الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: في إفادته العلم إذا احتف بالقرائن
ذهب بعض العلماء إلى أن خبر الواحد العدل المحتف بالقرائن الزائدة على ما لا ينفك عنه التعريف، أنه يفيد العلم النظري، لأن القرينة قد تفيد الظن مجردة عن الخبر، فإذا اقترن بالخبر المفيد للظن قرينة مفيدة للظن، فإنها تقوم مقام خبر آخر، ثم لا يزال التزايد في الظن بزيادة اقتران القرائن بالخبر إلى أن يحصل العلم كل في خبر التواتر.
وممن اختار هذا القول سيف الدين الآمدي وابن الحاجب، وإمام الحرمين1 والبيضاوي والشيخ أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي وغيرهم2 ومثلوا له بأمثلة:
1 هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمّد بن حيوية المكنى بأبي المعالي المعروف بإمام الحرمين لمجاورته مكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي بهما، الفقيه الأصولي النظار الأديب، له مؤلفات منها: البرهان والورقات في أصول الفقه وغيرهما، توفي سنة: 545هـ، انظر: طبقات الشافعية لابن سبكي7/189-190، الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/260-262.
2 انظر: نهاية السول شرح منهاج الوصول2/215،الأحام للآمدي2/32، والمختصر لابن الحاجب مع العضد2/56، غاية الوصول شرح لب الأصول ص:97.
منها: أنه لو أخبر واحد بموت ولد الملك المشرف على الموت، وانضم إلى ذلك إحضار الكفن والنعش، وخروج الجنازة مع الصراخ وخروج المخدرات على حالة منكرة مع تغير حال الملك عما كان من عادته من التزام الهيئة، والمحافظة على أسباب المروءة، فإن كل عاقل سمع مثل هذا الخبر، وشاهد هذه القرائن، يحصل له العلم بصدق مخبره، كما يحصل له العلم بصدق خبر التواتر.
ومنها:"إذا أخبر واحد، مع كمال عقله، وحسه بحياة نفسه وكراهيته للألم، وهو في أرغد عيشة، نافذ الأمر، قائم الجاه، أنه قتل من يكافئه عمداً عدواناً، بآلة يقتل مثلها غالباً، ومن غير شبهة له في قتله، ولا مانع له من القصاص، كان خبره مع هذه القرائن موجباً بصدقه عادة.
ومنها: أنه إذا كان بجوار إنسان امرأة حامل، وقد انتهت مدة حملها، فسمع الطلق من وراء الجدار، وضجة النسوان حول تلك الحامل، ثم سمع صراخ الطفل، وخرج نسوة يقلن إنها قد ولدت، فإنه لا يستريب في ذلك، ويحصل له العلم بها قطعاَ"1.
وبهذا نعلم خجل من هجن، ووجل من خوف، باحمرار هذا، واصفرار هذا، ونعلم وصول اللبن إلى جوف الطفل عند ارتضاعه، بكثرة
1 الأحكام للآمدي2/37.
امتصاصه وازدراده، وحركة حلقه، مع كون المرأة شابة نفساء، وبسكون الصبي بعد بكائه إلى غير ذلك من القرا ئن1.
الاعتراضات التي أوردت على ذلك، والإجابة عنها.
1-
أن العلم يكون حاصلاً بالقرائن، لا بالخبر.
وأجيب عنه بأن العلم إنما حصل بالخبر مع ضميمة القرائن،"إذ لا يمتنع أن يكون سبب ما وجد من القرائن موت غير ولد الملك فجأة، فإذا انضم إليها الخبر بموت ذلك المريض بعينه، كان اعتقاد موته آكد من اعتقاد موته مع القرائن دون الخبر"2.
2-
قال المخالفون:"أدلتكم على امتناع إفادته للعلم بلا قرينة، تأبى كونه مفيداً له بقرينة للزوم الاطراد، وتناقض المعلومين، والقطع بتخطئة مخالفه.
والجواب: أنها لا تتأتى في الخبر مع القرائن. أما الاطراد فلأنه ملتزم في مثله، فإنه لا يخلو عن العلم، وأما تناقض المعلومين فلأن ذلك إذا حصل في قضية، امتنع أن يحصل مثله في نقيضها عادة.
1 انظر تفاصيله في الأحكام للآمدي2/36 فما بعدها، والمختصر لابن الحاجب مع العضد2/56، نهاية السول شرح منهاج الوصول مع البدخشي2/215.
2 الأحكمام للآمدي2/38.
وأما تخطئة المخالف قطعاً، فلأنه ملتزم، ولو وقع لم يجز مخالفته بالاجتهاد، إلا أنه لم يقع في الشرعيات"1. وعدّ بعض العلماء من الخبر المحتف بالقرائن المفيد للعلم، ما في الصحيحين سوى ما انتقده الحفاظ عليهما.
قال ابن حجر: "والخبر المحتف بالقرائن أنواع:
منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ حد التواتر، فإنه احتف به قرائن: منها جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهها في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا يختص بما لم ينتقضه أحد من الحفاظ مما في كتابيهما، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد النقيضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته"2.
1 العضد على المختصر2/56-57.
2 شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر ص: 6-7.
ونقل السخاوي عن أبي إسحاق الإسفراييني1 قوله: "أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ومتونها، ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذلك اختلاف في طرقها، ورواتها، قال: فمن خالف حكمه خبراً منها وليس له تأويل سائغ للخبر نقضنا حكمه، لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول"2 وتلقي الأمة للخبر المنحط عن درجة التواتر بالقبول يوجب العلم النظري"3.
وقال ابن الصلاح: "وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافاً لقول من نفى ذلك محتجاً بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن، وأنما تلقته الأمة بالقبول، لأنه يجب بالظن والظن قد يخطيء، وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أوّلاً هو الصحيح، لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطيء،
1 هو: إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني المحدث الفقيه الأوصولي المتكلم الشافعي، المكنى بأبي إسحاق، الملقب بركن الدين، عد من المجتهدين في المذهب، وكان ثقةً ثبتاً في الحديث. من مؤلّفاته: رسالة في الأصول. توفي سنة: 418هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/228-229.
