المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابع: إذا خالف الراوي مرويه - خبر الواحد وحجيته

[أحمد بن عبد الوهاب الشنقيطي]

الفصل: ‌الفصل السابع: إذا خالف الراوي مرويه

‌الفصل السابع: إذا خالف الراوي مرويه

اختلف العلماء فيما إذا خالف الراوي مرويه من أخبار الآحاد، هل يقدم مذهب الراوي أو يقدم الخبر؟ وهذا الخبر لا يخلو من أن يكون:

مجملاً1،أو ظاهراً2، أو نصاً3.

1 المجمل هو: اللفظ المتردد بين احتمالين فأكثر على السواء. مأخوذ من الجمل، وهو الخلط، ومنه حديث:" لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها، فباعوها، فأكلوا ثمنها" أي: خلطوها بالسبك والإذابة. والتردد فيه يكون من جهة الوضع كالمشترك وقد يكون من جهة العقل، كالمتواطئ بالنسبة إلى أشخاص مسماه. نحو قوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} سورة الأنعام آية: 141 فهو ظاهر بالنسبة إلى الحقّ. مجمل بالنسبة إلى مقاديره. انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 37.

2 الظاهر في اللغة: الواضح، ومنه الظهر، وفي اصطلاح الأصوليين هو اللفظ المتردد بين احتمالين فأكثر، هو في أحدهما أرجح منه في غيره بحيث يدلّ عليه دلالة ظنية، وهو مقابل للنصّ عندهم. انظر: شرح تنقيح الفصول ص: 37، العضد على مختصر ابن الحاجب2/168.

3 النصّ أصله في اللغة وصول الشيء إلى غايته، ومنه حديث:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق، فإذا وجد فجوة نصّ" أي: رفع السير إلى غايته، وفي اصطلاح الأصوليين: اللفظ الدال على معنى واحد دلالة قطعية، وهو مقابل للظاهر عندهم. انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 36-37، العضد على مختصر ابن الحاجب2/168.

ص: 330

فإن كان مجملاً وحمله الراوي على أحد محمليه، فذهب أكثر الأحناف إلى عدم قبول مذهب الراوي، وذهب الجمهور إلى قبول مذهبه.

دليل الأحناف:

استدلّ الأحناف بأن تعيين الراوي بعض محتملات الخبر إذا كان اللفظ مجملاً وحمله الراوي على أحد معنييه، فإن ذلك لا يمنع من العمل بظاهر الحديث، لأنه غير خلاف بيقين، والحديث هو الحجة، وبتأويله لا يتغير، فيبقى الحديث معمولاً به على ظاهره، ولأنهم لا يرون تقليد الصحابي1.

دليل الجمهور:

استدل الجمهور بأن الحديث إذا كان مجملاً، فقد سقطت الحجة منه، إذ لا يمكن العمل بأحد محتملاته إلا بدليل،وحيث وجد تفسير الراوي فيعتمد عليه، لأنه أعلم بحال المتكلم، ولم يعارضه ظاهر شرعي.2

قال الآمدي: "وإن قلنا بامتناع حمله على جميع محامله، فلا نعرف خلافاً في وجوب حمل الخبر على ما حمله الراوي عليه، لأن الظاهر من

1 انظر تفاصيله في: المنار وحواشيه ص:662-663، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستصفى2/162، كشف الأسرار 3/65.

2 انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي ص:371، مع تصرف.

ص: 331

حال النبي صلى الله عليه وسلم،أنه لا ينطق باللفظ المجمل، لقصد التشريع وتعريف الأحكام، ويخليه من قرينة حالية أو مقالية تعين المقصود من الكلام. والصحابي الراوي الشاهد للحال أعرف بذلك من غيره، فوجب الحمل عليه. ولا يبعد أن يقال: بأن تعيينه لا يكون حجة على غيره من المجتهدين حتى ينظر، فإن انقدح له وجه يوجب تعيين غير ذلك الاحتمال، وجب عليه أتباعه، وإلا فتعيين الراوي صالح للترجيح، فيجب أتباعه"1.

