الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المساواة]
المساواة تعد المساواة بين الناس على اختلاف الأجناس والألوان واللغات، مبدأ أصيلا في الشرع الإسلامي، ولم يكن هذا المبدأ على أهميته وظهوره، قائما في الحضارات القديمة، كالحضارة المصرية أو الفارسية أو الرومانية؛ إذ كان سائدا تقسيم الناس إلى طبقات اجتماعية، لكل منها ميزاتها وأفضليتها، أو على العكس من ذلك، تبعا لوضعها الاجتماعي المتدني.
وكانت التفرقة بين البشر في المجتمعات القديمة، تستند إلى الجنس واللون، والغنى والفقر، والقوة والضعف، والحرية والعبودية، وكانت طبقة الحكام ورجال الدين من الطبقات المميزة، بل إن بعض المجتمعات، مثل المجتمع الهندي، كان يعرف طائفة المنبوذين، وكان محرما على أفراد الطبقة، أن ينتقلوا منها إلى طبقة أعلى، حتى ولو كانت ملكاتهم تتيح لهم ذلك.
وفي العصر الحديث، رفعت الثورة الفرنسية سنة 1789 م، شعار المساواة.
غير أن التجارب العملية، تعلم الإنسان أن المبادئ والشعارات وحدها لا تكفي، دون أن يكون هناك ما يحدد المضامين، ويفتح طريق التطبيق، ويفرض الجزاء عند المخالفة.
وذلك ما نجده في التشريع الإسلامي في مبدأ المساواة بين الناس.
فهي تسوية أصلية بحكم الشرع، ومضمونها محدد، وأساليب تطبيقها واضحة، والجزاء عند مخالفتها قائم، وهو جزاء دنيوي وأخروي.
إن التسوية بين البشر، تعني التسوية بينهم في حقوق الكيان الإنساني، الذي يتساوى فيه كل الناس.
أما التسوية الحسابية في الحقوق الفرعية التي تؤدي إلى المساواة بين غير المتماثلين، فإنها معنى يختلف عن التسوية في الآدمية التي كرمها الله، والتي تستند إلى مبادئ ثابتة وأصل واضح، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1](سورة النساء، الآية 1)
فالناس كلهم من نفس واحدة.
ويبين الحديث الشريف هذا الأصل في المساواة:
«إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم، وآدم من تراب، لينتهين أقوام عن فخرهم برجال أو ليكونن أهون عند الله من عدتهم من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن» (1) هذه قاعدة الإسلام الأصلية في المساواة، كما تحددت في آيات القرآن الكريم، وبينتها السنة المشرفة.
وحينما تختلف أحوال الناس، وأوضاعهم، وتختلف أزمنتهم وأمكنتهم، ويوجد التنوع في الأجناس والألوان واللغات، والغنى والفقر، والقوة والضعف، والعلم والجهل، ويختلف الموقع الاجتماعي والاقتصادي بين
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده: جـ2 / ص 361، وأبو داود في سننه: كتاب الأدب، باب في التفاخر بالأحساب، والترمذي في سننه: كتاب التفسير، باب ومن سورة الحجرات.
والعبية، بضم العين، ويسر الباء المشددة، وفتح الياء المشددة، هي التكبر، والنخوة.
الناس، حينذاك تفرض المجتمعات معايير للتفاضل بين الناس، إزاء هذا التنوع والاختلاف.
ولا بد من وضع معيار للتفاضل؛ لأن المساواة المطلقة لا تكون إلا في الكيان الإنساني، والمشكلة تبدأ عند وضع هذا المعيار، بحيث لا يخل بمبدأ المساواة في ذاته، ويجعل التفاضل وسيلة نمو ورقي، وليس ذريعة للظلم والتفرقة بين الناس.
وهذا ما جاء في الشرع الإسلامي، فقد ترك كل المعايير السائدة للتفاضل، كالقوة والضعف، والموقع الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو الطبقة التي ينتمي إليها الإنسان، أو الجنس واللون.
فكل هذه المعايير، كانت قائمة في المجتمعات القديمة، حتى أنكر بعض الفلاسفة الأقدمين، مبدأ المساواة ذاته، مثل أفلاطون الذي قرر أن بعض الناس خلقوا؛ للحكم والسيطرة، وبعضهم خلق؛ لكي يكون محكوما يعمل من أجل غيره.
