الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الحادي عشر: حمد الله ذاته الكريمة عند ضرب المثل بآية سورة الزمر
المبحث الأول: في صلة آية الحمد بما قبلها وبيان المثل فيها
…
الفصل الحادي عشر:
حمد الله ذاته الكريمة عند ضرب المثل بآية سورة الزمر
قال الله تعالى {ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لايعلمون} (1) .
المبحث الأول: في صلة آية الحمد بما قبلها وبيان المثل فيها
مطلب: في صلة الآية بما قبلها.
يذكر الله تبارك وتعالى قبل آية الحمد أهمية ضرب الأمثال في القرآن الكريم وحكمته؛ وذلك تمهيداً لما ذُكر فيها من المثل؛ وليجذب الانتباه للتدبّر والتأمّل وأخذ العبرة؛ إذ قال سبحانه {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل لعلهم يتذكرون. قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون} (2) .فالغاية والحكمة من ضرب الأمثال ـ كما أخبر سبحانه ـ هي التذكّر والاتعاظ بها وتحصيل التقوى (3) . وبهذه الغاية وتلكم الحكمة ينبغي أن تَرِد العقول والأفهام موارد الأمثال القرآنية لتحقق ما أراده الحقّ عزَّوجلَّ في ذلك.
مطلب: في بيان المثل القرآني في الآية.
وبعد بيانه ـ تعالى ـ لحكمة وأهمية ضرب الأمثال في كتابه الكريم يضرب سبحانه مثلاً للكافر المشرك به والمؤمن الموحّد له؛ ليدلّ على قبح الشرك وشناعته؛ وحسن الإيمان بالله وفضيلته.
وقدّم مثل المشرك إظهاراً لحقيقة الشرك وسوء حال أهله، وليقارنه بما
(1) سورة الزمر: الآية (29) .
(2)
سورة الزمر: الآيتان (27-28) .
(3)
انظر: تفسير أبي السعود ج7 ص 253؛ تفسير السعدي ج6 ص468.
بعده من مثل المؤمن، فينجلي من بعد الحقّ وتثبت البيّنة والحجّة.
أما مثل المشرك بالله فهو ما جاء في قوله تعالى {ضرب الله مثلاً رجلاً (1) فيه شركاء متشاكسون} (2) والمراد: مثل المشرك بالله كمثل الرجل المملوك الذي يشترك في ملكيته سادة مختلفون متضادون عسرون لايتفقون على شيء؛ وذلك لشكاسة أخلاقهم وسوء طباعهم، فيتجاذبونه ويتعاورونه في مهمّاتهم المتباينة ورغباتهم المختلفة بقدر نصيب كلّ واحد منهم وملكه فيه؛ فيبقى ـ والحال هذا ـ ضائعاً حائراً متردداً أيّهم يعتمد أمره ويتبع، إن أرضى أحدهم غضب الآخر؛ فهمّه مُشاع وقلبه أوزاع، فأنّىله الراحة والاستقرار والاطمئنان، كذلك حال المشرك بالله في تقسّم عقله وتوزّع قلبه بين آلهة متعددة فهو في شك وحيرة وتخبّط وضلال لايستقيم له حال ولا يطمئن له بال (3) .
وأمّا مثل المؤمن بالله فهو ما أخبر عنه تعالى بقوله {ورجلاً سلماً لرجل} (4) أي
(1)(مثلا) مفعول ثان لضرب، و (رجلاً) مفعوله الأول، أُخِّر عن الثاني للتشويق إليه وليتصل به ما هو من تتمة التي هي العمدة في التمثيل. أو (مثلاً) مفعول ضرب، و (رجلاً) بدل منه. (انظر: تفسير الآلوسي ج23 ص262) .
(2)
قال ابن منظور في لسان العرب: ((الشُّكُس والشَّكِسُ والشَّرِسُ جميعاً: السيء الخُلُق)) . (لسان العرب: ج6 ص112) ويمثله قال الرازي في مختار الصحاح: رجل شَكْس بوزن فَلْس أي صعب الخُلُق (ص344) .