2 فتح المغيث شرح ألفية الحديث1/51.
3 نفس المصدر1/50.
والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المنبني على الاجتهاد حجة مقطوعاً بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك، وهذه نكتة نفيسة نافعة، ومن فوائدها القول بأن ما انفرد به البخاري أومسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره وهي معروفة عند أهل هذا الشأن"1.
وتعقب النووي2 ابن الصلاح فقال:"الذي ذكره الشيخ في هذا الموضع خلاف ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن، فإنها آحاد والآحاد إنما تفيد الظن على ما تقرر، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك،
1 علوم الحديث لابن الصلاح ص: 24-25، تحقيق د. نور الدين العتر.
2 هو: الإمام الحافظ الأوحد القدوة شيخ الإسلام محي الدين أبو زكرياء يحيى بن شرف ابن مرى الحرامي الشافعي صاحب التصانيف النافعة أستاذ المتأخرين وحجة الله على اللاحقين، والداعي إلى سبيل السالفين، ولد رحمه الله سنة: 631هـ، سمع من الرضي بن برهان، وشيخ الشيوخ عبد العزيز بن محمّد الأنصاري وزين الدين عبد الدائم وغيرهم. كان حافظاً للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعليله رأساً في معرفة المذهب، من مؤلّفاته: شرح صحيح مسلم، رياض الصالحين، الأذكار، وغيرها. توفي بنوى سنة: 676هـ. انظر: مقدمة شرح صحيح مسلم1/هـ-ح.
وتلقي الأمة بالقبول إنما يفيد وجوب العمل بما فيهما، وهذا متفق عليه"1.
وقد أجاب ابن حجر عما ذكره النووي بما نقله عن شيخ الإسلام بن تيمية2 وغيره.
فقال:"الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له وعملاً بموجبه أفاد العلم عند جماهير العلماء من السلف والخلف، وهو الذي ذكره جمهور المصنفين في أصول الفقه كشمس الأئمة السرخسي وغيره من
1 مقدمة شرح صحيح مسلم1/20، المطبعة المصرية ومكتبتها.
2 هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني الدمشقي، الملقب بتقي الدين، المكنى بأبي العبّاس، الإمام المحقق، والحافظ المجتهد، المحدث، المفسر، الأصولي، النحوي الخطيب، الكاتب، القدوة الزاهد، نادرة عصره، شيخ الإسلام وقدوة الأنام، نقل محمّد حامد الفقي عن ابن سيد الناس في وصف شيخ الإسلام قوله:"إن تكلم في التفسير فهوه حامل رايته، أو في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر الحديث فهو صاحب علمه، وروايته، أو حاضر بالنحل والملل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من روايته برز في كل فنّ على أبناء جنسه" اهـ. وقد امتحن رحمه الله في مصر ودمشق فسجن بكل منهما ولم يثنه ذلك عن قول الحق الذي يراه. توفي سنة: 728هـ. مؤلّفاته كثيرة منها: الفتاوى، واقتضاء الصراط المستقيم، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، والسياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ومنهاج السنة النبويّة في نقد كلام الشيعة والقدرية. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين2/130-133، ومقدمة اقتضاء الصراط المستقيم ص: هـ.
الحنفية، والقاضي عبد الوهّاب1 وأمثاله من المالكية، والشيخ أبي حامد الإسفراييني2، والقاضي أبي الطيب3 الطبري، والشيخ أبي إسحاق
1 هو: القاضي عبد الوهّاب بن نصر البغدادي المالكي، أحح أئمة المذهب المالكي، النظّار، ثقة، حجة، وحيد داره وفريد عصره، ولي قضاء الدينور وغيرها. له مؤلّفات كثيرة مفيدة تدل على سعة علمه ومكانته منها: كتاب النصرة لمذهب إمام دار الهجرة، الأدلة في مسائل الخلاف، الإفادة في أصول الفقه، التلخيص فيه، الإشراف على مسائل الخلاف، وغيرها. ولد سنة: 362هـ، وتوفي بمصر ـ بعد أن حمل لوائها وملأ أرضها وسمائها، واستتبع سادتها وكبرائها ـ سنة: 422هـ. انظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب2/26- 29، والأعلام للزركلي4/335.
2 هو: أحمد بن أبي طاهر محمّد بن أحمد الإسفراييني، الفقيه، الشافعي، الأصولي، كنيته أبو حامد، المعترف له بقوة الجدل والمناظرة، انتهت إليه رياسة الدين والدنيا، له مؤلّف في الأصول، وشرح مختصر المزني، توفي بغداد سنة: 410هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/224- 225، وطبقات الشافعي لابن السبكي3/24.
3 هو: طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري، الفقيه، الأصولي، الشافعي، الشاعر الأديب، ولد سنة: 348هـ بعاصمة طبرستان، أخذ عنه الخطيب البغدادي، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو نصر أحمد بن الحسن الشيرازي وغيرهم. كان إماماً جليلاً عظيم القدر، ورعاً عارفاً بالأوصول والفروع محققاً فريداً في زمانه. له مصنفات كثيرة منها: شرح مختصر المزني، وصنف في الفقه وفي الخلاف والأصول والجدل. توفي سنة: 450هـ بغداد. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/238-239.
الشيرازي1، وأمثالهم من الشافعية، وأبي عبد الله بن حامد2، والقاضي أبي يعلى3، وأبي الخطاب4 وغيرهم من الحنبلية، وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشاعرة وغيره-هكذا-كأبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن
1 هو: إبراهيم بن عليّ بن يوسف الفيروزأبادي، صاحب اللمع وشرحه، والتبصرة في أصول الفقه. ولد سنة: 353هـ، وتوفي سنة: 476هـ. انظر: طبقات الشافعية3/88-89، الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/228.
