الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الحث على الخشوع في الصلاة
مقدمة
الخشوع: قال جماعة من السلف: الخشوع في الصلاة: السكون فيها.
وقال البغوي: الخشوع في البدن والبصر والصوت.
وقال أبو الشيماء: هو التذلل والتواضع لله بالقلب والجوارح.
وقال ابن القيم: جماع الخشوع: هو التذلل للآمر، والاستسلام للحكم، والانصياع للحق، فيتلقى الأمر بقبول وانقياد، ويستسلم للحكم بلا معارضة ولا رأي، ويتضع قلبه وينكسر، لنظر الرب إلى قلبه وجوارحه.
وعلى ضوء هذه التعريفات، نشأ خلاف أهل العلم، هل الخشوع من أعمال القلب، أو من أعمال الجوارح كالسكون، أو هو من مجموع الأمرين؟
قال الرازي: القول الثالث: أنَّه عام للقلب والجوارح، ودليله ما صحَّ من كلام سعيد ابن المسيب:"لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه"، فهو يدل على صحة المعنى اللغوي الشرعي، من أنَّ الخشوع يكون للقلب والجوارح، فأفضله إذن أن يتواطأ القلب والجوارح عليه، فالقلب بحضوره وانكساره بين يدي الله تعالى، والجوارح بسكونها وسكوتها ذليلة بين يدي الله تعالى، وكل هذا راجعٌ إلى مراقبة الله تعالى.
قال ابن القيم: اعلم أنَّ نمو الخشوع إنما يكون بترقب من آفات النفس والعمل، فإنَّ انتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبها لك، تجعل القلب خاشعًا لا محالة، لمطالعة عيوب النفس وأعماله ونقائصها من الكِبر والعُجب
والرياء، وضعف الصدق، وقلة اليقين، وتشتت العزيمة، وعدم تجرد الباعث من الهوى النفساني، وعدم إيقاع العمل على الوجه الذي ترضاه لربك، وغير ذلك من عيوب النفس، ومفسدات الأعمال.
ويكمل الخشوع بتصفية القلب من مراءاة الخلق، وتجريد رؤية الفضل، فيخفي أحواله عن الخلق جهده، والمعصوم من عصمه الله، فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة، والفاقة، والذل، وقد شاهدت من شيخ الإسلام في ذلك ما لم أشاهده من غيره، قدس الله روحه.
قال محرره: أما الخشوع في الصلاة فهو روحها، ويكثر ثوابها أو يقل، حسبما عقله المصلي منها، وقد أثنى الله تعالى على الخاشعين، فقال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون].
وقال الشيخ الحداد: ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها، حُسن الخشوع فيها، وحضور القلب، وتدبر القراءة، وفهم معانيها، واستشعار الخضوع والتواضع لله عند الركوع والسجود، وامتلاء القلب بتعظيم الله وتقديسه عند التكبير والتسبيح وفي سائر أجزاء الصلاة، ومجانبة الأفكار والخواطر الدنيوية والإعراض عن حديث النفس في ذلك، بل يكون الهَمُّ مقصورًا على إقامتها، وتأديتها كما أمر الله، فإنَّ الصلاة مع الغفلة، وعدم الخشوع والخضوع -لا حاصل لها، ولا نفع فيها- ولذا جاء في الحديث التصحيح:"ليس للعبد من صلاته إلَاّ ما عقل منها، وأنَّ المصلي قد يصلي الصلاة، فلا يكتب له منها إلَاّ سدسها وإلَاّ عشرها". [رواه أحمد (18415)، وأبو داود (796)]، أعني: أنَّه يكتب له منها القدر الذي كان فيه حاضرًا مع الله خاشعًا، وقد يقل ذلك، وقد يكثر بحسب الغفلة والانتباه.
فالحاضر الخاشع في جميعها له الصلاة كلها، والغافل اللاهي في جميع صلاته لايكتب له شيء منها. اهـ كلامه.
ولإحضار القلب في الصلاة أسباب منها:
1 -
الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم.
2 -
تدبر القراءة في الصلاة، وأنواع الذكر فيها.
3 -
استحضار عظمة الله تعالى، وأنَّ المصلي يناجيه متوجهًا إليه.
4 -
معرفة ضعف الإنسان وفقره في حال ركوعه وسجوده لجلال الله تعالى وعظمته.
5 -
حصر نظره في موضع سجوده؛ فإنَّ النظر إذا تفرق، تبعه القلب.
6 -
ألا يدخل الصلاة وهو في انشغال بال، من أجل شهوة أكل أو شرب، أو من أجل مدافعة أحد الأخبثين.
ذهب جمهور العلماء إلى صحة الصلاة وإجزائها، ولو غلبت عليها الوساوس، وذلك مع نقص ثوابها وأجرها.
* * *
189 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (1)، وَمَعْنَاهُ: أَن يَجْعلَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتهِ.
وفِي البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ ذلِكَ فِعْلُ اليَهُودِ فِي صَلَاتِهِمْ"(2).
ــ
* مفردات الحديث:
- مختصرًا: اسم فاعل من: الاختصار؛ يعني: واضعًا يده على خاصرته، اْو يديه على خاصرتيه، والخاصرة من الإنسان هي ما بين الوَرِك، وأسفل الأضلاع، وهما خاصرتان.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النهي أن يصلي المصلِّي واضعًا يده على خاصرته، وهي ما بين رأس الوَرِك، وأسفل الأضلاع.
2 -
الحكمة في النّهي هو الابتعاد عن مُشابهة اليهود؛ فإنَّهم يضعون أيديهم على خواصرهم في الصلاة.
