الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في إفادته العلم
ذهب الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايتين عنه إلى أن خبر الواحد العدل يفيد القطع إذا صح، واختارها جماعة من أصحابه، منهم ابن أبي موسى1 وغيره، ونصرها القاضي في الكفاية.
واختار هذا القول الحارث المحاسبي2، وهو قول جمهور أهل الظاهر، وجمهور أهل الحديث3.
1 لعله عثمان بن موسى بن عبد الله الطائي الأربلي ثم الآمدي، إمام حطيم الحنابلة بالحرم الشريف تجاه الكعبة، كان شيخاً جليلاً عالماً فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً، أقام بمكة نحو خمسين سنة. توفي ضحى يوم الخميس 22 محرم سنة 674هـ، وخلفه ولده. انظر: ذيل طبقات الحنابلة2/286-287.
2 هو: أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي، البصري، المولود ببغداد، والمتوفى بها سنة 243هـ. أخذ عن الشافعي وغيره. كان صوفياً، وفقيهاً، ومتكلماً محدثاً، له مصنفات في أصول الدين، ورد على المعتزلة والرافضة والقدرية، وبعضها في الفقه وأحكامه، من مؤلفاته: رسالة المسترشدين. انظر: مقدمتها لعبد الفتاح أبو غده ص: 16 فما بعدها. الطبعة الثانية، المطبوعات الإسلامية، حلب.
3 المسودة لآل تيمية ص: 240، مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم 1-2/480.
قال ابن حزم:"وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته، إلا أن اضطراره ليس بمطرد، ولا في كل وقت، ولكن على قدر ما يتهيأ
…
فهذا قسم. والقسم الثاني من الأخبار: ما نقله الواحد عن الواحد، فهذا إذا اتصل برواية العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب العمل به، ووجب العلم بصحته أيضاً"1.
وقال ابن القيم:"فممن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم مالك2 والشافعي، وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه، كأبي محمد بن حزم ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي3، والحارث بن أسد المحاسبي.
1 الإحكام لابن حزم1-4/97.
2 ذكر ابن القيم أنها رواية عنه، وأنها اختارها جماعة منهم: ابن خويز منداد. انظر: مختصر الصواعق المرسلة1-2/484.
3 هو: أبو عليّ الحسين بن عليّ بن زيد الكرابيسي البغدادي، صاحب الإمام الشافعي وأشهر تلاميذه بحضور مجلسه وحفظه لمذهبه، له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه، عارف بالحديث، توفي سنة: 245هـ تقريباً اهـ من تعليق زكريا علي أبي يوسف على الإحكام لابن حزم1-4/134.
قال ابن خويز منداد1 في كتاب أصول الفقه - وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يروه إلا واحد واثنان - ويقع بهذا الضرب أيضاً العلم الضروري، نص على ذلك مالك. وقال أحمد في حديث الرؤية:2 نعلم أنها حق، ونقطع على العلم بها، وكذلك روى المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: ههنا اثنان يقولان: "إن الخبر يوجب عملاً، ولا يوجب علماً"، فعابه، وقال:"لا أدري ما هذا".
وقال القاضي: "وظاهر هذا أنه يسوي بين العلم والعمل إذا صح سنده ولم تختلف الرواية فيه، وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول فيه، وأنه يوجب العلم، وإن لم تتلقه بالقبول". قال: "والمذهب على ما حكيت لا غير"3".
1 هو: محمّد بن أحمد بن عبد الله أبو بكر بن خويز منداد. له كتاب كبير في الخلاف، كتاب في أصول الفقه، كتاب في أحكام القرآن، وله شواذ عن مالك، اختيارات كقوله: إن العبد لا يدخل في خطاب الأحرار. وقال: إن خبر الواحد يوجب العلم. وكان يجانب الكلام، وينافر أهله. انظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب لابن فرحون المالكي 2/229، تحقيق الدكتور محمّد الأحمدي أبو نور، مكتبة دار التراث القاهرة، وترتيب المدارك3-4/606، تحقيق أحمد بكير محمود منشورات مكتبة الحياة. بيروت.
2 انظر أحاديث الرؤية في صحيح مسلم1/112 فما بعدها، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري2/33 باب فضل صلاة العصر.
3 مختصر الصواعق المرسلة1-2/474-475.
وللحنفية في المشهور- الذي هو عندنا من الآحاد- رأيان:
أحدهما: أنه يفيد العلم اليقيني بطريق النظر والاستدلال، وبهذا قال: أبو بكر الجصاص1.
والثاني: أنه يفيد علم طمأنينة، فهو دون المتواتر وفوق الآحاد، وبه قال: عيسى ابن أبان، وصرح به السرخسي في أصوله، فجوزوا به الزيادة على كتاب الله تعالى التي هي عندهم نسخ، ومن أمثلته عندهم حديث المسح على الخفين2، وحديث الرجم3، وثمرة خلافهم في كونه يفيد علم اليقين، أو علم الطمأنينة هي: هل يكفر جاحده أو يضلل.