2 هو: الحسن بن حامد بن عليّ بن مروان أبو عبد الله البغدادي، إمام الحنابلة في زمانه. من مؤلفاته: أصول الفقه، والجامع في المذهب، وشرح الخرفي، توفي سنة: 403هـ. انظر: طبقات الحنابلة20/171 فما بعدها.
3 هو: محمّد بن الحسين بن محمّد بن خلف بن أحمد الفراء أبو يعلى، الأصولي، الفقيه، المحدث، كان عالم زمانه وفريد عصره، عارفاً بالقرآن، صاحب فتاوى وجدل، ولا يعرف الشك والعناء أثناء المناظرة عرف بالزهد والورع والقناعة. ولد سنة: 380هـ، وتوفي سنة: 458هـ، له مؤلفات كثيرة منها: العدة في أصول الفقه. انظر: طبقات الحنابلة لابن يعلى2/193-216.
4 هو: محفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب، إمام الحنابلة في عصره ولد وتوفي بغداد. من مؤلفاته: التمهيد طبع بعد مناقشة هذه الرسالة، في أصول الفقه، الهداية وقد طبع في الرياض وهو في الفقه. انظر: الأعلام للزركلي6/178.
فورك1، وأبي منصور التميمي 2 وابن السمعاني وأبي هاشم الجبائي وأبي عبد الله البصري.
قال: "وهو مذهب أهل الحديث قاطبة، وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح، في مدخله في علوم الحديث، فذكر ذلك استنباطاً، ووافق فيه هؤلاء الأئمة، وخالفه في ذلك من ظن أن الجمهور على خلاف قوله لكونه لم يقف إلا على تصانيف من خالف في ذلك، كالقاضي أبي بكر الباقلاني3، والغزالي، وابن عقيل، وغيرهم، لأن هؤلاء يقولون: إنه لا يفيد العلم مطلقاً، وعمدتهم: أن خبر الواحد لا يفيد العلم بمجرده والأمة
1 هو: محمّد بن الحسن بن فورك، أبو بكر، الفقيه، المتكلم، الأصولي، كانت له مناظرات تدل على رسوخه في العلم، وتمكنه من الحجة، له مؤلفات في أصول الفقه، وأصول الدين، ومعاني القرآن، توفي سنة: 406هـ بالحيرة. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/226-227.
2 هو: عبد القادر بن طاهر بن محمّد التميمي البغدادي الإسفراييني الإمام، الأصولي، الفقيه، الشافعي، له تصانيف منها: الفصل في أصول الفقه، والتحصيل في أصول الفقه أيضاً. توفي سنة: 429هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/234-235.
3 هو: أبو بكر محمّد بن الطيب بن محمّد بن جعفر الباقلاني، المالكي، الملقب بشيخ الأسنة ولسان الأمة، المتكلم، إمام وقته من أهل البصرة، وإليه رياسة المالكيين في وقته، اشتهر بالبحث والمناظرة له مؤلّفات منها: التعديل والترجيح، وفضل الجهاد. انظر: الديباج المذهب2/228-229، وشذرات الذهب3/168 فما بعدها.
إذا عملت بموجبه فلوجوب العمل بالظن عليهم، وأنه لا يمكن جزم الأمة بصدقه في الباطن، لأن هذا جزم، بل علم.
الجواب أن إجماع الأمة معصوم عن الخطأ في الباطن، وإجماعهم على تصديق الجمة –هكذا-كإجماعهم على وجوب العمل به، والواحد منهم وإن جاز عليه أن يصدق في نفس الأمر من هو كاذب أو غالط، فمجموعهم معصوم عن هذا كالواحد من أهل التواتر، يجوز عليه بمجرده الكذب والخطأ، ومع انضمامه إلى أهل التواتر ينتفي الكذب والخطأ من مجموع الأمة، ولا فرق انتهى كلامه.
قال: وأصرح من رأيت كلامه في ذلك ممن نقل الشيخ تقي الدين عنه ذلك فيما نحن بصدده: الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني فإنه قالت: أهل الصنعة يجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بها عن صاحب الشرع، وإن حصل الخلاف في بعضها، فذلك خلاف في طرقها وكثرة رواتها، كأنه يشير بذلك إلى ما نقده بعض الحفاظ. وقد احترز ابن الصلاح عنه.
وأما قول الشيخ محي الدين: لا يفيد العلم إلا إن تواتر، فمنقوض بأشياء:
أحدها: الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم النظري. وممن صرح به إمام الحرمين، والغزالي، والرازي1، والسيف الآمدي وابن الحاجب ومن تبعهم.
ثانيها: الخبر المستفيض الوارد من وجوه كثيرة لا مطعن فيها يفيد العلم النظري للمتبحر في هذا الشأن. وممن ذهب إلى هذا الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، والأستاذ أبو منصور التميمي، والأستاذ أبو بكر بن فورك. وقال الأنباري شارح البرهان- بعد أن حكى عن إمام الحرمين أنه ضعف هذه المقالة- بأن العرف واطراد الاعتبار لا يقتضي الصدق مطلقاً، بل وقصاراه غلبة الظن لعلية الإسناد، أراد أن النظر في أقوال المخبرين من أهل الثقة والتجربة يحصل ذلك، ومال إليه الغزالي.
وإذا قلنا: إنه يفيد العلم، فهو نظري لا ضروري، وبالغ أبو منصور التميمي في الردّ على من أبى ذلك، فقال: المستفيض- وهو الحديث الذي له طرق كثيرة صحيحة لكنه لم يبلغ التواتر- يوجب العلم المكتسب ولا عبرة بمخالفة أهل الأهواء في ذلك.
ثالثها: ما قدمنا نقله عن الأئمة في الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول، ولا شك أن إجماع الأمة على القول بصحة الخبر أقوى في إفادة العلم من القرائن المحتفة ومن مجرد كثرة الطرق.