3 -
وقيل: الحكمة أنَّه فعل المتكبرين، ولا منافاة، فإنَّ من طبيعة اليهود الكبر، واحتقار الناس، ولا يرون شعبًا، ولا جنسًا أفضل منهم، فهم يقولون: إنَّهم شعب الله المختار.
4 -
المطلوب في الصلاة الخشوع والخضوع؛ لأنَّ المصلي واقف بين يدي الله تعالى، متذلِّلًا بعيدًا عن صفات المتكبرين وسيماهم.
(1) البخاري (1219)، مسلم (545).
(2)
البخاري (3458).
5 -
الواجبُ البعد عن مشابهة أهل الضلال؛ سواء أكان هذا التشبه مما يُخرج من الملة، أو كان يفضي إلى المعصية؛ فإنَّ من تشبه بقوم، فهو منهم.
6 -
جمهور العلماء حملوا النهي على التنزيه، ومن هؤلاء الحنابلة، قالوا: لأنَّه لا يعود على الصلاة ببطلان.
وهذا محمل وجيه، ما لم يقصد المختصر التشبه باليهود أو المتكبرين؛ فيكون حرامًا.
* * *
190 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قُدِّمَ العَشَاءُ، فَابْدَؤوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا المغْرِبَ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
ــ
*ما يؤخذ من الحديث:
1 -
إذا كان وقت صلاة المغرب وقد قُدِّم طعام العشاء، والنفوس متشوقة إليه، فإنَّ الأفضل هو تقديم الطعام قبل أداء الصلاة.
قال بعض المالكية: ينبغي أن يعمم هذا الحكم، ولا يخص صلاة دون صلاة، وأن ذلك قد ورد في صلاة المغرب، فليس فيه ما يقتضي الحصر فيها.
2 -
الحكمة في هذا: هو أنَّ المطلوب في الصلاة هو حضور القلب، والحاجة إِلى الطعام تشغل القلب، وتحول دون الخشوع في الصلاة، ففضِّلَ تقديم الأكل على دخول الصلاة، لتؤدَّى الصلاة براحة البال، وحضور القلب.
3 -
يؤخذ منه إبعاد كل ما يشغل النفس عن الصلاة، ويلهي القلب عن استحضار معاني الصلاة، من القراءة والأذكار، والتنقل فيها من ركن إلى ركن آخر.
4 -
جمهور العلماء حملوا تقديم الطعام على الصلاة؛ على الندب، وهو الراجح، أما الظاهرية: فحملوه على الوجوب، فلم يصححوا الصلاة في هذه الحال عملًا بالظاهر.
5 -
إذا ضاق وقت الصلاة المكتوبة؛ بحيث لو قُدِّم الطعام لخرج وقتها -فجمهور العلماء على تقديم الصلاة؛ محافظة على الوقت.
أما الذين أوجبوا الخشوع في الصلاة: فإنَّهم أوجبوا تقديم الطعام على الصلاة.
(1) البخاري (672)، مسلم (557).
6 -
هذا الخلاف فيما إذا كانت النفس محتاجة للطعام، ومتعلقة به، أما مع عدم الحاجة إليه، وإنما حان وقت وجبة عادية، فالصلاة والجماعة لها مقدمة على ذلك، على أنَّه لا ينبغي أن يجعل وقت طعامه، أو وقت منامه موعدًا لوقت الصلاة، ويفوِّت الصلاة أول وقتها؛ لأجل مواعيده الرتيبة في أكله ومنامه.
7 -
قال في "الروض" و"حاشيته": ويكره دخوله في الصلاة إذا كان بحضرة طعام يشتهيه، وظاهر عباراتهم إنَّ لم تتُق نفسه إليه، فإنَّه يبدأ بالصلاة من غير كراهة.
* * *
191 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَمْسَحِ الحَصَى؛ فَإنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وزَادَ أَحْمَدُ: "وَاحِدَةً، أَوْ دَعْ"(1) وفي الصَّحِيحِ عَنْ مُعَيْقِبٍ نَحْوُهُ بِغَيْرِ تَعْلِيلٍ (2).
ــ
* درجة الحديث:
قال المؤلف: إسناده صحيح، فقد رواه الخمسة بإسناد صحيح.
وأما زيادة: "فإنَّ الرّحمة تواجهه"، ففي سندها: أبو الأحوص.
قال الألباني: لم يوثقه سوى ابن حبان، فلم تثبت عدالته وحفظه.
* مفردات الحديث:
- المسح: هو أن يُمِرَّ يده على الشيء؛ لإذهاب ما عليه من أثر تراب، أو ماء ونحو ذلك، قال في "المصباح": مسحت الشيء مسحًا: أمررتُ عليه اليد.
- الحصى: دقاق التراب العالق بمواضع سجوده، والتقييد بالحصى خرج مخرج الغالب؛ لكونه كان الغالب على موضع سجودهم من الأرض.
- الرحمة: مصد: رحم يرحم رحمة ومرحمة، والرحمة: هي العفو والغفران.
- فإنَّ الرحمة تواجهه: تعليل في النهي عن المسح؛ لئلا يشغل خاطره عن سبب الرحمة.
(1) أحمد (5/ 150، 163)، أبو داود (945)، الترمذي (379)، النسائي (3/ 6)، ابن ماجه (1027).
(2)
البخاري (1207)، مسلم (546).
- تواجهه: تقابله، والمراد: أنَّ الرحمة تنزل عليه، وتُقْبِل إليه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يكره للمصلي أن يمسح الحصى العالق بمواضع السجود من بدنه.
2 -
كما يكره أن يمسح موضع سجوده من الأرض، فإن كان لابد من تسوية موضع سجوده، فليكن مرَّة واحدة.
3 -
الحكمة في هذا هو ما جاء في الحديث من أنَّ الرحمة تكون تلقاء وجهه، في هذه التربة، التي علقت بوجهه من أثر السجود، وتكون في موضع سجوده الذي ذكر الله تعالى فيه، وسبَّحه عنده.
