المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تمهيد … تعريف الخبر لغة: الخبر لغة: النبأ، وجمع الخبر أخبار، وجمع الجمع - خبر الواحد وحجيته

[أحمد بن عبد الوهاب الشنقيطي]

الفصل: ‌ ‌تمهيد … تعريف الخبر لغة: الخبر لغة: النبأ، وجمع الخبر أخبار، وجمع الجمع

‌تمهيد

تعريف الخبر لغة:

الخبر لغة: النبأ، وجمع الخبر أخبار، وجمع الجمع أخابير.

وأما قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} 1 فمعناه: يوم تزلزل تخبر بما عمل عليها.

والخَبَار أرض رخوة تتعتع فيها الدواب، قال الشاعر:

تتعتع في الخبار إذا علاه

ويعثر في الطريق المستقيم

وفي المثل: من تجنب الخبار أمن العثار"2.

قال الشوكاني: "الخبر مشتق من الخبار كسحاب، وهي الأرض الرخوة، لأن الخبر يثير الفائدة، كما أن الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الحافر ونحوه، وهو نوع مخصوص من القول، وقِسم من الكلام اللساني، وقد يستعمل في غير القول، كقول الشاعر:

تخبرك العينان ما القلب كاتم

وقول المعرى:

نبي من الغربان ليس على شرع

يخبرنا أن الشعوب إلى صدع

ولكنه استعمال مجازي لا حقيقي، لأن من وصف غيره بأنه أخبر بكذا لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول"3.

1 سورة الزلزلة آية: 4

2 لسان العرب لابن منظور أبي الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم 4/227-228، بيروت للطباعة والنشر، سنة 1374هـ –1955م.

3 إرشاد الفحول للشوكاني محمّد بن علي ص: 42، الطبعة الأولى 1356هـ – 1937م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، وأولاده بمصر.

ص: 17

الخبر في الاصطلاح عند العلماء

اختلف العلماء في حد الخبر، فذهب بعضهم إلى أنه لا يحد، والبعض الآخر إلى أنه يحد، والقائلون بحده اختلفوا في تعريفه، حيث عرفته كل طائفة بما لم تعرّفه به الطائفة الأخرى. وها أنا أذكر أهمّ ذلك فيما يلي:

الخبر عند القائلين بأنه لا يحد:

قالوا: لا يحد لعسره، ويحتمل أن يكون لوضوحه، لأن توضيح الواضحات من المشكلات1.

أو لأنه ضروري. واستدل لذلك من وجهن:

الأول: أن كل أحد يعلم أنه موجود، وهذا خبر خاص، وإذا كان الخبر المقيد ضرورياً، فالخبر المطلق الذي هو جزؤه أولى بأن يكون ضرورياَ.

واعترض على هذا بأمرين:

أحدهما: أن الاستدلال على كونه ضرورياً ينافي كونه ضرورياً، لأن الضروري لا يقبل الاستدلال2.

1 المختصر لابن الحاجب أبي عمر عثمان بن عمر مع شروحه2/45، وحاشية العطار على المحلى على جمع الجوامع للشيح حسن العطار:2/137.

2 المختصر لابن الحاجب: 2/45.

ص: 18

الآخر: أنه وإن سلم أن مثل هذه الأخبار الخاصة معلومة بالضرورة، فلا يلزم أن يكون الخبر المطلق من حيث هوخبركذلك، لأن الخبر المطلق أعم من الخبر الخاص، فلو كان جزءاً من معنى الخبر الخاص، لكان الأعم منحصراً في الأخص، وهو محال1.

الثاني: أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر، ولولا العلم بذلك ضرورة لما كان كذلك.

وأجيب عنه بأن العلم الضروري إنما هو واقع بالتفرقة بين ما يحسن فيه بيان الأمر، وبيان ما يحسن فيه الخبر بعد معرفة الأمر والخبر، أما قبل ذلك فهو غير مسلم2.

وإذا سلم أن العلم بمعناه غير ضروري، فقد أجمع الباقون على أن العلم بمفهوم الخبر إنما يعرف بالحد والنظر، وإن اختلفوا فيه3.

1 نفس المصدر 2/45 فما بعدها، الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي الآمدي: 2/4 فما بعدها.

2 الإحكام للآمدي: 2/4-5، المختصر مع شرحه وحواشيه: 2/46.

3 انظر: الإحكام للآمدي: 2/6.

ص: 19

حد الخبر عند الأصوليين

قالت المعتزلة: إن الخبر هو: " الكلام الذي يدخله الصدق والكذب " واعترض على تعريفهم هذا من أربعة أوجه:

الأول: أنه يرد عليه خبر الله تعالى، لأنه لا يتصور فيه دخول الكذب. وأجاب عنه القاضي عبد الجبار1 بأن المراد دخوله لغة، بحيث لو قيل فيه صدق أو كذب لم يخطأ لغة، وكل خبر كذلك، وإن امتنع صدق البعض أو كذبه.

ورد هذا الجواب بأن الصدق لغة الخبر الموافق للمخبر به، والكذب الخبر المخالف للمخبر به، وبهذا عرفهما أهل اللغة، فهما لا يعرفان إلا بالخبر فتعريف الخبر بهما دور.

الثاني: أن ما قالوه منقوض بقول القائل محمد صلى الله عليه وسلم، ومسيلمة صادقان في دعوى النبوة، فهذا خبر مع أنه ليس بصدق ولا كذب، إذ لو

1 هو: القاضي عبد الجبار بن أحمد بن خليل الهمذاني، إمام في وقته، الأصولي المتكلم، صاحب التصانيف الكثيرة في أصول الفقه العمد الذي شرحه تلميذه أبو الحسن البصري المعتزلي المعروف بالعمدة في أصول الفقه، وله المغني والتفسير الكبير، وغيرها، اختلف في وفاته فقيل: 415، وقيل: 416هـ. انظر: القاضي عبد الجبار للدكتور عبد الكريم عثمان، دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيورت.

ص: 20

قيل: إنه صدق لكان مسيلمة صادقاً، ولو قيل: إنه كذب لكان محمد صلى الله عليه وسلم كاذباً1.

وأجاب أبو هشام2 "بأن هذا الخبر جار مجري خبرين: أحدهما خبر بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، والآخر بصدق مسيلمة، والخبران لا يوصفان بالصدق ولا الكذب، فكذلك ههنا، وإنما الذي يوصف بالصدق والكذب الخبر الواحد من حيث هو خبر. وليس بحق فإنه إنما ينزل منزلة الخبر من حيث إنه أفاد حكماً لشخصين، وهو غير مانع من وصفه بالصدق والكذب، بدليل الكذب في قول القائل: كل موجود حادث، وإن كان يفيد حكماً واحداً لأشخاص متعددة"3.

الثالث: أن تعريف الخبر بما يدخله الصدق والكذب، يؤدي إلى الدور لما تقدم أن الصدق لغة الخبر الموافق للمخبر به، والكذب الخبر

1 انظر: الإحكام للآمدي: 2/6 فما بعدها، المختصر مع شرحه العضد له: 2/47، وإرشاد الفحول ص: 42 فما بعدها.

2 هو: عبد السلام بن محمّد بن خالد بن حمدان بن أبان مولى عثمان كنيته أبو هاشم، ولقبه الجبائي، متكلم فيلسوفي، معتزلي، وله آراء في الأصول خاصة به كقوله:"إن الأمر لا يوجب الأجزاء" له مؤلّفات منها: الجامع الكبير، وكتاب الاجتهاد، توفي سنة: 321هـ ببغداد. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين: 1/173.

3 الإحكام للآمدي: 2/7.

ص: 21

المخالف للمخبر به، وبهذا عرفهما أهل اللغة، فلا يعرفان إلا بالخبر، فتعريف الخبر بهما دور.

وأجاب القاضي عنه "بأن الخبر معلوم لنا، وما ذكرناه لم نقصد به تعرِيف الخبر، بل فصله وتمييزه عن غيره، فإذا عرفنا الصدق والكذب بالخبر فلا يكون دوراً".

ورد بأن تمييز الخبر عن غيره إنما يكون بالنظر إلى الصدق والكذب. فتمييز الصدق والكذب بالخبر يوجب توقف كل واحد من الأمرين في تمييزه عن غيره على الآخر، وهو عين الدور. ولذا قال ابن الحاجب ولا جواب عنه1.

الرابع: أن الصدق والكذب متقابلان، والواو للجمع، فيلزم الصدق والكذب معاً، وذلك محال، فيلزم أن لا يوجد خبر.

وأجيب عنه "بأن المحدود إنما هو جنس الخبر، وهو قابل لدخول الصدق والكذب فيه، كاجتماع السواد والبياض في جنس اللون.

ورد بأن الحد وإن كان لجنس المحدود، فلابد وأن يكون الحد موجوداً في كل واحد من آحاد الأخبار، وإلا لزم وصف الخبر دون حد الخبر، وهو ممتنع"2.

1 نفس المصدر 2/6 فما بعدها، والمختصر مع العضد 2/47.

2 الإحكام للآمدي 2/6 فما بعدها، والمختصر مع شرحه 2/45 فما بعدها.

ص: 22

وقال أبو الحسين1 البصري:" الأولى أن نحده بأنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفياً أو إثباتاً"2.

وقيده بنفسه احترازاً عن الأمر المقتضى لوجوب الفعل لا بنفسه، بل بواسطة ما اقتضاه من طلب الفعل.

ورد بأنه منتقض بالنسب التقييدية فيما لو قيل: حيوان ناطق، فإنه أفاد بنفسه إثبات النطق للحيوان، مع أنه ليس بخبر.

فإن قال: إن هذا ليس بكلام، وأنه قيد الحد بالكلام.

أجيب بأن ما ادعاه لا يصح، لأن حد الكلام هو:"ما انتظم من الحروف المسموعة المميزة من غير اعتبار قيد آخر، وحد الكلام بهذا الاعتبار متحقق في هذا، فكان من أصله كلاماً"3.

وعرفه القرافي4بأنه هو: "المحتمل للتصديق والتكذيب لذاته"، وقيده بقوله: لذاته احترازاً من تعذر الصدق والكذب لأجل المخبر عنه،

1 هو: محمّد بن عليّ بن الطيب البصري المعتزلي، أحد أئمة المعتزلة، كان يشار إليه بالبنان في أصول الفقه والكلام، ولد بالبصرة ونشأ بها، له تصانيف كثيرة منها: كتاب المعتمد في أصول الفقه المطبوع، توفي سنة: 436هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي 1/137.

2 المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري 2/544.

3 انظر: الإحكام للآمدي 2/9، مع تصرف.

4 هو: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن أبو العباس شهاب الدين الصنهاجي، القرافي، له تصانيف منها: الذخيرة، وشرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول، والفروق. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/86، والإعلام للزركلي 1/90، الطبعة الثانية.

ص: 23

كخبر الله تعالى، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وخبر مجموع الأمة، أو ما علم صدقه بالضرورة.

قال: "لكن جميع هذه الأخبارات بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن المخبر به، والمخبر عنه، تقبلهما من حيث هي أخبار"1.

واعترض عليه من وجهين:

الأول: أن تعريف الخبر بالتصديق والتكذيب، يستلزم الدور، لتوقف التصديق والتكذيب على معرفة الصدق والكذب، المتوقف على معرفة الخبر، وقد تقدم ما فيه من الدور2.

الثاني: أنما ذكره من قبول تلك الأخبار للتصديق والتكذيب من حيث هي أخبار مقتضاه أن خبر الله تعالى من حيث هو خبر يقبل الكذب لذاته، وهذا ليس بصحيح، لأن خبر الله تعالى لا يقبل الكذب بحال3.

1 انظر: الفروق للقرافي 1/18-19، والمختصر مع شرح العضد له 2/48، وإرشاد الفحول ص:43.

2 الإحكام للآمدي 2/9.

3 انظر: حاشية ادرار الشروق على أنواء الفروق لأبي القاسم قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط 1/19.

ص: 24

قال الآمدي1 "والمختار فيه أن يقال: الخبر عبارة عن اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم أو سلبها على وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها"2.

فقيده باللفظ، لأنه كالجنس للخبر وعده من أقسام الكلام، ويمكن أن يحترز به عن الخبر المجازي، وبالدال، احترازاً عن اللفظ المهمل، وبالوضع احترازاً عن اللفظ الدال على جهة الملازمة، وبقوله: على نسبة عن أسماء الأعلام، وعن كل ما ليس له دلالة على نسبة، وبمعلوم إلى معلوم، حتى يدخل فيه الموجود والمعدوم، وبقوله: سلباً وإيجاباً، حتى يعم مثل نحو "زيد في الدار، ليس في الدار"، وبقوله: يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام احترازاً عن اللفظ الدال على النسب التقييدية، وبقوله: مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها، احترازاً عن صيغة الخبر المراد بها غير الخبر، كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ

1 هو: عليّ بن أبي عليّ بن سالم التغلبي، الملقب بسيف الدين الآمدي المكنى بأبي الحسن، الفقيه الأصولي، ولد سنة: 551هـ، له مؤلّفات منها: الإحكام في أصول الأحكام، ومنتهى السول، وغيرهما. توفي سنة: 631هـ بدمشق. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/57-58.

2 الإحكام للآمدي 2/9.

ص: 25

أَوْلادَهُنَّ} 1 وقوله جل شأنه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} 2 ونحو ذلك، حيث إنه لم يقصد به الدلالة على النسبة ولا سلبها3.

1 سورة البقرة آية: 233.

2 سورة البقرة آية: 228.

3 انظر: تفاصيله في الإحكام للآمدي 2/9-10، مع تصرف واختصار.

ص: 26

تعريف الخبر عند علماء البلاغة:

الخبر هو: الكلام الذي له نسبة1 تامة2 خارجية، تطابق ذلك الكلام في الخارج، بأن يكونا ثبوتيين، أو سلبيين، أولا يطابقه، بأن تكون النسبة المفهومة من الكلام ثبوتية، والتي بينهما في الخارج والواقع سلبية أو بالعكس. ويكون تاما بحيث يحسن السكوت عليه.

