جمهور العلماء يَرَوْنَ أَنَّ ترك الجمع أفضل من الجمع، إلَاّ في جمعي عرفة ومزدلفة؛ لما في ذلك من المصلحة فيهما، بخلاف القصر، فإنَّه سنة، وفعله أفضل من تركه.
الفائدة الرابعة: قال في "الروض وحاشيته": وإن كان المسافر ملَاّحاً ونحوه، وأهله معه، ولا ينوي الإقامة ببلد -لزمه أن يتم أشبه المقيم؛ لأنَّ سفره غير منقطع، والرواية الأخرى: يترخص، اختارها الموفق والشيخ وغيرهما، وقالا: سواء كان معه أهل أو لا؛ لأنَّه أشق، وهو مذهب الأئمة الثلاثة.
الفائدة الخامسة: قال شيخ الإسلام: الجمع رخصة عارضة للحاجة، وفقهاء الحديث -كأحمد وغيره- يستحبون تركه إلَاّ عند الحاجة، وأوسع المذاهب مذهب أحمد؛ فإنَّه ينص على أنَّه يجوز للحاجة والشغل.
***
357 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ أُمَّتِي الَّذِين إذَا أَسَاءوا اسْتَغْفَرُوا، وَإذَا سَافَرُوا قَصَرُوا، وَأَفْطَرُوا". أَخْرَجَهُ الطَّبرَانِيُّ فِي " الأوْسَطِ" بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَهُوَ فِي مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ مُخْتَصَراً (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
قال المناوي في "شرح الجامع الصغير": قال الهيثمي: فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وأخرجه الطبراني بإسناد ضعيف، وأخرجه البيهقي في "المراسيل".
* مفردات الحديث:
- أساءوا: أذنبوا، قال الراغب: السيئة: الفعلة القبيحة، وهي ضد الحسنة.
- استغفروا: الاستغفار: طلب المغفرة بالمقال، والغفران من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّ أفضل الخطائين التوابون، ممن إذا أذنبوا ذنباً، ذكروا وعيدَ الله وعذابه، واستغفروا وتابوا إلى الله تعالى توبة نصوحاً، بشروطها الثلاثة: الندم على ما فعلوه، والإقلاع عما ارتكبوه، والعزم على ألا يعودوا إليه، وإن كان حقّاً للخلق أَدَّوْهُ.
2 -
وإذا سافروا، أتوا رُخص الله تعالى التي أباح لهم، من الفطر في نهار رمضان، فليس من البر الصيام في السفر، وقصروا الصلاة الرباعية، إلى
(1) الطبراني في الأوسط (6/ 332)، الشافعي (1/ 512).
اثنتين؛ لقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء، الآية: 101].
3 -
الحديث من أدلة الذين يرون أنَّ القصر، والفطر في السفر -أفضل من الصيام والإتمام، وأدلة هذا القول كثيرة.
فأما القصر: فتقدم كلام المحققين، ومنهم: شيخ الإسلام، الذي قال: قصر الصلاة مشروع في الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً متواتراً.
وقال ابن القيم: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه أتم الرباعية في السفر ألبتة.
***
358 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ، فقَالَ: صَلِّ قَائِماً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطعْ فَقَاعِداً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطعْ فَعَلَى جَنْبٍ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- بواسير: جمع: "باسور"، وهو ورم في المقعد، وعند الأطباء: نفاطات يحدث فيها تمدد وريدي، وتكون في الشرج تحت الغشاء المخاطي.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث تقدم برقم (263)، ويدل على صفة صلاة المريض، وهو أن يصلي قائماً، ولو محنيّاً، أو معتمداً إلى نحو جدار، أو عصا ونحوها.
فإن عجز، أو شق عليه، صلَّى قاعداً، والأفضل أن يكون في الجلوس الذي في موضع القيام متربعاً، وفي غيره مفترشاً، فإن عجز، أو شق عليه، صلَّى على جنبه، والأفضل أن يكون على الجنب الأيمن مستقبل القبلة.
2 -
فإن لم يستطع الصلاة على جنبه، أومأ برأسه إيماء، ويكون إيماؤه في السجود أخفض من إيمائه في الركوع.
3 -
الحديث مؤيد بآيات كريمات، هي روح السهولة، واليسر في الشريعة، الإسلامية؛ مثل قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ومثل قوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
قال النووي: أجمعت الأمة على أنَّ من عجز عن القيام في الفريضة، صلاها قاعداً، ولا إعادة عليه، ولا ينقص ثوابه؛ للخبر.
(1) البخاري (1117).
4 -
العجز الذي يبيح القعود في الصلاة المكتوبة قدَّره العلماء:
فقال إمام الحرمين: الذي أراه في ضبط العجز أن يلحقه بالقيام مشقة تُذهب خشوعه؛ لأنَّ الخشوع مقصود الصلاة، وقد صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حين خمش شقه، والظاهر أنَّه لم يكن لعجزه عن القيام، بل لمشقة فعله، أو لوجود ضرر، وكلاهما حجة، ويعمل بقول طبيب عارف ثقة -ولو امرأة- أن القيام يضره، أو يزيد في علته.
5 -
جاء من حديث أبي موسى؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا مرض العبد أو سافر، كتب له ما كان يعمل مقيماً صحيحاً"[رواه البخاري (2996)].