1 هو: أحمد بن عليّ أبو بكر الجصاص، إمام الحنفية في عصره، الفقيه الأصولي، له مؤلفات منها:"أحكام القرآن"، "أصول الجصاص في أصول الفقه"، "شرح مختصر الكرخسي" وغيرها، ولد سنة: 300هـ وتوفي سنة: 370هـ. انظر ترجمته في أوّل من كتابه "أحكام القرآن" ص: 4. طبعة مصورة عن الأولى، الناشر دار الفكر، بيورت، لبنان. الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/203-204.
2 البخاري مع الفتح1/305، صحيح مسلم1/156 فما بعدها. عن سعد بن أبي الوقاص رضي الله عنه.
3 الموطأ2/165 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، البخاري8/204 فما بعدها.
4 انظر تفاصيله في كشف الأسرار2/368.
قال ابن القيم: "وصرحت الحنفية في كتبهم بأن الخبر المستفيض يوجب العلم، ومثلوه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث "1، قالوا: ومع أنه إنما روى من طريق الآحاد. قالوا: ونحوه حديث ابن مسعود في المتبايعين إذا اختلفا، إن القول قول البائع أو يترادان2، قالوا: ونحوه حديث عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس3، قالوا: وكذلك حديث المغيرة بن شعبة ومحمّد بن مسلمة في إعطاء الجدة السدس4، فقد اتفق السلف على استعمال حكم هذه الأخبار حين سمعوها، فدل ذلك من أمرهم على صحة مخرجها، وسلامتها، وإن كان قد خالف فيها قوم، فإنها عندنا شذوذ ولا يعتد بهم في الإجماع.
1 جزء من حديث أبي أمامة، قال ابن حجر: أخرجه الأربعة إلا النسائي وإسناده قوي. قال وأخرجه أحمد وصححه الترمذي. الدراية في تخريج أحاديث الهداية2/290. وانظر فيض القدير شرح الجامع الصغير6/440.
2 الدارقطني3/20-21، تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني. المحاسن للطباعة. القاهرة. سنة: 1386هـ ـ 1966م.
3 الموطأ في كتاب الزكاة جزية أهل الكتاب والمجوس1/207، والشافعي في المسند وفي الرسالة، والبيهقي في السنن الكبرى، وابن المنذر، الدارقطني. انظر: تحفة الطالب لابن كثير ص: 337.
4 الموطأ1/335، الدارقطني2/154، ابن ماجة2/84، نيل الأوطار6/175، سبل السلام3/100، الكفاية ص:66.
قال: وإنما قلنا: ما كان هذا سبيله من الأخبار، فإنه يوجب العلم بصحة مخبره من قبل أنا إذا وجدنا السلف قد اتفقوا على قبول خبر هذا وصفه من غير تثبت فيه، ولا معارضة بالأصول، أو خبر مثله مع علمنا بمذاهبهم في قبول الأخبار، والنظر فيها، وعرضها على الأصول، دلنا ذلك من أمرهم على أنهم لم يصيروا إلى حكمه إلا من حيث ثبت عندهم صحته واستقامته، فأوجب لنا العلم بصحته. هذا لفظ أبي بكر الرازي في كتابه أصول الفقه1.
1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/475-476.
أدلة القائلين: بإفادة خبر الواحد العدل العلم
1-
"أنه لو لم يفد العلم لما جاز اتباعه، لنهيه تعالى عن اتباع الظن بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1، وذمه على اتباعه في قوله جل جلاله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ} 2، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. وقد انعقد الإجماع على وجوب الاتباع على ما تبيّن، فيستلزم إفادة العلم لا محالة"4. وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع الظن فيما ثبت عنه "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" 5.
2-
قال السرخسي: "إن العمل يجب بخبر الواحد، ولا يجب العمل إلا بعلم، قال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 6، ولأن الله تعالى قال في نبأ الفاسق:{أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} 7،وضد الجهالة
1 سورة الإسراء آية: 36.
2 سورة النجم آية: 28.
3 سورة البقرة آية: 169.
4 كشف الأسرار2/371.
5 الموطأ2/907، صحيح البخاري8/23.
6 سورة الإسراء آية: 36.
7 سورة الحجرات آية: 6.
العلم، وضد الفسق العدالة، ففي هذا بيان أن العلم إنما لا يقع بخبر الفاسق وأنه يثبت بخبر العدد.
ثم قد ثبت بالآحاد من الأخبار ما يكون الحكم فيه العلم فقط، نحو: عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، ورؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة. فبهذا ونحوه يتبين أن خبر الواحد موجب للعلم1.
3-
قوله جل شأنه: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 2، فقد أمرتعالى بأن تنفر من كل فرقة طائفة لتتفقه في الدين، وتنذر قومها إذا رجعت إليهم، وذلك يقتضي وجوب قبول إنذارها، ولفظ الطائفة - في لغة العرب التي بها خوطبنا- يقع على الواحد فصاعداً، وطائفة من الشيء بمعنى بعضه، هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة3.
1 أصول السرخسي1/329.
2 سورة التوبة آية: 122.
3 انظر تفاصيله في الإحكام لابن حزم1-4/98.