4 -
وقيل: خشية العبث المفضي إلى الإخلال بالصلاة، والمنافي للخشوع والتواضع، وأنه يشغل المصلي، ولا مانع من إرادة الأمرين: المحافظة على الرحمة التي علقت به، والبعد عن العبث المنافي للخشوع.
5 -
يستحب لمريد الصلاة أن يسوِّيَ مكان صلاته وموضع سجوده؛ لئلا يحتاج إلى ذلك أثناء الصلاة، ولئلا ينشغل باله به في الصلاة.
6 -
جمهور العلماء حملوا ذلك على الكراهة، لا على التحريم؛ لأنَّ المخالفة ليست كبيرة، والحركة ليست كثيرة، فهو من مكروهات الصلاة.
* * *
192 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَختَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ العَبْدِ". روَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ولِلْتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ، وصَحَّحَهُ:"إِيَّاكَ وَالالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّهُ هَلَكَةٌ، فَإنْ كَانَ لَابُدَّ، فَفِي التَّطَوُّعِ"(2).
ــ
* درجة الحديث:
رواية الترمذي قال عنها في "نصب الراية": فيها علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، كما أنَّ فيها انقطاعًا بين سعيد بن المسيب وأنس.
* مفردات الحديث:
- اختلاس: بالخاء المعجمة فمثناة فوقية آخره سين مهملة؛ اختلس الشيء: استلبه نُهْزة ومخاتلة، فهو الأخذ على وجه الغفلة من المختلَس منه، والنَّهزة من المختلِس.
- يختلسه: استعير لذهاب الخشوع في الصلاة بتصوير قبح تلك الفعلة، أو أنَّ المصلي مستغرِق في مناجاة ربه، والله تعالى مقبل عليه، والشيطان كالراصد منتظر فوات تلك الحالة عنه، فإذا التفت المصلي اغتنم الفرصة، فيختلسها منه.
- إياك: "إيا" ضمير مبني في محل نصب مفعول به، لفعل محذوف تقديره "احذر"، و"الكاف" للخطاب.
(1) البخاري (751).
(2)
الترمذي (589).
- الالتفات: يقال: لتفت بوجهه يَمْنةً وَيَسْرة: صرفه إلى ذات اليمين أو الشمال، والالتفات منصوب على العطف على "إياك"، أو على التحذير بفعل محذوف تقديره: احذر الالتفات.
- هلكة: بفتح الهاء واللام والكاف بعدها تاء، الهلاك: الموت، وسمي الالتفات: هَلَكَة؛ باعتبار كونه سببًا لنقصان الثواب الحاصل بالصلاة.
- إياك: "إيا" ضمير مبني في محل نصب مفعول به، لفعل محذوف تقديره "احذر"، و"الكاف" للخطاب.
- لابُدَّ: أي: لا محيص، ولا معدل، ولا مناص، وليس لك من ذلك بُدٌّ: يريدون به الإطلاق على أي وجه كان، و" بُدّ" لا يعرف استعمالها إلَاّ مقرونة بالنفي.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
كراهة الالتفات في الصلاة إلَاّ من حاجة.
2 -
فإن كان ثمَّ حاجة؛ كخوف وترقب عدو، لم يكره؛ لما روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال:"ثُوِّب بصلاة الصبح، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشِّعْب، وكان قد أرسل فارسًا من الليل يحرس".
3 -
كراهةُ الالتفات، إذا كان بالرأس والعنق فقط، أما إن استدار المصلي بجملته فاستدبر القبلة حرُم، وبطلت صلاته.
قال ابن عبد البر: جمهور الفقهاء على أنَّ الالتفات اليسير لا يبطل الصلاة.
4 -
سبب الكراهة: أنَّه نقص في الصلاة أذهب الخشوع فيها، والإقبال على الله تعالى، وسبب الإعراض عن الله تعالى، وعن القبلة التي أُمر المصلي أن يتوجه إليها، ويصمد نحوها كل صلاته.
5 -
والالتفات من كيد الشيطان، فإنّه سرقة من صلاة العبد، أحدثت بالصلاة
نقصًا في قيمتها عند الله تعالى.
6 -
جاء في الرواية الأخرى التحذير من الالتفات في الصلاة، وبَيَّنَتْ أنه هلكة، وأي شيء أعظم من هلكة تصيب الإنسان في دينه، وفي أعظم شعيرة يؤديها، فقد جاء في الدُّعاء المأثور:"اللهمَّ لا تجعل مصيبتنا في ديننا".
7 -
سبب حمل العلماء الحديث على الكراهة: -أنَّه لا يبلغ بطلانها، وإنما هو نقصٌ فيها.
8 -
الصلوات المكتوبات أهمُّ الصلوات، ويجب أن تكون العناية والاهتمام بهن أكثر، ولذا فإنَّ وقوع الالتفات في الصلاة النافلة أخف منه في الفريضة، وهكذا سائر الأمور المكروهة في الصلاة، فوقوعها في النافلة أخف وأسهل من الفريضة.
9 -
سماه النبي صلى الله عليه وسلم اختلاسًا، تصويرًا لقبح تلك الفعلة بالمختلس، فالمصلي مقبل على ربه يناجيه، والشيطان مترصِّد له يريد قطع تلك المناجاة عليه، فاذا التفت المصلي، فإنَّ الشيطان قد ظفر بمطلوبه من اختلاس أغلى ما بين يدي المصلي تلك الساعة.
10 -
أجمع العلماء على كراهة الالتفات في الصلاة، وقال ابن هبيرة: جمهور الفقهاء على أنَّ الالتفات لا يفسد الصلاة ولا يبطلها، وإنما ينقصها.
