الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن: حمد الله ذاته الكريمة في فاتحة سورة سبأ
المبحث الأول: في بيان الموضع الأول وغايته وصلته
…
الفصل الثامن:
حمد الله ذاته الكريمة في فاتحة سورة سبأ
قال الله تعالى {الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير} (1) .
هذه الآية الكريمة اشتملت على موضعين لحمد الله ذاته الشريفة، موضع في افتتاحها وموضع آخر في شطرها الثاني، وسأبيّن كلّ موضع منهما في بحث مستقل به على ما يلي:
المبحث الأول: في بيان الموضع الأول وغايته وصلته
هذه السورة الكريمة هي إحدى خمس سور في القرآن الكريم افتتحت بحمد الله ذاته، وجميعها سور مكية، وهي: الفاتحة ـ الأنعام ـ الكهف ـ وسبأ ـ وفاطر. ومن حسن وضع ترتيبها في المصحف أنّها جاءت في بداية كلِّ ربع من القرآن، فكانت أرباع القرآن كلّها مفتتحة بالحمد. وفي هذا إشارة لطيفة يدركها المتأمّل في كتاب الله عزّوجلّ، وقد ذكر الفخر الرازي وجهاً في ذلك حيث قال: ((والحكمة فيها أنّ نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين: نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء، فإنّ الله تعالى خلقنا أولاً برحمته وخلق لنا ما نقوم به، وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه يخلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما يدوم، فلنا حالتان الابتداء والإعادة، وفي كلّ حالة له تعالى علينا نعمتان: نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول
(الربع الثاني) : {الحمد لله الذي خلق السموات الأرض وجعل الظلمات والنور} الآية (2)
(1) سورة سبأ: الآية رقم (1) .
(2)
سورة الأنعام: الآية (1) .
إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ويدلّ عليه قوله تعالى فيه {هو الذي خلقكم من طين..} الآية (1) . إشارة إلى الإيجاد الأوّل، وقال في السورة الثانية (الربع الثالث){الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} الآية (2) ، إشارة إلى الشكر على نعمة الإبقاء، فإنّ الشرائع بها البقاء، ولولا شرع ينقاد له الخلق لاتّبع كلّ واحد هواه ولوقعت المنازعات في المشتبهات وأدى إلى التقاتل والتفاني، ثمّ قال في هذه السورة {الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض} ، إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني، ويدل عليه قوله تعالى (وله الحمد في الآخرة) ، وقال في فاطر {الحمد لله فاطر السموات والأرض} (3) الآية إشارة إلى نعمة الإبقاء ويدل عليه قوله تعالى {جاعل الملائكة رسلاً..} والملائكة بأجمعهم لايكونون رسلاً إلا يوم القيامة يرسلهم الله مسلِّمين كما قال تعالى {وتتلقّاهم الملائكة..} (4) الآية. وقال تعالى عنهم {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} (5) وفاتحة الكتاب (الربع الأول) لمّا اشتملت على ذكر النعمتين بقوله تعالى {الحمد لله رب العالمين} (6) إشارة إلى النعمة العاجلة، وقوله {مالك يوم الدين} (7) إشارة إلى النعمة الآجلة قرئت في الافتتاح وفي الاختتام)) (8)
هذا وبالنظر إلى موضوعات هذه السورة الكريمة فإنّ افتتاحها بالحمد
(1) سورة الأنعام: الآية (2) .
(2)
سورة الكهف: الآية (1) .
(3)
سورة فاطر: الآية (1) .
(4)
سورة الأنبياء: الآية (103) .
(5)
سورة الزمر: الآية (73) .
(6)
سورة الفاتحة: الآية (2) .
(7)
سورة الفاتحة: الآية (4) .
(8)
التفسير الكبير للفخر الرازي: ج25 ص 238 – 239.
للتنبيه على أنّها تتضمّن من دلائل تفرّده بالإلهية واتصافه بصفات العظمة والكمال مما يقتضي إنشاء الحمد له والإخبار باختصاصه به (1) .
مطلب:
يصف الله تعالى ذاته الكريمة بعد حمده لها بقوله {الذي له ما في السموات وما في الأرض} ، وهذا الوصف يقتضي أنّ كل ما في السموات والأرض ملك له سبحانه، وهو يفيد بذلك بيان علّة استحقاقه للحمد؛ لأن ملكه للسموات والأرض وما فيهما ملك حقيقي؛ إذ هو سبب إيجاد تلك المملوكات، وذلك الإيجاد عمل جميل يستحق صاحبه الثناء والحمد، وأيضاً يتضمّن هذا الإيجاد نعماً جمة ظاهرة وباطنة وهي تقتضي كذلك الحمد له تعالى، فكان وصفه عزّوجلّ بالملك بياناً لعلّة الحمد. (2) والله أعلم.
ثمّ إنّ في هذه الصلة ـ أيضاً ـ تعريضاً بكفران الكافرين المشركين الذين حمدوا أشياء في هذا الكون ـ والتي من جملتها الإنسان ـ وهي تحت ملكوته سبحانه وحكمه، وليس لها من الملك شيء، وهي ليس لها ـ في حدّ ذاتها ـ استحقاق الوجود فضلاً عمّا عداه من صفاتها، بل كلّ ذلك نعم فائضة عليها من جهته تعالى، وما كان هذا شأنه فهو بمعزل عن استحقاق الحمد، وبهذا يظهر لهم اختصاص جميع أفراده به تعالى. (3)
(1) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج22 ص 135.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير ج3 ص 533؛ تفسير القرطبي ج16ص259؛ تفسير أبي السعود ج7 ص120، تفسير الخازن ج5 ص 281؛ تفسير السعدي ج6 ص256؛ التحرير والتنوير ج22 ص 135.
(3)
انظر: تفسير الطبري ج22ص 42؛ تفسير أبي السعودج7 ص 120؛ التحرير والتنوير ج22ص136.
لطيفة:
إنّ في وصفه تعالى بأنّ له ما في السموات وما في الأرض إيذاناً بأنّ كونه مالكاً لكلّ الأشياء يوجب كونه محموداً على كلّ لسان؛ لأنّ الكلّ إذا كان له فكلّ من ينتفع بشيء من ذلك كان منتفعاً بنعمه تعالى. (1)
(1) رغائب الفرقان للنيسابوري: ج 22 ص 40.