فإن لم يكن له نسبة في الخارج تطابقه، فهو الإنشاء3. والذي أراه والله تعالى أعلم- أن هذا التعريف سالم من الاعتراضات، اللهم إلا أن يقال: إن الكلام غير مقيد باللفظ، وهو وإن كان حقيقياً في اللفظ إلا أنه يطلق على غيره مجاراً، وهذا الاعتراض وارد لو لم يصرح التفتازاني في التفريق بين الخبر والإنشاء بما يدفعه، وهو قوله: "إن الكلام إما أن يكون له نسبة بحيث تحصل من اللفظ

" إلخ4. فأنت تراه صرح هنا

1 لأن النسب ثلاثة: كلامية، ذهنية، وخارجية، فلو قلت: زيد قائم فثبوت القيام لزيد يقال له: نسبة كلامية باعتبار فهمه من الكلام، وذهنية باعتبار ارتسامه في الذهن وحضوره فيه، ونسبة خارجية باعتبار حصوله في نفس الأمر اهـ من حاشية الدسوقي على التفتازاني على تلخيص المفتاح 1/164.

2 احترازاً عن الناقصة كالتقييدية، والتوصيفية، نحو غلام زيد، والحيوان الناطق، فلا يشتمل عليها الكلام، ولا يدل عليها، اهـ من حاشية الدسوقي على التفتازاني على تلخيص المفتاح 1/164.

3 انظر: تفاصيله في شرح التلخيص 1/163-166.

4 نفس المصدر 1/167.

ص: 27

بأن الكلام مقيد باللفظ، مع أنه لو لم يذكر هذا، لكان الاعتراض مدفوعاً بأن الأصل الحقيقة، إذ لا يعدل عنها إلا بدليل.

ص: 28

تعريف الخبر عند النحويين

عرف النحويون الخبر بأنه هو الجزء الذي تحصل الفائدة به مع المبتدأ غير الوصف، فخرج فاعل الفعل، لأنه ليس مع المبتدأ، وخرج فاعل الوصف الذي يسد مسد الخبر. وقد عرفه ابن مالك في ألفيته وبين أنواعه بقوله:

والخبر الجزء المتم الفائدة

كالله بَرٌّ والأيادي شاهدة

ومفرداً يأتي ويأتي جملة

حاوية معنى الذي سيقت له

وأورد ابن عقيل على ابن مالك في تعريفه هذا الفاعل من نحو قام زيد، فإنه يصدق على زيد أنه الجزء المتمم للفائدة، وليس بخبر1.

وأجيب عنه بأن دلالة المقام والتمثيل بقوله: "كالله بَرٌّ والأيادي شاهدة" يدلان على اعتبار كون الجزء المتمم للفائدة مع المبتدأ وغير الوصف2.

وهذا التعريف كما ترى لا ينطبق على تعريف الخبر عند الأصوليين والبلاغيين، وذلك لأنه خاص بالنحويين، ولذا فهو شامل عندهم لنوعي الكلام: الخبر، والإنشاء. وأقرب من هذا التعريف إلى التعريفات السابقة تعريف موفق الدين بن يعيش حيث قال: "واعلم أن

1 انظر: تفاصيله في ضياء السالك إلى أوضح المسالك لمحمّد عبد العزيز النجار1/180، وشرح ابن عقيل لألفية ابن مالك 1/201-202.

2 منهج السالك إلى ألفية ابن مالك للأشموني 1/90-91.

ص: 29

خبر المبتدأ هو الجزء المستفاد الذي يستفيده السامع، ويصير مع المبتدأ كلاماً تاماً والذي يدل على ذلك أنه به يقع التصديق والتكذيب، ألا ترى أنك لو قلت: عبد الله منطلق، فالصدق والكذب إنما وقعا في انطلاق عبد الله، لا في عبد الله، لأن الفائدة في انطلاقه، وإنما ذكر عبد الله وهو معروف عند السامع، ليسند إليه الخبر الذي هو الانطلاق"1.

غير أنه يرد عليه ما أسلفت من أن الخبر عندهم شامل لنوعي الكلام: الخبر، والإنشاء.

1 شرح المفصل لموفق الدين يعيش بن علي بن يعيش 1/87.

ص: 30

الخبر عند المحدثين

يرى بعض المحدثين أن الخبر مرادف للحديث مراعاة لمدلول اللفظ اللغوي في اللفظين، فيطلقان على المرفوع1 والموقوف والمقطوع2 فيشمل ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي، والتابعي.

ويدل لذلك قول الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر: "الخبر عند علماء هذا الفن مرادف للحديث"3.

ويفرق البعض الآخر بينهما بأن "الحديث ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخبر ما جاء عن غيره"، ومن ثم قيل لمن يشتغل بالتواريخ وماشاكلها الإخباري، ولمن يشتغل بالسنة النبوية المحدث.

وقيل بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل حديث خبر من غير عكس"4.

هل لاختلاف العلماء في تعريف الخبر أثر؟

1 المرفوع هو: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، سواء كان بإسناد متصل أم لا. والموقوف هو: ما انتهى إلى الصحابي. والمقطوع هو: ما انتهى إلى التابعي. انظر: شرح نخبة الفكر لابن حجر ص: 30 وتدريب الراوي للسيوطي 1/183-194.

2 تدريب الراوي للسيوطي 1/42.

3 شرح نخبة الفكر لابن حجر ص: 3.

4 نفس المصدر ص: 3.

ص: 31

لم يترتب على اختلاف العلماء في تعريف الخبر أثر، وغاية ما هناك أن الأصوليين أرادوا الدقة في الحد فصعبوه بما أورده بعضهم على بعض من استشكالات، وبما أجاب به البعض الآخر عن تلك الاستشكالات كما هو واضح مما نقلته عنهم.

أما غيرهم فكان طابع تعريفه البساطة والوضوح، ولذا لم يورد عليه مثل ما أورد على الأصوليين من الاستشكالات.

ص: 32

هل الخبر منحصر في الصدق والكذب؟

اختلف الناس في الخبر هل هو منحصر في الصدق والكذب؟ أم أنه غير منحصر فيهما؟ بل منه ما ليس بصدق ولا كذب، وهو واسطة. تم إن القائلين بأنه منحصر في الصدق والكذب، اختلفوا في تفسير الصدق والكذب.

فقالت طائفة: صدق الخبر مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر سواء كان ذلك الاعتقاد صواباً أم خطأ، وكذبه عدم مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر، فقول القائل السماء تحتنا معتقداً ذلك، صدق، وكذلك قوله: السماء فوقنا غير معتقد لذلك، كذب.

واستدلوا لذلك بأمرين:

الأول: أن من أخبر عن أمر يعتقده، ثم ظهر خلافه، لا يقاله في حقه إنه كاذب، ولكن يقال: أخطأ، بدليل ما روي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها قالت فيمن هذا شأنه:"ما كذب، ولكنه أخطأ ووهم." ورد بأن المنفى هنا تعمد الكذب، بدليل تكذيب الكافر الكتابي إذا قال: الإسلام باطل، وتصديقه إذا قال: الإسلام حق.

الثاني: قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}

ص: 33

1 فإن الله تعالى كذبهم في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} وإن كان مطابقاً للواقع، لعدم مطابقته لاعتقادهم.

وأجيب عما استدلوا به بما يأتي:

1 بأن المعنى: نشهد شهادة واطأت قلوبنا فيها ألسنتنا، فالتكذيب راجع إلى الشهادة باعتبار تضمنها خبراً كاذباً، لكونها لم تكن عن اعتقاد، بدليل تأكيد الجملة في قولهم:{إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} بإن، واللام، وكونها اسمية.

2 أو أن المعنى لكاذبون في تسمية هذا الإخبار شهادة، لأن الشهادة هي الإخبار بما يطابق الاعتقاد، فإن خلا عن الاعتقاد لم يكن شهادة.

3 أو أن المراد: لكاذبون في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} عند أنفسهم، لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه2.

وقال الجمهور: صدق الخبر مطابقة حكمه للواقع، وهو الخارج الذي يكون مطابقاً لنسبة الخبر، وكذبه عدم مطابقته للنسبة التي تكون في الخارج، وهذا هو المشهور، وعليه التعويل.

1 سورة المنافقون آية: 1.

2 انظر تفاصيله في: شروح التلخيص 1/174-181، مطبعة البابي الحلبي وشركاه بمصر.

ص: 34

وأنكر الجاحظ1 انحصار الخبر في الصدق والكذب، وأثبت الواسطة، وزعم أن صدق الخبر مطابقته للواقع مع اعتقاد المطابقة، وكذبه عدم مطابقته للواقع مع اعتقاد أنه غير مطابق، وغيرهما ليس بصدق ولا كذب، وهي أربعة:

المطابقة مع اعتقاد عدم المطابقة، أو بدون الاعتقاد أصلاً، وعدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة، أو بدون الاعتقاد أصلاً، ليس بصدق ولا كذب. بدليل قوله تعالى:{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} 2

وجه الاستدلال بالآية: أن الكفار عقلاء من أهل اللسان عارفون باللغة، حصروا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، بالبعث على ما يدل عليه تعالى:{إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 3 في الافتراء والإخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو، وليس إخباره حالة الجنة كذباً، لأنهم جعلوه قسيم الافتراء، ولا صدقاً لأنهم اعتقدوا عدم صدقه، فمرادهم

1 هو: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ، الأديب المعتزلي، وإليه تنسب فرقة الجاحظية منهم، له تصانيف كثيرة منها: كتاب الحيوان، والبيان والتبيين وأدب الجاحظ وغيرها. ولد بالبصرة سنة: 162هـ، وفلج في آخر عمره. توفي بالبصرة سنة: 255هـ انظر: الأعلام للزركلي 5/239

2 سورة سبأ آية: 8.

3 سورة سبأ آية: 7.

ص: 35

بكونه أخبر حالة الجنة غير الصدق، وغير الكذب، ليكون ذلك بزعمهم بعض الخبر، فثبتت الواسطة1.

ورد بأن معنى: {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} أي أم لم يفتر، فعبر عن عدم الافتراء بالجنة، لأن المجنون لا افتراء له، لأن الكذب ما كان عن عمد، والمجنون لا عمد له، فالثاني ليس قسيماً للكذب، بل لما هو أخص منه، أعني الافتراء. وإن سلم فقد لا يكون خبراً، فيكون هذا حصراً للكذب بزعمهم في نوعيه: الكذب عن عمد، والكذب لا عن عمد2.

وأيضا ً"أنهم إنما حصروا أمره بين الكذب والجنة، لأن قصد الدلالة به على مدلوله شرط في كونه خبراً، والمجنون ليس له قصد صحيح، فصار كالنائم، والساهي إذا صدرت منه صيغة الخبر، فإنه لا يكون خبراً، وحيث لم يقصدوا صدقه، لم يبق إلا أن يكون كاذباً، أو لا

1 انظر تفاصيله في شروح التلخيص 1/182-188، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي السيد محمود 22/110، عنيت بنشره وتصحيحه والتعليق عليه للمرة الثانية إدارة الطباعة المنيرية لمحمّد منير الدمشقي. مصر. والمختصر لابن الحاجب 2/50، وحاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/139 فما بعدها، وحاشية البناني على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/113 فما بعدها، مطبعة إحياء العلوم العربية لعيسى البابي الحلبي.

2 انظر: شروح التلخيص 1/189-190، وروح المعاني 22/110، وإرشاد الفحول ص: 14، والمختصر لابن الحاجب2/50.

ص: 36

يكون ما أتى به خبراً، وإن كانت صورته صورة الخبر. أما أن يكون خبراً، وليس صادقاً فيه ولا كاذباً فلا"1.

ووافق الراغب الجاحظ في إثبات الواسطة، وإن زاد عليه اصطلاحاً لم يذهب إليه الجاحظ، وإليك ذلك فيما ذكره البناني قال: "حاصل مذهبه أن ما طابق الواقع مع اعتقاد المطابقة يسمى صدقاً، ومالم يطابق الواقع مع اعتقاد عدم المطابقة يسمى كذبا، ويخص هذين بالصدق، والكذب التامين وما طابق الواقع مع اعتقاد عدم المطابقة، أو طابق الاعتقاد دون الواقع، فيسمى كل منهما صدقاً وكذباً، من جهتين:

فالأول: صدق من جهة مطابقة الواقع، كذب من جهة عدم المطابقة للاعتقاد.

والثاني: صدق من جهة مطابقة الاعتقاد، كذب من جهة عدم مطابقة الواقع، ويسمى الصدق والكذب المشتمل عليهما هذان القسمان بالصدق والكذب غير التامين، لما علم أنه صدق من جهة دون جهة، كذب من جهة دون جهة، فهذه أربعة أقسام، وبقي قسمان وهما: مطابقة الواقع وعدمها مع عدم اعتقاد شيء، وهذان واسطة عنده لا يوصفان بصدق ولا كذب"2.

1 الإحكام للآمدي 2/11.

2 حاشية البناني على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/112-113، وانظر: حاشية العطار على شرح المحلى2/140.

ص: 37

وحيث إن الراغب موافق للجاحظ في الدليل، ففي ما تقدم من الرد على ما استدل به الجاحظ كفاية.

ص: 38

الخلاف في تعريف الخبر لفظي:

والخلاف في هذه المسألة لفظي، وذلك لأن العرب إنما وضعت الخبر للصدق دون الكذب، فقول القائل: زيد قائم، معناه عند أهل اللسان العربي حصول القيام منه وصدوره منه في الزمن الماضي، ولم ينقل عن أحد من أئمة اللغة خلاف ذلك.

"ولقد أحسن من قال: إن مدلول الخبر هو الصدق، إنما الكذب احتمال عقلي، ألا يرى أنه إذا قيل لك من أين علمت أن زيداً قائم؟ تقول له: سمعته من فلان"1.

واحتمال الخبر للصدق والكذب إنما هو من جهة المتكلم، لا من جهة الوضع اللغوي، لأن المتكلم قد يستعمله صدقاً على وفق الوضع، وقد يستعمله كذباً على خلافه.

