الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو ستة:
النقض، وعدم التأثير، والكسر، والقلب، والقول بالموجب، والفرق.
الأول النقض
ويسمى تخصيص العلة، وتخصيص الوصف: وهو إبداء الوصف
الذي يُدَّعى أنه علة في محل ما يدون الحكم فيه، مثل أن تقول: لمن لم يبيت الصيام من الليل، تعرى أول صومه عن النية فلا يصح، كعراء أول صلاته منها، فيجعل عراء أول الصوم من النية علة لبطلانه، فينتقض بالتطوع بالصوم، فإنه يصح بدون التبييت فقد وجدت العلة، وهي العري بدون الحكم وهو عدم الصحة في النفل.
وقد اختلف في كون النقض قادحًا في العلية:
قيل: يقدح في علية الوصف مطلقًا، سواء كانت العلة منصوصة، أو مستنبطة، وسواء كان التخلف لمانع أو لا لمانع.
واختاره في جمع الجوامع وعزاه للشافعي- رضي الله تعالى
عنه- ونقل عن اختيار الإمام الرازي.
وقال ابن السمعاني في القواطع: هو مذهب الشافعي (رضي الله تعالى عنه) وجميع أصحابه إلا القليل منهم.
وقال الغزالي في شفاء الغليل: إنه لا يعرف له (فيه نص).
وقيل: لا يقدح مطلقًا، ونسب لأكثر الحنفية والمالكية والحنابلة.
وقيل: لا يقدح في المنصوصة ويقدح في المستنبطة.
وقيل: لا يقدح حيث وجد مانع للتخلف أو فقد شرط، سواء
كانت العلة مستنبطة أو منصوصة، وإلا فتقدح، وهو المختار، واختاره الصفي الهندي، وعزاه في جمع الجوامع لأكثر فقهائنا.
وهنا نفائس تراجع من الأصل.
واستدل لمختاره على عدم القدح لمانع، بقوله: «قياسًا على
التخصيص» فكما أن التخصيص لا يقدح في كون الوصف علة، والجامع بينهما هو جمع الدليلين المتعارضين، فإن مقتضى العلة ثبوت الحكم في جميع محالها، ومقتضى المانع عدم ثبوته في بعض تلك الصور، فيجمع بينهما بأن يترتب الحكم على العلة فيما عدا صورة وجود المانع.
كما أن مقتضى العام، ثبوت حكمه في جميع أفراده، ومقتضى التخصيص عدم ثبوته في بعضها، وقد جمعنا بينهما.
فالنقض للمانع المعارض للعلة، كالتخصيص المعارض للعام.
فنسبة العلة إلى محالها كنسبة العام إلى أفراده، ونسبة النقل لمانع إلى العلة كنسبة المخصص إلى العام، كما أن العام بعد التخصيص حجة في الباقي، كذلك العلة مقتضية للحكم فيما عدا النقض لمانع.
وأيضًا: لأن الظن بعلية الوصف باق مع التخلف لمانع، لأن التخلف هنا، يسنده العقل إلى المانع، لا إلى عدم المقتضى، بخلاف ما لم يكن مانع، أي: بخلاف التخلف الذي لم يكن لمانع، فإنه يغلب على
الظن أن التخلف لعدم المقتضى، وإذا بقي ظن علية الوصف مع المانع لم يكن قادحًا في عليته، إذ المراد بالعلية، : بقاء الظن بها وهو المطلوب.
قيل: من جهة القائلين بأن النقض يقدح مطلقًا.
العلة: ما يستلزم الحكم، والوصف المنقوض لمانع قبل انتفاء المانع لم يستلزم الحكم، وإذا ثبتت المقدمتان: فيقال: الوصف المنقوض لمانع لا يسلتزم الحكم والعلة تستلزم الحكم، لينتج: فالوصف المنقوض لمانع ليس بعلة.
وإذا كان التخلف لمانع قادحًا، فلغير مانع أولى، فكان التخلف مطلقًا قادحًا.
قلنا: ليست العلة ما تستلزم الحكم، بل ما يغلب على ظنه وجود الحكم بمجرد النظر إليه، وإن لم يخطر المانع بالبال وجودًا أو عدمًا، أو لم يخطر بباله شيء منهما فيكون علة.