1 هو: محمّد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن عليّ التميمي البكري، الملقب بفخر الدين، المكنى بأبي عبد الله، المعروف بابن الخطيب الفقيه الشافعي، الأصولي، المتكلم النظّار، المفسر، الفيلسوفي، صاحب المكانة بين الأمراء والعلماء، ولد بالري سنة:544هـ له مؤلفات منها: أساس التقديس في علم الكلام، المسائل الخمسون في أصول الكلام، المحصول في أصول الفقه، توفي سنة: 606هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين2/48-49، والأعلام للزركلي7/203.
ثم بعد تقرير ذلك كله جميعاً، لم يقل ابن الصلاح ولا من تقدمه: إن هذه الأشياء تفيد العلم القطعي كما يفيده الخبر المتواتر، لأن المتواتر يفيد العلم الضروري ولا يقبل التشكيك، وما عداه مما ذكر يفيد العلم النظري الذي يقبل التشكيك، ولذا تخلفت إفادة العلم عن الأحاديث التي عللت من الصحيحين1.
قال الشوكاني: "واعلم أن الخلاف الذي ذكرناه في أوّل هذا البحث من إفادة خبر الواحد الظن أو العلم مقيد بما إذا كان خبر واحد لم ينضم إليه ما يقوّيه، وأما إذا انضم إليه ما يقوّيه، أو كان مشهوراً أو مستفيضاً فلا يجري فيه الخلاف المذكور، ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه، فإنه يفيد العلم، لأن الإجماع عليه قد صيّره من المعلوم صدقه، وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، فكانوا بين عامل به ومتأول له، ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم، فإن الأمة تلقت ما فيهما بالقبول، ومن لم يعمل بالبعض من ذلك فقد تأوله والتأويل فرع القبول"2.
1 النكة على كتاب ابن الصلاح وألفية العراقي لابن حجر ص: 81-84، مخطوط مصورة بالجامعة الإسلامية بالمدينة.
2 إرشاد الفحول ص:49-50.
وحمل بعض العلماء الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله بإفادة خبر الواحد العلم على ما قامت القرائن على صدقه دون غيره.
قال ابن قدامة: "قال بعض العلماء: إنما يقول أحمد بحصول العلم بخبر الواحد فيما نقله الأئمة الذين حصل الاتفاق على عدالتهم وثقتهم وإتقانهم ونقل من طرق متساوية، وتلقته الأمة بالقبول ولم ينكره منهم منكر، فإن الصدّيق والفاروق رضي الله عنهما لو رويا شيئاً سمعاه أو رأياه لم يتطرق إلى سامعهما شك ولا ريب، مع ما تقررها نفسه لهما، وثبت عنده من ثقتهما وأمانتهما، ولذلك اتفق السلف على نقل أخبار الصفات، وليس فيها عمل، وإنما فائدتها وجوب تصديقها واعتقاد ما فيها، ولأن اتفاق الأمة على قبولها إجماع منهم على صحتها، والإجماع حجة قاطعة"1.
وقال القاضي في مقدمة المجرد: "وخبر الواحد يوجب العلم إذا صح ولم تختلف الرواية فيه وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول به وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه بالقبول، والمذهب على ما حكيت لا غير"2.
1 روضة الناظر ص: 42، وانظر: تفاصيله أيضاً في المسودة ص: 240-243.
2 المسودة ص: 248.
يتضح مما تقدم أن القائلين بإفادة خبر الواحد المحتف بالقرائن، لم يقولوا: إنه يفيد العلم من جهة العادة والاطراد بحيث يساوي خبر التواتر، فيفيد العلم لكل الناس، وإنما قالوا: إنه يفيد العلم النظري الناتج عن النظر والاستدلال بما احتف به من قرائن بعضها يرجع إلى: المخبر، وبعضها يرجع إلى المخبر عنه، وبعضها يرحع إلي المخبر المبلغ. وها أنا أسوق ما قاله ابن القيم رحمه الله في هذا.
قال: "وأهل الحديث لا يجعلون حصول العلم بمخبر هذه الأخبار الثابتة من جهة العادة المطردة في حق سائر المخبرين، بل يقولون: ذلك الأمر يرجع إلى المخبر، وأمر يرجع إلى المخبر عنه، وأمر يرجع إلى المخبر المبلغ.
فأما ما يرجع إلى المخبر فإن الصحابة الذين بلغوا الأمة سنة نبيم كانوا أصدق الخلق لهجة، وأعظمهم أمانة، وأحفظهم لما يسمعون، وخصهم الله تعالى من ذلك بما لم يخص به غيرهم، فكانت طبيعتهم قبل الإسلام الصدق والأمانة، ثم ازدادوا بالإسلام قوة في الصدق والأمانة، وكان صدقهم عند الأمة وعدالتهم وضبطهم وحفظهم عن نبيهم أمراً معلوماً لهم بالاضطرار، كما يعلمون إسلامهم وإيمانهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من له أدنى علم بحال القوم يعلم أن خبر الصّدّيق وأصحابه لا يقاس بخبر من عداهما، وحصول الثقة واليقين بخبرهم فوق الثقة واليقين بخبر من سواهم من سائر الخلق بعد الأنبياء.
فقياس خبر الصّدّيق على خبر آحاد المخبرين من أفسد قياسٍ في العالم، وكذلك الثقات العدول الذين رووا عنهم هم أصدق الناس لهجة، وأشدهم تحرياً للصدق والضبط حتى لا تعرف في طوائف بني آدم أصدق لهجه ولا أعظم تحرياً للصدق منهم"1.
وأما ما يرجع إلى المخبر عنه فإن الله سبحانه تكفل لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يظهر دينه على الدين كله، وأن يحفظه حتى يبلغه الأوّل إلى من بعده، فلا بد أن يحفظ الله سبحانه حججه وبيّناته على خلقه، لئلا تبطل حججه وبيّناته، ولهذا فضح الله من كذب على رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، وبيّن حاله للناس، قال سفيان بن عيينة: ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث.