ومن هنا كان الخبر لا يخرج عن كونه صدقاً، أو كذباً، للإجماع على أن اليهودي إذا قال: الإسلام حق حكمنا بصدقه، وإذا قال: خلافه حكمنا بكذبه.

فالخبر لا يعرى البتة عن الصدق والكذب، فما ثبت صدقه لا يصح كذبه بعد، وما ثبت كذبه، لا يصح صدقه بعد، لاستحالة ارتفاع الواقع2.

1 حاشية العطار على المحلى على جمع الجوامع 2/142.

2 انظر تفاصيله في الفروق للقرافي1/24، وحاشية ادرار الشروق على أنواء الفروق لابن الشاط قاسم بن عبد الله1/19، وحاشية السعد على شرح العضد للمختصر2/51، وإرشاد الفحول ص:44.

ص: 39

أقسام الخبر:باعتبار ما علم صدقه، وما علم كذبه، وما لا يعلم صدقه ولا كذبه

الأول: ما علم صدقه، وهو نوعان: متفق عليه، ومختلف فيه.

المتفق عليه وهو:

1-

ما علم صدقه بالضرورة، مثل: الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، أو الاستدلال، نحو: العالم حادث.

2-

خبر الله تعالى، لأن الصدق صفة كمال، والكمال واجب له تعالى، والكذب صفة نقص، وهو محال عليه سبحانه.

3-

خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما يخبر به عن الله لدلالة المعجزة على صدقه.

4-

خبر كل الأمة، لأنها لا تجتمع على ضلالة، لثبوت عصمتها.

5-

كل خبر يوافق ما أخبر الله تعالى عنه، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الأمة.

6-

الخبر المتواتر، وسيأتي الكلام عليه.

ص: 40

وأما المختلف فيه، فمنه:

خبر من أخبر بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، فقيل عدم إنكاره دليل صدقه، وقد عده الغزالي1 من المعلوم صدقه، فقال:"كل خبر صح أنه ذكره المخبر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن غافلا عنه فسكت عليه، لأنه لو كان كذباً لما سكت عنه. ولا عن تكذيبه، ونعني به ما يتعلق بالدين"2.

ونفى الآمدي صحته، لأنه من الجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غير سامع له، بل ذاهل عنه، وإن غلب على الظن السماع وعدم الغفلة، فمن الجائز أن لا يكون فاهماً لما يقول! وإن غلب على الظن فهمه، وكان متعلقاً بالدين وقدر كونه كاذباً فيه، فيحتمل أن يكون قد بينه له، أو علم أن إنكاره عليه ثانياً غير منجع فيه، فلم ير في الإنكار عليه فائدة، ورأى المصلحة في إهماله إلى وقت آخر.

1 هو: محمّد بن محمّد بن محمّد أحمد أبو حامد الغزالي، الإمام الجليل الأصولي الفيلسوفي المتصوف، كان أبوه يغزل الصوف ويبيعه، له مصنافات كثيرة منها: المستصفى في علم الأصول والمنخول فيه أيضاً، وشفاء الغليل في مسالك التعليل، وإحياء علوم الدين وغيرها، ولد سنة: 450هـ. وتوفي سنة: 505هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/8، ومقدمة المنخول لمحمّد حسن هيتو ص: 19 فما بعدها. الطبعة الأولى.

2 المستصفى للغزالي مع فواتح الرحموت 1/141، طبعة جديدة بالأوفست الحلبي، عن الأولى، الأميرية سنة: 1322هـ.

ص: 41

وإن كان في أمر دنيوي، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم لكونه كاذباً فيما أخبر به، أو أنه امتنع عن الإنكار لمانع، أو لعلمه أنه لا فائدة في إنكاره، وعلى هذا فعدم الإنكار لا يدل على صدقه قطعاً، وإن دل عليه ظناً1.

وأجاب عنه الجلال المحلى بقوله: "وأجيب في الديني بأن سبق البيان أو تأخيره لا يبيح السكوت عند وقوع المنكر لما فيه من أفهام تغيير الحكم في الأول، وتأخير البيان عن وقت الحاجة في الثاني.

وفي الدنيوي بأنه إذا كان كاذباً، ولم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم، يعلمه الله به عصمة له عن أن يقر أحداً على كذب كما أعلمه بكذب المنافقين في قوله:{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} 2من حيث تضمنه أن قلوبهم وافقت ألسنتهم في ذلك. وإن كان دينياً. أما إذا وجد حامل على الكذب والتقرير كما إذا كان المخبر ممن يعاند النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينفع فيه الإنكار، فلا يدل السكوت على الصدق قولاً واحداً"3.

ومنه خبر من أخبر بحضرة جمع عظيم عن أمر محس وسكتوا عن تكذيبه، والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وعدم السكوت لو كان كذباً.

1 انظر: تفاصيله في: الإحكام للآمدي 2/39.

2 سورة المنافقون آية: 1

3 المحلى على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/156.

ص: 42

فذهب قوم إلى أن ذلك دليل على صدقه قطعاً. وقد عده الغزالي من المقطوع بصدقه حيث قال: "كل خبر ذكر بين يدي جماعة أمسكوا عن تكذيبه والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وامتناع السكوت لو كان كذباً، وذلك بأن يكون للخبر وقع في نفوسهم، وهم عدد يمتنع في مستقر العادة التواطؤ عليه بحيث ينكتم لو تواطؤا ولا يتحدثون به، وبمثل هذه الطريقة ثبتت أكثر أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان ينقل بمشهد جماعات، وكانوا يسكتون عن التكذيب مع استحالة السكوت عن التكذيب على مثلهم، فمهما كمل الشرط وترك النكير كما سبق نزل منزلة قولهم صدقت"1.

وقيل: إنه يفيد الصدق ظناً لجواز أن لا يكون لهم إطلاع على ما أخبر به، ولأن العادة لا تحيل سكوت الواحد أو الاثنين عن تكذيبه، ولاحتمال أن مانعاً منعهم من تكذيبه، ومع هذه الاحتمالات يمتنع القطع بتصديقه وإن كان صدقه مظنوناً2.

الثاني: ما علم كذبه وهو:

الأول: ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس المشاهد أو أخبار التواتر.

1 المستفصى للغزالي مع فواتح الرحموت 1/141.

2 الإحكام للآمدي 2/40 مع تصرف.

ص: 43

الثاني: ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة.

الثالث: ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب.

الرابع: ما سكت الجمع الكثير عن نقله، والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله، كما لو أخبر مخبر بأن أمير البلد قتل في السوق على ملأ من الناس، ولم يتحدث أهل السوق به فيقطع بكذبه، إذ لو صدق لتوفرت الدواعي على نقله، ولإحالة العادة اختصاصه بحكايته1.

وخالفت الشيعة فقالت: إن عدم تواتر الخبر لا يدل على كذبه، لأن العقل يجوّز صدقه. وقد قالوا: بصدق ما رووه في إمامة علي رضي الله عنه من نحو: " من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه"، وما كان مثله مما استدلوا به على خلافته من الأحاديث التي لم تصح عند أهل السنة، ولم تسلم للشيعة، مشبهين لها بما لم يتواتر من آحاد المعجزات، كحنين الجذع2 وتسليم الحجر، وتسبيح الحصى، وغيرها مما

1 انظر تصانيفه في: الإحكام للآمدي2/12، فما بعدها، والمستصفى مع فواتح الرحموت1/142، وشرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 355-356.

2 حديث حنين الجذع رواه البخاري ع ابن عمر باب علامات النبوة4/237. وحديث تسليم الحجر رواه مسلم عن جابر بن سمرة باب فضل نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم 7/58-59. وحديث تسبيح الحصى رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي ذر. انظر: مجمع الزوائد منبع الفوائد للهيثمي 8/298-299.

ص: 44

لم ينقل بطريق التواتر مع توفر الدواعي على نقلها متواترة، ولم يكن ذلك دليلاً على كذبها.

وأجيب بأن آحاد المعجزات كانت متواترة ثم استغني عن استمرار تواترها بتواتر القرآن المستمر إلى الأبد، بخلاف ما استدلوا به في إمامة علي، فإنه لا يعرفه أهل الحديث فضلاً عن غيرهم، ولوكان حقاً لما خفى على أهل بيعة السقيفة من الصحابة رضي الله عنهم الذين بايعوا أبا بكر، كما بايعه علي رضي الله عنه1.

الثالث: ما لم يعلم صدقه ولا كذبه، وهو ثلاثة أقسام:

الأول: ما ترجح احتمال صدقه كخبر العدل.

الثاني: ما ترجح احتمال كذبه كخبر الفاسق.

1 انظر تفاصيله في: شرح المحلى لجمع الجوامع مع حاشية العطار2/147، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي6/192 فما بعدها، وحاشية البناني على المحلى2/118-119.

ص: 45

الثالث: أن يتساوى الأمران كخبر مجهول الحال1.

1 انظر: نهاية السول للأسنوي، شرح منهاج الوصول للبيضاوي مع البدخشي2/230 فما بعدها. مطبعة محمّد علي صبيح وأولاده بالأزهر بمصر، والإحكام للآمدي2/12-13، وإرشاد الفحول ص:46.

ص: 46

السنة لغة وشرعاً

السنة لغة: الطريقة والسيرة، حسنة كانت أو قبيحة.

قال خالد الهذلي:

فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها

فأول راض سنة من يسيرها

وقال لبيد في معلقته:

من معشر سنت أمم آباؤهم

ولكل قوم سنة وإمامها1

وقد تكرر إطلاق السنة في القرآن بمعنى الطريقة والسيرة، كقوله تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 2 وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 3 وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا

1 انظر: لسان العرب لابن منظور13/225، وتاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي الإمام أبي الفضل السيد محمّد مرتضى9/244، ومختار الشعر الجاهلي2/399، وشرحه وحققه وضبطه محمّد سيد كيلاني. الطبعة الأولى سنة: 1379هـ – 1959م. وأصول الحديث للدكتور محمّد عجاج الخطيب ص: 17. دار الفكر. الطبعة الثانية سنة: 1391هـ – 1971م.

2 سورة آل عمران آية: 137.

3 سورة النساء آية: 26.

ص: 47

فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} 1 وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} 2والآيات في مثل ذلك كثيرة.

وورد في الحديث لفظ السنة وما تصرف منها، ومنه بمعنى الطريقة والسيرة حديث جرير بن عبد الله:"من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء"3.

وفي الحديث الآخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "4.

ونقل الزبيدي عن الأزهري أن السنة الطريقة المحمودة المستقيمة، ولذا قيل فلان من أهل السنة، معناه من أهل الطريقة المحمودة

1 سورة الأنفال آية: 38.

2 سورة الكهف آية: 55.

3 صحيح مسلم مع النووي16/226، المطبعة المصرية ومكتبتها بسوق الأوقاف.

4 صحيح مسلم مع النووي16/219-220.

ص: 48

المستقيمة1. وعزاه الشوكاني للخطابي قال: قال: "أصلها الطريقة المحمودة، فإذا أطلقت انصرفت إليها، وقد تستعمل في غيرها مقيدة كقوله: "من سن سنة سيئة""2.

والذي تؤيده النصوص هو ما ذهب إليه الجمهور من إطلاقها على الطريقة: محمودة كانت أم غير محمودة. فما استدل به الخطابي من قيدها في الحديث بالسيئة لا دليل فيه، لورودها مقيدة بالحسنة في نفس حديث جرير بن عبد الله "من سن في الإسلام سنة حسنة "الحديث3.

وكذلك ما تقدم من شواهد اللغة، والآيات القرآنية. فالإطلاق فيما تقدم يدل على صحة ما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم. والسنة بالضم الوجه لصقالته وملاسته، كما تطلق على الصورة، قال ذو الرمة:

تريك سنة وجه غير مقرفة4

ملساء ليمس بها خالد ولا ندب

وأنشد ثعلب:

1 تاج العروس للزبيدي9/244.

2 إرشاد الفحول مع شرح الورقات ص: 33.

3 صحيح مسلم مع النووي16/226.

4 القرف بالكسر القشر. انظر: القاموس المحيط لمجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزابادي 3/190، ط الثانية سنة: 1371هـ – 1952م- مطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر.

ص: 49

بيضاء في المرآة سنتها

في البيت تحت مواضع اللمس

أو السنة الوجه والجبينان، وكله من الصقالة والإسالة1.

1 تاج العروس للزبيدي9/244.

ص: 50

السنة شرعاً:

إذا أطلق لفظ السنة في الشرع، فإنما يراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو نهى عنه، أو دعا إليه قولا كان أو فعلا، ولذا يقال في أدلة الشرع: الكتاب والسنة، أي القرآن والحديث، غير أنه اختلف في معنى السنة باختلاف اصطلاح العلماء، لاختلاف أغراضهم واختصاصاتهم، فهي عند المحدثين غيرها عند الأصوليين والفقهاء.

فالسنة عند المحدثين: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أوتقرير، أو صفة خلقية أو خلقية، أو سيرة، سواء كانت قبل البعثة

كالتحنث في غار حراء أو بعدها. وهي بهذا المعنى ترادف الحديث عند بعضهم.

والسنة عند علماء أصول الفقه: كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير القرآن الكريم من قول أو فعل أو تقرير، مما يصلح لأن يكون دليلاً لحكم شرعي.

والسنة عند الفقهاء: كل ما ثبت من أحكام الشرع عن النبي صلى الله عليه وسلم مما ليس بفرض ولا واجب، وهي بهذا المعنى تقابل الواجب وغيره من أحكام الشرع الخمسة.

وقد عرفها فقهاء المالكية بأنها ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع ترك ما بلا عذر، وأظهره في جماعة، وقد يسمي بعضهم ما أكد منها بالواجب. قال صاحب مراقي السعود:

وسنة ما أحمد قد واظبا

عليه والظهور فيه وجبا

ص: 51

وبعضهم سمى الذي قد أكدا

منها بواجب فخذ ما قيدا

يعنى أن السنة هي: ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأظهره في جماعة. وبعض أصحاب مالك يسمي السنة المؤكدة بواجب، وعليه درج ابن أبي زيد في الرسالة حيث يقول:"سنة أو واجبة"1.