وتحقيقه: أن الذي يستلزم إنما هو العلل العقلية، لأنها علل بالذات، ويستلزم معلولها استلزامًا ذاتيًّا، وما بالذات لا ينفك، لا جرم: دل الانفكاك على عدم العلية وهذه علل بالوضع، فقد لا يستلزم معلولها، ولا يضر الانفكاك.
هذا كله إذا كان النقض غير وارد بطريق الاستثناء.
وأما الوارد استثناء عن القاعدة الكلية، أورد على جميع المذاهب فإنه لا يقدح كمسألة العرايا، فإنها وردت على جميع ما علل به،
كالكيل، والطعم، والقوت، والمال، مع أنه غير قادح في علية أحدها؛ لأن الإجماع منعقد على أن حرمة الربا معللة بأحدها.
فلا يقدح الاستثناء في عليتها، لأن الإجماع أدل على العلية من النقض على عدم العلية، وإلا يلزم الإجماع على الخطأ، وإنه باطل.
ومقتضى كلام المصنف: أن الوارد على سبيل الاستثناء لا يقدح بلا خلاف، وبه صرح الخنجي والشيخ سعد الدين.
وكلام الإمام الرازي، وصاحب الحاصل، يقتضي أن فيه
خلافًا.
قال العبري: والمعتمد قول الإمام لا غيره.
وهنا فوائد مبسوطة في الأصل.
وجوابه- أي: جواب النقض الذي يدفع به- بأحد أمور ثلاثة على ما ذكر المصنف.
الأول: منع المستدل وجود العلة في صورة النقض، لا عنادًا ومكابرة، بل لعدم قيد من القيود المعتبرة في علة الوصف.
مثاله: أن يقال: من لم يبيت النية في رمضان يعرى أول صومه عنها فلا يصح، فينقض بالتطوع.
فيجاب بأن العلة في البطلان: هو عراء أول الصوم بقيد كونه واجبًا لا مطلق الصوم، وهذا القيد مفقود في التطوع فلم توجد العلة فيه.
وليس للمعترض إذا منع العلل وجود العلة في صورة النقض (لعدم قيد كما ذكرنا الدليل على وجوده، أي: على وجود الوصف بتمامه في صورة النقض).
وبه جزم الإمام الرازي تبعًا للأكثرين لأنه نقل من الاعتراض إلى الاستدلال.
أو لأنه نقل من مسألة إلى مسألة، وهو غصب غير ملتفت إليه في اصطلاح أهل النظر.
ولو قال المعترض للمستدل ما دللت به على وجوده هنا، أي على وجود الوصف مع قيوده المعتبرة في الفرع دل عليه ثمة، أي: دل عليه في محل النقض، فينتقض دليل لوجوده في محل النقض، بدون مدلوله، وهو وجود العلة.
فهو نقل من نقض العلة إلى نقض الدليل الدال عليها وهل يسمع أم لا؟
فيه خلاف:
قال الجدليون: لا يسمع هذا من المعترض، لأنه انتقل من نقض العلة إلى نقض دليلها.
ونقل عن اختيار الآمدي والصفي الهندي وصوبه في جمع الجوامع.
قال الإسنوي: وغيره: وهو الأقرب إلى الفهم من كلام المصنف، لأنه علل منع المعترض من الدليل على وجوده بأنه نقل فدل على أن النقل غير مقبول مطلقًا.
وقيل: يسمع.
وهو ظاهر كلام المحصول لأن القدح في (دليل العلة، قدح في) العلة، وهو مطلوب فلا انتقال.
ولذا قال ابن الحاجب إن في عدم سماعه نظرًا.
هذا إذا ادعى انتقاض دليل العلية معينًا.
ولو ادعى أحد الأمرين فقال: يلزم إما انتقاض العلة أو انتقاض دليلها، وكيف كان فلا تثبت العلية كان مسموعًا بالاتفاق، فإن عدم الانتقال فيه ظاهر، قاله المحقق.
الثاني: من أجوبة النقض.
أن يدعى المعلل ثبوت الحكم في تلك الصورة التي نقض بها المعترض وإليه أشار بقوله: «أو دعوى الحكم» تحقيقًا: مثل أن يقول المستدل: السلم عقد معاوضة، فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع
فينتقض بالإجارة فإنها عقد معارضة، فلا يشترط فيها التأجيل.