(3)
انظر: تفسير الطبري ج23 ص136-137؛ تفسير ابن كثير ج4 ص52؛ تفسير القرطبي ج16 ص253؛ تفسير أبي السعود ج7 ص253؛ تفسير الآلوسي ج23ص262؛ تفسير السعدي ج6 ص468؛ التحرير والتنوير ج23ص401-402.
(4)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: (سالماً لرجل) بصيغة اسم الفاعل، أي خالصاً من الشركة، وقرأ الجمهور (سلماً) وهو اسم مصدر: سَلِم له إذا خلص، فهو على حذف مضاف أي ذا سلامة وذا خلوص من الشركة، والوصف به للمبالغة. (انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج2 ص362؛ الغاية في القراءات العشر لأحمد بن الحسين ابن مهران النيسابوري، تحقيق محمد غياث الجنباز ص 252؛ رغائب الفرقان للنيسابوري ج23ص12؛ التحرير والتنوير ج23ص401) .
كمثل الرجل المملوك الذي ليس له إلا سيّد واحد فيكون خالصاً له؛ ولا سبيل لغيره عليه البتة، يعرف ما يرضيه فيؤمّل رضاه ويتجنب سخطه وغضبه، فهمّه واحد وقلبه مجتمع، فيكون بهذا مستقرّ الحال ومطمئنّ البال، وكذلك حال المؤمن بالله تعالى الذي اتخذ الله رباً واحداً فتوجّه إليه بالعبادة دون سواه خالصاً له من كلّ شريك فاستقامت حاله واطمأنّت نفسه وسعد بربّه وهنأ برضاه وقربه (1) .
وتتمّة لبيان هذا المثل القرآني أتى سبحانه بما يدلّ علىالتفاوت بين الرجلين المملوكين فقال تعالى {هل يستويان مثلاً} ؟ ويجوز أن يكون هذا الاستفهام تقريرياً أو إنكارياً، والإتيان فيه بـ (هل) لتحقيق التقرير أو الإنكار (2) . وفيه يقول أبو السعود (3) : ((إنكار واستبعاد لاستوائهما ونفيٌ له على أبلغ وجه وآكده، وإيذان بأنّ ذلك من الجلاء والظهور بحيث لايقدر أحد
(1) انظر: تفسير الطبري ج23 ص137؛ تفسير الماوردي ج3 ص468، تفسير القرطبي ج16 ص253؛ تفسير ابن كثير ج4 ص52؛ تفسير أبي السعود ج7ص253؛ تفسير السعدي ج6 ص469؛ التحرير والتنوير ج23 ص402.
(2)
انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج23 ص 402.
(3)
هو محمد بن محمد بن مصطفى العمادي (898-982?) : مفسر شاعر، من علماء الترك المستعربين، ولد بقرب القسطنطينية، ودرس ودرّس في بلاد متعددة، وتقلّد القضاء في بروسة فالقسطنطينية فالروم إيلي، وأضيف إليه الإفتاء عام 952هـ. من أشهر كتبه: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم في التفسير (انظر: شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي ج8 ص398؛ الأعلام للزركلي ج7ص59) .
3 أن يتفوّه باستوائهما أو يتلعثم في الحكم بتباينهما ضرورة أنّ أحدهما في أعلى عليين والآخر في أسفل سافلين، وهو السرّ في إبهام الفاضل والمفضول)) (1) . وانتصاب (مثلاً) على التمييز، والاقتصار فيه على الواحد لبيان الجنس، والمراد: هل يستوي حالاهما وصفتاهما (2) .
وبهذا الاستفهام يتمّ المثل المضروب، وبه تقوم الحجّة ويثبت البرهان على المشركين بفساد معتقدهم وقبح حالهم وصنيعهم.
(1) تفسير أبي السعود: ج7 ص253.
(2)
المرجع السابق: ج7 ص253.