فكان لاختلاف أغراض العلماء أثر في الاختلاف في اصطلاحاتهم. فأعم تلك الاصطلاحات اصطلاح المحدثين الذين قصدوا بالسنة كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية سواء أثبت ذلك حكما أم لا.

وأخص منه اصطلاح الأصوليين، والفقهاء، لأن الأصوليين بحثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث إنه يضع القواعد للمجتهدين من بعده، ويبين للناس دستور الحياة، فاعتنوا بأقواله وأفعاله وتقريراته التي تثبت الأحكام الشرعية وتقررها. والفقهاء إنما بحثوا عنها من حيث إنها لا تخرج عن حكم شرعي، فهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوبا وحرمة وإباحة وغيرها.

1 انظر تفاصيل تعريف السنة عند المالكية في ما ذكر صاحب المراقي في فتح الودود شرح مراقي السعود لمحمّد يحيى الولاتي ص: 95، الطبعة الأولى المطبعة المولوية بفاس سنة: 1321هـ.

ص: 52

وقد تطلق عند العلماء على ما عمل به الصحابة -رضوان الله عليهم- سواء كان ذلك في القرآن أم الحديث، أم باجتهاد منهم كجمع المصحف، وتدوين الدواوين، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة ويقابل ذلك البدعة1.

ويدلك على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من حديث العرباض بن سارية: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ"2.

1 انظر تفاصيله في السنة ومكانتها في التشريع للدكتور مصطفى السباعي ص: 47 فما بعدها، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، بيروت، سنة: 1396هـ – 1976هـ، وأصول الحديث وعلومه ومصطلحه للدكتور محمّد عجاج الخطيب ص: 17 فما بعدها.

2 أبو داود 2/506، الطبعة الأولى سنة: 1371هـ، والترمذي مع تحفة الأحوذي7/439 فما بعدها، وقال حسن صحيح.

ص: 53

أقسام السنة باعتبار ذاتها

اختلف العلماء في تقسيم السنة:

فذهب علماء المالكية إلى أنها تنقسم إلى: قول، وفعل، ولم يروا التقرير قسماً لدخوله عندهم في الفعل، قال صاحب مراقي السعود:

والقول والفعل وفي الفعل انحصر

تقريره كذى الحديث والخبر

يعني أن تقريره لأحد على فعل رآه يفعله ولم ينكر عليه داخل في الأفعال دخول انحصار بحيث لا يخرج منه عنها شيء1.

وقال الأسنوي في تعريف السنة وبيان أقسامها: "وتطلق على ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم من الأفعال أو الأقوال التي ليست للإعجاز، وهذا هو المراد هنا، ولما كان التقرير عبارة عن الكف عن الإنكار، والكف فعل

استغنى المصنف عنه به أي عن التقرير بالفعل"2.

وذهب الجمهور إلى انقسامها إلى قول، وفعل، وتقرير3.

1 انظر: فتح الودود شرح مراقي السعودي للولاتي ص: 203-204، وشرح المحلى لجمع الجوامع مع حاشية العطار2/128.

2 نهاية السول شرح منهاج الوصول مع البدخشي2/196.

3 الإحكام للآمدي1/155، أصول الفقه لمحمّد أبي النور زهير3/108، دار الطباعة المحمدية بالأزهر، القاهرة، والتلويح على التوضيح2/2، يطلب من مطبعة ومكتبة محمّد عليّ صبيح. الأزهر، دار المعهد الجديد للطباعة.

ص: 54

أمثلة أقسام السنة:

مثال القول: أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قالها في مختلف الأغراض والمناسبات، مما يتعلق بتشريع الأحكام كحديث عمر بن الخطاب: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى

" الحديث1.

وحديث علي: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " 2، وقوله:"لا ضرر ولا ضرار "3، وأبي هريرة " هو الطهور ماؤه الحل ميتته "4.

مثال الفعل: ما نقله الصحابة رضي الله عنهم من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون العبادات وغيرها، كأداء الصلوات، ومناسك الحج، وآداب الصيام وقضائه صلى الله عليه وسلم "باليمين والشاهد "5.

1 صحيح البخاري1/4، مكتبة الجمهورية العربية لعبد الفتاح عبد الحميد مراد، مطبعة محمّد عليّ صبيح، مصر، وصحيح مسلم5/48، دار الطباعة القاهرة سنة: 1332هـ.

2 الموطّأ مع تنوير الحوالك2/210، وأخرجه الترمذي وأحمد والطبراني، قال الهيثمي:"رجالههما ثقات" وحسنه النووي في الأذكار وصحّحه ابن عبد البر، انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/13.

3 الموطأ مع تنوير الحوالك2/122، الطبعة الأخيرة، سنة: 1370هـ – 1951م، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر.

4 الترمذي انظر: تحفة الأحوذي1/225، مطبعة المدني، القاهرة، الناشر محمّد عبد المحسن الكتبي ومالك في الموطأ1/35.

5 أبو داود 2/277، ومسلم مع شرح النووي له 12/4 عن ابن عباس وأم سلمة.

ص: 55

ومثال التقرير: ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم مما صدر من بعض أصحابه من أقوال وأفعال، بسكوت منه وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسان وتأييد.

فيعتبر ما صدر عنهم بهذه المثابة صادراً عن النبي صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك ما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد رضي الله عنه: أنه خرج رجلان في سفر وليس معهما ماء فعرضت الصلاة، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد:"أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك" وقال للذي توضأ وأعاد: " لك الأجر مرتين "1.

ومنه أيضاً: إقراره لاجتهاد الصحابة في صلاة العصر في غزوة بني قريظة حين قال لهم: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" ففهم بعضهم هذا النهي على حقيقته، فلم يصل إلا في بني قريظة بعد المغرب، وقال:"لا نصلي حتى نأتيها"وفهم البعض أن المقصود الحث على

1 أبو داود 1/82، وسبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني 1/97-98، وأخرجه أبو داود 1/82.

ص: 56

الإسراع، فصلاها في وقتها. وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل الفريقان، فأقرهما ولم ينكر على أحدهما1.

1 الحديث أخرجه البخاري عن ابن عمر، انظر: الفتح 7/408، وانظر تفاصيل ذلك كله في أصول الحديث للدكتور محمّد عجاج الخطيب ص: 19 فما بعدها، والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي 47 فما بعدها.

ص: 57

تمهيد منزلة السنة من القرآن

مقدمة:

اختار الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فختم به الرسالات السماوية وأرسله إلى الناس كافة، وأنزل عليه القرآن العظيم {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 1

فالقرآن الكريم هو أساس الشريعة الإسلامية، ففيه التوحيد والأحكام، والآداب، والترغيب والترهيب والقصص، وهو كلام الله تعالى المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك جبريل الأمين، المتواتر لفظه جملة وتفصيلا، المتعبد بتلاوته، المكتوب في المصاحف.

ولما كان القرآن الكريم دستور المسلمين وأساس قواعد الأحكام الشرعية، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين لكتاب الله، إذ لا يمكن أن يفهم القرآن على حقيقته، وأن يعلم مراد الله من كثير من آيات الأحكام إلا من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن ليبينه للناس.

وذلك البيان: إما بوحي من الله تعالى، وإما باجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ. وعلى هذا فمرد السنة إلى الوحي.

1 سورة البقرة آية: 185.

ص: 58

فالقرآن الكريم هو الوحي المتلو المتعبد بتلاوته، والسنة وحي غير متلو ولا متعبد بتلاوتها.

قال ابن حزم: "لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه، فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفاً لرسوله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} 1. فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى قسمين:

أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفاً معجز النظام وهو القرآن.

والثاني: وحي مروى منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو، لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا، قال الله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2 ووجدناه قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني، كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق3. فالقرآن والسنة مصدران للتشريع متلازمان، لا يمكن لأي مسلم طالب علم أو مجتهد الاستغناء بأحدهما عن الآخر.

1 سورة النجم آيتان: 3-4.

2 سورة النحل آية: 44.

3 الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم1-4/87.

ص: 59

قال الألوسي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 1، قال:"وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقرونة بطاعة الله اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام، وقطعاً لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن، وإيذاناً بأن له صلى الله عليه وسلم استقلالاً بالطاعة لم يثبت لغيره، ومن ثم لم يعد في قوله تعالى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} إيذاناً بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم "2.

وقال ابن حجر: "النكتة في إعادة العامل في الرسول دون أولى الأمر مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى، كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف هما: القرآن، والسنة، فكأن التقرير أطيعوا الله فيما نص عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن، وما ينصّه عليكم من السنة. أو المعنى أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحيِ الذي ليس بقرآن"3.

1 سورة النساء آية: 59.

2 روح المعاني للألوسي 5/65.

3 فتح الباري 13/111، رقم كتبه وأبوابه وأحاديث

محمّد فؤاد عبد الباقي المطبعة السلفية ومكتبتها.

ص: 60

رتبة السنة من القرآن:

رتبة السنة من القرآن التأخر عنه في الاعتبار، لأن القرآن مقطوع به جملة وتفصيلاً، أما السنة فإنما يقطع بها في الجملة لا على التفصيل، ولأن القرآن هو الأصل، والسنة له بمثابة الفرع، لأنها تبينه وتوضحه، فالأصل مقدم على الفرع، والمبين متقدم على المبين، ويدل لذلك ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه، ولفظه:"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟، قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي"1.

ومما كتبه عمر رضي الله عنه إلى شريح " إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك بما ليس في كتاب الله، فاقض بما سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ ".

وفي رواية عنه: "إذا وجدت شيئاً في كتاب الله فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره". وقد بين المراد من هذا في رواية أخرى أنه قال: "انظر

1 أبو داود 2/272، ورواه الترمذي في باب الأحكام، والبخاري في التاريخ الكبير، والإمام أحمد في مسنده، وابن حزم في إحكام الأحكام، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وقال الحافظ في التلخيص:"قال الدارقطني في العلل: رواه شعبة عن أبي عون هكذا وأرسله ابن مهدي وجماعات عنه والمرسل أصح" وأخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه وقال:"إن أهل العلم تلقوه بالقبول" انظر: تحفة الطالب للإمام ابن كثير ص: 151 فما بعدها، تحقيق عبد الغني بن حميد الكبيسي.

ص: 61

ما تبين لك في كتاب الله، فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وروي مثل هذا عن ابن مسعود: "من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله، فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ".

ص: 62

أوجه السنة مع القرآن

لا خلاف بين العلماء في أن السنة مع القرآن لها ثلاث حالات:

الأولى: أن تكون موافقة للقرآن من كل وجه، كما في حديث ابن عمر:"بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلَا"1.

فهو موافق لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 2، ولقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 3 الآية، ولقوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 4.

الثانية: أن تكون مبينة لأحكام القرآن من تقييد مطلق، أو تفصيل مجمل، أو تخصيص عام، كالأحاديث التي فصلت أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج والبيوع والمعاملات، التي وردت مجملة في القرآن.

1 صحيح البخاري 1/10.

2 سورة البقرة آية: 83.

3 سورة البقرة آية: 183.

4 سورة آل عمران آية: 97.

ص: 63

وهذا النوع هو أغلب ما في السنة، وأكثرها وروداً1.

وها أنا أذكر أمثلة لبيان السنة لمجمل القرآن، وتقييدها لمطلقه، وتخصيصها لعامه فيما يلي:

1-

مثال تبيين السنة لمجمل الكتاب كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 2 فإن هذا اللفظ لم يتضمن بيان أوقات الصلاة، وأفعالها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله وفعله لغيره بعد أن بينه له جبريل عليه السلام. وكذلك قوله جل شأنه:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار الواجب، وصفة المواشي التي تجب فيها الزكاة، وغيرها من الأموال التي تجب فيها الزكاة شيئاً فشيئاً، كما بين الحج.

1 انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للسباعي ص: 379، فما بعدها مع تصرف.

2 سورة البقرة آية: 83.

3 سورة البقرة آية: 83.

ص: 64

هل الفعل يكون بياناً؟

اختلف العلماء في الفعل هل يكون بياناً أولا؟ فالأكثرون على أنه يكون بياناً، خلافاً لطائفة شاذة.

قال الآمدي: "مذهب الأكثرين أن الفعل يكون بياناً، خلافاً لطائفة شاذة، ويدل على ذلك النقل والعقل. أما النقل فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرف الصلاة والحج بفعله، حيث قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم" 1.

وأما العقل فهو أن الإجماع منعقد على كون القول بياناً، والإتيان بأفعال الصلاة والحج، لكونها مشاهدة أدل على معرفة تفصيلها من الإخبار عنها بالقول، فإنه ليس الخبر كالمعاينة، ولهذا كانت مشاهدة زيد في الدار أدل على معرفة كونه فيها من الإخبار عنه بذلك.

وإذا كان القول بياناً، مع قصوره في الدلالة عن الفعل المشاهد، فبكون الفعل بياناً أولى"2.

1 لفظه عند مسلم عن جابر بن عبد الله: "لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" انظر: صحيح باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر4/79. وحديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" أخرجه البخاري عن مالك بن الحويرث في باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة1/155. وفي كتاب الدب باب رحمة الناس بالبهائم7/77، وفي كتاب أخبار الآحاد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدق8/232.

2 انظر: الإحكام للآمدي3/24، مؤسسة الحلبي وشركاه.

ص: 65

2-

مثال تقييد السنة لمطلق الكتاب كما في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 1 فاليد تصدق من الأصابع إلى المنكب، ووردت هنا مطلقة، فقيدتها السنة بما جاء في الصحيحين واللفظ للبخاري قال:"جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقالت: إني أجنبت فلم أصب الماء. فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، أما أنا فتمعكت2 فصليت، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي لا: "كان يكفيك هكذا " فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه" 3 فالحديث كما ترى قيد لفظ اليد بالكفين مع أن اليد تصدق مطلقاً على أكثر من ذلك.

1 سورة المائدة آية: 6.