وهذا الاعتراض الذي أورده مدفوع بأن الصحابي الراوي للحديث مشاهد من قرائن الأحوال ما يرجح مذهبه على غيره من المجتهدين في حمل الخبر على أحد محمليه.

ويجاب عن دليل الأحناف بأنه جاء في دليلهم التعبير بالظاهر عن المجمل. ومن المعلوم أن الظاهر غير المجمل، لأن الظاهر لا يعدل عنه إلا بدليل راجح. وعن عدم تقليدهم للصحابي بأن العمل بما ذهب إليه الصحابي الراوي للحديث المجمل دليل مرجح للمراد من محتملاته، لأن "تفسير الصحابي الراوي لأحد محتملات الخبر أولى من تفسير غيره، وحجة يترك لها تفسير من خالفه، لمشاهدته الرسول، وسماعه ذلك

1 الإحكام للآمدي2/104-105.

ص: 332

الحديث منه، وفهمه من حاله، ومخرج ألفاظه وأسباب قضيته ما يكون له به من العلم بمراده ما ليس عند غيره، فرجح تفسيره لذلك"1.

مثاله حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "البيعان بالخيار مالم يتفرقا"2. فلفظ التفرق في الحديث مجمل. محتمل: للتفرق بالأقوال، وللتفرق بالأبدان، وقد حمله ابن عمر راوي الحديث على التفرق بالأبدان. ولم ير الحنفية ما ذهب إليه ابن عمر، لأنهما رأوا أن الحديث من قبيل المشترك3 وأن عمله ذلك اجتهاد منه، وهم لا يرون تقليد الصحابي، وفسروا التفرق في الحديث بالتفرق بالأقوال.

قال صاحب كشف الأسرار بعد أن ذكر احتمال التفرق في الحديث للتفرق بالأقوال، والتفرق بالأبدان: "وهذا الحديث في احتمال هذه المعاني المختلفة المذكورة بمنزلة المشترك، وإن لم يكن

1 ترتيب المدارك1/74.

2 البخاري مع فتح الباري شرح صحيح البخاري4/328.

3 المشترك: مأخوذ من الشركة، شبهت اللفظة في اشتراك المعاني فيها بالدار المشتركة بين الشركاء. وهو: اللفظ الموضوع لأكثر من معنى كالعين للباصرة، والجارحة، والنقد، والقرء للحيض، والطهر، والجون للأبيض والأسود. انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 29-30.

ص: 333

مشتركاً، لفظه، فلا يبطل هذا الاحتمال بتأويله، وكان للمجتهد أن يحمله على وجه آخر بما يتضح له من الدليل"1.

وذكر أن محمداً رحمه الله فسر التفرق في الحديث بالتفرق بالأقوال لأن البائع "إذا قال: بعت، والمشتري إذا قال: اشتريت، فقد تفرقا بذلك القول، وانقطع ما كان لكل واحد منهما من خيار إبطال كلامه بالرجوع وإبطال كالأم صاحبه بالرد وعدم القبول"2.

ويجاب عما استدلوا به على تفسير التفرق في الحديث بالتفرغ بالأبدان، ومنع خيار المجلس بما يأتي:

1-

بأنه ورد تفسير الحديث من راويه عبد الله بن عمر كما قدمت، كما فسره بذلك أبو برزة الأسلمي، وهو راوي الحديث أيضاً.

قال الحافظ في الفتح: "فلا يعلم لهما مخالف من الصحابة"3.

قال محمد عبد الرحمن المبارك فوري: "وقد اعترف صاحب التعليق الممجد من الحنفية بأنه أولى الأقوال حيث قال: "ولعل المنصف

1 كشف الأسرار2/65.

2 نفس المصدر3/65، وانظر تفاصيله في المنار وشرحه وحواشيه ص:662-663، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستفصى2/162-163.

3 تحفة الأحوذي شرح الترمذي4/449.

ص: 334

الغير المتعصب يتيقن بعد إحاطة الكلام من الجوانب في هذا البحث أن أولى الأقوال هو ما فهمه الصحابيان الجليلان، يعني ابن عمر وأبا برزة الأسلمي رضي الله عنهما. وفهم الصحابي إن لم يكن حجة، لكنه أولى من فهم غيره فلا شبهة، وإن كان كل من الأقوال مستنداً إلى حجة"1.