وذكر ابن حجر أن البخارى يريد من سياق قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} أن لفظ"طائفة" يتناول الواحد فما فوقه، ولا يختص بعدد معين. وهو منقول عن ابن عباس وغيره كالنخعي ومجاهد نقله الثعلبي وغيره. وعن عطاء وعكرمة وابن زيد أربعة، وعن ابن عباس أربعة إلى أربعين، وعن مالك أن الأربعة أقل من يحضر رجم الزاني، وعن الراغب أن لفظ طائفة يراد بها الجمع والواحد طائفة، ويراد بها الواحد. قال البخاري: ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 1، فلو اقتتل رجلان دخلا، في معنى الآية2.
قال ابن حجر:"وهذا الاستدلال سبقه إلى الحجة به الشافعي، وقبله مجاهد، ولا يمنع ذلك قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3، لكون سياقه يشعر بأن المراد أكثر من واحد، لأنا لم نقل أن الطائفة لا تكون إلا واحداً"4. والطائفة وإن اختلفوا في عدد ما تطلق عليه، فما ذكروه من الأعداد فيها، لا يخرج قوله عند الجمهور عن كون خبره خبر آحاد.
1 سورة الحجرات آية: 9.
2 انظر: فتح الباري13/234، مع تصرف.
3 سورة النور آية: 2.
4 فتح الباري13/234.
4-
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} 1 الآية، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} 2، في هاتين الآيتين نهى لكل واحد عن الكتمان، وأمر بالبيان على ما هو الحكم في الجمع المضاف إلى جماعة أنه يتناول كل واحد منهم، ولأن أخذ الميثاق من أصل الدين. والخطاب للجماعة بما هو أصل الدين يتناول كل واحد من الآحاد، ومن ضرورة توجه الأمر بالإظهار على كل واحد أمر السامع بالقبول منه والعمل به، إذ أمر الشارع لا يخلو من فائدة حميدة، ولا فائدة في النهي عن الكتمان، والأمر بالبيان سوى هذه. ولا يدخل عليه الفاسق، فإنه داخل في عموم الأمر بالبيان، ثم لا يقبل بيانه في الدين لأنه مخصوص من هذا النص بنص آخر، وهو ما فيه أمر بالتوقف في خبر الفاسق، ثم هو مزجور عن اكتساب سبب الفسق مأمور بالتوبة عنه، ثم يترتب البيان عليه، فعلى هذا الوجه بيانه يفيد وجوب القبول والعمل به3.
1 سورة البقرة آية: 159.
2 سورة آل عمران آية: 187.
3 أصول السرخسي1/322، كشف الأسرار2/371-372.
5-
قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1، أمر بسؤال أهل الذكر، ولم يفرق في المأمورين بين المجتهد وغيره، وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الأخبار بما سمع دون الفتوى، لأن المجتهد لا يقلد غيره، ولو لم يكن القبول واجباً، لما كان السؤال واجباَ.
6-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} 2 الآية، أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله، ومن أخبر عن رسول الله بها سمعه، فقد قام بالقسط وشهد لله، وكان ذلك واجباً عليه بالأمر، وإنما يكون واجباً، لو كان القبول واجباً، وإلا كان وجوب الشهادة كعدمها، وهو ممتنع3.
7-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 4، وقال:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 5، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بلغوا
1 سورة النحل آية: 43.
2 سورة النساء آية: 135.
3 كشف الأسرار2/372.
4 سورة المائدة آية: 67.
5 سورة النور آية: 54.
عني" 1، وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة: " أنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ " قالوا: "نشهد إنك قد بلغت وأبديت ونصحت" 2، ومعلوم أن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلغ ويحصل به العلم، فلوكان خبر الواحد لا يحصل به العلم لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العباد، فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه فتقوم الحجة على من بلغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله وسننه، ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو دون عدد التواتر، وهذا من أبطل الباطل. فيلزم من قال: إن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم أحد أمرين:
إما أن يقول: إن الرسول لم يبلغ غير القرآن وما رواه عنه عدد التواتر، وما سوى ذلك لم تقم به حجة ولا تبليغ.
1 البخاري مع الفتح6/496 عن عبد الله بن عمرو، تحفة الأحوذي شرح الترمذي7/431 فما بعدها.
2 صحيح مسلم4/41، جزء من حديث جابر بن عبد الله.
وإما أن يقول: إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علماً ولا يقتضي عملاً، وإذا بطل هذان الأمران بطل القول بأن أخباره صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد علماً، وهذا ظاهر لا خفاء به1.
8-
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} 2، ومن المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة، ومعلوم يقيناً أنه ما أتى كل واحد بنفسه فبلغه مشافهة، ولكنه بلغ قوماً بنفسه، وآخرين برسول أرسله إليهم، وآخرين بكتاب، وكتبه إلى ملوك الآفاق مشهورة، لا يمكن إنكارها، فقد بعث صلى الله عليه وسلم لكل ملك من ملوك الأرض المجاورين لبلاد العرب كتاباً يدعوه فيه هو وقومه إلى الإسلام، وقد ألزم كل ملك ورعيته قبول ما أخبرهم به الرسول الموجه إليهم من شرائع دينهم.
من ذلك ما أرسله مع دحية الكلبي رضي الله عنه إلى هرقل، ولفظه: " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله
1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/497-498.
2 سورة السبأ آية: 28.
أجرك مرتين، وإن توليت فعليك إثم الأريسيين" 1، "ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون "2.