2 أي: تحككت وتقلبت اهـ من هدي الساري مقدمة فتح الباري ص: 189. قام بإخراجه وتصحيح تجاربه محب الدين الخطيب. المطبعة السلفية ومكتبتها.

3 أخرجه البخاري عن عبد الرحمن بن ابزي عن أبيه أنظره مع فتح الباري1/443، رقم أبوابه وأحاديثه محمّد عبد الباقي، وأشرف على طبعه محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة سنة: 1380هـ، وجامع أحكام القرآن لأبي عبد الله محمّد بن أحمد القرطبي5/239، مصورة عن دار الكتاب. الناشر دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة سنة 1387هـ – 1967م، والمغني لابن قدامة عبد الله بن أحمد بن محمّد المتوفى سنة: 620هـ 1/224، تصحيح د/ محمّد خليل هراس. مطبعة الإمام. مصر، والنووي شرح صحيح مسلم 4/61.

ص: 66

كما قيدت السنة القطع في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 الآية بالقطع من منتهى الكف دون المرفق.

3-

أ- مثال تخصيص السنة لعام القرآن كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2 الآية.

فلفظ السارق عام، وهو قاض بقطع كل سارق سواء كان المسروق نصاباً، أم أقل، وسواء كان من حرز أم من غير حرز، إلا أن السنة خصصت ذلك بمن سرق نصاباً محرزاً.

فمن الأحاديث الدالة على ذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن 3 " ثمنه ثلاثة دراهم. وفي لفظ بعضهم " قيمته ثلاثة دراهم "4.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت:" قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً "5 وفي رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً" 6.

1 سورة المائدة آية: 38.

2 سورة المائدة آية: 38.

3 المجن: الترس.

4 صحيح البخاري 8/200، وصحيح مسلم 5/113، ونيل الأوطار للشوكاني 7/131.

5 صحيح البخاري 8/199، وصحيح مسلم 5/112، ونيل الأوطار 7/131.

6 صحيح مسلم 5/112، ونيل الأوطار 7/131.

ص: 67

فدلت الأحاديث على اعتبار النصاب، وبمدلولها قال العلماء لما روى رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع في ثمر ولا كثر "1.

ومحل عدم القطع في الثمر مالم يجذ ويحرز، فإن أحرز وبلغ النصاب ففيه القطع لما في رواية الترمذي وغيره إلا ما آواه الجرين2 والحديث أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان من طريق مالك3.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب منه بغية من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يأويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ". وأخرجه أيضاً الحاكم وصححه، والنسائي وأبو داود والترمذي مختصراً في باب الرخصة في أكل الثمرة للمار بها، وحسنه4.

1 الموطأ 2/839، ونيل الأوطار 7/134، والكثر: الجمار وهو شحم النخل. القاموس 1/408، 2/129.

2 موضع الثمر الذي يجفف فيه اهـ مختار الصحاح للإمام محمّد بن أبي بكر الزاري ص: 101، ربته محمود خاطر بك. الناشر دار الفكر. سنة: 1392هـ – 1972م.

3 انظر تفاصيل ذلك والكلام في الحديث في الزرقاني على الموطأ 5/119، تحقيق إبراهيم عطوه عوض مطبعة الحلبي مصر، الطبعة الأولى، سنة: 1382هـ – 1962م، والحديث أخرجه مالك في الموطأ.

4 انظر: تحفة الأحوذي شرح الترمذي للمباركفوري 5/10 مع تصرف.

ص: 68

ب - ومنه قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1

قال الألوسي: "أشار إلى ما تقدم من المحرمات أي أحل لكم نكاح ما سواهن انفراداً واجتماعاً "2.

غير أن هذا العموم خصص بما رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها "3.

وما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " لا يجمع بين المرأة، وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها"4.

قال ابن حجر: "قال الشافعي: "تحريم الجمع بين من ذكر هو قول من لقيته من المفتين، لا اختلاف، بينهم في ذلك".

وقال الترمذي بعد تخريجه: "العمل على هذا عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافاً، في أنه لا يحل للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، ولا أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها

" وكذلك نقل الإجماع ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي والنووي.

1 سورة النساء آية: 24.

2 روح المعاني للألوسي 5/4.

3 البخاري مع فتح الباري 9/160.

4 نفس المصدر 9/160.

ص: 69

واستثنى ابن حزم عثمان البتي، وهو أحد الفقهاء القدماء من أهل البصرة. واستثنى النووي طائفة من الخوارج والشيعة. واستثنى القرطبي الخوارج.

قال الحافظ: قال النووي: "احتج الجمهور بهذه الأحاديث وخصوا بها عموم القرآن في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1.

ج- ومنه قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} 2 فإن عموم الآية يدلى على أن كل أب خلف أولاداً ذكوراً وإناثاً، أن الذكر منهم يرث مع أخته من تركة الأب نصيب أنثيين، ومحل ذلك ما لم يقم مانع من الإرث كالرق واختلاف الدين، والقتل، أو كون الموروث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لما جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تخصيص عموم الآية بمنع الإرث في حق أولئك. فمن ذلك: ما جاء عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم "3.

1 فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/162. والآية من سورة النساء آية: 24.

2 سورة النساء آية: 11.

3 صحيح البخاري 8/194، والموطأ 2/519، ونيل الأوطار 6/82.

ص: 70

ومنه: عن عمر رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس لقاتل ميراث"1.

ومنه: حديث أبي بكر: "لا نورث ما تركناه صدقة" 2، فإن هذا الحديث أخرج الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم من عموم الميراث الذي دلت عليه الآية لغة كما لا يخفى. إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا يتسع لها المجال هنا. وقد رأى البعض أن السنة مقدمة على الكتاب.

قال يحيى بن أبي كثير: "السنة قاضية على الكتاب، ليس الكتاب قاضياً على السنة"3 لأن الكتاب قد يكون فيه ما يحتمل أمرين، فتأتي السنة فتعين أحدهما، فيعمل به دون الآخر. وقد يكون ظاهره الأمر، فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره. وهذا يدل على تقديم السنة.

1 نيل الأوطار 6/84، وقال رواه مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه، فيض القدير 5/380 5 عن رجل ح.

2 صحيح البخاري 8/185-186، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا نورث ما تركناه صدقة"، الزرقاني على الموطأ 5/482-483.

3 الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص: 47، تقديم محمّد الحافظ التيجاني، ومراجعة عبد الحليم محمّد عبد الحليم وغيره، الطبعة الأولى مطعبة السعادة، الناشر: دار الكتب الحديثة.

ص: 71

وأجيب عنه بأن ليس المراد إطراح الكتاب وتقديم السنة، وإنما المراد بقضائها عليه كونها بياناً وشرحاً له، فلا يتوقف مع إجماله واحتماله إذا بنيت السنة المقصود منه، ويدل لذلك قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1.

فالآية كما ترى صريحة في أن السنة بيان للقرآن، فهي تباين مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه. فهذا هو وجه تقديمها عليه، وهو المنقول عن السلف"2.

روى الخطيب البغدادي: "أن عمران بن حصين كان جالساً ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: أدنه، فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف بين الصفا والمروة سبعاً؟ ثم قال: أي قوم خذوا عنا فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلن"3.

1 سورة النحل آية: 44.

2 انظر تفاصيله في: الموافقات للشاطبي 4/8-9.

3 الكفاية للخطيب البغدادي ص: 48.

ص: 72

المرتبة الثالثة:

"ما دل على حكم سكت عنه القرآن، فلم يثبته، ولم ينفه، كالأحاديث التي أثبتت حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وأحكام الشفعة، ورجم الزاني المحصن، وتغريب الزاني البكر، وإرث الجدة، وغير ذلك"1.

ولا خلاف بين العلماء في المرتبتين الأوليين، وإنما الخلاف في الثالثة التي أثبتت أحكاماً لم يتعرض لها القرآن نفياً أو إثباتاً. قال الشافعي رحمه الله: " وسنن رسول الله مع كتاب الله وجهان:

أحدهما: نص كتاب، فاتبعه رسول الله كما أنزل الله.

والآخر: جملة، بين رسول الله فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها: عاماً أو خاصاً، وكيف أراد أن يأتي به العباد، وكلاهما اتبع فيه كتاب الله."

قال: "فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين: والوجهان يجتمعان ويتفرعان:

أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبين رسول الله ما نص الكتاب.

1 انظر السنة ومكانتها في: التشريع الإسلامي للسباعي ص: 380.

ص: 73

والآخر: مما أنزل فيه جملة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد. وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.

والوجه الثالث: ما سنّ رسول الله فيه فيما ليس فيه نص كتاب.

فمنهم من قال: جعل الله له، بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب.

ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب. كما كانت سنته لتبين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من الشرائع، لأن الله قال:{لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1. وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 2. فما أحل وحرم، فإنما بيّن فيه عن الله، كما بين الصلاة.

ومنهم من قال: جاءته به رسالة الله، فأثبتت سنته بفرض الله.

ومنهم من قال: ألقى في روعه كل ما سن، وسنته الحكمة التي ألقى في روعه عن الله، فكان ما ألقى في روعه سنته3.

1 سورة النساء آية: 29.

2 سورة البقرة آية: 275.

3 الرسالة للإمام الشافعي ص: 52-53. تحقيق محمّد سيد كيلاني الطبعة الأولى سنة: 1388هـ – 1969م. مصطفى البابي الحلبي. مصر.

ص: 74

فاختلف العلماء في المرتبة الثالثة من حيث إثباتها لأحكام لم يتعرض لها القرآن، لا من حيث وجودها.

فذهب الجمهور إلى أن السنة أثبتت أحكاماً لم ترد في القرآن. وذهب جماعة ومنهم الشاطبي1 إلى أنه ليس في السنة أمر إلا وله أصل في القرآن.

قال ابن القيم2 بعد أن ذكر انقسام السنة إلى ثلاثة أقسام، وبين كل قسم قال: "فما كان منها زائداً على أصل القرآن، فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم، تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديماً لها على الكتاب، بل امتثالا لما أمر الله به من طاعة رسوله، ولو كان رسوله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم، لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به،

1 هو: إبراهيم بن موسى، أبو إسحاق، الإمام المحقق الناظر الأصولي المفسر الفقيه. له مؤلّفات جليلة منها: كتاب الموافقات في أصول الفقه. توفي سنة: 790هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي 2/204-205.

2 ابن القيم هو: العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، الحنبلي، الفقيه المفسر، الأصولي، النحوي، المتكلم الشهير بابن القيم الجوزية. تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية. مصنفاته كثيرة منها: زاد المعاد، وأعلام الموقعين، والصواعق المرسلة وغيرها. ولد سنة: 691هـ وتوفي سنة: 751هـ. انظر: مختصر مقدمة الصواعق المرسلة لزكريا علي يوسف. مطبعة الإمام، مصر.

ص: 75

وأنه إذا لم تجب إلا فيما وافق القرآن، لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 1.

وكيف يمكن أحداً من أهل العلم أن لا يقبل حديثاً زائداً على كتاب الله، فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب، ولا حديث خيار الشرط، ولا أحاديث الشفعة، ولا حديث الرهن في الحضر، مع أنه زائد على ما في القرآن، ولا حديث ميراث الجدة، ولا حديث تخيير الأمة إذا عتقت تحت زوجها، ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة، ولا حديث وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، ولا أحاديث إحداد المتوفى عنها زوجها مع زيادتها على ما في القرآن من العدة"2.

أدلة القائلين بأن السنة لم تثبت من الأحكام إلا ما له أصل في القرآن:

قال الشاطبي: "السنة راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، وذلك لأنها بيان له، وهو الذي دل عليه قوِله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 3، فلا تجد في السنة أمراً إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو

1 سورة النساء آية: 80.

2 أعلام الموقعين لابن القيم 2/314-315، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، يطلب من دار الكتب الحديثة، مطبعة السعادة. مصر. 1389هـ – 1969م.

3 سورة النحل آية: 44.

ص: 76

تفصيلية، وأيضاً فكل ما دل على أن القرآن هوكلية الشريعة وينبوع لها، فهو دليل على ذلك، لأن الله تعالى قال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1. وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن، واقتصرت في خلقه على ذلك، فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن، لأن الخلق محصور في هذه الأشياء، ولأن الله جعل القرآن تبياناً لكل شيء، فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة، لأن الأمر والنهي أول ما في الكتاب. ومثله قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2. وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 3.وهو يريد إنزال القرآن. فالسنة إذن في الأمر بيان لما فيه. وذلك معنى كونها راجعة إليه، وأيضاً فالاستقراء التام دل على ذلك"4.

أدلة القائلين بإثبات السنة لأحكام لم يتعرض لها القرآن:

1-

أن الله تعالى قرن الإيمان به بالإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، فقال جل شأنه:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه} 5 وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ

1 سورة القلم آية: 4.

2 سورة الأنعام آية: 38.

3 سورة المائدة آية: 3.

4 الموافقات للشاطبي 4/12-13.

5 سورة النساء آية: 171.

ص: 77

آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 2.

قال الشافعي: "فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تبع له: الإيمان بالله، ثم برسوله"3.

والإيمان به صلى الله عليه وسلم، يقتضي تصديقه واتباعه في كل ما جاء به، سواء كان قرآناً، أم سنة، وسواء كانت مثبتة لحكم لم يتعرض له القرآن، أم تعرض له، لقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّّ وَحْيٌ يُوحَى} 4.

2-

وجوب طاعة الرسول: دلت نصوص القر N ن على وجوب اتباعه وطاعته فيما يأمر به وينهى عنه، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 5.

1 سورة النور آية: 171.

2 سورة الأعراف آية: 158.

3 الرسالة للإمام الشافعي ص: 43.

4 سورة النجم آية: 3، 4.

5 سورة النساء آية: 59.

ص: 78

"والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته"1.

وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} 2.

قال الشاطبي: "وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله، فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه لا كتابه، وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن، إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله. وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3 فاختص الرسول عليه الصلاة والسلام بشيء يطاع فيه، وذلك السنة التي لم تأت في القرآن"4.

وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 5. وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 6. وقال: {إِنَّ

1 الموافقات للشاطبي 4/14، والسنة ومكانتها ص: 429، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/229، دار الفكر. بيروت.

2 سورة المائدة آية: 92.

3 سورة النور آية: 63.

4 الموافقات للشاطبي 4/14.

5 سورة النساء آية: 80.

6 سورة الحشر آية: 7.

ص: 79

الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} 1.

وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2.

فهذه الآيات وغيرها من أدلة القرآن، تدل على لزوم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، في كل ما أمر به، ونهى عنه، ولو كان زائداً على ما في القرآن.

3-

وردت أحاديث كثيرة دلت على ذم ترك السنة، والاكتفاء بالقرآن، ولو كان ما في السنة في القرآن لما كان الاكتفاء به تركاً لها.

- منها ما أخرجه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته3يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من

1 سورة الفتح آية: 10.

2 سورة النساء آية: 65.

3 الأريكة: السرير المزين. انظر: تعليق الشيخ أحمد سعد علي على سنن أبي داود2/505.

ص: 80

حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا، لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا أكل كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغتي عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم1بمثل قراه" 2.

- ومنها ما أخرجه أيضاً عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"3.

- ومنها: ما أخرجه الخطيب البغدادي عن المقدام بن معد يكرب الكندي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم أشياء فذكر الحمر الإنسية، ثم قال:" يوشك رجل متكيء على أريكته يحدث بالحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا حلالا أحللناه، وما وجدنا حراماً حرمناه، ألا وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله عز وجل"4.

1 من الأعقاب. وهو المجازاة بالصنيع. أي: يأخذ منهم بدل ما فاته من قراه. انظر: تعليق الشيخ أحمد سعد علي على سنن أبي داود 2/505.

2 أبو داود 2/505.

3 أبو داود 2/505.

4 الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص: 39، أبو داود 2/505، والموافقات 4/15.

ص: 81

4-

"أن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة، لم ينص عليها في القرآن، كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع والعقل وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر

"1.

أجاب القائلون بأن السنة لم تثبت من الأحكام إلا ما له أصل في القرآن، عن أدلة الفريق الآخر بما يأتي:

أما عن الدليل الأول:

فقالوا: إن السنة بيان وشرح للقرآن، قال الشاطبي:"لأنا إذا بنينا على أن السنة بيان للكتاب، فلا بد أن تكون بياناً لما في الكتاب احتمال له ولغيره، فتبين السنة أحد الاحتمالين دون الآخر. فإذا عمل المكلف على وفق البيان أطاع الله فيما أراد بكلامه، وأطاع رسوله في مقتضى بيانه، ولو عمل على مخالفة البيان عصى الله تعالى في عمله على مخالفة البيان، إذ صار عمله على خلاف ما أراد بكلامه، وعصى رسوله في مقتضى بيانه، فلم يلزم من إفراد الطاعتين تباين المطاع فيه بإطلاق، وإذا لم يلزم ذلك، لم يكن في الَايات دليل على أن ما في السنة ليس في الكتاب"2.

1 الموافقات للشاطبي 4/16.

2 نفس المصدر 4/19.

ص: 82

وأيضاً قالوا: إن زيادة الأحكام في السنة إنما هي زيادة الشرح على المشروح، وإلا لم يكن شرحاً، وهذا ليس بزيادة في الواقع. وعلى هذا المعنى ينزل الدليل الثاني1.

وأجابوا عن الدليل الثالث بما يتلخص في أن الكتاب دل على وجوب العمل بالسنة، لأنها بيان له وشرح، وإن اختلفت مآخذ العلماء في ذلك بما يأتي:

1-

فمنهم من سلك سبيل العموم، وجعل العمل بالسنة عملاً بالقرآن، ومن هؤلاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فروى أن امرأة من بني أسد أتته فقالت:"بلغني أنك لعنت ذيت وذيت، والواشمة والمستوشمة، إني قد قرأت ما بين اللوحين، فلم أجد الذي تقول". فقال لها عبد الله: "أما قرأت {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} 2؟ "قالت: "بلى". قال: "فهو ذاك". وفي رواية قال عبد الله: "لعن الله الواشمات والمستوشمات3 والمتنمصات4 والمتفلجات للحسن

1 نفس المصدر 4/20، والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي ص:385.

2 سورة الحشر آية: 7.

3 الوشم غرز الجلد بإبره وحشوه كحلاً أو غيره ليخضر مكانه اهـ هدي الساري ص: 205.

4 النامصة: التي تنتف الشعر، المتنمصة التي تطلبه اهـ هدي الساري ص:199.

ص: 83

المغيّرات خلق الله" قال: "فبلغ ذلك امرأة من بني أسد" فقالت: "يا أبا عبد الرحمن بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت" فقال: "وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله! ". فقالت المرأة: "لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته". فقال: "لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه"،قال الله عز وجل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1.

فظاهر قوله في هو في كتاب الله ثم فسر ذلك بقوله {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} دون قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} 2 أن تلك الآية تضمنت جميع ما في الحديث النبوي.

وروي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرماً عليه ثيابه، فنهاه فقال: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي. فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية.

وروي أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس:"أتركهما". فقال: "إنما نهى عنهما أن تتخذ سنة". فقال ابن عباس: "قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر" فلا أدري أتعذب عليهما

1 صحيح البخاري 7/212 فما بعدها، وصحيح مسلم 6/166، وجامع بيان العلم وفضله 2/230.

2 سورة النساء آية: 119.

ص: 84

أو تؤجر؟ لأن الله قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} .1

2-

أن السنة بيان لما أجمل ذكره من الأحكام، إما بحسب كيفيات العمل، أو أسبابه، أو شروطه، أو موانعه، أو لواحقه، أو ما أشبه ذلك، كبيانها للصلوات على اختلافها، في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها، وبيانها الزكاة ومقاديرها، ونصب الأموال المزكاة، وتعين ما يزكى مما لا يزكى، وبيان أحكام الصوم، وما فيه مما لم يقع النص عليه في الكتاب، وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية، والحج والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل، والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق، والرجعة والظهار واللعان، والبيوع وأحكامها، والجنايات من القصاص وغيره، كل ذلك بيان لما وقع مجملاً في القرآن. وهو الذي يظهر دخوله تحت الآية الكريمة:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2.

وقد روي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: "إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعاً لا يجهر فيها بالقراءة؟ " ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال:"أتجد هذا في كتاب الله مفسراً؟ إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك".

1 الموافقات 4/24-25، والآية من سورة الأحزاب 36.

2 سورة النحل آية: 44.

ص: 85

وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير: "لا تحدثونا إلا بالقرآن". فقال مطرف: "والله لا نريد بالقرآن بدلاً، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا".

وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: "كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك". قال الأوزاعي: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب". قال ابن عبد البر: "يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه".

وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روي أن السنة قاضية على الكتاب، فقال:"ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكني أقول: السنة تفسر الكتاب وتبينه"1.

3-

"أن القرآن قد ينص على حكمين متقابلين، ويكون هناك ما فيه شبه بكل واحد منهما؟ فتأتي السنة فتلحقه بأحدهما أو تعطيه حكماً خاصاً يناسب الشبهين، وقد ينص القرآن على حكم بشيء لعلة فيه، فيلحق به الرسول صلى الله عليه وسلم ما وجدت فيه العلة، عن طريق القياس"2.

1 الموافقات 4/25-26، والسنة ومكانتها للسباعي ص: 386 فما بعدها، وجامع بيان العلم وفضله 2/234.

2 السنة ومكانتها ص: 388، وا نظر تفاصيل ذلك كلهـ في الموافقات 4/32 فما بعدها.

وإليك مثالاً لكل من الأنواع الثلاثة التي أشار إليها السباعي أعلاهـ ثم ذكرها:

مثال الحكمين المتقابلين: "أن الله أحل الطيبات وحرم الخبائث، فبقيت هناك أشياء لا يدري أهي من الطيبات أم من الخبائث، فبين عليه السلام أنها ملحقة بإحداهما، فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، كما ألحق عليه السلام الضب والحبارى والأرنب وأشباهها بالطيبات" اهـ السباعي. السنة ومكانتها ص: 389.

مثال لما أعطي حكماً خاصاً بين شبهين: "جعل الله النفس بالنفس، وأقص من الأطراف بعضها من بعض، أما في الخطأ: ففي القتل الدية، وفي الأطراف دية بينتها السنة، فأشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بضربة من غيرها، فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف، ويشبه الإنسان التام لخلقته، فبينت السنة أن ديته الغرة عبد أو أمة وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين فيه" اهـ السباعي، السنة ومكانتها ص: 389-390.

مثال لما ألحق بطريق القياس: "حرم الله الجمع بين الأختين في النكاح وجاء في القرآن: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] فجاء نهيه عليه السلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس، لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع بين الأختين موجود هنا، وهو ما عبر عنه في الحديث: " فإنكم إذا فعلتم ذلك، قطعتم أرحامكم" والتعليل يشعر بوجه القياس" اهـ السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص:390.

ص: 86

4-

أن القرآن تضمن المقاصد الكلية للتشريع التي يقصدها في مختلف نصوصه وإنما في السنة من أحكام لا يعدو هذه المقاصد، لأن القرآن جاء بما يكفل مصالح العباد في الدارين، وجماع سعادة العباد في الدارين في ثلاثة أشياء:

ص: 87

1-

الضروريات وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل.

2-

الحاجيات وهي: كل ما يؤدي إلى التوسعة ورفع الضيق والحرج كإباحة الفطر في السفر والمرض.

3-

التحسينيات وهي: ما يتعلق بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات كالطهارة وأخذ الزينة في اللباس ومحاسن الهيئات والطيب1.

وقد دل الاستقراء على أن هذه المقاصد الثلاثة ومكملاتها قد جاء بها القرآن الكريم أصولاً يندرج تحتها كل ما في القرآن من أحكام، وجاءت بها السنة بياناً وتفصيلاً لما ورد في القرآن منها.

فالسنة إذن في مجموعها ترجع بالتحليل إلى هذه الأصول الثلاثة2.

الإجابة عما أجيب به عن أدلة الجمهور: للجمهور أن يردوا على تلك الإجابات بما يأتي:

أما عن الجواب الأول والثاني:

فإنما كان من السنة بياناً لما احتمله الكتاب، فهذا لا نزاع في أنه بيان للكتاب وشرح له، وإنما الخلاف، فيما استقلت السنة بتشريعه مما لم

1 الموافقات 4/31.

2 انظر تفاصيل ذلك في السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للسباعي ص: 388، والموافقات للشاطبي 4/27 فما بعدها.

ص: 88

يتعرض له الكتاب نفياً أو إثباتاً، وهو الذي دلت النصوص السابقة على وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وطاعته صلى الله عليه وسلم فيه طاعة لله لأمره تعالى بطاعة رسوله فيما شرعه. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 1 الآية. وقال جل شأنه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2.

وقول الشاطبي: رحمه الله إن قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3 وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} 4 وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 5 وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 6 والآيتين اللتين ذكرتهما قبل هذه الآيات آنفا، لم يكن فيها دليل على أن

1 سورة النساء آية: 59.

2 سورة النور آية: 63.

3 سورة النساء آية: 65.

4 سورة المائدة آية: 92.

5 سورة السناء آية: 80.

6 سورة الحشر آية: 7.

ص: 89

ما في السنة ليس في الكتاب، تقدم1 توجيه دلالة النصوص على أن في السنة من التشريع مالم يتعرض له القرآن نفياً أو إثباتاً. ويرد على الجواب الأول مما أجابوا به عن دليل الجمهور الثالث والرابع بأن ما استدلوا به مما نقلوه عن عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن يزيد، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم فإنما يدل على وجوب اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتثال ما يأمر به واجتناب ما ينهى عنه، لأن قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} 2الآية، لا يدل بمنطوقه أو مفهومه على لعن الواشمة والمستوشمة

إلخ، وإنما يدل على لزوم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، واتباعه صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به محل اتفاق.

ويجاب على الدليل الثاني عن دليل الجمهور الثالث والرابع: بأن ما استدلوا به من أن السنة بيان لما أجمل ذكره من الأحكام

إلخ. يقال فيه: إن الخلاف فيما أثبتته السنة مما لم يتعرض له القرآن نفياً أو إثباتاً، أما ما كان داخلاً تحت نصوصه فلا خلاف فيه.

وما رووه عن عمران بن حصين وغيره، لا يرد علينا، لأنا لا نرى الاكتفاء بالقرآن، وعدم الاحتجاج بالسنة، بل نرى أن السنة بيان للقرآن فيما يمكن أن يدخل تحت منطوقه أو مفهومه، وأما ما لا يمكن دخوله

1 انظر: ص: 42 من هذا البحث فما بعدها.

2 سورة الحشر آية: 7.

ص: 90

تحته، مما لم يتعرض له القرآن نفياً أو إثباتاً، نرى أنه تشريع استقلت به السنة، يجب اتباعه بنص كتاب الله1.

ويجاب عن الثالث منه: بأنه لا داعي إلى الإلحاق بالشبه والقياس، لثبوت تلك الأحكام بالسنة، لا سيما وأننا متفقون جميعاً على وجوب العمل بما ثبت بالسنة.

ويجاب عن الرابع منه: بأن ما استدلوا به من أن القرآن تضمن المعاني الكلية الكفيلة بسعادة الدنيا والآخرة، وإنما في السنة لا يعدو تلك المعاني وهي:

1-

الضروريات.

2-

الحاجيات.

3-

التحسينيات ومكملاتها، حيث كان القرآن أصولا يندرج تحتها كل ما في القرآن من أحكام، والسنة بياناً وتفصيلاً لما فيه منها. فإن ذلك لا يمنع أن تثبت السنة من الأحكام مالم يكن في القرآن، ويتضمن تلك المقاصد، لا سيما وقد ثبت في السنة من ذلك ما يعسر استنباطه من نصوص القران.