وجاء في الإسلام معيار للتفاضل، يتساوى أمامه الخلق جميعا على اختلاف الأجناس والألوان، والحرية
والعبودية، إنه معيار التقوى، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13](سورة الحجرات، الآية 13) .
إن معيار التفاضل هنا، يستطيع الارتقاء إليه كل البشر، ولا يقسم الناس إلى طبقات يعلو بعضها بعضا، وهو معيار يدفع إلى الرقي والسمو بالإنسان.
إن التقوى معيار الكرامة الإنسانية عند الله عز وجل، ومع ذلك فهي معيار الصلاح في الدنيا، وهو معيار حقيقي وعملي؛ إذ إن صلاح الإنسان في دنياه، يجعله أفضل لنفسه وللمجتمع الذي يعيش فيه، من غيره الذي لا يفيد نفسه ولا مجتمعه بشيء.
وقد هدم الدين الإسلامي بهذا المعيار الحقيقي الذي يرتقي بحياة الإنسان والمجتمع، كل المعايير الزائفة، التي أشار القرآن الكريم إلى الكثير منها.
يقول الله تعالى في الإنكار على أصحاب المعايير الزائفة في التفاضل:
{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111](سورة الشعراء، الآية 111) .
مما يدل على أنهم لم يؤمنوا؛ لأن مَن هم أقل منهم قد آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13](سورة البقرة، الآية 13) .
ولما طلب وجهاء قريش ومن كانوا يحسبون أنفسهم سادة قومهم، من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد الفقراء والمساكين وضعاف الناس الذين التفوا حوله وآمنوا به، كعمار بن ياسر، وبلال، بحجة أنهم يريدون أن يستمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لا يجلسون مجلسا يكون فيه هؤلاء محل الرعاية من الرسول الكريم، نزل قول الله تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52](سورة الأنعام، الآية 52) .
وبين النبي صلى الله عليه وسلم معنى المساواة، حين شفع وجهاء من القوم، في إعفاء امرأة شريفة وجب عليها حد السرقة،
حتى لا توقع عليها العقوبة، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ونبه إلى عدم جواز الشفاعة في حدود الله؛ لأن ذلك يخل بمبدأ المساواة بين الناس، ويؤدي إلى إيثار ذوي الوجاهة بإعفائهم من العقاب، مع إقامة الحدود على ضعفاء الناس، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الأمر إذا ساد في مجتمع أدى به إلى الزوال، فقال:
«إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» (1) ويعيب الرسول صلى الله عليه وسلم على أحد أصحابه الملازمين له على الحب والتلقي منه، أنه عير صاحبا له بلونه، فحين عير أبو ذر الغفاري بِلالا بلونه الأسود، غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال للصحابي الجليل:
«إنك امرؤ فيك جاهلية» (2) .
(1) رواه البخاري في صحيحه: كتاب أحاديث الأنبياء، ومسلم في صحيحه: كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود، واللفظ للبخاري.
(2)
رواه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها إلا بالشرك، ومسلم في صحيحه: كتاب الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه.
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع:
«لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى» (1) وأقامت الشريعة الإسلامية أصل المساواة في أحكامها، على النحو الذي يجعل هذا المبدأ وسيلة لرقي الإنسان، وتحصيل مصالح الحياة.
إن المرأة في الإسلام مكلفة مثل الرجل، بما أمر الله به وما نهى عنه، وإن جزاءها مثله، قال الله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97](سورة النحل، الآية 97) .
وكل من الرجل والمرأة، له حقوق وعليه واجبات، وهي حقوق وواجبات تكاملية، تجعل من حقوق الرجل وواجباته، وحقوق المرأة وواجباتها، كلا متكاملا في وحدة واحدة، تصلح بها حياة الأسرة.
(1) الفتح الرباني، ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 228 / 19 باب ما جاء في الترهيب من التفاخر بالآباء في النسب وغير ذلك.
فإذا كان من حق الرجل الطلاق، فإن من حق المرأة الخروج من زوجية تضرها- بشروط معينة- ولها الحق في طلب التطليق إذا أضيرت من زوجها، الذي لا يكون أمينا عليها.
ومن حقها العمل إذا احتاجت إليه، أو احتاج العمل إليها، كما في بعض المهن والأعمال المناسبة لها، وفق ضوابط الشرع.
ولها أهليتها الكاملة وذمتها المالية المستقلة.