قال عبد الله بن المبارك: "لو هَمَّ رجل أن يكذب في الحديث، لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب". وقد عاقب الله الكاذبين عليه في حياته بما جعلهم به نكالاً وعبرة حفظاً لوحيه ودينه، وقد روى أبو القاسم البغوي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا علي بن مسهر عن صالح بن حبان عن ابن بريدة عن أبيه قال: جاء رجل في جانب المدينة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أحكم فيكم برأيي في أموالكم وفي كذا وكذا، وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن
1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/484-485.
يزوجوه، ثم ذهب حتى نزل على المرأة، فبعث القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"كذب عدو الله"، ثم أرسل رجلاً فقال:"إن وجدته حياً فاقتله، فإن أنت وجدته ميتا فحرقه بالنار"، فانطلق فوجده قد لدغ فمات، فحرقه بالنار فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار"1.
وروى أبو بكر بن مردويه من حديث الوازعي عن أبي سلمة عن أسامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تقوّل عليّ مالم أقل فليتبوأ مقعده من النار "2 وذلك أنه بعث رجلاً فكذب عليه فوجد ميتاقد انشق بطنه ولم تقبله الأرض. فالله سبحانه لم يقر من كذب عليه في حياته وفضحه، وكشف ستره للناس بعد مماته.
وأما ما يرجع إلى المخبر به، فإنه الحق المحض، وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كلامه وحي، فهو أصدق الصدق، وأحق الحق بعد كلام الله، فلا يشتبه بالكذب والباطل على ذى عقل صحيح، بل عليه من النور والجلالة والبرهان ما يشهد بصدقه، والحق عليه نور ساطع يبصره ذو
1 حديث من كذّب عليّ متعمداً
…
أخرجه مسلم في صحيحه8/229، باب التثبت في الحديث، أبو داود2/287، ابن ماجة1/9، البخاري1/37، باب من كذّب عليّ متعمداً
…
2 صحيح البخاري1/37، ولفظه "من يقل عليّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار".
البصيرة السليمة، فبين الخبر الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الخبر الكاذب عنه من الفرق كما بين الليل والنهار، والضوء والظلام، وكلام النبوة متميز بنفسه عن غيره من الكلام الصدق، فكيف يشتبه بالكذب، ولكن هذا إنما يعرفه من له عناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره وسننه1.
قال: "وأما ما يرجع إلى المخبر، فإن المخبر نوعان: نوع له علم ومعرفة بأحوال الصحابة وعدالتهم وتحريهم للصدق والضبط، وكونهم أبعد خلق الله عن الكذب وعن الغلط والخطأ فيما نقلوه إلى الأمة، وتلقاه بعضهم عن بعض بالقبول، وتلقته الأمة عنهم كذلك، وقامت شواهد صدقهم فيه، فهذا المخبر باسم المفعول يقطع بصدق المخبر باسم الفاعل، ويفيده خبره العلم واليقين لمعرفته بحاله وسيرته. ونوع لا علم لهم بذلك، وليس عندهم من المعرفة بحال المخبرين ما عند أولئك، فهؤلاء قد لا يفيدهم خبرهم اليقين، فإذا انضم عمل المخبر وعلمه بحال المخبر وانضاف إلى ذلك معرفة المخبر عنه ونسبة ذلك الخبر إليه، أفاد ذلك علماً ضرورياً بصحة تلك النسبة، وهذا في إفادة العلم أقوى من خبر رجل مبرز في الصدق والتحفظ، عن رجل معروف بغاية الإحسان والجود، أنه سأله رجل معدم فقير ما يعينه، فأعطاه ذلك، وظهرت شواهد تلك العطية على الفقير، فكيف إذا تعدد المخبرون عنه
1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/485-486.
وكثرت رواياتهم وأحاديثهم بطرق مختلفة، وعطايا متنوعة في أوقات متعدده؟ "1.
قلت: ففي ما ذكر شواهد تدل على صدق رواة الحديث، وبعدهم عن الكذب والخطأ، وإن جاز عليهم عقلاً. فقد ثبت امتناع وجود كذب وخطأ في حديث لا يكشف أمره ويظهر حاله، والتاريخ شاهد، فقد عرف كذب الكاذبين في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع الوضاعين، فدوّن ما صحت نسبته من الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف حال مالم تصح نسبته إليه، كما دوّن من يروى عنه ممن لا يروى عنه حتى أصبح من المستحيل قبول حديث ليس معروفاً في الكتب التي دونت فيها السنة، ولم يبق مجال لطعن مقبول إلا بما هو مدوّن في كتب علوم الحديث، وكتب علوم الرجال، اللهم إلا ما قد يفرضه العقل، والعقل قد يفرض المحال، وإذا كان هذا هو واقع حال السنة علىالعموم، فإن ما احتف منها بالقرائن، لا يرد عليه ما افترض من احتمال كذب الراوي أو وهمه أوغلطه، لأن القرائن وحدها قد تفيد العلم، فكيف إذا انضم إليها ما صحت نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقامت الشواهد على صحته برواية العدل الضابط له عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/486-487.
فالذي يظهر لي أن الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم النظري، لأن وجود القرائن يدفع ما قد يفترض من خطأ الراوي ووهمه لاسيما أن تلقته الأمة بالقبول كما في أحاديث الصحيحين مما لم ينتقده الحفاظ، لأن تلقي الأمة وحده أقوى في إفادة العلم من القرائن، ومن مجرد كثرة الطرق القاصرة عن حد التواترولذا فقد ذهب إليه جماهير العلماء من السلف والخلف علىما تقدم نقله، تفصيله في هذا الفصل قريبا، الله تعالى أعلم.