- فمن ذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه "من قتل قتيلاً فله سلبه "2.

1 انظر: ص: 42 من هذا البحث فما بعدها.

2 مسلم مع النووي 12/59، وسبل السلام 4/52.

ص: 91

- ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى بيمين وشاهد"1.

- ومنه حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الكاليء بالكاليء"، يعني الدين بالدين2.

- ومنه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاماً بنسيئة، فأعطاه درعا له رهناً "3.

- ومنه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مالم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة "4.

- ومنه ما أخرجه مالك عن قبيصة بن أبي ذئب أنه قال: "جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال أبو بكر: "مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فارجعي حتى

1 الموطأ 2/721، أبو داود 2/277، الأم للشافعي 7/182، الأميرية ببولاق سنة: 1324هـ مصر.

2 سبل السلام 3/44-45، وقال:" رواه أبو إسحاق، والبزار بإسناد ضعيف، ورواه الحاكم والدارقطني من دون تفسير، لكن في إسناده موسى بن عبدة الربذي وهو ضغيف". قال أحمد:" ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس أنه لا يجوز بيع دين بدين" اهـ الصنعاني من نفس المصدر.

3 صحيح مسلم مع النووي 11/39، صحيح البخاري 3/176.

4 صحيح البخاري 3/98-99، والموطأ 2/713.

ص: 92

أسأل الناس". فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: "حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس". فقال أبو بكر: "هل معك غيرك؟ " فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق"1.

- ومنه ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها في تخيير الأمة إذا عتقه تحت عبد. قالت عائشة: "فدعاها- تعني بريرة- النبي صلى الله عليه وسلم، فخيرها من زوجها. فقالت: "لو أعطيتني كذا وكذا ما ثبت عنده، فاختارت نفسها"2.

- ومنه في إحداد المتوفى عنها زوجها، ما أخرجه مسلم عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت:"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" 3.

- ومنه في العقل وفكاك الأسير ما أخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة قال: " سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه هل عندكم من شيء مما ليس في القرآن؟ "وقال ابن عيينة مرة: "ما ليس عند الناس". فقال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهماً يعطى رجل في

1 الموطأ مع تنوير الحوالك 1/335، والكفاية للخطيب البغدادي ص: 66، ونيل الأوطار 6/175، وابن ماجة 2/84.

2 صحيح البخاري 3/182، وصحيح مسلم 4/214.

3 صحيح مسلم 4/202، والموطأ 2/596.

ص: 93

كتابه، وما في الصحيفة". قلت:"وما في الصحيفة؟ " قال: "العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر"1.

- ومنه ما أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة "2.

- ومنه ما أخرجه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى أن الخراج بالضمان " قال: هذا حديث صحيح غريب3.

- ومنه ما أخرجه البخاري عن عروة عن عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهما أنه حدثه "أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة4 التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: "سرح الماء يمر" فأبى عليه فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق يا زبير،

1 صحيح البخاري 9/16.

2 صحيح مسلم 4/162، والموطأ 2/601.

3 الترمذي مع تحفة الأحوذي، 4/508، قال ابن حجر بعد أن أخرجه في بلوغ المرام:"رواه الخمسة وضعفه البخاري وأبو داود وصحّحه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان" قال الصنعاني: "الحديث أخرجه الشافعي وأصحاب السنن بطوله، وهو: "أن رجلاً اشترى غلاماً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عنده ما شاء الله، ثم رده من عيب وجده، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم برده بالعيب، فقال المقضى عليه:"قد استعملته"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الخراج بالضمان". والخراج هو: الغلة والكراء. اهـ من سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام 3/30.

4 شراج الحرة: مسائل المياه.

ص: 94

ثم أرسل الماء إلى جارك"، فغضب الأنصاري، فقال: "أن كان ابن عمتك"، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" 1.

- ومنه ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال: "يا رسول الله هلكت"، قال: "مالك؟ " قال: "وقعت على امرأتي وأنا صائم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال: "لا". قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: "لا". فقال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ " قال: "لا". قال فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أوتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر، والعرق المكتل، قال: "أين السائل" فقال: "أنا"، قال: "خذ هذا فتصدق به"، فقال الرجل: "أعلي أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها- يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي"، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: "أطعمه أهلك "2.

- ومنه ما أخرجه البخاري أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أليس إذا حاضت -يعني المرأة-لم تصل ولم تصم؟ "3.

1 صحيح البخاري 3/138، وسنن أبي داود 2/283-284.

2 صحيح البخاري 3/39-40، وصحيح مسلم مع النووي 7/224 فما بعدها، وسبل السلام شرح بلوغ المرام 2/163.

3 صحيح البخاري 3/43، وسبل السلام 3/33.

ص: 95

- ومنه ما أخرجه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه مالم يتفرقا إلا بيع الخيار"1.

فقد تضمنت هذه الأحاديث وغيرها من الأحكام ما لم يتعرض له القرآن نفياً أو إثباتاً، بل أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنص عنها"2.

هل للخلاف أثر؟

لم يترتب على اختلاف، الفريقين أثر، لاتفاقهما على وجوب العمل بكل ما ثبت بالسنة. وغاية الخلاف: أن أحدهما يقول بإثبات السنة لأحكام ليست في القرآن، والفريق الآخر يقول: لم تثبت إلا ما هو مندرج تحت نص من القرآن، أو تحت قاعدة عامة من قواعده.

1 صحيح مسلم 5/9، وصحيح البخاري 3/80، والموطأ مع تنوير الحوالك 2/79، وتحفة الأحوذي شرح الترمذي 4/448.

2 أعلام الموقعين لابن القيم 3/316.

ص: 96

أقسام الخبر باعتبار عدد رواته، وبيان ما يفيده كل قسم: ينقسم الخبر باعتبار عدد رواته إلى: متواتر، وآحاد:

الأول التواتر:

التواتر في اللغة: تتابع أمور واحداً بعد واحد بفترة بينهما، مأخوذ من الوتر، ومن ذلك قوله تعالى:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} 1. أي واحداً بعد واحد بينهما فترة، والتاء الأولى مبدلة من واو كتاء تقوى.

وقيل: التواتر التتابع مطلقا، ومنه قول لبيد في معلقته:

يعلو طريقة متنها متواتراً

في ليلة كفر النجوم غمامها2

وقول حميد:

قرينة سبع إن تواترن مرة

ضربن وصفت أرؤس وجنوب3

الخبر المتواتر في اصطلاح الأصوليين:

اختلفت عبارات الأصوليين تعريف الخبر المتواتر، وإن كانت متفقة في المعنى، وإليك تعريفاتهم:

1 سورة المؤمنون آية: 44.

2 انظر: البيت في مختارات الشعر الجاهلي 2/391، بشرح محمّد سيد كيلاني.

3 انظر: تاج العروس 3/596 فما بعدها، ولسان العرب 5/275 فما بعدها، والمختصر لابن الحاجب 2/51، والإحكام للآمدي 2/14، ومذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص: 99-100، وروح المعاني للألوسي 18/34.

ص: 97

فقد عرفه ابن الحاجب1 بأنه: " خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بصدقه"2.

وقال الآمدي: "والحق أن المتواتر في اصطلاح المتشرعة عبارة عن خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بمخبره"3.

فكل منهما قيده بكونه خبر جماعة، احترازاً من خبر الواحد، وبكونه مفيداً بنفسه العلم احترازاً من خبر جماعة لا يفيد العلم بنفسه، وإنما أفاد العلم بغير نفسه كالخبر المحتف بالقرائن، أو بغير القرائن، كالعلم بمخبره ضرورة أو نظراً، فهما متفقان كما ترى4.

وعرفه البيضاوي5 بأنه " خبر بلغت رواته في الكثرة مبلغاً

1 هو: الإمام جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر، الفقيه الأصولي، النحوي، المالكي، كان علامة زمانه ورئيس أقرانه، وكان أبوه حاجباً فعرف به، له مؤلفات غاية في التحقيق منها: الكفاية في النحو، مختصر منتهى السول والأمل في الأصول. توفي سنة: 646هـ. انظر: الأعلام للزركلي 4/374، والفتح المبين في طبقات الأصوليين2/65-66.

2 المختصر لابن الحاجب 2/51.

3 الإحكام للآمدي 2/15.

4 انظر تفاصيله في: المختصر 2/52، والإحكام للآمدي 2/15.

5 هو: عبد الله بن عمر بن محمّد بن عليّ البيضاوي الشافعي، الملقب بناصر الدين، المكنى بأبي الخير، المعروف بالقاضي. المفسر المحدث الفقيه، الأصولي المتكلم، الإمام، له مؤلفات عديدة منها: منها الوصول في أصول الفقه وشرح المختصر لابن الحاجب، وشرح المنتخب في أصول الفقه. توفي سنة: 685هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/88.

ص: 98

أحالت العادة تواطؤهم على الكذب"1.

وهذا التعريف كما ترى لا يختلف عن التعريفين السابقين، وكلها خلت عن قيد كون الخبر عن أمر محسّ، فيرد على تلك التعريفات ما كان متواتراً بالنظريات، وما كان كذلك لا يفيد العلم، لأن الجم الغفير إذا أخبروا عن قدم العالم، فإن خبرهم قد لا يفيد العلم، وقد يقال بأن قيدهم بإفادته للعلم يخرج ما كان متواتراً بالنظريات.

وعرفه القرافي بأنه "خبر أقوام عن أمر محسّ، يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة"2.

فقيده بكونه خبر أقوام احترازاً من خبر الواحد، وبكونه عن أمر محسّ، احترازاً عن النظريات، فإن الجمع العظيم إذا أخبروا عن حدوث العالم أو غير ذلك، فإن خبرهم لا يحصل العلم، ويعني بالمحسِّ ما يدرك بإحدى الحواس الخمس. وقيده باستحالة تواطئهم على الكذب، احترازاً عن أخبار الآحاد، وبقوله: عادة احترازاً من العقل، لأن العلم

1 منهاج الوصول مع شرحيه نهاية السول والبدخشي 2/214.

2 شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول ص: 349.

ص: 99

المتواتر عادي لا عقلي، إذ العقل يجوز الكذب على كل عدد وإن عظم1.

فهذه التعريفات ترجع إلى أنه كل خبر بلغ رواته في الكثرة عدداً يستحيل عادة معه تواطؤهم وتوافقهم على الكذب، عن أمر مدرك بإحدى الحواس الخمس، نحو سمعت ورأيت، لأن تواطؤ العدد الكثير في المعقولات غير مستحيل، بل واقع فقد تواطأ الجم الغفير على قدم العالم، وهو باطل.

1 نفس المصدر ص: 349-350.

ص: 100

تعريف الخبر المتواتر عند أهل الحديث

ذكر ابن الصلاح1 أن: "أهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الحافظ الخطيب2 قد ذكره، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم، ولا يكاد يوجد في رواياتهم، فإنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولابد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه"3.

ولعل ما ذكره ابن الصلاح من عدم ذكر أهل الحديث لتعريفه خاص بالقدماء منهم، لأن متأخريهم يعرفونه بما يتفق مع تعريف أهل الأصول وإن لم يفصلوا فيه القول مثل أهل الأصول.

1 هو: عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن أبي موسى، المعروف بابن الصلاح، الإمام المحدث الفقيه الأصولي الشافعي له مؤلفات كثيرة منها: طبقات الفقهاء، وأدب المفتي والمستفتي، وعلوم الحديث. ولد سنة: 577هـ وتوفي سنة: 643هـ. انظر: مقدمة علوم الحديث للدكتور نور الدين العتر ص: 21-27، والفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي 2/63-64.

2 هو: أبو بكر أحمد بن عليّ بن ثابت بن أحمد، المعروف بالخطيب البغدادي الحافظ الإمام محدث الشام والعراق، صحاب التصانيف الكثيرة، منها: تاريخ بغداد، والكفاية في علم الرواية. ولد سنة: 392هـ وتوفي سنة: 463هـ. انظر: تقديم محمّد الحافظ التجاني للكفاية في علم الرواية ص: 17-21.

3 علوم الحديث لابن الصلاح ص: 241.

ص: 101

وما أشار إليه من تعريف الحافظ الخطيب له فهو قوله: "فأما الخبر المتواتر، فهو ما يخبر به القوم الذين يبلغ عددهم حداً يعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة، أن اتفاق الكذب منهم محال، وأن التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذر، وإنما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وأن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم، فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم قطع على صدقه، وأوجب وقوع العلم ضرورة"1.

كما عرفه ابن حجر2 بقوله: " المتواتر هو الخبر الذي جمع أربعة شروط، وهي:

- عدد كثير أحالت العادة تواطؤهم، وتوافقهم على الكذب.

- رووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء.

- وكان مستند انتهائهم الحس.

1 الكفاية في علم الرواية ص: 50.

2 هو: أحمد بن عليّ بن أحمد أبو الفضل الكناني، الشافعي، المعروف بابن حجر العسقلاني، حامل لواء السنة، وقاضي الفضاة أوحد الحفاظ والرواة. ولد سنة: 773هـ. له مؤلفات كثيرة جليلة على جلالة قدره، ورسوخه في العلم. منها: الإصابة في أسماء الصحابة، وتهذيب التهذيب، والتقريب، ونخبة الفكر، وشرحها، وفتح الباري شرح صحيح البخاري. توفي سنة: 852هـ. انظر: مقدمة سبل السلام شرح بلوغ المرام ص: 5.

ص: 102

- وانضاف إلى ذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه1.

ثم قال: "وإنما أبهمت شروط المتواتر في الأصل، لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد، إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أوضعفه، ليعمل به أو يترك من حيث صفات الرجال وصيغ الأداء، والمتواتر لا يبحث عن رجاله، بل العمل به من غير بحث"2.

فلاح بما ذكر أن التعريف لعلماء أصول الفقه، وأن من عرفه من المحدثين إنما اتبع طريقة الأصوليين.

وقد عرفه السيوطي في ألفيته في المصطلح بقوله:

وما رواه عدد جم يجب

إحالة اجتماعهم على الكذب

فالمتواتر

3.