11 -
قال الغزالي: إنما يقبل الله من صلاتك بقدر خشوعك وخضوعك، فاعبده في صلاتك كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك، فإن لم يحضر قلبك ولم تسكن جوارحك، فهذا لقصور معرفتك بجلال الله تعالى، فعالج قلبك عساه أن يحضر معك في صلاتك، فإنَّه ليس لك من صلاتك إلَاّ ما عقلت منها.
***
193 -
وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ أحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَإنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَبْصُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلكِنْ عَنْ شِمَالِهِ، تَحْتَ قَدَمِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وفِي رِوَايَةٍ:"أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- يناجي ربه: من: ناجاه مناجاة، فهو مناجٍ، وهو المخاطِبُ لغيره، والمحدِّث له، وأصل المناجاة: المسارَّة؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة: 9]، والمراد به هنا الإقبال على الله تعالى، وكما في الحديث:"لا يتناجى اثنان دون الثالث".
- يبصقن: بالصاد أو السين أو الزاي، فالحروف الثلاثة متقاربة المخارج، وهي حروف الصفير، والفعل هنا مبنيٌّ على الفتح، في محل جزم؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والبصق، إخراج ماء الفم، وما دام فيه فهو ريق.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الصلاة فرضًا أو نفلًا موطن مناجاة لله تعالى، واتصال العبد بربه، قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه] فلا يليق أن يبصق المصلي بين يديه، فإنَّ المناجاة تكون لمن هو أمامك، ولذا جاء في رواية أخرى للبخاري (417):"فإنَّ ربه بينه وبين القبلة"، وهذه معية خاصة من الله تعالى لعبده حال مناجاته، كما جاء في الحديث الآخر:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، وهو سبحانه على دنوه وقربه من عبده في علوه.
(1) البخاري (374، 1214)، مسلم (551).
2 -
ولا يبصق عن يمينه؛ فقد جاء في التصحيح: "فإنَّ عن يمينه ملكًا"، ولابن أبي شيبة "فإنَّ عن يمينه كاتب الحسنات".
3 -
وكذلك عن شماله ملك كريم؛ فقد قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)} [ق] وقد أخرج البغوي في تفسيره من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات".
فإذا قيل: كيف يبصق عن شماله وفيه الملك؟
فالجواب والله أعلم هو ما يأتي:
(أ) أنَّ المصلي لا يبصق في الصلاة، إلَاّ في حال الحاجة، والحاجة تبيح المكروهات.
(ب) جهة اليمين أشرف من جهة الشمال، فيجعل اليمين للمستطابات، والشمال للمستقذرات.
(ج) المَلَك المقيم في جهة اليمين، أشرف من المَلَك المقيم في جهة الشمال.
(د) أرشد الشارع المصلي أن يبصق تحت قدمه الشمال، فهو لم يبصق جهة المَلَك، وإنما أسفل منه وتحت القدم، والمسلم يتقي الله تعالى ما استطاع.
4 -
العلو ثابت لله تعالى بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والجماعة، ممن يقتفون الآثار، ويعنون بالأخبار، فالعلو المطلق ثابت لله تعالى على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، فهو مُسْتَوٍ على عرشه، بائِنٌ من خلقه، محيط بكل شيء، وإثبات الجهة لله تعالى ليس معناه أنَّ الجهة تحيط به وتحصره، فالله تعالى أعظم وأجل وأوسع من ذلك، فقد وسع كرسيه السموات والأرض. {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} .
5 -
المنفي عن الله تعالى جهة السفل؛ فلا يجوز إثباتها له تعالى، فله العلو
المطلق بذاته، وصفاته، وقدره، وقهره.
6 -
وينفى عنه تعالى الحلول، فهو مع خلقه بعلمه وإحاطته التامة، وهو مع المؤمنين والمحسنين بحفظه ورعايته الخاصة، وهو مع العابدين الساجدين والداعين بسمعه وإجابته، وإعطائه وتفضله.
7 -
قال الإمام الجويني: العبد إذا أيقن أنَّ الله تعالى فوق السماء، عال على عرشه بلا حصر ولا كيفية، صار لقلبه قِبلة في صلاته وتوجهه ودعائه، ومن لا يعرف ربه بأنَّه فوق سماواته على عرشه، فإنَّه يبقى حائرًا لا يعرف جهة معبوده، فإذا دخل في الصلاة وكبَّر توجه قلبه إلى جهة العرش، منزِّهًا ربه تعالى عن الحصر، معتقدًا أنَّه في علوه قريب من خلقه، وهو معهم بعلمه وسمعه وبصره، وإحاطته وقدرته ومشيئته، وذاته فوق الأشياء، حتى إذا شعر قلبه بذلك في الصلاة، أو التوجه إليه، أشرق قلبه واستنار بالإيمان، وعكست أشعة العظمة على عقله، وروحه ونفسه، فانشرح لذلك صدره، وقوي إيمانه، ونزَّه ربه عن صفات خلقه من الحصر والحلول، وذاق حينئذٍ شيئًا من أذواق السابقين المقربين.
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: ربُّنا تعالى على عرشه، فوق مخلوقاته كلها، كما تواترت فيه نصوص الكتاب والسنة، وآثار الصحابة والسلف الصالح، فإنَّه مع ذلك محيط بالعالم كله، وقد أخبر أنَّه حيثما توجه العبد، فإنَّه مستقبل وجهه عز وجل.
8 -
جاء في بعض ألفاظ الحديث: "قِبلَ وجهه"؛ قال الحافِظُ وغيره: وهذا التعليل يدل على أنَّ البصاق إلى القبلة حرام؛ سواء كان في المسجد، أو لا، ولا سيَّما المصلي.
9 -
جاء في البخاري (415) ومسلم (552)، من حديث أنس؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها".