هل للخلاف أثر
كان لاختلاف العلماء في إفادة خبر الواحد العلم، وعدم إفادته العلم أثر نبينه فيما يلي:
1-
أن القائلين بأن خبر الواحد العدل إنما يفيد الظن، قالوا: يحتج به في الأحكام دون العقائد، لأن الآحاد لا تفيد اليقين، والعقائد لابد فيها من اليقين1.
وما ذكروه من التفريق بين ما يقبل فيه خبر الواحد، وما لا يقبل فيه يعترض عليه بما يأتي:
الأول: أن للخصم أن يطالبهم بفرق صحيح بين ما يجوز إثباته بخبر الواحد العدل من الدين، وبين ما لا يجوز إثباته به، وبالفرق بين ما المطلوب فيه القطع اليقيني، وما يكفي فيه الظن، ولا سبيل إلى تقرير شيء من ذلك البتة2.
1 انظر: مختصر ابن الحاجب مع شروحه2/55، 57، وتنقيح الفصول للقرافي ص: 358، التقرير والتحبير شرح تحرير الكمال2/270، تيسير التحرير3/78-79، الأحكمام للآمدي2/47، حاشية العطار على المحلى2/157، ومذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين ص:105.
2 مختصر الصواعق المرسلة1-2/513.
الثاني: أن القائلين بإفادته للعلم، والقائلين بإفادته للظن اتفقوا على نقل إجماع الصحابة والتابعين على العمل به1، ولم يرد عن أحد منهم أن أحداً من الصحابة منع الاستدلال بخبر الواحد العدل في العقائد لكونه لا يفيد إلا الظن، وأن العقائد لا يحتج فيها إلا بما يفيد القطع، بل الوارد عنهم قبول الخبر متى صح مطلقاً، وتخصيص ذلك بالأحكام دون العقائد يحتاج إلى دليل من: كتاب، أو سنة، أو إجماع قطعي2.
الثالث: ما تواتر من إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله وسعاته إلى الآفاق والملوك المجاورين لجزيرة العرب، والقبائل، لتبليغ الرسالة، وتعليم الأحكام، وحل العهود وتقريرها، وقبض الزكوات، وفصل الخصومات، ونحو ذلك.
فمن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل عظيم بصرى، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي بكتابه إلى كسرى، وعمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة، وعثمان بن العاص إلى الطائف، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، وشجاع بن وهب
1 مختصر ابن الحاجب2/58، الأحكام للآمدي2/57، المعتمد لأبي الحسين البصري2/591، نهاية السول في أصول الفقه لأبي يعلى ص:129، مصورة مكروفيلم عند الدكتور عبد الوهّاب أبو سليمان وغيرها.
2 الإجماع القطعي هو: الإجماع القولي المنقول بالتواتر.
الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بدمشق، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن خليفة باليمامة، وأمرّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الحج سنة تسع، وأرسل في أثره عليّاً لإنفاذ سورة براءة، وحمله فسخ العهود والعقود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وبعث عليّاً أيضاً إلى اليمن أميراً، وبعده بعث معاذاً أيضاً إلى اليمن لتعليم الشرائع وإقامة الأحكام، وبعث عتاب بن أسيد أميراً على أهل مكة ومعلماً للشرائع، وبعث لقبض الزكاة وجبايتها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيس بن عاصم، ومالك بن نويرة، والزبرقان بن بدر، وزيد بن حارثة، وعمرو بن العاص، وعمرو بن حزم، وأسامة بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم ممن يطول ذكرهم رضي الله عنهم.
ولم يبعث هؤلاء إلا ليقيم بهم الحجة على من بعثوا إليهم، ومن المعلوم أن أهم ما بعث به هؤلاء هو الدعوة إلى التوحيد، كما سيأتي قريباً نص ذلك في كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، ولم يقل أحد إنه بعث عدد التواتر في وجه واحد.
وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم كان يلزم من بعث إليهم رسله بقبول قول رسله وحكامه وسعاته، ولو احتاج في كل رسالة إلى إرسال عدد التواتر لم يف بذلك جميع أصحابه، ولخلت دار هجرته صلى الله عليه وسلم من أصحابه وأنصاره، وتمكن منه أعداؤه، وفسد النظام والتدبير، وهذا أمر باطل، لا شك في بطلانه، فتبين بما ذكر أن خبر الواحد حجة توجب
العمل مثل خبر التواتر. فكما يجب العمل بخبر التواتر في كل ما دل عليه سواء كان في الأحكام أم العقائد، فكذلك ما دل عليه خبر الواحد العدل1.
فإن قيل: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث رسله وسعاته لتعليم الأحكام، وجباية الزكاة، وتوزيعها، دون الدعوة إلى التوحيد.
أجيب عنه بأنه ورد التصريح في كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك بالدعوة إلى التوحيد، وها أنا أسوق أمثلة لذلك.
فمن ذلك ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى نحو أهل اليمن قال له: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم تؤخذ مق غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس "2. فالحديث نص في محل النزاع.
1 انظر: تفاصيله في المستصفى للغزالي مع فواتح الرحموت1/151، كشف الأسرار2/373-374، الأحكام للآمدي2/56، المنار مع حواشيه ص:62، مختصر ابن الحاجب مع شروحه2/59 فما بعدها.
2 صحيح البخاري مع فتح الباري13/347.
ومنها ما أخرجه البخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، ويدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: "فدعا عليهم رسول صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق "1.
قال ابن حجر:"المبعوث لعظيم البحرين وإن لم يسم في هذه الرواية، فقد سمي في نحوها، وهوعبد الله بن حذافة"2.