فيقول: المستدل: ليس الأجل شرطًا لصحة عقد الإجارة أيضًا، بل التأجيل الذي فيها، إنما هو لاستقرار المعقود عليه، وهو الانتفاع بالعين، إذ لا يتصور استقرار المعقود عليه وهو الانتفاع بالعين.
إذ لا يتصور استقرار المنفعة المعدومة في الحال.
وإليه أشار بقوله: «قلنا: هناك أي: في الإجارة» لاستقرار المعقود عليه لا لصحة العقد، ولا يلزم من كون الشيء شرطًا في الاستقرار أن يكون شرطًا في الصحة.
ومحل صحة الجواب بذلك أن لا يكون انتفاؤه في صورة النقض، مذهب المستدل.
فأما إذا كان مذهب المستدل فليس له الجواب به. سواء كان مذهب المعترض أم لا.
واعلم أن دعوى الحكم في صورة النقض يدفعه، ولو كان ثبوت
ذلك الحكم في النقض تقديرًا، كقولنا: رق الأم علة لرق الولد، فينقضه المعترض بولد المغرور بحرية الأم فإن رق الأم حاصل مع عدم رق الولد اتفاقًا.
ويقول المعلل: ثبت الرق في ولد المغرور تقديرًا، وإن لم يثبت ظاهرًا وإلا أي: لو لم يثبت رقه تقديرًا لم يجب عليه قيمته؛ لأن القيمة للرقيق لا للحر.
وتوقف الإمام الرازي في كون التقديري يدفع النقض.
الثالث: من أجوبة النقض: إظهار المانع.
وإليه أشار بقوله: «أو إظهار المانع» ، يعني: بيان وجود معارض في
محل النقض اقتضى نقيض الحكم: كنفي الوجوب للوجوب، أو ضده: كالحرمة للوجوب.
واقتضاء المانع لنقيض الحكم أو ضده إما لتحصيل مصلحة، وهي اللذة، أو ما هو وسيلة إليها، أو لدفع مفسدة، وهي الألم، أو ما هو وسيلة إليها.
أما تحصيل المصلحة، فكما في العرايا، فإن وصف الثمن والمثمن وهو كونهما مطعومين مع عدم العلم بمساواتهما علة للتحريم.
وقد تخلف التحريم عنه في العرايا وهي: بيع الرطب على رأس النخل بالتمر على الأرض بمساواته تخمينًا لوصف لا يقينًا لمانع، هو حاجة الفقير الذي لا يملك النخل، وله تمر إلى الرطب، ومالك النخل والرطب إلى التمر، وهو يقتضي عدم التحريم لتحصيل مصلحة هي التلذذ بالغذاء المحتاج إليه، وعدم التحريم نقيض التحريم.
وضربه الدية على العاقلة في الخطأ.
فإن القتل العمد العدوان سبب للزجر، وهو علة لضرب الدية على القاتل، ووجوب أدائهما عليه لينزجر به ويحصل به حفظ النفس، وقد
تخلف الحكم عنه (في الخطأ) لمانع وهو الخطأ به وعدم القصد، لقوله عليه الصلاة والسلام كما روى عنه «رفع عن أمتي الخطأ» .
بل هو يقتضي عدم وجوب أداء الدية عليه تحصيلًا لمصلحة حفظ ماله، وبقية الأمثلة في الأصل.
قال ابن الحاجب: هذا كله إذا لم تكن العلة منصوصة بظاهر عام، فإن كان فلا يجب إظهار المانع بعينه بل يحكم بتخصيصه بغير محل النقض، ويقدر المانع لجلب مصلحة أو دفع مفسدة، فيكون تخصيصًا للعموم لا للعلة.
وقال بعضهم: إنما بناه على مختاره في ذلك.
تنبيه: في بيان ما يكون نقضًا ويستحق الجواب، وما لا يكون كذلك، فالذي يكون نقضًا قسمان، لأن دعوى الحكم قد تكون في بعض الصور، وقد تكون في كلها.
القسم الأول: وهو ما يكون في بعض الصور، وهو قد يكون في صورة معينة، أو صورة مبهمة.