قال النووي: إذا بصق في المسجد، فقد ارتكب الحرام، وعليه أن يدفنه، ويجب الإنكار على من رأى من يبصق في المسجد.
10 -
الإسلام يدعو إلى النظافة والطهارة والنزاهة، وَيُنَفِّرُ من القذارة والوساخة، فالأفضل للمسلم أن يصحب معه "مناديل" يزيل بها الأقذار والأذى، ويلقيها في أواني، الزبالة وأماكنها.
***
194 -
وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ قِرَامٌ لِعَائشِةَ رضي الله عنها سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا؛ فَإنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1)، وَاتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِهَا فِي قِصَّةِ أَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، وَفِيهِ:"فَإِنَّهَا ألْهَتْنِي عَنْ صَلَاتِي"(2).
ــ
* مفردات الحديث:
- قِرَام: -بكسر القاف المثناة وفتح الراء المخفَّفة ثم ألف فآخره ميم-: هو ستر رقيق من صوف ذي ألوان، ويتَّخذ سترًا وفراشًا في الهودج.
- أمِيطي: أَمرٌ من: أَماط يميط، أي: أزيلي، قال ابن سيده: ويقال: ماط عنِّي ميطًا ومياطًا، وأماطه: نحَّاه ودفعه.
- تصاويره: ألوانه، وزخارفه، ونقوشه.
- تعرض: بفتح التاء وكسر الراء؛ أي: تلوح وتظهر، وفي رواية: بفتح العين وتشديد الراء، وأصله:"تتعرض" فحذفت إحدى التاءين.
- أَنْبِجَانِيَّة: -بفتح الهمزة وسكون النون، وكسر الباء الموحدة وتخفيف الجيم، ثم ألف ثم نون مكسورة، بعدها ياء النسبة ثم تاء التأنيث-: هي كساء غليظ له أعلام منسوبة إلى بلد تسمى "أنبيجان" من كور "قنسرين".
- أبي جهم: بفتح الجيم وسكون الهاء، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية القلة:"أبو جُهيم" بالتصغير، وهو عامر بن حذيفة القرشي العدوي.
(1) البخاري (374).
(2)
البخاري (373)، مسلم (556).
- ألهتني: من: الإلهاء، لهي الرجل عن الشيء يلهى عنه، إذا غفل، من باب علم، ومعنى ألهتني: أشغلتني، وأما لهى يلهو، إذا لعب، فمن باب نصر ينصر.
- عن صلاتي: عن كمال الحضور، وتدبر أركانها وأذكارها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب إبعاد كل ما يشغل المصلي، من ألوان وزخارف تكون في قِبلته، وصيانة الصلاة عن كل ما يلهي المصلي، وهو إجماع.
2 -
الأفضل للمصلي أن يقصد الأماكن التي لا يكون بها ما يلهيه، أو يشغله عن صلاته، وحضور قلبه فيها.
3 -
لب الصلاة وروحها حضور القلب والخشوع، فليحرص المصلي على استجلاب دواعي ذلك؛ لتتم صلاته وتكمل عبادته، قال الإِمام أحمد: كانوا يكرهون أن يجعلوا في القِبلة شيئًا، حتى المصحف.
4 -
القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ بإزالة ما قدر على إزالته، من الأمور المنافية للشرع، والمبادرة إلى ذلك.
5 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يعرض له ما يعرض لغيره -من البشر- من الخواطر، إلَاّ أنَّها لا تتمكن منه، كما هي إلَاّ خطرات بسيطة، حتى يعود إلى مناجاة الله تعالى، والاتصال بربه.
6 -
كراهة زخرفة المساجد وتزويقها، وجعل الكتابات والنقوش فيها، مما يلهي المصلين، ويشغلهم عن تدبر صلاتهم، بتتبع هذه النقوش والزخارف، وكذلك الصلاة على المفارش المنقوشة المزخرفة.
7 -
جواز ستر الجدر بالستائر، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بإزالتها إلَاّ من أجل تصاويرها، التي عرضت له أثناء صلاته، والأفضل تركه؛ لما في صحيح مسلم (2106)، عن عائشة؛ أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ما أمرت أن أكسو الحجارة والطين".
8 -
أنَّ الخواطر التي تعرض للمصلي لا تبطل صلاته، وإنما عليه إبعادها، وإزالة دواعيها إليه.
9 -
قال في "الروض وحاشيته": ويكره أن يصحب ما فيه صورة من فص، ودنانير ودراهم، وثوب فيه صورة، فيكره اتفاقًا؛ لتشبهه بعباد الأوثان.
10 -
قال الطيبي: فيه إيذان بأنَّ للصور والأشياء الظاهرة، تأثيرًا في القلوب والنفوس الزكية، فضلا عمَّا دونها.
11 -
قال شيخ الإِسلام: المذهب الذي نصَّ عليه الأصحاب وغيرهم: كراهة دخول الكنيسة التي فيها الصور، فالصلاة فيها، وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة، هذا هو الصواب الذي لا ريب فيه.
12 -
واتَّفق أهل العلم على كراهة استقبال ما يلهي المصلي من صورة، أو نار، أو سراج، أو قنديل، أو شمعة؛ لأنَّه يذهب الخشوع، ولما فيه من التشبه بالمجوس في عباداتهم النيران، والصلاة مستقبلًا لها تشبه الصلاة لأجلها.