وقد صرح النووي رحمه الله-بأن دعاية الإسلام هي: كلمة التوحيد3، ولم ينقل عن هرقل أنه قال لدحية: إن خبرك خبر آحاد، وإنما نقل عنه أنه قال:"فسيملك موضع قدمي هاتين"4، ولولم يكن خبر الواحد حجة، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغاً رسالات ربه بهذه الطريقة إلى الناس كافة.
9-
قال ابن حزم: قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} 5، وقال تعالى آمراً لنبيّه
1 اختفلوا في المراد بهم على أقوالٍ أصحها وأشهرها الأكارون أي: الفلاحون والمزارعون، معناه: عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك ونبه بهم على جميع الرعية لأنهم الأغلب، والأسرع اتباعاً اهـ النووي شرح مسلم12/109.
2 صحيح مسلم مع شرح النووي12/103، صحيح البخاري1/8.
3 شرح النووي لصحيح مسلم12/110.
4 صحيح البخاري1/8 فما بعدها، وهو جزء من حديث أبي سفيان مع هرقل.
5 سورة النجم آية: 3-4.
صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيّ} 1 وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2. وقال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 3.
فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون أن لا يضيع منه وأن لا يحرف منه شيء أبداً، تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه، إذ لوجاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذباً وضمانه خائساً4، وهذا لا يخطر ببال ذى مسكة عقل، فوجب أن الدين الذى أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل من طلبه ممن يأتي أبداً إلى انقضاء الدنيا. قال تعالى:{لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 5.
1 سور الأحقاف آية: 9.
2 سورة الحجر آية: 9.
3 سورة النحل آية: 44.
4 هو الذي فسد وتغير.
5 سورة الأنعام آية: 19.
فإذ ذلك كذلك فبالضرورة ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول صلى الله عليه وسلم في الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطاً لا يتميز عن أحد من الناس بيقين إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ، ولكان قول الله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1كذباً ووعداً مخلفاً، وهذا لا يقوله مسلم.
فإن قال قائل: إنما عنى الله تعالى بذلك القرآن وحده فهو الذي ضمن تعالى حفظه، لا سائر الوحي الذي ليس قرآناً. قلنا له، وبالله تعالى التوفيق: هذه دعوى كاذبة مجردة عن البرهان، وتخصيص للذكر بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل لقوله تعالى:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2. فصح أن من لا برهان له على دعواه فليس بصادق فيها، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحي بيّن به القرآن، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} 3.
1 سورة الحجر آية: 9.
2 سورة النمل آية: 64
3 سورة النجم آية: 3-
10-
وأيضاً فإن الله تعالى يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1، فصح أنه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم مما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، لكن ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه، فقد بطل الانتفاع بنص القرآن، فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه، فإذا لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها، فما أخطأ فيه المخطيء أو تعمد فيه الكذب الكاذب ومعاذ الله من هذا2.
11-
حث النبي صلى الله عليه وسلم على استماع الحديث منه، وحفظه وتأديته لإقامة الحجة على من بلغ إليه، ولا تقوم الحجة إلا بما يفيد العلم، ويدل لهذا ما رواه الشافعي رحمه الله عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيهٍ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم". قال: فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرءا يؤديها والامرء -هكذا-واحد، دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا
1 سورة النحل آية: 44.
2 الإحكام لابن حزم1-4/109-110.
من تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال، وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا.
قال: ودل على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه، يكون له حاففاً، ولا يكون فيه فقيهاً. وأمر رسول الله بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في أن إجماع المسلمين- إن شاء الله- لازم1.
12-
ما تواتر من بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه وسعاته إلى البلاد، المفتوحة لتعليم أهلها الدين وأحكام الشرع ولأخذ الزكاة. ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا من تقوم به الحجة، فكانوا يقبلون من كل واحد منهم ما يعلمهم من القرآن وأحكام الدين، ولا خلاف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث من بعث من رسله إلى الآفاق لينقلوا إليهم عنه القرآن، والسنة والشرائع. ومعلوم أن أهم أمور الدين إنها هو العقيدة، فهي أول شيء كان الرسل يدعون الناس إليه، ويدل لذلك ما أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معاذاً رضي الله عنه قال:"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنك تأتي قوماً
1 الرسالة للإمام الشافعي ص:175، والحديث أخرجه الترمذي في باب العلم، والضياء في مختارة عن زيد بن ثابت قال الترمذي: صحيح. وقال ابن حجر في تخريج المختصر: حديث زيد بن ثابت هذا صحيح أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان وابن أبي حاتم والخطيب وأبو نعيم والطيالسي والترمذي، وفي الباب عن معاذ بن جبل، وأبي الدرداء وأنس وغيرهم. وقال في موضع آخر: صحيح المتن وإن كان بعض أسانيده معلولاً اهـ من فيض القدير للمناوي شرح الجامع الصغير6/285.
من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب "1.
وجاء في حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا: "الله ورسوله أعلم"، قال: " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس "، ونهاهم عن أربع.... وقال: " احفظوهن، وأخبروا بهن من وراءكم "2.
فهذان حديثان دالان على وجوب الأخذ بالآحاد في العقائد، وذلك مما يقتضي إفادة العلم عند الجمهور.