ومنها ما أخرجه البخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إن وفد عبد القيس لما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من الوفد؟ " قالوا: ربيعة. قال: "مرحباً بالوفد والقوم غير خزايا، ولا ندامى." قالوا:"يا رسول الله، إن بيننا وبينك كفار مضر، فمرنا بأمر ندخل به الجنة ونخبر به من وراءنا"، فسألوه عن الأشربة، فنهاهم عن أربع وأمرهم بأربع: أمرهم بالإيمان بالله قال: " هل تدرون ما الإيمان بالله؟ " قالوا: "الله ورسوله أعلم"، قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، -وأظن فيه صيام رمضان-، وتؤتوا من المغنم
1 صحيح البخاري مع فتح الباري13/241.
2 فتح الباري13/242.
الخمس"، ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير1، قال: " احفظوهن، وأبلغوهن من وراءكم "2.
قال ابن حجر: "والغرض من قوله في آخره "احفظوهن، وأبلغوهن من وراءكم" فإن الأمر بذلك يتناول كل فرد، فلولا أن الحجة تقوم بتبليغ الواحد ما حضهم عليه"3.
وذكر ابن حجر أيضاً أن البخاري ذكر في خبر الواحد اثنين وعشرين حديثاً كلها مكررة، وذكر من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ثمانية وخمسين أثراً4، فادعاء تخصيص مهمة الرسل بتعليم الأحكام وجباية الزكاة وغير ذلك، دون الدعوة إلى التوحيد يحتاج إلى دليل قطعي، لاسيما وقد دلت الأحادحث السالفة الذكر وغيرها مما لم أذكره على الدعوة إلى التوحيد.
1 الدباء: القرعة يخرط فيها عناقيد العنب ثم تدفن فتترك حتى تهدر ثم تموت، والنقير: هو أن ينقر أصل النخلة فيشدخ فيه الرطب والبسر فيترك حتى يهدر ثم يموت، والحنتم: جراح يحمل فيها الخمر، والمزفت: هو المقير، وعاء فيه الزفت. انظر: فتح الباري10/45.
2 البخاري مع الفتح13/242-243.
3 فتح الباري شرح صحيح البخاري13/243.
4 انظر تفاصيله في نفس المصدر13/244.
الرابع: أن القائلين بأنه لا يحتج به في العقائد ثبت عنهم قبول ما ورد منه في عذاب القبر1، وسؤال منكر ونكير،2 ورؤية المؤمنين لله تعالى بالأبصار يوم القيامة3، وما ورد في نعيم الجنة4، وعذاب النار5، والحوض6، والصراط7 وغيرها.
وإليك بعض أقوالهم:
قال السرخسي: "ثم قد ثبت بالآحاد من الأخبار ما يكون الحكم فيه العلم فقط، نحو عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، ورؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، فبهذا ونحوه يتبين أن خبر الواحد موجب للعلم"8.
وقال صاحب التوضيح: "والأخبار في أحكام الآخرة لا توجب إلا الاعتقاد، وهي مقبولة، ولأنه يحتمل الصدق والكذب، وبالعدالة
1 صحيح البخاري8/97، صحيح مسلم8/160-164.
2 صحيح مسلم8/161 فما بعدها.
3 صحيح مسلم1/112 فما بعدها، صحيح البخاري8/216.
4 صحيح مسلم8/128 فما بعدها.
5 صحيح مسلم8/149 فما بعدها، 1/135.
6 صحيح مسلم1/149-150.
7 صحيح مسلم1/116.
8 أصول السرخسي1/329.
يترجح الصدق. ولنا هذه الدلائل لكن لا نسلم أنه لا عمل إلا عن علم قطعي، والعقل يشهد أنه لا يوجب اليقين، والأحاديت في أحكام الآخرة منها ما اشتهر، ومنها ما دون ذلك، وكل ذلك يوجب ذكرنا، لأنها توجب عقد القلب، وهو عمل فيكفي له خبر الواحد.
وفي هذا نظر، لأنه يجب أن لا يختص هذا بأحكام الآخرة، بل يكون كل الاعتقاديات كذلك"1.
وذكر سعد الدين التفتازاني أن خبر الواحد في أحكام الآخرة من عذاب القبر، وتفاصيل الحشر والصراط والحساب والعقاب، وغير ذلك مقبول بالإجماع2.
وقال البزدوي: "فأمّا الآحاد في أحكام الآخرة فمن ذلك ما هو مشهور، ومن ذلك ما هو دونه، لكنه يوجب ضرباً من العلم على ما قلنا، وفيه ضرب من العمل أيضاً، وهو عقد القلب عليه"3.
فما اعترفوا به هنا من قبول ما ورد في أحكام الآخرة وغيرها يلزمهم قبول ما ورد منها في العقائد، لأنه لا يخرج عن عقد القلب الذي جعلوه عملاً يجب قبول خبر الواحد فيه، ولذا "اتفق السلفي على نقل
1 التلويح شرح التوضيح2/4.
2 نفس المصدر2/4.
3 كشف الأسرار على البزدوي2/376.
أخبار الصفات وليس فيها عمل، وإنما فائدتها وجوب تصديقها واعتقاد ما فيها، ولأن اتفاق الأمة على قبولها إجماع منهم على صحتها، والإجماع حجة قاطعة"1.
قال الشوكاني: "ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمال بمقتضاه فإنه يفيد العلم، لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه"2.
وقال ابن القيم:"ومشهور معلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها، فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد، وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى، وفي مسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة والحوض، وإخراج الموحّدين من المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وفي فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ومناقب الصحابة، وأخبار الأنبياء المتقدمين، وأخبار الرقاق وغيرها مما يكثر ذكره. وهذه الأشياء علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم، حملنا أمر الأمة في نقل
1 روضة الناظر لابن قدامة ص: 52.
2 إرشاد الفحول ص: 49.
هذه الأخبار على الخطأ وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً، ولا ينفعه، ويصيركأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه"1.
ولذا فإننا نرى طوائف الأمة "يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد، نرى أصحاب القدر يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة" 2، وبقوله: "خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم" 3، ونرى أهل الإرجاء يستدلون بقوله: " من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة "، قيل: "وإن زنى وإن سرق؟ " قال: "وإن زنى وإن سرق ""4.