قال الشيخ تقي الدين: من نوى الخير، وفعل ما يقدر عليه، كان له كأجر الفاعل.
* خلاف العلماء:
مذهب جمهور العلماء: أنَّ الصلاة لا تسقط ما دام العقل ثابتاً، وأنَّه إن لم يستطع الإيماء برأسه، أومأ بطرفه، وإن لم يستطع القراءة بلسانه، قرأ بقلبه.
وذهب الشيخ تقي الدين إلى أنَّه إذا عجز المريض عن الإيماء برأسه، سقطت عنه الصلاة.
وقال شيخنا عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى-: أما صلاة المريض بطرفه أو بقلبه، فلم نثبت، ومفهوم الحديث يدل على أنَّ الصلاة على جنبه مع الإيماء هي آخر المراتب الواجبة، وهو اختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله.
ومذهب الجمهور أحوط؛ لأنَّ أصل وجوب الصلاة موجودٌ، والذمة مشغولةٌ به، والعقل المخاطب بوجوب الأداء حاضرٌ، والله أعلم.
***
359 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "عَادَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَرِيْضاً، فَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ، فَرَمى بِهَا، وَقَالَ: صَلِّ عَلَى الأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ، وَإِلَاّ فَأَوْمِ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ". روَاهُ البَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَ أَبُو حَاتِمٍ وَقْفَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف؛ رواه البيهقي بسند قوي، ولكن صحَّحَ أبو حاتم وقفه، وأخرجه البيهقي من طريق سفيان الثوري.
وقال البزار: لا يُعْرَفُ أحد رواه عن الثوري غير أبي بكر الحنفي.
وقال أبو حاتم: الصواب أنَّه موقوف على جابر، ورفعه خطأ.
* مفردات الحديث:
- عاد: قال في "المصباح": عدت المريض عيادة: زرته، فالرجل عائد، وجمعه: عوَّاد، والمرأة عائدة، وجمعها: عُوَّد، بغير ألف.
قال الأزهري: هكذا كلام العرب.
- وِسَادة: -بكسر الواو-: كل ما يوضع تحت الرأس.
- إيماء: أصل الإيماء: الحركة، وقد يستعمل بالحاجبين، والعينين، واليدين، والرأس، ومنه: إيماء المريض ببدنه للركوع والسجود.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
كراهة سجود العاجز على وسادة ونحوها، تُرفع له عن الأرض، ويكون سجوده على الأرض مباشرةً، إن قدر، وإلَاّ أومأ إيماء.
(1) البيهقي (2/ 306).
2 -
وجوب الإيماء في السجود والركوع على المريض، إذا لم يستطع الركوع والسجود.
3 -
فإن كان قادراً على القيام، فإيماؤه في الركوع يكون من قيام، وإيماؤه في السجود يكون من قعود، فالركن الذي يقدر عليه لا يسقطه العجز عن الركن الآخر.
4 -
سماحة الشريعة وعدم التكلف فيها، فالذي لا يستطيع السجود لا يتكلف له ما يسجد عليه، وإنما يعبد الله ما استطاع، فالتنطع ليس من الدين في شيء.
5 -
يدل على استحباب عيادة المريض، وإرشاده إلى ما ينفعه في دينه، وفي الأحوال كلها، فالدين النصيحة.
6 -
أن يكون السجود أخفض من الركوع في حال الإيماء، تمييزاً لكل ركن عن الآخر، ولأنَّ السجود أخفض في حال القدرة من الركوع، فكل واحد يُعطى ما يناسبه.
***
360 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "رَأَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مُتَرَبِّعاً". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح؛ صححه الحاكم، وابن حبان (6/ 257)، وابن خزيمة (2/ 236)، وأخرجه الدارقطني (1/ 397)، والنسائي وقال: ما أعلم أحداً رواه غير أبي داود الحفري وهو ثقة، ولا أحسبه إلَاّ أخطأ.
قال الحافظ ابن حجر: قد رواه ابن خزيمة والبيهقي من طريق محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني متابعة لأبي داود، فظهر أنَّه لا خطأ فيه.
وقال ابن عبد الهادي: قد تابع الحفري محمد بن سعيد الأصبهاني، وهو ثقة.
وله شواهد من حديث أنس وعبد الله بن الزبير رواها البيهقي.
* مفردات الحديث:
- متربعاً: هي جلسة الإنسان ثانياً قدميه تحت فخذيه، مخالفاً لهما.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جواز الصلاة قاعداً، فإن كان ذلك في فرض، فلا يكون إلَاّ عند العجز عن القيام، أو المشقة منه، وإن كان في نفلٍ، فجائز حتى مع القدرة على القيام، إلَاّ أنَّه إذا كان بدون عذر، فأجره على النصف من صلاة القائم، وإن كان من عذر، فأجره تام، إن شاء الله تعالى.
2 -
يجوز الجلوس في الصلاة على أية جلسة كانت من الجلسات المشروعة،
(1) النسائي (1661)، الحاكم (3891).
لكن الأفضل أن يكون متربعاً في موضع القيام، ومفترشاً في موضع الجلوس، والصلاة متربعاً هي التي ذكرت عائشة؛ أنَّها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يصليها.
***