13-
اتفاق الصحابة والتابعين على أن من نزلت به النازلة منهم سأل الصاحب عنها وأخذ بقوله فيها بروايته له من النبي صلى الله عليه وسلم، "فصح بهذا إجماع الأمة كلها على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
1 صحيح مسلم1/37-38، صحيح البخاري9/140.
2 صحيح البخاري1/21-22، صحيح مسلم1/35 فما بعدها.
وأيضاً فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم يجري على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة والخوارج1 والشيعة2 والقدرية3 حتى حدث متكلمو المعتزلة4 بعد المائة من
1 هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه أوّل الأمر على معاوية وأهل الشام إلى أن أوشك على الانتصار عليهم طلب معاوية التحكيم فحمل الخوارج عليّاً على الاستجابة، وعلى إنابة أبي موسى الأشعري، ولما تم ما حصل في التحكيم خرجوا على عليّ وادعوا كفره لتحكيمه الرجال، واجتمعوا بحروراء ناحية من الكوفة برآسة عبد الله بن الكواء وعتاب بن الأعور وعبد الله بن وهب، فأولهم ذو الخويصرة، وآخرهم ذو الثدية. انظر: الملل والنحل2/23 فما بعدها.
2 هم الذين شايعوا عليّاً على الخصوص، وقال بإمامته نصاً، ووصاية، إما خفياً، أو جليّاً، وادعوا أن الخلافة لا تخرج عن أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقيّه من عنده، وهم فرق. انظر: الملل والنحل للشهرستاني مع الفصل2/68-69.
3 فرقة ضالة تقول: إن أفعال العباد محدثة فعلها فاعلوها ولم يخلقها الله عز وجل. وأوّل من قال ذلك: معبد الجهني وغيلاني الدمشقي ثم سلك سبيلهم واصل بن عطاء العزال. انظر: الملل والنحل مع الفصل1/68-74، الفصل3/41.
4 المعتزلة يسمون أصحاب العدل، والتوحيد، ويلقبون بالقدرية. وقد جعلوا لفظ القدر مشتركاً بين القدر خيره وشرّه من الله تعالى هرباً مما ألصق بهم مما قالوه من أن الله لا يخلق فعل العبد، وقد نوه عنهم حديث:"القدرية مجوس هذه الأمة". وقد قالوا بخلق القرآن، ونفوا رؤية الله تعالى بالأبصار يوم القيامة، وأولوا آيات الصفات. انظر: الملل والنحل مع الفصل1/65-68، والفصل3/41، العقدية الطحاوية مع شرحها ص: 215
التاريخ، فخالفوا الإجماع في ذلك"1.
14-
ما ورد من الوعيد في حقّ من خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2، فالضمير في قوله {عَنْ أَمْرِهِ} راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إلى الله تعالى، ولا منافاة، لأن الأمر لله تعالى في الحقيقة، والرسول مبلغ عن الله، وهو المقصود هنا3.
قال الألوسي: "والمخالفة كما قال الراغب: أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو فعله، والأكثر استعمالها بدون عن. فيقال: خالف زيد عمراً، وإذا استعملت بعن فذلك على تضمين معنى الإعراض"4.
قال: "وقيل: على تضمين معنى الصد. وقيل: إذا عدى بعن يراد به الصد دون التضمين، ويتعدى إلى مفعولين بنفسه، يقال: خالف زيداً
1 الإحكام لابن حزم1-4/102.
2 سورة النور آية: 63.
3 انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمّد الأمين بن محمّد المختار الشنقيطي رحمه الله:6/255، مطبعة المدني مصر.
4 روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي28/76.
عن الأمر، أي صده عنه، والمفعول عليه هنا محذوف، أي يخالفون المؤمنين أي يصدونهم عن أمره. وحذف المفعول، لأن المراد تقبيح حال المخالف، وتعظيم أمر المخالف عنه، فذكر الأهم، وترك ما لا اهتمام به"1.
واستدل ابن القيم رحمه الله بالآية على إفادة خبر الواحد العلم فقال:"وهذا يعم كل مخالف بلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ولوكان ما بلغه، لم يفد علماً، لما كان متعرضاً بمخالفته ما لا يفيد علماً للفتنة والعذاب الأليم، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذر"2. وهذه الآية الكريمة قد استدل بها الأصوليون على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، لأنه جل وعلا توعد المخالفين عن أمره بالفتنة أو العذاب الأليم، وحذرهم من مخالفة الأمر. وكل ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب، مالم يصرف عنه صارف، لأن غير الواجب لا يوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب دلت عليه آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {وَإِذَا
1 نفس المصدر28/76، وانظر أضواء البيان6/252-253.
2 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة1-2/500.
قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} 1، فإن قوله:{ارْكَعُوا} أمر مطلق، وذمه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله {لا يَرْكَعُونَ} يدل على أن امتثاله واجب.
وكقوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 2، فإنكاره تعالى على إبليس موبخاً له بقوله:{مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} ألا تسجد إذ أمرتك يدل على أنه تارك واجباً، وأن امتثال الأمر واجب، مع أن الأمر المذكور مطلق، وهو قوله:{اسْجُدُوا لآدَمَ} 3.