2-

استدل الإمام الترمذي على أن المراد بالتفرق، التفرق بالأبدان بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"البيعان بالخيار مالم يتفرقا"،إلا أن تكون صفقة خيار. ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله".

قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن. ومعنى هذا، أن يفارقه بعد البيع خشية أن يستقيله، ولو كانت الفرقة بالكلام، ولم يكن له خيار بعد البيع، لم يكن لهذا الحديث معنى. حيث قال: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله "2.

يتضح مما تقدم أن ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح في اعتبار تفسير الراوي مرجحاً لأحد محتملات المجمل لما ذكرت والله تعالى أعلم.

1 نفس المصدر4/449-450.

2 الترمذي مع تحفة الأحوذي4/452-453.

ص: 335

وإن كان ظاهراً، فحمله على غير ظاهره، إما بصرف اللفظ عن حقيقته أو بصرفه عن الوجوب إلى الندب، أو عن التحريم إلى الكراهة ولم يأت بدليل يدلّ على صرف اللفظ عن ظاهره1.

فذهب أكثر الحنفية إلى وجوب العمل بمذهب الراوي بحمل الخبر على ما عينه.

وذهب الجمهور من أهل الأصول والفقهاء، ومنهم الشافعي وأبو الحسن الكرخي إلى أنه يجب العمل على ظاهر الخبر دون تأويل الراوي2.

وقال القاضي عبد الجبار: "إن لم يكن لمذهب الراوي، وتأويله وجه إلا أنه علم قصد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك التأويل ضرورة وجب المصير إلى تأويله، وإن لم يعلم ذلك، بل جوز أن يكون صار إلى ذلك التأويل لنص أو قياس، وجب النظر في ذلك الوجه. فإن اقتضى ذلك ما ذهب إليه الراوي وجب المصير إليه".قال أبو الحسين: "وهذا صحيح"3.

1 الإحكام للآمدي2/104-105.

2 انظر تفاصيل ذلك في الإحكام للآمدي2/165، تيسير التحرير 3/71-72، التقرير والتحبير شرح التحرير2/265، وإرشاد الفحول ص:59، شرح تنقيح الفصول ص:371.

3 المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري2/670.

ص: 336

حجة الحنفية:

قالوا: ليس يخفى على الصحابي الراوي للخبر تحريم ترك الظاهر إلا لما يوجب تركه، فلولا تيقنه لما يوجب ترك ظاهر ما رواه لما تركه. ولو سلم انتفاء تيقنه، فلولا أغلبية ظنه بما يوجب تركه لم يتركه. ولو سلم انتفاء أغلبية الظن لم يكن عنده إلا مجرد الظن، فشهود الراوي ما هناك من قرائن الأحوال عند المقال يرجح ظنه بالمراد على ظن غيره، فيجب العمل بالراجح، وبهذا التقرير يندفع تجويز خطئه بظن ما ليس دليلاً دليلاً لبعد ذلك منه مع عدالته وعلمه بالموضوعات اللغوية، ومواقع استعمالها، وحالة من صدر عنه ذلك، بل الظاهر أن ذلك منه إنما هو لدليل في نفس الأمر أوجب ذلك وقد اطلع عليه1.

استدل الجمهور على وجوب العمل بظاهر الخبر بما يأتي:

1 قالوا: إن الراوي عدل، وقد جزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم،وهو الأصل في وجوب العمل بالخبر2.

1 انظر تفاصيله في تيسير التحرير3/72، والتقرير والتحبير شرح التحرير2/265.

2 انظر: الإحكام للآمدي2/105.

ص: 337

2 أن الحديث إذا كان له ظاهر يرجع إليه، لأن الحجة في ظواهر الشريعة لا في مذهب الرواة. ولأنا متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر، لا بما فهمه الراوي، والحجة إنما هي في الرواية لا في رأيه، إذ قد يحمله وهماً منه1.