13 -
دلت النصوص على أنَّ الأجر والثواب مشروطٌ بحضور القلب، وخضوعُ القلب فراغه من غير ما هو ملابس له، وإذا دفع الخواطر ولم يسترسل معها لم تضره، وعلى العبد الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب، من تفكر فيما لا يعنيه، ودفع الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، ولا ريب أنَّ العبد كلما أراد توجهًا إلا الله بقلبه، جاءه من الوسواس أمور أخر، فالشيطان بمنزلة قاطع الطريق وعلى العبد الاجتهاد في أن يعقل ما يقوله ويفعله فيتدبر القرآن والذكر والدعاء، ويستحضر أنه يناجي الله كأنَّه يراه.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في تصوير، واقتناء الصور التي لها روح، وقد أطال العلماء الجدال في ذلك، حتى صَنَّفُوا فيها بعض الرسائل الصغار، ولكننا نأتي بخلاصة صغيرة هنا:
أولًا: أجمع العلماء على تحريم الصور المجسِّمة، لذوات الأرواح؛ للنصوص الصحيحة الصريحة في ذلك، لما فيها من المضاهاة الظاهرة لخلق الله تعالى، ويشتد التحريم والخطورة إذا كانت لعلماء ورجال صالحين؛ لأنَّها وسيلة لأكبر ذنب، وأعظم معصية، وهو الشرك بالله تعالى.
ثانيًا: جمهور العلماء يخصصون من عموم النصوص لُعَب الأطفال. لما جاء في البخاري (6130) ومسلم (2440) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنتُ ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي" ومثل هذه الصورة بعيدة عن المحظور والغلو بالتماثيل، ولما فيهنَّ من حاجة البنات الصغار إلى تدريبهن على أولادهن، ولكن على ألَاّ يُتوسَّع في هذه اللعب، ويتفنن في صُنعها حتى تصبح كالتماثيل، كما هو حال غالبها اليوم.
ثالثًا: اختلفوا في الصور الشمسية غير ذات الظل: فذهب بعضهم إلى حل مثل هذه الصور، وأنها هي ظل الشخص، حبسته مواد معروفة، وإلَاّ لنُهي عن الصورة التي تظهر في المرآة، والماء الصافي ونحو ذلك، والله أعلم.
***
195 -
وَعَنْ جَابِرَ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَيَنْتَهِيَنَّ أقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أبْصَارَهُمْ إِلى السَّماءِ في الصَّلَاةِ، أوْ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ولَهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طعامٍ وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبثَانِ"(2).
ــ
* مفردات الحديث:
- لينتهينَّ: من الانتهاء، و"اللام" جواب قسم محذوف، والنون المشددة آخره للتوكيد، وهو خبر بمعنى الأمر.
- أو لا ترجع: "أو" هنا للتخيير، الذي قصد به التهديد، وهو خبر في معنى الأمر، والمعنى: ليكونن منهم الانتهاء عن رفع الأبصار، أو خطفها عند الرفع من الله تعالى، فلا تعود إليهم أبصارهم.
- يدافعه: لفظ المدافعة إشارة إلى شدة الاحتياج لقضائهما، فكأنَّهما يدفعان المصلي إلى قضائهما، والمصلي يدفعهما حتى يؤدي الصلاة.
- الأخبثان: هما البول والغائط، فمن احتبس بوله فهو حاقن، ومن احتبس غائطه فهو حاقب، قال أهل اللغة: الحاقن: مدافع البول، والحاقب: مدافع الغائط، والحازق: مدافع الريح، والحاقم: مدافع البول والغائط.
- والأخبثان: مثنى "أخبث"؛ وهو الذي صار ذا خبث.
(1) مسلم (428).
(2)
مسلم (560).
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الخشوع هو لب الصلاة وروحها، ويكون بالقلب والجوارح، والذي يرفع بصره إلى السماء، ويجيل نظره هاهنا، وهاهنا، لم يخشع قلبه ولا جوارحه؛ ذلك أنَّ القلب بفكره يتبع النظر، ولذا رأى سعيد بن المسيب رجلًا يعبث بلحيته وثيابه، فقال:"لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه".
2 -
النَّهي الأكيد، والوعيد الشديد على من رفع بصره إلى السماء في الصلاة؛ فقد روى الإِمام أحمد (20997)، وأبو داود (909)، والنسائي (1195)، من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه، انصرف عنه"
3 -
النبي صلى الله عليه وسلم توعد من رفع بصره إلى السماء في الصلاة، بخطف بصره، ومع ذلك يوجد كثير ممن يرفعون أبصارهم، ولم يُعرف أنَّ أحدًا رفع بصره إلى السماء، ثم خطفت، فلم يرجع إليه نظره، وأصبح لا يبصر.
والجواب: أنَّ تخلف الوعيد -كرمًا ولطفًا- لا يعني أنَّه لن يقع الأمر.
الأمر الثاني: أنه قد لا يخطف حسًّا، ولكنه خطف معنى، وهذا أعظم، فإنَّ الأول عقوبة في الدنيا، والثاني عقوبة في الدنيا والآخرة، فإنَّ الإنسان إذا كان لا يستفيد من نظره فيما يعود عليه بإصلاح أمره، فقد خطفت فائدة بصره، ولذا قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج]، وقال تعالى:{وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].
4 -
هذا الوعيد يدل على تحريم رفع البصر إلى السماء في الصلاة.
قال النووي: أجمع العلماء على تحريمه.
قلتُ: يريد إجماع جمهور العلماء؛ فإنَّ مذهب الإِمام أحمد أنَّ رفع البصر مكروه فقط، قال في "الإنصاف": وعليه الأصحاب.
5 -
رفع البصر مُنَاف لأدب الصلاة ومقامها؛ فإنَّ المصلي يناجي الله تعالى، وهو تجاهه في قِبلته، فرفع البصر وروغانه عمن يراه بقلبه، إساءة أدب، تدل على أنه لا يحس أنه يعبد إلهًا يراه، وأقرب إليه من حبل الوريد.
