الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في ذكر أدلة منكري العمل بخبر الآحاد والرد عليها
ذهب قوم من أهل البدعة من الرافضة1،ومن المعتزلة إلى منع العمل بخبر الآحاد، ومنعه الفاشاني وابن أبي داود، وحكى عن النهرواني وإبراهيم بن إسماعيل بن علية، والأصم، والشيعة. وأهم ما استدلوا به ما يأتي:
1-
من الكتاب: قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 2،وقوله جل شأنه:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3،
1 هم: الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه، لما سألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى عليهما خيراً، فانصرفوا عنه، فقال:"رفضتموني"، فسموا بذلك. وقيل: لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر. وقالوا: "إن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ على إمامة علي وأظهر ذلك، وأن أكثر أصحابه ضلوا بترك الاقتداء به بعد وفاته". انظر الملل والنحل للشهرستاني مع الفصل1/86، المقالات لأبي الحسن1/87، ومذكرة الأديان والفرق والمذاهب العاصرة لعبد القادر شيبة الحمد ص:137، مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة.
2 سورة الإسراء آية: 36.
3 سورة البقرة آية: 169.
وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ} 1، {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} 2.
قالوا: ذكر ذلك في معرض الذم، وهو يقتضي التحريم، والعمل بخبر الآحاد عمل بغير علم.
2-
قالوا: لو جاز التعبد به في الفروع، لجاز في الأصول والعقائد، وهو خلاف الإجماع بيننا وبينكم، فكما لا يقبل في العقائد، لا يقبل في الفروع.
3-
قالوا: توقف النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ذي اليدين حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم عن اثنتين، وهو قوله:"أقصرت الصلاة أم نسيت" حتى أخبره أبو بكر وعمر ومن كان في الصف، فصدقه، فأتم وسجد للسهو، ولو كان خبر الواحد حجة لأتم النبي صلى الله عليه وسلم من غير توقف ولا سؤال.
4-
وَرَدَ عن عدد من الصحابة ردّ خبر الآحاد، فردَّ أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة، وردّ عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى رواه معه أبو سعيد الخدري، وردّ أبو بكر وعمر خبر عثمان في إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن
1 سورة النجم آية:28.
2 سورة النجم آية: 28.
أبي العاص، وردّ علي خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة، وأنه كان لا يقبل خبر الواحد حتى يحلفه سوى أبي بكر، وردّت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه1.
الأجوبة عن تلك الأدلة:
أما عن الأوّل: فإن المراد من الآيات من الشاهد عن الجزم بالشهادة فيما لم يبصر ولم يسمع، والفتوى بما يرو ولم ينقله العدول، وبأن وجوب العمل بخبر الآحاد معلوم بالإجماع، وهو دليل قاطع، وأن إنكارهم للعمل به حكم بغير علم. والحكم بغير علم باطل، ولأن تجويز الكذب والخطأ لو كان مانعاً من العمل لمنع العمل بشهادة الاثنين والأربعة والرجل والمرأتين، وقد دل النص القرآني على وجوب الحكم
1 انظر تفاصيله في الإحكام للآمدي2/60 فما بعدها، كشف الأسرار2/370، نزهة المشتاق شرح اللمع ص:424-425، المعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي2/604، والمستصفى للغزالي1/153، المسودة لآل تيمية ص:238، السنة ومكانتها للدكتور مصطفى السباعي ص:168، إرشاد الفحول للشوكاني ص:48-49.
بها مع جواز الكذب والخطأ فيها، وإذا كنا متفقين على العمل بها، فما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالعمل1.
ويجاب عن الثاني: بأنه قد دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة2،على العمل بالخبر متى صح وتوفرت فيه شروط القبول فيما تضمنه من فروع وأصول من غير تفريق. وما ادعاه المخالف من إجماع على عدم قبول خبر الآحاد في العقائد، يحتاج إلى إثبات حتى يكون إجماعاً قطعياً تقوم به الحجة3،ويقدم على خبر الآحاد. أما ولم يرد غير دعوى مجردة عن الدليل فلا يترك العمل بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما دل عليه سواء كان أصولاً أو فروعاً،
1 انظر المستصفى1/154 فما بعدها، الإحكام للآمدي2/46، المختصر لابن الحاجب مع شروحه2/57، تيسير التحرير3/86.