وعلى التقديرين: فقد تكون الدعوة ثبوت الحكم أو نفيه.
فهذه أربع صور:
الأولى: دعوى ثبوته في صورة معينة، ينقضه النفي العام في جميع الصور، لأن الموجبة الجزئية تنتقض بالسالبة الكلية، ولا تنتقض بنفيه عن بعض الصور، لعدم تناقض الجزئيتين.
الثانية: دعوة ثبوت الحكم في صورة مبهمة، ينتقض بالنفي العام كالتي قبلها.
الثالثة: دعوى نفي الحكم عن صورة معينة، ينتقض بإثباته في
جميع الصور لا في بعضها لما مر من تناقض الجزئية والكلية دون الجزئيتين.
مثاله: النبيذ غير نجس قياسًا على خل الزبيب، فينقضه: بأن كل نبيذ مسكر، وكل مسكر نجس.
الرابعة: دعوى نفي الحكم عن صورة مبهمة ينتقض بإثباته في كل صورة.
وإلى هذه الأقسام أشار بقوله: «دعوى ثبوت الحكم في صورة معينة أو مبهمة ينتقض بالإثبات أو النفي العامين» .
وتقديره ثبوت الحكم في صورة معينة أو مبهمة ودعوى نفي الحكم عن صورة معينة أو مبهمة ينتقض بالإثبات العام، وهو من باب اللف والنشر على جعل الأول للثاني، والثاني للأول.
القسم الثاني: وهو ما يكون الحكم في جميع الصور.
وهو إما النفي وإما الإثبات.
والأول: ينتقض بالإثبات في صورة معينة أو مبهمة.
والثاني: ينتقض بالنفي في صورة معينة أو مبهمة.
فهذه أربع صور أيضًا أشار إليها بقوله: «وبالعكس» .
وتقدير كلامه: أن دعوة ثبوت الحكم العام تنتقض (بالنفي عن) صورة معينة أو مبهمة.
(لأن نقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية.
ودعوى نفي حكم عام ينتقض بإثباته في صورة معينة أو مبهمة).
لأن نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية.
ولا ينتقض الثبوت بالثبوت، ولا النفي بالنفي، ولا الكلي بالكلي، ولا الجزئي بالجزئي.
أي: السالبة الكلية لا تنتقض بالموجبة الكلية.
نعم يكون خلافًا ولا يكون نقضًا.
وكلام المصنف إنما هو فيما إذا كان المقصود إثبات الحكم أو نفيه فقط.
أما إذا كان المقصود الأمرين معًا وجب كون الحكم مطردًا منعكسًا مع علته، كالحد مع المحدود، فينتقض بثبوت الحكم عند الوصف وبعدمه عند ثبوته.
قال العراقي: وقد يفهم من كلامه تخصيص الانتقاض بالإثبات والنفي العامين، وليس كذلك، فإن دعوى الثبوت في صورة معينة ينتقض بالنفي عن تلك الصورة وكذا العكس.
المبطل الثاني للعلية
عدم التأثير وعدم العكس.
وجمع بينهما لتقارب معناهما.
فعدم التأثير هو: بأن يبقى الحكم بعده، أي: بعد الوصف الذي
فرض له علة.
وعدم العكس: هو: بأن ثبت الحكم في صورة أخرى مخالف للعلة الأولى.
وجعل في جمع الجوامع: عدم التأثير كون الوصف لا مناسبة فيه أي: لإثبات الحكم (ولا نفيه).
فتعريف المصنف التابع فيه للإمام الرازي أخص، ثم قال: ومن ثم أي: ومن أجل تفسيره بذلك اختص قدح عدم التأثير بقياس المعنى- دون الشبه والطردي- وبالمستنبطة المختلف فيها.
وجعل عدم التأثير أربعة أقسام:
أحدهما: أن يكون ذلك في الوصف بكونه طرديًا.
ثانيها: أن يكون ذلك في الأصل بأن يستغني عنه بوصف آخر.
ثالثها: أن لا يكون ذلك في الحكم، وهو ثلاثة أنواع:
لأنه إما أن لا يكون لذكره فائدة أصلًا أو له فائدة
ضرورية (أو غير ضرورية) ومع كونها ضرورية لا تأثير له في الحكم.