6 -
قال فقهاؤنا: يكره تغميض عينيه؛ لأنَّه فعل اليهود، ولأنَّه مظنة النعاس، إلَاّ إن احتاج إليه، فتزول كراهته.
قال ابن القيم: لم يكن من هديه تغميض عينيه، ثم قال:
الصواب: أن يقال: إن كان فتحهما لا يخل بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع، لما في قِبلته من زخرف وتزويق، أو غيره مما يشوش قلبه، فهناك لا يكره التغميض قطعًا، والقول باستحبابه في هذه الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده، من القول بالكراهة.
7 -
أما حديث عائشة فيدل على كراهة الصلاة في حال مدافعة الأخبثين، وهما: البول والغائط، ويرى شيخ الإسلام: أنَّ الحاقن أو الحاقب أفضل له أن يقضي حاجته، ولو لم يكن عنده ماء، ويصلي بالتيمم، ويقول: إنَّ الصلاة بالتيمم وهو طهارة شرعية، أفضل من الصلاة بالماء، في حال تشوش المصلي وانشغال باله.
8 -
مثل مدافعة الأخبثين كل ما يشغل باله من ريح في جوفه، أو حر أو برد شديدين، أو جوع أو عطش مفرط، أو غير ذلك مما يذهب عنه الخشوع وحضور القلب؛ فإنَّ حضور القلب هو لب الصلاة، فإذا لم يوجد فهي أفعال وحركات تجزىء صاحبها، ولكنها لم تُنِلْه مقام المؤمنين المفلحين، الذين هم في صلاتهم خاشعون.
9 -
في صلاة مدافع الأخبثين خلافٌ، ولكن الجمهور على صحتها، ويؤولون ظاهر الحديث بأنَّه لا صلاة كاملة، أما الظاهرية فلا يرون صحة الصلاة عملًا بظاهر الحديث، وقول الجمهور هو الصواب إن شاء الله.
10 -
قال القاضي عياض: كل العلماء مجمعون على أنَّه إن بلغ به ما لا يعقل به صلاته، ولا يضبط حدودها، فإنه لا يجوز له الدخول فيها، وأنه يقطع إن أصابه ذلك فيها.
11 -
قال ابن الملقن في "شرح العمدة": نلخص أن مدافعة الأخبثين أربعة أحوال:
أحدها: أن يكون بحيث لا يعقل منهما الصلاة، فلا تحل له الصلاة، ولا الدخول فيها إجماعًا.
ثانيها: أن يكره بحيث يفعلها مع ذهاب خشوعه بالكلية، فحكمه حكم من صلَّى بغير خشوع، والمذهب أنَّ ذلك لا يبطل الصلاة.
ثالثها: بحيث يؤدي إلى الإخلال بركنٍ أو شرطٍ، فهذا يمنع عليه الدخول، ويفسد صلاته باختلالهما.
رابعهما: بحيث يؤدي إلى الشك في شيء من الأركان، فحكمه حكم من شكَّ في ذلك بغير هذا السبب، وهو البناء على اليقين.
***
196 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أحَدُكمْ، فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وزادَ:"في الصَّلَاةِ"(1).
ــ
*مفردات الحديث:
- من الشيطان: لأنَّ التَّثاؤب ينشأ من امتلاء المعدة، وثقل البدن، وركود الحواس، التي تسبب النوم والكسل.
- تثاءب: بوزن "تقاتل"، قال في:"المصباح": تثاؤب عامي بالهمزة، أصابته الثوباء، وهي حركة للفم ليست إرادية لرفع البخارات المحتقنة في عضلات القلب، تكون هذه الحركة من كسل أو نوم.
- فلْيَكْظِم: بفتح ياء المضارعة وكسر الظاء، مجزوم بلام الأمر، والكَظْم: سد الفم بطباق الشفتين، وكظم يكظم من باب ضرب.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
التثاؤب: حركة للفم ليست إرادية، وإنَّما تأتي من هجوم كسل أو نوم، وهذه الحركة تسبب له فتح فيه.
2 -
ما دام أنَّ التثاؤب نتيجة الكسل والفتور، فإنَّ هذا من تسليط الشيطان، الذي يثبط المسلم عن القيام بواجباته الدينية، ومكملاته الخُلُقِيَّة.
3 -
منظر الفم مفتوحًا أثناء التثاؤب منظر كريه؛ لذا ندب للمتثائب أن يكظمه بطباق أسنانه وشفتيه ما استطاع، فإن لم يستطع، فيضع على فيه ما يستره عن نظر الحاضرين.
(1) مسلم (2994)، الترمذي (370).
وذلك لما روى مسلم (2995) من حديث أبي سعيدٍ الخدري؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تثاءب أحدكم، فليمسك بيده على فمه؛ فإن الشَّيطان يدخل".
4 -
هذا من أدب المجالسة، ومن احترامك الحاضرين أن يكون الجليس على أحسن حال، وأجمل مظهر.
5 -
كما أن إطباق الفم أثناء التثاؤب، فيه إغاظة ومكايدة للشيطان، الذي سلط الكسل والعجز على المسلم؛ ليحرمه من النشاط في طاعة الله تعالى.
6 -
أنَّ الله تبارك وتعالى يريد من المسلم القوة والنشاط في العبادة، فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، ولذا كانت الصلاة تباعد الأعضاء بعضها عن بعض، في الركوع والسجود، وهذا يدل على الرغبة في النشاط والقوة، أما الكسل والفتور فهي من صفات المنافقين، الذين يثقلون عند العبادة.
***
* فائدة:
أهمل المؤلف رحمه الله ذكر النية، وهي من شروط الصلاة، وتتميمًا للفائدة، فإنَّنا نلحق هذين الحديثين العظيمين اللذين هما من قواعد الإِسلام ومبانيه العظام:
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" متفق عليه (1).