قال الشافعي: "كيف أترك الخبر لأقوال أقوام، لو عاصرتهم لحاججتهم بالحديث"2.

الإِجابة عما استدل به السادة الأحناف:

يجاب عما استدل به الأحناف: بأن الراوي ربما خالف ما رواه لما يراه دليلاً في ظنه، وليس هو بدليل في نفس الأمر، فلا يلزم القدح لظنه، ولا التخصيص لعدم مطابقته، وليس لغيره اتباعه فيه، لأن المجتهد لا يقلد مجتهداً آخر، ولأن الحجة في ظاهر الخبر لا في مذهب الراوي3.

قال الآمدي: "والمختار أنه إن علم مأخذه في المخالفة، وكان ذلك مما يوجب عمل الخبر إلى ما ذهب إليه الراوي، وجب اتباع ذلك

1 انظر تفاصيله في تنقيح الفصول ص: 371، وإرشاد الفحول ص:59.

2 حاشية العطار على المحلى على جمع الجوامع2/270، الإحكام للآمدي2/165.

3 انظر: نهاية السول على منهاج الوصول2/133، حاشية العطار2/162،170، والآيات البينات للعبادي3/220.

ص: 338

الدليل لا لأن الراوي عمل به، فإنه ليس عمل أحد المجتهدين حجة على الآخر. وإن جهل مأخذه، فالواجب العمل بظاهر اللفظ، وذلك لأن الراوي عدل وقد جزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأصل قي وجوب العمل بالخبر، ومخالفة الراوي له، فيحتمل أنه كان لنسيان طرأ عليه، ويحتمل أنه كان لدليل اجتهد فيه، وهو مخطئ، أو هو مما يقول به دون غيره من المجتهدين، كما في مخالفة مالك لخيار المجلس بما رآه من إجماع أهل المدينة على خلافه"1.

ويحتمل أنه علم ذلك علماً لا مراء فيه من قصد النبي له2،وإذا تردد بين هذه الاحتمالات، فالظاهر لا يترك بالشك والاحتمال. وعلى كل تقدير فبمخالفته للخبر، لا يكون فاسقاً حتى يمتنع العمل بروايته.

1 انظر ص: 165 من هذا البحث.

2 هذه العبارة هي الصحيحة كما في طبعة المعارف سنة 1332هـ/1914م. مصر. أما التي في الطبعة الأخرى المطبوعة سنة: 1387هـ/1967م فهي: "ويحتمل أنه ذلك علما لا مراد فيه" انظر الإحكام للآمدي2/105، الموضح قبل.

ص: 339

وبهذا يندفع قول الخصم إنه إن أحسن الظن بالراوي حمل الخبر على ما حمله عليه، وإن أسيء به الظن امتنع العمل بروايته"1.

وأما ما استدلوا به من أن مشاهدة الراوى لقرائن الأحوال ترجح ظنه على ظن غيره، فهذا لا يصلح لرد ظاهر الخبر، وإنما يصح لو كان ظنه معارضاً بظن غيره. أما وقد ثبت الخبر فلا يعدل عن ظاهره إلا لدليل مصرح به راجح. وقد كان يلزم الأحناف أن يأخذوا بهذه القرائن في ترجيح عمل الراوي بأحد محتملات المجمل على مالم يعمل به لأنه أنسب لما ذكرت هناك.

مثاله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري "من بدل دينه فاقتلوه"2. فقد خالفه ابن عباس بما أسند أبو حنيفة عنه ما لفظه "لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام، لكن يحبسن، ويدعين إلى الإسلام يجبرن عليه"، فلزم تخصيص المبدل دينه بكونه من الرجال3.

1 انظر: الإحكام للآمدي2/105-106.

2 البخاري مع شرحه فتح الباري12/267.

3 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير2/265-266.

ص: 340

فذهب الأحناف إلى مذهب ابن عباس رضي الله عنهما في عدم قتل المرتدة تقديماً لعمله على ما رواه.

وذهب الجمهور إلى العمل بظاهر الحديث القاضي بقتل كلّ مرتدة لعدم ثبوت ما يخرجها من عموم ظاهر الحديث. ويجاب عما ذهب إليه ابن عباس بما ورد من قتل المرتدة من ذلك.