ونرى الرافضة يحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم: " يجاء بقوم من أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم"5.
1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/505.
2 صحيح مسلم8/52 فما بعدها. ولفظه:"ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة
…
".
3 شرح النووي لصحيح مسلم17/197، ولفظ مسلم: "خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم
…
".
4 صحيح مسلم1/66 عن أبي ذر، ولفظه: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله ومات على ذلك
…
".
5 صحيح مسلم8/157، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو جزء من حديث.
ونرى الخوارخ يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 1، وبقوله:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" 2، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يستدل بها أهل الفرق"3.
وفي المسودة عن ابن عبد البر4 أنه قال: "وكلهم يروي خبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي، ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وحكماً وديناً في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنه، ولهم في الأحكام ما ذكرناه".
قلت: هذا الإجماع الذي ذكره في خبر الواحد العدل في الاعتقادات يؤيد قول من يقول: إنه يوجب العلم، وإلا فما لا يفيد علماً ولا عملاً كيف يجعل شرعاً وديناً يوالى عليه ويعادى؟ 5.
1 صحيح البخاري1/20، 8/18، شرح النووي لصحيح مسلم2/54 عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه.
2 صحيح مسلم1/54 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3 مختصر الصواعق المرسلة1-2/505، والاعتصام2/254.
4 هو: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبد البرّ الحافظ، القرطي، شيخ علماء الأندلس، وكثير محدّثيها في وقته وأحفظ من كان فيها. ولد سنة: 368هـ، وتوفي سنة: 463هـ، مؤلّفاته تنبئ عن جلالة علمه منها: التمهيد لما في الموطّأ من المعاني والأسانيد، والاستذكار على الموطّأ، وجامع بيان العلم وفضله. انظر: الديباج المذهب2/367-370.
5 المسودة لآل تيمية ص:245.
والحق أن احتمال الغلط والوهم واردان عقلاً على راوي خبر الواحد العدل الخالي عن القرائن إلا أن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها، ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها، في الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر، هذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولاسيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأن شرع كذا وأوجبه ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته"1.
ومما تقدم يتضح أن القول بعدم الأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد مخالف لظاهر الكتاب والسنة اللذين أجمع الجميع على وجوب الأخذ بهما في قبول خبر الآحاد في الأحكام الشرعية، وذلك لعمومهما وشمولهما لوجوب الأخذ بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، سواء عقيدة أم حكماً فرعياً، فتخصيص ذلك بالأحكام دون العقائد يحتاج إلى دليل
1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/509.
قاطع، ثم إنه مخالف لما نقله المخالفون من إجماع الصحابة على قبول خبر الآحاد متى صحّ، ومع ذلك فلم ينقل عن أحد التفريق بين العقيدة وغيرها، ولم يرد عن أحد منهم أنه استظهر في غير أحاديث الأحكام.
والقول بعدم قبول خبر الآحاد في العقائد يستلزم ردّ السنة لندرة المتواتر، ولأن كلّ حكم شرعي عملي يقترن به عقيدة ولا بد، ترجع إلى الإيمان بأمر غيبي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولولا أنه أخبرنا به في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لما وجب التصديق به والعمل به. ولذلك لم يجز لأحد أن يحرم أو يحلل بدون حجة من كتاب أو سنة، قال الله تعالى:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} 1، فأفادت هذه الآية الكريمة أن التحريم والتحليل بدون إذن منه كذب على الله تعالى وافتراء عليه، فإذا كنا متفقين على جواز التحليل والتحريم بحديث الآحاد، وأننا به ننجوا من القول على الله فكذلك يجوز إيجاب العقيدة بحديث الآحاد، ولا فرق، ومن ادعى الفرق فعليه البرهان من كتاب الله وسنة رسوله، ودون ذلك خرط القتاد"2.
1 سورة النحل آية: 116.
2 رسائل الدعوة السلفية 5، وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة للشيخ محمّد ناصر الدين الألباني ص:20.
ولأن كثيراً من الأحاديث العملية يتضمن الاعتقادية.
فمن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تشهد أحدكم، فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" "1.
ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن فقال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" 2، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تضمنت عقائد وأحكاماً فهل ترى أن نردها ولا نعمل بها مطلقاً لكونها أحاديث الآحاد تضمنت عقائد، أم نعمل بها في الأحكام دون العقائد من غير دليل يدل على ذلك، وهذا ما يأباه العقل، أم نعمل بها في تضمنته من عقائد وأحكام، وهذا هو الحقّ الذي قام عليه دليل.
1 صحيح مسلم2/93، صحيح البخاري1/200، 2/118.
2 صحيح البخاري2/134، صحيح مسلم1/37 فما بعدها.
2-
أن القائلين بأن خبر الواحد العدل يفيد العلم، قالوا: يحتج به في العقائد والأحكام من غير فرق، فمتى صحّ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب العمل به لقوله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 1، وقوله جل شأنه:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 2، وقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3، وقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4،وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 5، وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
1 سورة المائدة آية: 92.
2 سورة النور آية: 54.
3 سورة النور آية: 56.
4 سورة الحشر آية: 7.
5 سورة النساء آية: 59.
الْكَافِرِينَ} وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 1، إلى غير ذلك من الآيات التي يدل عمومها على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أبو داود عن المقدام بن معديكرب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه.
…
الحديث"2.
فمثل هذه النصوص كثير، وهو يدل بعمومه على وجوب قبول ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان في العقائد، أم في الأحكام.
وذكر العلامة الشيخ محمّد الأمين بن محمد المختار الجكني رحمه الله أن التحقيق الذي لا يجوز العدول عنه قبول خبر الآحاد في الأصول والفروع على حد سواء، وأن عدم قبولها يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم 3.
1 سورة النساء آية: 69.
2 أبو داود2/505، الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص:39.
3 انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص: 104.