رابعها: أن يكون عدم التأثير في الفرع، لكون الوصف لا يطرد في جميع صور النزاع.
وأمثلة هذه الأقسام كلها مع فوائد حسنة في الأصل.
ثم قال المصنف: فالأول، أي: عدم التأثير، كما لو قيل: في عدم جواز بيع الغائب: مبيع لم يره المشتري، فلا يصح بيعه كالطير في
الهواء بجامع عدم الرؤية.
فيقال: لا أثر لكونه غير مرئي، لأن عدم الصحة ثابت مع الرؤية لانتفاء القدرة على التسليم.
وحاصله: معارضته (في الأصل) أي: بإبداء علة أخرى وهي العجز عن التسليم.
ولذا بناه المصنف على جواز التعليل بعلتين.
والثاني: وهو عدم العكس.
مثل: الصبح لا يقصر، فلا يقدم أذانه على قوته كالمغرب.
فيقال: عدم القصر الذي جعل علة لمنع تقديم الأذان في الوقت ليس بعلة.
لأنه منتف فيما قصر من الصلاة كالظهر والعصر وذلك مع
أن منع التقديم ثابت فيما قصر، فيكون منع التقديم معللًا بعلة أخرى غير عدم القصر.
وحاصل هذا المطالبة بالدليل على كون الوصف علة.
والأول: وهو عدم التأثير: يقدح في علية الوصف أي: يبطلها إن منعنا تعليل الواحد بالشخص بعلتين مختلفين، لأن الحكم لما بقي بعد عدم الوصف علمنا استغناؤه عنه، فلا يكون معللًا به، أما إذا لم يمنع ذلك فلا يقدح بقاء الحكم بعد الوصف في عليته لجواز حصوله بالعلة الأخرى.
قال العبري: هذا إذا فسرت العلة بالتامة، أما إذا فسرت بالمعرف أو بالعلة الناقصة، فإن ذلك لا يقدح في العلية.
وأما على التفسير بالمعرف: فلأنه جاز أن يكون معرف الشيء أمرًا يحدث بعد الشيء، وينعدم قلبه كالعالم للصانع.
وأما على التفسير بالناقصة: فلأن عدم المعلول معلول لعدم كل واحد من العلل الناقصة، وهو باق بعد زوال آية واحدة فرضت منها، مع أنه
لا يلزم عدم عليته عدم تلك العلل لعدم المعلول.
والثاني: وهو عدم العكس: إنما يقدح في علية الوصف، حيث يمتنع تعليل الواحد بالنوع بعلتين مختلفتين؛ لأنه حينئذ يمتنع ثبوت مثل ذلك الحكم في صورة أخرى بعلة تخالف العلة الأولى.
أما إذا لم يمتنع فلا استحالة.
وقد علمت من هذا: أن الحكم الواحد إن بقي بعينه بعد زوال الوصف فهو الواحد بالشخص، وعدم التأثير.
وإن بقي مثله فعلة أخرى فهو الواحد بالنوع.
وعدم العكس، والعكس: انتفاء الحكم لانتفاء الوصف.
وذلك: أي تعليل الحكم الواحد بالشخص أو النوع، بعلتين
مختلفتين جائز في العلل المنصوصة كالإيلاء واللعان.
فإنهما علتان مستقلتان في تحريم وطء الزوجة التي هي حكم واحد.
وفيه نظر: فإن الزوجة لا تحرم بالإيلاء، فلو مثل بالظهار مع الطلاق الرجعي لكان حسنًا.
فإنه يصح اجتماعهما في محل واحد، وهما علتان لتحريم الوطء وكذلك كل واحد من القتل والردة، علة لجواز القتل الذي هو
حكم واحد، وإذا ثبت ذلك في الواحد بالشخص، ثبت ذلك في الواحد بالنوع، بطريق أولى، لأن كل من قال بالأول قال بالثاني بخلاف العكس، وهو من محاسن كلامه.
(وقال العراقي: ظاهر كلامه جريان الخلاف في الواحد بالنوع، والواحد بالشخص.
وقد صرح الآمدي والصفي الهندي وغيرهما: بأن محل الخلاف (في الواحد) بالشخص.
