المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع: في حكم قبول خبر الواحد في الحدود - خبر الواحد وحجيته

[أحمد بن عبد الوهاب الشنقيطي]

الفصل: ‌الفصل الرابع: في حكم قبول خبر الواحد في الحدود

‌الفصل الرابع: في حكم قبول خبر الواحد في الحدود

ذهبت الشافعية والحنابلة وأبو يوسف وأبو بكر الرازي من الحنفية، وأكثر الناس إلى قبول خبر الواحد في كل ما يوجب الحد، ويسقط بالشبهة1.

وقال صاحب التحرير: "ومنعه الكرخي وأبو عبد الله البصريَ وأكثر الحنفية2،وما ذكره من قوله: "وأكثر الحنفية" يعكره ما قال الراهوي وهو: "ما يندريء بالشبهات كالحدود والكفارات ذهب جمهور العلماء وأكثر أصحابنا إلى أن إثبات الحدود بأخبار الآحاد جائز، وهو المنقول عن أبي يوسف في الأمالي، واختاره الجصاص، وتبعه المصنف، وذهب الكرخي إلى أنه لا يجوز، وإليه مال فخر الإسلام وشمس الأئمة وصاحب التنقيح"3.

1 انظر الإحكام للآمدي2/106.

2 التقرير والتحبير شرح تحرير الكمال2/276.

3 حاشية الراهوي على المنار ص: 649.

ص: 264

استدل المانعون بأن في اتصال الخبر بالنبي صلى الله عليه وسلم شبهة، وهي احتمال الكذب، فلا يقام الحد به لحديث "ادرؤوا الحدود بالشبهات" أخرجه أبو حنيفة1.

1 ذكر الشيخ محمّد إسماعيل العجلوني من الطعن في هذا الحديث ما نصه: "ادرؤوا الحدود بالشبهات "قال في الأصل: "رواه الحارثي في مسند أبي حنيفة عن ابن عباس مرفوعاً، وأخرجه ابن السمعاني عن عمر بن عبد العزيز، فذكر قصة طويلة فيها قصة شيخ وجدوه سكراناً فأقام عليه عمر الحدّ ثمانين، فلما فرغ قال: يا عمر، ظلمتني فإنني عبد فاغتم عمر ثم قال: إذا رأيتم مثل هذا في سمته وهيئته وعلمه وفهمه وأدبه فاحملوه على الشبهة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ادرؤوا الحدود بالشبهات ".

قال شيخنا يعني الحافظ ابن حجر: "وفي إسناده من لا يعرف انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث مسند الفردوس: اشتهر على الألسنة والمعروف في كتب الحديث أنه من قول عمر بن الخطاب بغير لفظه انتهى. وعزاه في الدرر إلى الترمذي بلفظ: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". وأخرجه ابن أبي شيبة عن عمر بلفظ:"لأن أخطئ الحدود بالشبهات أحب إليّ من أن أقيمها بالشبهات".

وأخرجه ابن حزم في الإيصال بسند صحيح. وأخرجه مسدد عن ابن مسعود أنه قال: "ادرؤوا الحدود عن عباد الله عز وجل ". ورواه البيهقي عن عاصم بلفظه: " ادرؤوا الحدود بالشبهات، وارفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم " وقال: إنه أصح ما فيه. وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي وأبو يعلى عن عائشة مرفوعاً بلفظ: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن أخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". ثم قال في المقاصد: ورويناه عن عليّ مرفوعاً بلفظ: " ادرؤوا الحدود، ولا ينبغي للإمام أن يعطل الحدود ". وفيه المختار بن نافع منكر الحديث.

وأخرجه ابن ماجه بسند فيه ضعف عن أبي هريرة مرفوعاً: " ادرؤوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً ". وقال النجم: "ورواه ابن عدي في جزء له من حديث مصر والجزيرة عن ابن عباس بزيادة: "وأقيلوا الكرام عثراتهم إلا في حدّ من حدود الله تعالى" ثم قال: "وقال عمر ابن الخطاب: "لأن أخطئ في الحدود بالشبهات أحبّ إليّ من أن أقيمها بالشبهات" انتهى من كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس1/71-72. الطبعة الثانية، دار التراث العربي، بيروت. سنة: 1351هـ.

ص: 265

وخبر الواحد إنما يفيد الظن. وعدم إفادة القطع شبهة فيدرأ بها الحد1.