قال البخاري: "وقال ابن عمر والزهري وإبراهيم: تقتل المرتدة"1.

قال ابن حجر: "أما قول ابن عمر فنسبه مغلطاي إلى تخريج ابن أبي شيبة، وأما قول الزهري وإبراهيم فوصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في المرأة تكفر بعد إسلامها، قال: تستتاب، فإن تاب وإلا قتلت. وعن معمر عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم مثله، وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم، وأخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبيدة بن مغيث عن إبراهيم قال: إذا ارتدّ الرجل أو المرأة عن الإسلام استتيبا، فإن تابا تركا، وإن أبيا قتلا. وأخرج ابن أبي شيبة عن حفص عن عبيدة عن إبراهيم لا تقتل. والأول أقوى. فإن عبيدة ضعيف، وقد اختلف نقله عن إبراهيم.

1 فتح الباري شرح صحيح البخاري12/268.

ص: 341

مقابل قول هؤلاء حديث ابن عباس: " لا تقتل النساء إذا هن ارتددن " رواه أبو حنيفة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس عن ابن أبي شيبة والدارقطني، وخالفه جماعة من الحفاظ في لفظ المتن.

وأخرج الدارقطني عن ابن المنكدر عن جابر أن امرأة ارتدت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها، وهو يعكر على ما ذكره ابن الطلاع في الأحكام أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل مرتدة"1.

قال ابن حجر: "وقد وقع في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له: "أيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها". وسنده حسن. وهو نصّ في موضع النزاع، فيجب المصير إليه"2.

فالراجح هو مذهب الجمهور، لما ذكرت، والله تعالى أعلم.

وإن كان الحديث نصّاً في دلالته. فمذهب الحنفية العمل بمذهب الراوي.

1 نفس المصدر12/268.

2 فتح الباري شرح صحيح البخاري12/272

ص: 342

واستدلوا على ذلك بأن ترك الصحابي له لم يكن إلا عن دليل علمه، إذ لا يظن به أن يخالف النصّ لغير دليل هو الناسخ1.

قال محب الله: "ولو ترك الصحابي نصّاً مفسراً غير قابل للتأويل تعين علمه بالناسخ، لأن مخالفة المفسر عسى أن يكون كبيرة، والصحابي أجل من أن يرتكبه، ولا يحتمل التأويل حتى يكون مؤولاً، فتعين النسخ لا غير"2. ومذهب الجمهور العمل بالخبر. واستدلوا على ذلك بأن الحجة في لفظ صاحب الشرع لا في مذهب الرواي3.

قال الشوكاني: "ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه، لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال. وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن منسوخاً"4.

1 انظر تيسير التحرير3/72، وفواتح الرحموت مع المستصفى2/163، التقرير والتحبير شرح التحرير2/266.

2 فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستصفى2/163.

3 انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 371، مع تصرف واختصار.

4 إرشاد الفحول ص: 60.

ص: 343

وقال ابن حزم: "ونحن نقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغنا: هذا نبينا إلينا. فهكذا نحمل أمر جميع ما روى من رواية الصاحب للحديث، ثم روي عنه مخالفته إياه أنه إنما أفتى بخلاف الحديث قبل أن يبلغه، فلما بلغه حدث بما بلغه. لا يحل أن نظن بالصحابي غير هذا"1.

وأجيب عما استدل به السادة الأحناف بأن الراوي ربما رأى ناسخاً في نظره، ولا يكون ناسخاً عند غيره من المجتهدين، وما ظهر له في نظره لا يكون حجة على غيره، ومع إمكان الاحتمال لا يترك النصّ الذي لا احتمال فيه2.

ومحل الخلاف فيما إذا تقدمت الرواية على العمل، أما إذا تقدم العمل أو تأخرت الرواية، أو جهل التاريخ، فلا خلاف حينئذ أن العمل بالحديث، لأن الحديث حجه في الأصل بيقين، وبهذا صرح الحنفية.