وكقوله عن موسى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} 4، فسمى مخالفة الأمر معصية، وأمره المذكور مطلق، وهو قوله:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} 5.
1 سورة المرسلات آية: 48.
2 سورة الأعراف آية: 12.
3 سورة الأعراف آية: 11.
4 سورة طه آية: 93.
5 سورة الأعراف آية: 142.
وكقوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 1. وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدلّ على أن مخالفه عاص، ولا يكون عاصياً إلا بترك واجب، أو ارتكاب محرم.
وكقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2، فإنه يدل على أن أمر الله وأمر رسوله مانع من الاختيار موجب للامتثال، وذلك يدل على اقتضائه الوجوب. وأشار إلى أن مخالفته معصية بقوله:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 3. واقتضاء الأمر المطلق الوجوب هو مذهب الجمهور، وإن خالف فيه بعض العلماء، ومن أراد تحقيق ذلك فليرجع إليه في محله، إذ غرضنا إنما هو بيان وجوب طاعة رسول الله رضي الله عنه في كل ما صح نقله عنه المقتضي إفادة العلم على ما ذهب إليه القائلون بذلك.
1 سور التحريم آية: 6.
2 سورة الأحزاب آية: 36.
3 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن6/253، والآية من سورة الأحزاب آية:36.
15-
"أن الرسل - صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم - كانوا يقبلون خبر الواحد، ويقطعون بمضمونه، فقبله موسى من الذي جاء من أقصى المدينة قائلا له:{إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} 1، فخرج بخبره وخرج هارباً من المدينة، وقبل خبر بنت صاحب مدين لما قالت له:{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} 2. وقَبِلَ خبر أبيها في قوله: هذه ابنتي، وتزوجها بخبره.
وقبل يوسف الصديق خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك، وقال:{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} 3.
وقبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر الآحاد الذين كانوا يخبرونه بنقض عهد المعاهدين له وغزاهم بخبرهم، واستباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم.
ورسل الله صلواته وسلامه عليهم، لم يرتبوا على تلك الأخبار أحكامها، وهم يجوزون أن تكون كذباً وغلطاً، وكذلك الأمة لم تثبت الشرائع العامة الكلية بأخبار الآحاد، وهم يجوزون أن يكون كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الأمر، ولم يخبروا عن الرب تبارك وتعالى في أسمائه
1 سورة القصص آية: 20.
2 سور القصص آية: 25.
3 سورة يوسف آية: 50.
وصفاته وأفعاله بما لا علم لهم به، بل يجوز أن يكون كذباً وخطأ في نفس الأمر، هذا مما يقطع ببطلانه كل عالم متبصر"1.
16-
"أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وفعل كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وهذ معلوم في كلامهم بالضرورة.
وفي صحيح البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من صحابي غيره، وهذه شهادة من القائل وجزم على الرسول صلى الله عليه وسلم بما نسبه إليه من قول أو فعل، فلوكان خبر الواحد لا يفيد العلم، لكان شاهداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم.
17-
أن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك جزم منهم بأنه قاله، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين: إن المراد بالصحة صحة السند لا صحة المتن، بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم، وإنما كان مرادهم صحة الإضافة إليه، وأنه قال، كما كانوا يجزمون بقولهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر ونهى وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك يقولون: يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى عنه، ونحو ذلك، ومن له خبرة
1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/503.
بالحديث يفرق بين قول أحدهم: هذا الحديث صحيح وبين قوله: إسناده صحيح، فالأوّل جزم بنسبة صحته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني شهادة بصحة سنده، وقد يكون فيه علة، أو شذوذ، فيكون سنده صحيحاً ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه1.
اعتراض الجمهور على القائلين بإفادة خبر الواحد العلم
اعترض الجمهور على القائلين بأن خبر الآحاد العدل المستوفي لشروط القبول يفيد العلم بما سبق أن استدلوا به في الفصل الأوّل على إفادته الظن. وأهم ما اعترضوا به هو:"أنك لو سئلت عن أعدل رواة خبر الواحد أيجوز في حقه الكذب والغلط؟ لاضطررت أن تقول: نعم، فيقال: قطعك إذن بصدقه مع تجويزك عليه الكذب والغلط لا معنى له"2.
وأجيب عنه بأنا وإن كنا لا ندعي عصمة الرواة، إلا أنا نقول: إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها، فلا بد أن يكون في الأمة من يكشف غلطه وكذبه وسهوه، وهذا هو واقع السنة المطهرة بحمد الله، فقد قيض الله لها من جهابذة العلماء ذوي الصدق والورع والتحري من دوّنها في الأسفار، وبين صحيحها، وضعيفها، والموضوع منها. كما صنفوا في
1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/496-487.
2 مذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص: 103.
الرواة مصنفات مكنتنا ومن يأتي بعدنا إلى يوم القيامة من التمكن من معرفة صحة ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان العلماء اليوم يمكنهم الحكم على الحديث بالصحة حتى يقول أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بالك بمن أفنى معظم أوقاته وأيامه مشتغلاً بالحديث والبحث عن سيرة النقلة والرواة، ليقف على رسوخهم في هذا العلم وكبير معرفتهم به، وصدق ورعهم في أقوالهم وأشعالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر والبحث عن أحوال الرواة، والوقوف على صحيح الأخبار وسقيمها، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة واحدة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك، وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، وأدوا كما أدى إليهم، وكانوا في العناية والاهتمام بهذا الشأن ما يجل عن الوصف ويقصر دونه الذكر، فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم وعرف حالهم وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه1.