ويجاب عن الحديث الذي استدلوا به بأن كل طرقه ضعيفة. وأيضاً أن المراد بالشبهة التي يُدْرَأُ بها الحد: الشبهة في نفس السبب، لا المثبتة للسبب وإلا لو كان المراد بها الشبهة في مثبت السبب لانتفت الشهادة وظاهر الكتاب في الحدود لانتفاء القطع فيها، إذ احتمال الكذب في الشهادة، واردة غير ظاهر الكتاب فيه تخصيص وإضمار ومجاز قائم لكن الحد يجب بها اتفاقاً2.

استدل الجمهور بما يأتي:

1-

قالوا: خبر عدل ضابط جازم روى في حكم عملي، فتقبل روايته في الحدود كما تقبل في غير الحدود من العمليات.

2-

أن الاتفاق حاصل على ثبوت الحدود بالبينات، وهي أخبار آحاد، فكذلك تثبت بخبر العدل، ولا يلتفت إلى احتمال الكذب فيه، كما لا يلتفت إلى احتمال الكذب في البينات.

1 انظر تفاصيله في: التقرير والتحبير2/276، تيسير التحرير3/88، المنار مع حواشيه ص:649.

2 انظر: التقرير والتحرير شرح التحرير2/276.

ص: 267

ويدل على عدم الالتفات إلى احتمال الكذب في البينات حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما أنا بشر1وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار"2.

فهذا الحديث كما ترى نص في ورود الاحتمال في البينات، وأن الاحتمال فيها لا يمنع من إيجاب الحكم بها كما هو محل الاتفاق، فيكون إيجاب الحدود بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى.

1 قال ابن حجر: "لعل السرّ في إنما أنا بشر" امتثال قول الله تعالى: {قل إنما أنا بشر} الآية، سورة الكهف آية: 110 أي: في إجراء الأحكام على الظاهر الذي يحتوي فيه جميع المكلفين، فأمر أن يحكم بمثل ما أمروا أن يحكموا به، ليتم الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد إلى الأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن اهـ من فتح الباري13/175.

2 البخاري مع فتح الباري شرح صحيح البخاري13/172.

ص: 268

قال ابن حجر: "والحديث حجة لمن أثبت أنه قد يحكم بالشيء في الظاهر ويكون الأمر في الباطن بخلافه، ولا مانع من ذلك إذ لا يلزم محال عقلاً ولا نقلاً"1.

3-

استدلوا "بدلالة النص الذي ورد في زنا ماعز، فإن حد الزنا ثابت في غير ماعز بدلالة هذا النص مع أنه فيه شبهة"2.

"ولا عبرة بالشبهة بعد ما ثبت كون الحديث حجة على الإطلاق بالدلائل القطعية"3.

4-

المشهور جواز القياس في الحدود قال الأزميري: "وقد يستدل عليه بما أوجب أبو يوسف حد الزنا باللواط بدلالة نص الزنا، مع أن مواضع الشبهة مخصوصة عنه، والعام المخصوص دليل فيه شبهة، والدلالة الظنى ظنى أيضاً –هكذا-،فإذا جوز إثباته فبالخبر الواحد أولى، إذ القياس يعارض العام المخصوص دون الخبر الواحد"4.

وعقده صاحب المراقي بقوله:

1 فتح الباري13/174.

2 حاشية الأزميري على مرآة الأصول2/230، الناشر أحمد خلوصي، سنة: 309هـ. دار الطباعة العامرة.

3 حاشية أنوار الحلك على المنار ص: 649.

4 حاشية الأزميري على مرآة الأصول ص: 230-231.

ص: 269

والحدوالكفارة التقدير

جوازه فيها هو المشهور

والضمير في"جوازه" راجع إلى القياس وإذا جاز فيها القياس فخبر الواحد أولى منه 1.

5-

"أن الحدود شرع عملي من الشرائع فجاز إثباتها بخبر الواحد كسائر الشرائع، واحتمال مجرد الشبهة مع صحة الخبر غير معتبر في سقوط الحدود، إذ لو كان ذلك الاحتمال شبهة، لكان احتمال كذب الشاهد وغلطه ونسيانه على ما شهد به شبهة"2.

والحق الذي يجب اتباعه هو: قبول الخبر متى صح وسلم من معارض راجح سواء كان في الحدود، أم في غيرها، لأن ذلك هو مقتضى ما دل عليه ظاهر القرآن الكريم والسنة المطهرة، وإجماع السلف الصالح، فلا يعدل عن العمل بالحديث الصحيح إلا لدليل أقوى منه، والله تعالى أعلم.

1 مذكرة الأصول للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص: 146.

2 حاشية الأزميري على مرآة الأصول ص:2/131.

ص: 270