أما الواحد بالنوع: فيجوز تعليله بعلتين وأكثر بلا خلاف انتهى.
وذلك كتعليل قتل زيد بردته، وعمرو بالقصاص، وخالد بالزنا بعد الإحصان).
ولا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين (في العلل المستنبطة فإن الحكم فيها إنما يسند إلى ما ظن ثبوته لأجله، وحينئذ يمتنع التعليل بعلتين مختلفتين)، لأن ظن ثبوت الحكم لأحدهما أي: لأحد الوصفين يصرفه عن ثبوته للآخر.
وعن المجموع أي: وعن ثبوته لمجموع الوصفين فلا تكون العلة إلا واحدًا مثاله: إذا أعطى شيئًا لفقيه فقير، فالإعطاء يحتمل أن يكون (للفقه أو للفقر) أو لمجموعهما، فلا يجوز الاستناد إليهما لما قلنا.
وفيه نظر: فإن العلة ليست ما يفيد وجود أمر بل ما يفيد العلم بوجود أمر وليس بصارف، لأنها بمعنى الدليل، ويجوز اجتماع أدلة على مدلول واحد.
وما اختاره المصنف (قال به ابن فورك) واختاره الغزالي والإمام الرازي.
وقال الجمهور: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين فصاعدًا مطلقًا، وهو واقع، واختاره ابن الحاجب.
وقيل: ممتنع مطلقًا عقلًا وشرعًا، واختاره الآمدي، وحكاه عن القاضي أبي بكر وإمام الحرمين، وصححه في جمع الجوامع.
وقيل: يجوز عقلًا ويمتنع شرعًا.
قال الصفي الهندي: وهو المشهور عن إمام الحرمين.
ومحل الخلاف في الواحد بالشخص كما مر.
قال بعضهم: ومحل الخلاف أيضًا في العلل الشرعية، أما العلل القطيعة فممتنع قطعًا.
والقائلون بوقوع تعدد العلل المستقلة: اتفقوا على أنها إذا ترتبت حصل الحكم بالأولى.
وأما إذا اجتمعت دفعة، كمن مس ولمس وبال معًا ففيه خلاف.
والمختار عند ابن الحاجب أن كل واحد علة مستقلة، والصحيح جواز تعليل حكمين بعلة واحد، وهنا تحقيقات في الشرح.
المبطل الثالث للعلة: الكسر
وهو عدم تأثير أحد الجزأين للوصف الذي ظن كونه علة للحكم ونقض الجزء الآخر، فلا يرد إلا على الوصف المركب من جزأين، يكون أحدهما ملغي والآخر منقوضًا.
فهو في الحقيقة قدح في تمام العلة بعدم التأثير، وفي جزأيها بالنقض، قاله في المحصول.
وذلك كقولهم: صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها إجماعًا، فيجب أداؤها كصلاة الأمن.
فالعلة كونها صلاة يجب قضاؤها، فإذا قال ذلك.
قيل له: خصوصية الصلاة، وهو القيد الأول ملغى لا أثر
له؛ لأن الحج كذلك، فإنه يجب أداؤه لوجوب قضائه مع أنه ليس بصلاة فبقي كونه عبادة يحب قضاؤها، وهو منقوض بصوم الحائض، فإنه عبادة يجب قضاؤها ولا يجوز أداؤها، فضلًا عن الوجوب.
لا يقال: حج التطوع يجب قضاؤه، ولا يجب أداؤه، لأنه إذا أحرم بالحج لا يجوز له الخروج من الحج، فوجب أداؤه في الجملة.
وتعريف المصنف للكسر تابع فيه الإمام الرازي.
وممن رجح القدح به الآمدي وابن الحاجب إلا أنهما سمياه: النقض المكسور.
وعرفا الكسر: بوجود حكمة العلة، بدون العلة والحكم.
ويعبر عنه بنقض المعنى، أي: الحكمة.
والراجح أنه لا يقدح، لأنه لم يرد على العلة.
انتهى بحمد الله تعالى الجزء الخامس،
من كتاب
مختصر تيسير الوصول
شرح منهاج الأصول
ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السادس،
وأوله:
المبطل الرابع للعلية
* * *