قال البزدوي: "وأما إذا عمل بخلافه، فإن كان قبل الرواية وقبل أن يبلغه، لم يكن جرحاً، لأن الظاهر أنه تركه بالحديث إحساناً للظن به"3.

1 الإحكام لابن حزم1-4/146.

2 الإحكام للآمدي2/167، البدخشي على منهاج الوصول مع نهاية السول2/255-256.

3 انظر كشف الأسرار3/63.

ص: 344

وقال عبد العزيز البخاري: "وإن لم يعرف تاريخه أي لم يعلم أنه عمل بخلافه قبل البلوغ إليه والرواية، أو بعد واحد منهما، لا يسقط الاحتجاج به، لأن الحديث حجة في الأصل بيقين، وقد وقع الشك، لأنه إن كان الخلاف قبل الرواية والبلوغ إليه كان الحديث حجة، وإن كان بعد الرواية والبلوغ لم يكن حجة، فوجب العمل بالأصل، ويحمل على أنه كان قبل الرواية، لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه"1. ففي ما ذكراه تصريح بأن الخلاف، إنما هو فيما إذا كان العمل بعد الرواية. كما هو ظاهر من كلامهما.

ومن أمثلته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً" 2.

ولم ير الحنفية الأخذ بهذا الحديث، بل أخذوا بمذهب الراوي حيث صح عندهم عنه الافتاء بالاكتفاء بثلاث غسلات. وأيدوا ذلك بما رواه الدارقطني.

1 نفس المصدر3/64.

2 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه1/53، شرح النووي لمسلم3/183، تحفة الأحوذي1/299.

ص: 345

قال صاحب التحرير: " ولفظه عنه صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ1 في الإناء يغسل ثلاثاً أو خمسا ً، ثم قال: تفرد به عبد الوهّاب عن إسماعيل وهو متروك"2.

وهذا الحديث الذي أيدوا به مذهبهم غير صالح للاحتجاج كما صرحوا هم أنفسهم بذلك. وحيث إن الحافظ ابن حجر رحمه الله استعرض اعتراضاتهم، وأجاب عنها بما فيه الكفاية، فإليك ما أرى فيه كفاية منها في هذا المقام.

قال: "واعتذر الطحاوي وغيره عنهم بأمور:

منها: كون أبي هريرة راويه أفتى بثلاث غسلات، فثبت بذلك نسخ السبع. وتعقب بأنه يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبع لا وجوبها، أو كان نسي ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النسخ. وأيضاً فقد ثبت أنه أفتى بالغسل سبعاً. ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن حيث النظر.

1 قال أهل اللغة: ولغ الكلب في الإناء يلغ بفتح اللام فيهما، إذا شرب بطرف لسانه. انظر: مختار الصحاح للشيخ محمّد بن أبي بكر الرازي ص: 735-736.

2 التقرير والتحبير شرح التحرير2/366.

ص: 346

أما النظر فظاهر، وأما الإسناد، فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه، وهذا من أصح الأسانيد.

وأما المخالفة: فمن رواية عبد الملك بن سليمان عن عطاء عنه، وهو دون الأولى في القوة بكثير.

ومنها: أن العذرة أشد في النجاسة من سؤر الكلب، ولم يقيد هكذا بالسبع، فيكون الولوغ كذلك من باب أولى.

وأجيب عنه بأنه لا يلزم من كونها أشد منه في الاستقذار أن لا يكون أشد منها في تغليظ الحكم، وبأنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار.

ومنها: أن دعوى أن الأمر بذلك كان عند الأمر بقتل الكلاب، فلما نهى عن قتلها نسخ الأمر بالغسل.

وتعقب بأن الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة، والأمر بالغسل متأخر جداً، لأنه من رواية أبي هريرة وعبد الله بن مغفل، وقد ذكر ابن مغفل أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالغسل، وكان إسلامه سنة سبع كأبي هريرة، بل سياق مسلم ظاهر في أن الأمر بالغسل كان بعد الأمر بقتل الكلاب"1.

1 فتح الباري شرح صحيح البخاري1/277.