2 انظر المستفصى1/148، نهاية السول شرح منهاج الوصول2/138، المنار مع حواشيه ص: 621، الإحكام للآمدي2/57، المعتمد لأبي الحسن2/591، مختصر الصواعق المرسلة1-2/524، العدة لأبي يعلى ص: 129، فليم عند الدكتور عبد الوهّاب أبو سليمان.
3 الإجماع القطعي هو: الإجماع القولي المشاهد المنقول بعدد التواتر. مذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين ص:315.
لأنه مقتضى ما دلت عليه آيات الكتاب وأحاديث السنة، وما نقل من إجماع الأمة.
قال ابن حزم: "فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم يجري على ذلك كل فرقة في عملها، كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ، فخالفوا الإجماع في ذلك"1.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله عن الإمام الشافعي والإمام أحمد -رحمهما الله- إنكارهما على من رد أخبار الآحاد بدعوى الإجماع، مما يوهم القارئ إنكارهما لوقوعه، وإنما حملهما على ذلك ما ابتليا به ممن كان يرد عليهم السنة الصحيحة بدعوى إجماع الناس على خلافها. وليس مرادهما منع وقوع الإجماع. فذلك خلاف واقعهما. "قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا. هذه دعوى بشر المريسي والأصم"2.
ومنع ابن القيم تصور وقوع إجماع الأمة على خلاف سنة إلا أن تكون هناك سنة معلومة ناسخة فيكون الإجماع على القول بالسنة
1 الإحكام لابن حزم1-4/103.
2 مختصر الصواعق المرسلة1-2/528.
الناسخة، وإما أن تتفق الأمة على عدم العمل بحديث لا ناسخ له فهذا لم يقع أصلاً، ونسبته للأمة قدح فيها1.
ويجاب عن الثالث: "بأنه عليه السلام إنما توقف في خبر ذي اليدين لتوهمه غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير. ومع ظهور الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه، فحيث وافقه الباقون على ذلك ارتفع حكم الأمارة الدالة على وهم ذي اليدين، وعمل بموجب خبره. كيف وأن عمل النبي صلى الله عليه وسلم بخبر أبي بكر وعمر وغيرهما مع خبر ذي اليدين عمل بخبر من لم ينته إلى حد التواتر، وهو موضع النزاع وفي تسليمه تسليم المطلوب"2.
ويجاب عن الرابع: بأن ما ذكره المخالف اعتراف بقبول خبر الآحاد لأن شهادة محمد بن مسلمة مع المغيرة، وشهادة أبي سعيد مع أبي موسى لا تنقل الخبر عن كونه آحاداً، لأن خبر الاثنين خبر آحاد، وأن ما توقفوا فيه إنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض، أو فوات شرط، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها مع كونهم متفقين على العمل بها، بدليل قبولهم لها بعد الاستظهار، لأن تلك الأحاديث لم تخرج بالاستظهار
1 انظر تفاصيله في نفس المصدر1-2/528.
2 الإحكام للآمدي2/62.
عن كونها آحاداً، وهم قبلوها بعد الاستظهار، ولذا قال عمر لأبي موسى:"إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم "1.
وبين رضي الله عنه سبب رده لخبر فاطمة بنت قيس بقوله: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها صدقت أم نسيت" 2،فقوله:"نسيت" صريح في سبب الرد3.
قال الغزالي: "الذي رويناه قاطع في عملهم، وما ذكرتموه رد لأسباب عارضة تقتضي الرد، ولا تدل على بطلان الأصل، كما أن ردهم بعض نصوص القرآن، وتركهم بعض أنواع القياس، ورد القاضي بعض أنواع الشهادات لا يدل على بطلان الأصل"4.
وأما رد عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر رضي الله عنهما فلأنه عارض القطعي، حيث استدلت بقوله تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 5.فهي لم ترده لكونه خبر واحد.
1 المستصفى للغزالي1/154.
2 المستصفى للغزالي1/154.
3 انظر الإحكام للآمدي2/61، المستصفى1/154.
4 المستصفى1/153.
5 فتح الباري شرح صحيح البخاري13/235، والآية من سورة فاطر آية:18.
"وعلى الجملة فلم يأت من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به، ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم، وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط، وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال، فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة في الصحة، أو تهمة في الراوي، أو وجود معارض راجح ونحو ذلك"1.
1 إرشاد الفحول ص:49.