قال ابن حزم: "فنقول لمن قال: إن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجب العلم، وأنه يجوز فيه الكذب والوهم، وأنه غير مضمون الحفظ، أخبرونا هل يمكن عندكم أن تكون شريعة فرض أو
1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/507.
تحريم أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات عنها وهي باقية لازمة للمسلمين غير منسوخة، فجهلت حتى لا يعلمها علم يقين أحد من أهل الإسلام في العالم أبداً، وهل يمكن عندكم أن يكون حكم موضوع بالكذب أو بخطأ بالوهم قد جاز ومضى واختلط بأحكام الشريعة اختلاطاً لا يجوز أن يميزه أحد من أهل الإسلام في العالم أبداً، أم لا يمكن عندكم شيء من هذين الوجهين؟ فإن قالوا: لا يمكننا أبداً، بل قد أمنا ذلك، صاروا إلى قولنا وقطعوا أن كل خبرٍ رواه الثقة عن الثقة مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الديانة فإنه حق قد قاله عليه السلام كما هو، وأنه يوجب العلم، ونقطع بصحته، ولا يجوز أن يختلط به خبر موضوع أو موهوم فيه لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم قط اختلاطاً لا يتميز الباطل فيه من الحق أبداً.
وإن قالوا: بل كل ذلك ممكن، كانوا قد حكموا بأن الدين دين الإسلام قد فسد وبطل أكثره واختلط ما أمر الله تعالى به مع مالم يأمر به اختلاطاً لا يميزه أحد أبداً. وأنهم لا يدرون أبداً ما أمرهم به الله تعالى مما لم يأمرهم به، ولا ما وضعه الكاذبون والمستخفون مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالظن الذي هو أكذب الحديث، والذي لا يغني من الحق شيئاً. وهذا انسلاخ من الإسلام، وهدم للدين، وتشكيك في الشرائع"1.
1 الإحكام لابن حزم1-4/110-111.
هذا، وإن مما استدل به القائلون بإفادة خبر الواحد العلم، ما استدل به الجمهور على وجوب العمل به، مما سيأتي تفصيله - إن شاء الله- في باب وجوب العمل به.
العلم بمعنى الظاهر:
ذهب بعض القائلين بإفادة خبر الواحد العلم إلى أن المراد بالعلم فيه هو العلم الظاهر، وممن نقل عنه ذلك الحسين بن علي الكرابيسي، وأبو بكر القفال، وصرح به السرخسي أثناء استدلاله على وجوب العمل بخبر الواحد حيث قال: "فإنه عندنا عمل هو ثابت من حيث الظاهر، ولكنه غيرمقطوع به، وقد سمى الله تعالى مثله علماً، فقال:{وَمَا شَهِدْنَا إلَاّ بِمَا عَلِمْنَا} 1، وإنما قالوا ذلك سماعاً من مخبر أخبرهم به، وقال:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} 2وإنما قالت ذلك باعتبار غالب الرأي واعتماد نوع من الظاهر، فدل على أن مثله علم لا ظن إنما الظن عند خبر الفاسق، ولهذا أمر الله بالتوقف في خبره، وبين المعنى فيه بقوله:{أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} 3فيكون بالتوقف في خبره ذلك بياناً أن من اعتمد خبر العدل
1 سورة يوسف آية: 81.
2 سورة الممتحنة آية: 10.
3 سورة الحجرات آية: 6.
في العمل به يكون بعلم لا بجهالة، إلا أن ذلك علم باعتبار الظاهر، لأن عدالته ترجح جانب الصدق في خبره"1.
واعترض عليه بأن العلم ليس له ظاهر وباطن، وبأن العلم في الآَية محمول على"الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات، وإنما سماه علماً إيذاناً بأنه كالعلم في وجوب العمل به"2.
ونقل الخطيب البغدادي عن القاضي أبي بكر محمد بن الطيب أنه قال:"فأما من قال من الفقهاء: إن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر دون الباطن، فإنه قول من لا يحصل علم هذا الباب، لأن العلم من حقه أن لا يكون علماً على الحقيقة بظاهر أو باطن، إلا بأن يكون معلومه على ماهو به ظاهراً وباطناً، فسقط هذا القول".
قال: "وتعلقهم في ذلك بقوله عز وجل: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} 3 بعيد، لأنه أراد تعالى وهو أعلم، فإن علمتموهن في إظهارهن الشهادتين،
1 أصول السرخسي1/326-327، وانظر فتح المغيث للسخاوي شرح ألفية العراقي في المصطلح1/21، تحقيق عبد الرحمن عثمان، الناشر المكتبة السلفية لمحمّد عبد المحسن، الطبعة الثانية، مطبعة العاصمة، القاهرة، وتوضيح الأفكار1/26، الطبعة الأولى سنة: 1366هـ. مطبعة السعادة.
2 تفسير البيضاوي ص: 731.