* مفردات الحديث:
- إنما الأعمال بالنيات: كلمة "إنَّما" تفيد الحصر، فهو هنا قصر موصوف على صفة، وهو إثبات حكم الأعمال بالنيات، فهو في قوة:"ما الأعمال إلَاّ بالنيات"، وينفي الحكم عمَّا عداه.
- النية: لغة: القصد، ووقع بالإفراد في أكثر الروايات، مال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرضٍ، من جلب نفع، أو دفع ضر. اهـ.
وشرعًا: العزم على فعل العبادات تقربًا إلى الله تعالى.
- فمن كانت هجرته: جملة شرطية.
- فهجرته إلى الله ورسوله: جواب الشرط، واتحد الشرط والجواب؛ لأَنَّهما على تقدير: من كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدًا، فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا.
(1) البخاري (1)، مسلم (1907).
النية نوعان:
أحدهما: يُقْصَد بها تمييز العادة عن العبادة، وتمييز العبادات بعضها عن بعض، هذا النوع يتكلم عنه الفقهاء في كتب الأحكام الفرعية.
الثاني: قصد المعبود بالعبادة، وهذا هو سر العبادة وروحها، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وهذه النية أهم الأمرين، ذلك أنَّ إخلاص النية للمعبود هو الأصل، فالعبادة التامة هي ما توفر لها خمسة مقامات:
1 -
نية العمل، فالعمل الذي يؤتى به ولَمْ يُنوَ، ليس بعبادة، وفاعله ليس متقربًا إلى الله تعالى.
2 -
نية المعبود، بأن يكون القائم لم يقم بها إلَاّ مخلصًا بها لوجه الله تعالى.
3 -
أن يقوم مستحضرًا عن القيام بها امتثال أمر الله تعالى بها ورسوله.
4 -
أن يستحضر عند القيام بالعبادة، أنَّه يعبد الله تعالى بالإيقان بها.
5 -
أن يستحضر وهو يفعلها الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه العبادة الكاملة التامة، التي يحصل صاحبها على كامل ثوابها، أما مجرَّد نية العمل، فهو يبرىء الذمة من الواجب، بدون الثواب الكبير.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّ مدار الأعمال على النيات، صحةً وفسادًا، وكمالًا ونقصًا، وطاعةً ومعصيةً، فمن قصد بعمله الرياء فقد فسد عمله، ومن قصد بالجهاد -مثلًا- إعلاء كلمة الله فقط، كَمُلَ ثوابه، ومن قصد ذلك والغنيمة معه، نقص ثوابه، ومن قصد الغنيمة وحدها، لم يأثم، ولكنه لا يعطى أجر المجاهد، فالحديث مسوق لبيان أنَّ كل عمل طاعةً كان في الصورة أو معصيةً، يختلف باختلاف النيات.
2 -
أنَّ النيَّة شرط أساسي في العمل، ولكن الغلو في استحضارها، يفسد على
المتعبد عبادته، فإنَّ مجرد قصد العمل يكون نية له، بدون تكلف استحضارها وتحقيقها.
3 -
أنَّ النيَّة محلها القلب، واللفظ بها بدعة.
4 -
وجوب الحذر من الرياء والسمعة والعمل لأجل الدنيا، ما دام أنَّ شيئًا من ذلك يفسد العبادة.
5 -
وجوب الاعتناء بأعمال القلوب، ومراقبتها.
6 -
أنَّ الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإِسلام من أفضل العبادات إذا قصد بها وجه الله تعالى.
* فائدة:
ذكر ابن رجب أنَّ العمل لغير الله على أقسام:
فتارة يكون رياءً محضًا، لا يقصد به إلَاّ مراءاة المخلوقين، لتحصيل غرض دنيوي، وهذا لا يكاد يصدر عن مؤمن، ولا شكَّ في أنَّه يحبط العمل، وأنَّ صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
وتارةً يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله، فإنَّ النصوص الصحيحة تدل على بطلانه، وإن كان أصل العمل لله، ثم طرأ عليه نية الرياء ودفعه صاحبه، فإنَّ ذلك لا يضره بغير خلاف، وقد اختلف العلماء من السلف في الاسترسال في الرياء الطارىء، هل يحبط العمل أو لا يضر فاعله، ويجازى على أصل نيته؟ اهـ بتصرف.
***
الفائدة الثانية:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"[رواه البخاري (6954)، ومسلم (255)].
* مفردات الحديث:
- لا يقبل الله: بصيغة النفي، وهو أبلغ من النهي؛ لأَنَّه يتضمن النهي، وزيادة نفي حقيقة الشيء.
- أحدث: أي: حصل منه الحدث، وهو الخارج من أحد السبيلين، أو غيره من نواقض الوضوء، وفي الأصل: الحدث: الإيذاء.
- الحدث: وصف حكمي يقوم بالبدن، يمنع وجوده من صحة العبادة المشروط لها الطهارة.
* المعنى الإجمالي:
الشارع الحكيم أرشد من أراد الصلاة ألا يدخل فيها إلَاّ على حال حسنة وهيئة جميلة؛ لأنَّها الصلة الوثيقة بين الرب وعبده، وهي الطريق إلى مناجاته، لذا أمره بالوضوء والطهارة فيها، وأخبره أنَّها مردودة غير مقبولة بغير ذلك.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّ صلاة المحدِث لا تقبل، حتى يتطهر من الحدثين: الأكبر، والأصغر.
2 -
أنَّ المراد بعدم القبول هنا: عدم صحة الصلاة، وعدم إجزائها.
3 -
أنَّ الحدث ناقض للوضوء، ومبطل للصلاة إن كان فيها.
4 -
الحديث يدل على أنَّ الطهارة شرط لصحة الصلاة.
***