هل فيه فرق بين تعريف الأصوليين والمحدثين له؟

لا فرق بين التعريفين كما هو واضح مما أسلفت نقله عنهما، ولعل ذلك راجع إلى أن من عرفه من أهل الحديث اتبع في تعريفه تعريف الأصوليين، ويدل لذلك ما تقدم آنفا من قول ابن الصلاح إن أهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، ولذا فقد عرفه

1 نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر مع شرحه ص: 3.

2 نفس المصدر ص: 4.

3 ألفية السيوطي في المصطلح مع شرحها لمحمّد محي الدينن عبد الحميد ص: 100.

ص: 103

بأنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، وهذا التعريف مثل تعريف الآمدي، حيث قال:"خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بمخبره "1.

وما ذكره الخطيب، والحافظ ابن حجر، والسيوطي رحمهم الله لا يختلف عن ذلك كما ترى. والله أعلم.

1 الإحكام للآمدي 2/15، والمختصر لابن الحاجب 2/51.

ص: 104

شروط التواتر

يشترط في الخبر لتواتره عند الأصوليين شروط: منها ما اتفق عليه، ومنها ما اختلف فيه.

الشروط المتفق عليها هي:

1-

أن يبلغ رواته عدداً يستحيل معه التواطؤ على الكذب عادة.

2-

أن يكون مستند خبرهم إلى أمر محسوس نحو قولهم: رأينا وسمعنا.

3-

أن لا يقل عدد رواته في كل طبقة من طبقات السند من أوله إلى آخره عن عدد التواتر، من غير قيده بعدد معين، لأن ضابطه حصول العلم الضروري، فمتى حصل علم أنه متواتر، وإلا فهو غير متواتر. وبهذا قال الجمهور.

وذهب البعض إلى أنه لا يحصل بأقل من خمسة للاتفاق على تزكية الأربعة في شهادة الزنا.

وقيل: خمسة، لأن الخمسة عدد أولي العزم من الرسل، وقيل: سبعة عدد أهل الكهف، وقيل: عشرة، لأن ما دونها جمع قلة. وقيل: اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل لقوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} 1. وقيل: عشرون لقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ

1 سورة المائدة آية: 12.

ص: 105

يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 1. وقيل: أربعون، لأنه العدد المعتبر في الجمعة. وقيل: سبعون لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} 2 وقيل: ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر.

وبالنظر إلى هذه الأدلة نجد أنها لا تمت لموضوع الخلاف بصلة، ولذا قال الشوكاني:"يا لله للعجب من جري أقلام أهل العلم بمثل هذه الأقوال التي لا ترجع إلى عقل، ولا نقل، ولا يوجد بينها وبين محل النزاع جامع"3.

وذكر الغزالي أن ما ذكروه "تحكمات فاسدة باردة لا تناسب الغرض ولا تدل عليه، ويكفي تعارض أقوالهم دليلاً على فسادها، فلا سبيل لنا إلى حصر عدده، لكنا بالعلم الضروري نستدل على العدد الذي هو الكامل عند الله تعالى. قد توافقوا على الأخبار"4.

1 سورة الأنفال آية: 65.

2 سورة الأعراف آية: 155.

3 إرشاد الفحول، وبهامشه شرح العبادي على شرح المحلى للورقات ص: 47، وانظر تفاصيل ذلك في نفس الصفحة فما بعدها، والإحكام للآمدي 2/24 فما بعدها.

4 المستصفى للغزالي 1/138، وروضة الناظر لابن قدامة ص:50.

ص: 106

واختاره الآمدي قال: "وذلك لأنا لا نجد من أنفسنا معرفة العدد الذي حصل علمنا بوجود مكة، وبغداد وغير ذلك من المتواترات عنده"1.

الشروط المختلف فيها:

1-

اختلفوا في اشتراط كونهم عالمين بالمخبر عنه، فعده الآمدي والغزالي من الشروط المتفق عليها2.

وقال ابن الحاجب: "إنه غير محتاج إليه، لأنه إن أريد الجميع فباطل، لأنه لا يمتنع أن يكون بعض المخبرين مقلداً فيه، وإن أريد البعض فلازم مما قبل"3 أي أن توفر الشروط الثلاثة المتقدمة يقتضي حصول العلم للبعض.

2-

اختلفوا في اشتراط العدالة والإسلام، كما في الشهادة، ولأن الكفر عرضة للكذب والتحريف، والعدالة والإسلام ضابط الصدق والتحقيق وإلا أفاد إخبار النصارى بقتل المسيح العلم.

وأجيب بأن أخبارهم لم تستوف شروط التواتر في المرتبة الأولى.

1 الإحكام للآمدي 2/26.

2 الإحكام للآمدي 2/25، والمستصفى 1/134.

3 المختصر لابن الحاجب مع شرحه 2/53.

ص: 107

ورد بأنا نجد من أنفسنا العلم بما نقله عدد كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب وإن كانوا كفاراً كما لو أخبر أهل قسطنطينية وإن كانوا غير عدول أو كفار بقتل ملكهم، لأن الكثرة تمنع من الكذب.

3-

واختلفوا في عدم الاجتماع في البلد والنسب والدين والوطن، كما اشترطت الشيعة أن يكون منهم معصوم، وإلا لم يمنع الكذب. واشترط اليهود أن يكون فيهم أهل الذلة، فإنهم يمتنع تواطؤهم عادة للخوف بخلاف أهل العزة، فإنهم لا يخافون. والكل فاسد، للعلم بحصول العلم بدون ذلك1.

وقد عرفه صاحب مراقي السعود مشيراً إلى ما تقدم وإلى قسميه الآتيين بقوله:

واقطع بصدق خبر التواتر

وسو بين مسلم وكافر

واللفظ والمعنى وذاك خبر

من عادة كذبهم منحظر

من غير معقول، وأوجب العدد

من غير تحديد على ما يعتمد

وقيل بالعشرين أو بأكثر

أو بثلاثين أو اثنى عشرا

الغاء الأربعة فيه راجح

وما عليها زاد فهو صالح

وأوجبن في طبقات السند

تواترا وفقاً لدى التعدد2

1 انظر تفاصيل ذلك في شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/55، والإحكام للآمدي 2/27.

2 فتح الودود شرح مراقي السعود ص: 215 فما بعدها.

ص: 108

ولا يخفى أن قوله: "ما زاد على الأربعة صالح لأن يكون خبره خبراً متواتراً" أنه رأى لبعض العلماء، وقد تقدم إبطاله آنفاً.

ص: 109

أقسام التواتر:

المتواتر قسمان:

أ- تواتر في اللفظ: وهو ما تواتر عليه رواته في اللفظ نحو: حديث أبي هريرة رضي الله عنه "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"1.

2-

معنوي: وهو ما اتفق رواته في المعنى دون اللفظ، كأحاديث الشفاعة2، وأحاديث رؤية المؤمنين لله يوم القيامة، وغير ذلك3.

ما يفيده الخبر المتواتر:

اتفق العقلاء أن الخبر المتواتر بشروطه يفيد العلم بصدقه، وخالفت

1 صحيح البخاري 1/38، وصحيح مسلم 1/7 فما بعدها، أبو داود 2/287، ابن ماجة 1/9.

2 صحيح البخاري 9/179، فما بعدها، وصحيح مسلم 1/117 فما بعدها.

3 انظر تفاصيله في أصول الحديث ومصطلحه، د. محمّد عجاج الخطيب ص: 301، الإحكام لابن حزم 1-4/94 فما بعدها.

ص: 110

السمنية1 والبراهمة2 في ذلك، حيث قالوا:"لا علم في غير الضروريات إلا بالحواس دون الأخبار".

وما ذكروه من نفي إفادة الخبر المتواتر للعلم مكابرة وخلاف باطل لا يستحق قائله الجواب عليه. فإنا نجد من أنفسنا العلم الضروري بالبلاد النائية، والأمم الخالية، والقضايا الماضية بما يرد علينا من الأخبار، كما نجد العلم بالمحسوسات من غير فرق بينهما فيما يعود إلى الجزم بالعلم بالصدق في كل ذلك. وليس ذلك إلا بالأخبار قطعاً، ومن أنكر حصول العلم بذلك، فقد سقطت مكالمته وظهر جنونه أو مجاحدته.

1 السمنية بضم السين وفتح الميم طائفة تعبد الأصنام، دهرية تقول بالتناسخ، وتنكر حصول العلم بالأخبار، تنسب إلى صنم يسمى سمن أو بلد يسمى سمونات. انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص: 98، والمسودة لآل تيمية ص: 234، وتعليق عبد الرؤوف سعد علي، على شرح تنقيح الفصول للقرافي ص:350.

2 البراهمة: طائفة من طوائف الهند تنكر النبوات أصلاً، وتنسب إلى رجل يقال له: برهام، قرر لهم استحالة النبوات، بأن ما يأتي به الرسول إن كان معقولاً، فالعقل كافٍ في إدراكه، ولا حاجة إلى الرسول، وإن كان غير معقولٍ فلا يقبل، لأن في قبوله خروجاً عن حد الإنسانية إلى البهيمية، وإن الله حكيم يستحيل عليه أن يتعبد المخلوقات بما لا تدركه العقول، وإن العقل دل على أن للعالم صانعاً، والحكيم لا يتعبد الخلق بما تستقبحه العقول. انظر: الملل والنحل للشهرستاني مع الفصل 5/174-176.

ص: 111

أقوال العلماء في نوع العلم الحاصل به:

1-

أن الخبر المتواتر يفيد العلم النظري، وهو ما كان عن نظر واستدلال، وهذا منقول عن الكعبي، وأبي الحسين البصري.

2-

أنه يفيد العلم الضروري، وهو الذي يضطر الإنسان إليه بحيث لا يمكنه دفعه، وهذا هو المعتمد، وبه قال الجمهور.

احتج الجمهور على كون العلم الحاصل بخبر التواتر ضرورياً، بأنه لو كان نظرياً لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر كالصبيان المراهقين. وكثير من العوام، إذ النظر ترتيب أمور معلومة، أو مظنونة ليتوصل بها إلى علوم، أو ظنون، وليس في الصبيان، ولا العوام أهلية لذلك، فلوكان نظرياً لما حصل لهم العلم به، فلما حصل لهم به العلم علمنا أنه غير نظري1.

الثاني الآحاد.

الآحاد جمع أحد، وهو بمعنى الواحد، وهمزة أحد مبدلة من واو، فأصلها وحد، وربما جاءت على الأصل كما في قول نابغة ذبيان:

كأن رحلي وقد زال النهار بنا

بذي الجليل على مستأنس وحد2

1 انظر تفاصيل ذلك في الإحكام للآمدي 2/15، ومختصر ابن الحاجب مع شروحه 2/52، وإرشاد الفحول مع شرح العبادي للورقات ص:46-47، ونخبة الفكر مع شرحها لابن حجر ص: 3-4.

2 انظر البيت في كتاب مختارات الشعر الجاهلي 1/150.

ص: 112

ويجمع الواحد على أحدان، والأصل وحدان، فقلبت الواو همزة لانضمامها.

قال الهذلي:

يحمى الصريبة أحدان الرجال له

صيد ومجتريء باللين هماس1

وأما تعريف خبر الآحاد عند الأصوليين فقد اختلفوا فيه:

فقيل: "ما أفاد الظن". وهذا التعريف غير مطرد ولا منعكس.

أما عدم الاطراد، فلأن القياس يفيد الظن، وهو ليس بخبر.

أما عدم الانعكاس، فهو فيما إذا أخبر واحد بخبر لم يفد الظن.

وقيل: "ما لم يصل إلى حد التواتر، وإن روته جماعة". وهذا التعريف كما ترى شامل للخبر الذي لم يترجح جانب الصدق فيه.

وأجيب عنه بأن المقصود تعريف الخبر الذي يعتد به في الأحكام، ولا يكون متواتراً.

وعلى هذا يصح أن نعرفه: بأنه الخبر الذي لم ينته إلى حد التواتر، ولم يقصر عن درجة الاحتجاج به، وإن روته جماعة، وعليه فالمشهور منه، إذ لا واسطة بين المتواتر والآحاد.

1 انظر لسان العرب لابن منظور 3/447-448، والقاموس المحيط 1/283.

ص: 113

وخالفت الحنفية، فجعلت القسمة ثلاثية: متواتراً، ومشهوراً، وآحاداً.

المشهور عند الحنفية:

عرفت الحنفية المشهور بأنه ما كان من الآحاد في الأصل ثم تواتر في القرن الثاني والثالث، وهو عندهم يفيد علم طمأنينة، وبمنزلة المتواتر في الاحتجاج به، ويضلل جاحده ولا يكفر، وهو دون المتواتر، وفوق الآحاد، ومثلوا له: بحديث المسح على الخفين1، وحديث الرجم2.

وعرف صاحب مراقي السعود خبر الآحاد بقوله:

وخبر الآحاد مظنون عرا

عن القيود في الذي تواترا

والمستفيض منه وهو أربعة

أقله وبعضهم قد رفعه

عن واحد وبعضهم عما يلي

وجعله واسطة قوله جلي3

1 صحيح البخاري 1/60، وصحيح مسلم 1/156 فما بعدها، والموطأ 1/36.

2 انظر: المختصر لابن الحاجب مع شروحه 2/55، والإحكام للآمدي 2/31، وكشف الأسرار 2/368، والمنار وحواشيه ص: 618-619، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص:180.

3 فتح الودود شرح مراقي السعود ص: 219 فما بعدها.

ص: 114

المشهور عند المحدثين:

عرفه ابن حجر بأنه: "ما له طوق محصورة بأكثر من اثنين، سمي بذلك لوضوحه، وهو المستفيض على رأي جماعة، سمي بذلك لانتشاره من فاض الماء يفيض، ومنهم من غاير بين المستفيض والمشهور: بأن المستفيض ما يكون في ابتدائه وانتهائه سواء، والمشهور أعم من ذلك، وهو يشمل ما له إسناد واحد فصاعداً، وما ليس له إسناد أصلاً"1.

1 شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر ص: 5.

ص: 115