3 سورة الممتحنة آية: 10.
ونطقهن بهما، وظهور ذلك منهن معلوم يدرك إذا وقع، وإنما سمى النطق إيماناً على معنى أنه دال عليه، وعلم في اللسان على إخلاص الاعتقاد ومعرفة القلب مجازاً واتساعاً، ولذلك نفى الله تعالى الإيمان عمن علم أنه غير معتقد له في قوله:{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 1، أي قولوا أسلمنا فزعاً من أسيافهم"2.
وأجاب عنه الصنعاني بقوله: "كيف يقال: إنه قول من لا يحصل علم هذا الباب؟ على أنه لا يخفى أن من أخبر عن نفسه بأنه حصل له العلم بأي سبب من الأسباب المحصلة له يصدق في نفسه.
وأما حكمه بأنه يحصل لغيره ما حصل له من العلم بذلك السبب، فهذه دعوى على الغير مستندها القياس على النفس واختلاف الإدراكات معلوم، فلا يكاد يستوي اثنان في رتبة.
فالقول: بأن هذا السبب الفلاني مثلاً يفيد العلم أو لا يفيده، لكل من حصل له ليس بمقبول"3.
1 سورة الحجرات آية: 14.
2 الكفاية في علم الرواية للخطيب ص: 65.
3 توضيح الأفكار لمحمّد بن إسماعيل الأمير1/28، الطبعة الأولى سنة: 1366هـ. مطبعة السعادة، تحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد.
وأما استبعاده التعلق بقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} فهو خلاف الظاهر، لأن الأصل حمل اللفظ على ظاهره مالم يأت دليل يدل على صرفه عن ظاهره، ولم يذكر ما يصرف اللفظ هنا عن ظاهره، بل في السياق ما يدل على إرادة الظاهر وذلك ما ورد في سياق الآية من ترتيب العلم على الامتحان بالنطق بالشهادتين في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} الَاية.
قال ابن كثير:"فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقيناً"1.
وأما استدلاله بقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} على اعتبار المجاز في الآية الأولى، فيعكره ما ورد من تفسير الآية الثانية في أحد وجهي التفسير فيها أن المراد بنفي الإيمان في قوله:{لَمْ تُؤْمِنُوا} نفى كمال الإيمان لا نفيه من أصله. وعليه فلا إشكال، لأنهم مسلمون مع أن إيمانهم غيرتام، وهذا لا إشكال فيه عند أهل السنة والجماعة القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص"2.
1 تفسير ابن كثير4/350، الناشر عبد الفتاح عبد الحميد مراد. الحلبي، مصر.
2 أصواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن7/638.
هل معنى هذا أنه يفيد العلم؟
الحق أن ما ذكره الجمهور من احتمال غلط الراوي ووهمه وارد قطعاً لعدم عصمته، وأن جانب صدق الراوي وإن كان راجحاً، وسلم عدم إفادته العلم اليقيني لهذا الاحتمال، فإن العمل بكل ما دل عليه الحديث الصحيح السالم من معارض واجب، سواء كان في الأحكام، أم في العقائد، لأن العمل به هو مقتضى ما دل عليه ظاهر الكتاب العزيز من وجوب طاعة رسول الله لم تؤمنوا، واتباعه في كل ما جاء به، سواء كان في العقائد أم الأحكام كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 1، فقد ذكر ابن جرير الطبري في تفسيرها أن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله، لأنها طاعة لله وذلك باتباع سنته.
قال: "وذلك أن الله عم بالأمر بطاعته، ولم يخص ذلك في حال دون حال، فهو على العموم حتى يخص ذلك بما يجب التسليم له"2.
وكذلك مثلها من الآيات التي يدل عمومها على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا
1 سورة النساء آية: 59.
2 جامع البيان في تأويل القرآن5/147.
فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 1. فالأخذ بعمومهما وما كان على مثلهما من آيات القرآن، وهو كثير هو مقتضى ما نقله الجمهور من إجماع السلف2 على العمل بأخبار الآحاد. وما ادعاه المفرق بين ما يعمل به من السنة في الأحكام دون العقائد يحتاج إلى دليل من كتاب أو سنة أو إجماع قطعي، لأن الله تعالى يقول:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3، والتحاكم هنا إنما هو لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لقوله جل جلاله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 4، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى سنته. ونحن إذا رجعنا إليهما نجد أن ظاهرهما يوجب العمل بكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم من معارض من غير تفريق فيما دل عليه سواء كان في العقائد، أم الأحكام.
1 سورة النور آية: 54.
2 الإحكام للآمدي2/57، المعتمد2/591، المستصفى1/148، المنار وحواشيه ص: 621، الأسنوي لى منهاج الصول2/238، وروضة الناظر ص:53.
3 سورة النمل آية: 64.
4 سورة النساء آية: 59.
قال ابن كثير في تفسير الآية: "قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 1. فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق. وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولهذا قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمناً بالله، ولا باليوم الآخر"2. وسيأتي لهذا زيادة بيان -إن شاء الله - في أثر الاختلاف3.
1 سورة الشورى آية: 10.
2 تفسير ابن كثير1/518.
3 انظر ص: 117 فما بعدها من هذا البحث.