وهي كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
«إنما النساء شقائق الرجال» (1) ومع التسوية في الكيان الإنساني، ومع الحقوق والواجبات التي تتكامل في الأسرة، ففي الإسلام دعوة إلى التوصية بالمرأة، ومعاشرتها بالمعروف، قال الله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19](سورة النساء، الآية 19) وفيه نداء إلى الرجل ألا يسارع إلى كراهة امرأته ولو
(1) رواه أبو داود في كتاب الطهارة، ورقمه 236 (161 / 1) والترمذي (190 / 1) .
كان فيها بعض ما يعاب، يقول سبحانه:{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19](سورة النساء، الآية 19) .
وفي هذه التسوية التكاملية، مصلحة المرأة والرجل، ومصلحة الأسرة، ثم المجتمع الإنساني.
وفي الإسلام يباح للرجل أن يعدد زوجاته إلى أربع، مع القدرة على ذلك، ووجوب العدل والتسوية بينهن.
والتعدد يفتح الباب لمراعاة امرأة لا يصح أن تترك في الحياة بلا معيل، ولا مسؤول بها، كما يغلق الباب أمام استغلال المرأة، وجعلها مجرد أداة للمتعة واللهو، دون تحمل للمسؤولية، ودون الالتزام نحوها بشيء.
وهذا حال المرأة التي تقبل معاشرة غير مشروعة، تكون هي الخاسرة في كل حال، حيث لا التزام نحوها ممن يتخذها خليلة له، ويتظاهر بأنه لا يعدد الزوجات.
والتعاون والتكامل بين الحاكم والمحكوم من القواعد الأساسية في الإسلام.
ويعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وهو أفضل الخلق، مبدأ المساواة في أمثلة متعددة، منها أنه لما كان يصفُّ
أصحابه للقتال، دفع بعصا صغيرة في يده رجلا خرج من الصف، فلما شكا الرجل إليه، كشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه الشريفة؛ لكي يقتص منه الرجل، فإذا به يهوي ليقبل جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مبتغاه ومراده أن يمس جسد الرسول قبل أن يستشهد في القتال (1) ولقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، يقول أبو بكر رضي الله عنه للناس:
(إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني)(2) وهي مساواة لا تخل بحق الطاعة لولي الأمر، الذي يرعى مصالح المسلمين.
فإذا كان من حق المحكومين التسوية في الحقوق والواجبات، فإن من حق الحاكم الطاعة له في المنشط والمكره.
وهذا الحق، أساسه الشريعة التي أعطت الحق في المساواة، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59](سورة النساء، الآية 59)
(1) رواه أبو داود: كتاب الأدب، باب في قبلة الجسد ج 5 ص 394 حديث 5224.
(2)
البداية والنهاية للإمام ابن كثير ج 6 ص 340.
وفي الإسلام تسوية بين البشر في الكيان الإنساني، فالكرامة الإنسانية هي للآدمي، يقول الله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70](سورة الإسراء، الآية 70) .
ومال المعاهد والذمي، لا يحل للمسلم إلا برضاه، وعرضه مصون في المجتمع الإسلامي.
يقول توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام:
(إن المسيحية نعمت بتسامح ملحوظ في ظل الحكم الإسلامي، لم تعرفه منذ قرون طويلة) .
ويمكن للذمي أن يعيش في المجتمع الإسلامي آمنا على نفسه وماله وعرضه، بل ويتمتع بالبر الإحسان، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أعطى
شيخا من شيوخ أهل الذمة من بيت المال، لما رأى حاجته، وعجزه عن الكسب، (1) وكل ذلك من آداب التسوية بين الناس وقواعدها العامة، وهي مستمدة من قول الله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8](سورة الممتحنة، الآية 8) .
تلك من أهم صور المساواة التي جاءت في الإسلام أصولها ومفاهيمها، في قضايا مهمة من قضايا البشر: التفرقة العنصرية بسبب اللون أو الجنس، وقضية المرأة وحقوقها في المجتمع الإسلامي، وقضية التسوية بين الحاكم والمحكوم، والعدل والمساواة في التعامل مع الذميين.
ولم تكن قواعد المساواة تلك، معروفة في المجتمعات الإنسانية قبل الإسلام.
(1) انظر: أحكام أهل الذمة للإمام ابن القيم ج ا، ص 38، 48. طبع دار العلم للملايين بيروت.