ص: 347

ولعله يريد ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن مغفل أنه قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال: إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات "

الحديث1.

ويعكر دعوى النسخ ما نقله المبارك فوري عن صاحب العرف الشذي من أنه قال: "وجواب الحديث من قبلنا أن التسبيع مستحب عندنا كما صرح به الزيلعي شارح الكنز، ثم وجدته مروياً عن أبي حنيفة في تحرير ابن الهمام انتهى".

قال: قلت: "فبطل بهذا قولكم بادعاء نسخ التسبيع

ثم حمل الأمر بالتسبيع على الاستحباب ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم ". الحديث2.

وختام القول أن الراجح عندي هو العمل بالحديث، لأن ذلك هو الأصل، والأصل لا يعدل عنه إلا بدليل راجح مصرح به، أما مجرد الاحتمالات والفرضيات،فذلك غير كافٍ في ترك العمل بالنصوص، وفيما ذكرت كفاية لطالب الحق. والله سبحانه وتعالى أعلم.

1 صحيح مسلم1/162.

2 تحفة الأحوذي شرح الترمذي1/303، ومسلم1/162 من حديث أبي هريرة.

ص: 348

خاتمة في نتائج البحث

هذه بعض النتائج التي انتهى إليها هذا البحث:

1-

أن الخلاف في كون الخبر ينقسم إلى صدق وكذب أو أنه تضمن واسطة لا توصف بالصدق ولا بالكذب خلاف لفظي، لأن العرب إنما وضعت الخبر للصدق دون الكذب. واحتماله للصدق والكذب إنما هو من جهة المتكلم، ولا يخرج عنهما البتة.

2-

أن السنة أثبتت من الأحكام ما لم يتعرض له القرآن نفياً أو إثباتاً.

3-

أن الخلاف في إثبات السنة لأحكام لم يتعرض لها القرآن نفياً أو إثباتاً، أو أنها لم تثبت إلا ما هو مندرج تحت نصّ من نصوص القرآن، أو تحت قاعدة من قواعده، خلاف لفظي لم يترتب عليه أثر.

4-

أن تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد، اصطلاح الأصوليين والفقهاء لأن المحدثين إنما يبحثون عن الحديث من حيث الصحة للعمل به أو الضعف للرد.

5-

أن خبر الواحد المجرد عن القرائن وإن لم يفد العلم، فإنه يجب العمل بكل ما دل عليه سواء كان في الأصول أو الفروع.

6-

أن اختلاف العلماء في كون خبر الواحد هل يفيد الظن أم العلم ترتب عليه اختلافهم في الاحتجاج به في العقائد.

7-

خبر الواحد المحتف بالقرائن يفيد العلم، لأنه إذا كانت القرائن قد تفيد العلم مجردة عن الخبر فمن باب أولى إذا اقترنت بالخبر.

ص: 349

8-

أن ما في الصحيحين من الأحاديث التي لم ينتقدها الحفاظ داخل في الخبر المحتف بالقرائن.

9-

ما استدل به الجمهور على وجوب العمل بخبر الواحد في الأحكام يدل على وجوب العمل به في العقائد ولا فرق.

10-

أن من منع العمل بخبر الواحد لم يأت بشيء يصلح للتمسك به على ما ذهبوا إليه.

11-

أن خبر الواحد مقبول في الحدود كما هو مقبول في غيرها.

12-

أن عمل أهل المدينة منقسم إلى ما هو حجة باتفاق، وهو ما نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم كنقلهم المد والصاع وترك زكاة الخضروات. وما كان منقولاً عن الصحابة على الراجح.

ومنه ما ليس بحجة إلا عند بعض المالكية كعمل التابعين، فهذا لا يعارض الخبر الصحيح.

13-

وجوب العمل بالخبر متى صحّ وسلم من معارض، وإن كان فيما تعم به البلوى.

14-

أن ما خالف الراوي فيه مرويه، إن كان مجملاً، اعتبر عمل الراوي مرجحاً لما عمل به على غيره. وإن كان ظاهراً أو نصّاً فالعمل بما روى لا بما رأى.

ص: 350