الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال إسحاق بن راهويه: حدّثنا بشر بن عمر: سمعت غير واحد من المفسّرين يقولون: " {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : أي ارتفع"1.
وقال البخاري في صحيحه: قال أبو العالية: "استوى إلى السماء: ارتفع"، قال: وقال مجاهد: "استوى: علا على العرش"2.
وقال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور: "وقال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: استوى إلى السماء: ارتفع إلى السماء، وكذلك قال الخليل بن أحمد"3.
وروى البيهقي في كتاب الصفات قال: قال الفرّاء: "ثم استوى، أي صعد، قاله ابن عباس، وهو كقولك للرجل: كان قاعداً فاستوى قائماً"4.
وروى الشافعي في مسنده عن أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة: "وهو اليوم الذي استوى فيه ربّكم على العرش"5.
1 أورده الذهبي في العلو، وقال الألباني - حفظه الله - (ص:160 مختصره) :"وهذا إسناد صحيح مسلسل بالثقات الحفاظ
…
".
2 صحيح البخاري (13/403 الفتح) .
3 تفسير البغوي (1/59) .
4 الأسماء والصفات (2/310) .
5 مسند الشافعي (ص:70 71)، ورواه الذهبي في العلو من طريق الشافعي (ص:29 30) ثم قال: "إبراهيم وموسى ضعفاء، أخرجه الإمام محمد بن إدريس في مسنده، وقد أخرجه الدارقطني من طريق حمزة بن واصل المنقري، عن قتادة، عن أنس، ومن طريق عنبسة الرازي، عن أبي اليقظان عثمان بن عُمير، عن أنس، عن ابن محمد بن شعيب بن سابور، عن عمر مولى عفرة، عن أنس.
وأخرجه القاضي أبو أحمد العسّال في كتاب المعرفة له عن رجال، عن جرير ابن عبد الحميد، عن ليث بن أبي سليم، عن عثمان بن أبي حميد وهو أبو اليقظان عن أنس، ورواه من طريق سلام بن سليمان، عن شعبة وإسرائيل وورقاء، عن ليث أيضاً.
وساقه الدارقطني من رواية شجاع بن الوليد، عن زيادة بن خيثمة، عن عثمان ابن أبي سليمان، عن أنس، والظاهر أنَّ عثمان أبو اليقظان، وحدّث به الوليد ابن مسلم، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن سالم بن عبد الله، عن أنس ابن مالك، وهذه طرق يعضد بعضها بعضاً، رزقنا الله وإيّاكم لذّةَ النظر إلى وجهه الكريم".
والتفاسير المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدُحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم، وتفسير أبي بكر بن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز، وتفسير أبي الشيخ الأصبهاني، وتفسير أبي بكر بن مردويه، وما قبل هؤلاء من التفاسير مثل تفسير أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم، وبقي بن مخلد وغيرهم، ومن قبلهم مثل تفسير عبد بن حميد، وتفسير سُنيد، وتفسير عبد الرزاق، ووكيع بن الجراح فيها من هذا الباب الموافق لقول المثبتين ما لا يكاد يُحصى، وكذلك الكتب المصنّفة في السنة التي فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين"1.
وجاء عن الخليل بن أحمد قال: "أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت وكان على سطح فلما رأيناه أشرنا إليه بالسلام، فقال: استووا، فلم ندر ما قال، فقال لنا شيخ عنده: يقول لكم: ارتفعوا، قال الخليل: هذا من قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ} " 2، أي: ارتفع وعلا3.
والاستواء سواء عُدّيَ بـ"إلى" أو بـ"على" فمعناه العلو والارتفاع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله: "ومن قال: استوى بمعنى عَمَدَ، ذكره في قوله:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ} ؛ لأنَّه عُدي بحرف الغاية، كما يقال: عمدت إلى كذا، وقصدت إلى كذا، ولا يقال: عمدت على كذا ولا قصدت عليه، مع أنَّ ما ذُكر في تلك الآية لا يُعرف في اللغة أيضاً، ولا هو قول أحد من
1 درء تعارض العقل والنقل (2/20 22)، وانظر أيضاً: مجموع الفتاوى (5/518 وما بعدها) .
2 سورة فصّلت، الآية:(11) .
3 أورده الذهبي في العلو (ص:171 مختصره) .
مفسريّ السلف؛ بل المفسِّرون من السلف قولهم بخلاف ذلك - كما قدّمناه عن بعضهم –"1، وقد حكى ابن القيم رحمه الله إجماع السلف على ذلك2.
فهذا ملخَّص معتقد أهل السنة والجماعة في هذه الصفة، ومن أراد الاطّلاع على كلام أهل العلم في هذه الصفة موسّعاً فليطالع الكتب التي أُفرِدت في ذلك وهي كثيرة جداًّ، وكما قال السفاريني رحمه الله:"وقد أكثر العلماء من التصنيف، وأجلبوا بخيلهم ورَجِلِهم من التأليف، في ثبوت العلوّ والاستواء ونبّهوا على ذلك بالآيات والحديث وما حوى، فمنهم الراوي الأخبارَ بالأسانيد، ومنهم الحاذفُ لها وأتى بكلِّ لفظٍ مفيدٍ، ومنهم المُطَوِّل المُسهِب، ومنهم المُختصِر والمتوسِّط والمهذِّب، فمن ذلك (مسألة العلوّ) لشيخ الإسلام ابن تيمية، و (العلوّ) للإمام الموفق صاحب التصانيف السنيّة، و (الجيوش الإسلاميّة) للإمام المحقق ابن قيِّم الجوزية، و (كتاب العرش) للحافظ شمس الدين الذهبي صاحب الأنفاس العليّة، وما لا أُحصي عدّهم إلاّ بكُلْفة، والله تعالى الموفِّق"3.
1 مجموع الفتاوى (5/521) .
2 مختصر الصواعق (ص:320) .
3 لوامع الأنوار البهيّة (1/195،196) .
وفي الصحيح في حديث الخوارج: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً"1، وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره "ربّنا الله الذي في السماء، تقدّس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتُك في السماء اجعل رحمتَك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفاءك على هذا الوجع" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء
…
"، وذكره2، إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلاّ الله، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية"3.
فليس لمسلمٍ يؤمن بوحي الله وتنزيله ويؤمن بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجحد شيئاً من ذلك أو يتعرَّض له بردٍّ أو تحريفٍ أو نحو ذلك، بل الواجب هو القبول والتسليم والإيمان والتعظيم، و"القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يُتجاوز القرآن والحديث.
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: "لا يوصف إلَاّ بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يُتجاوز القرآن والحديث"، ومذهب السلف أنّهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أنَّ ما وصف الله به من ذلك فهو حقٌّ ليس فيه لُغْزٌ ولا أحَاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلّم بكلامه، لا سيما إذا كان المتكلّم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم،
1 رواه البخاري (4351 الفتح) ، ومسلم (2/741) من حديث أبي سعيد الخدري.
2 رواه أحمد (6/21) ، وأبو داود (3892) .
3 مجموع الفتاوى (5/12 15) .
وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد، وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء، لا في نفسه المقدّسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقّن أنَّ الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإنَّ الله منزَّهٌ عنه حقيقة، فإنَّه سبحانه مستحقٌ للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم، ولافتقار المحدَث إلى محدِث، ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى.
ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثِّلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثِّلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله فيعطِّلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا ويحرِّفوا الكلم عن مواضعه ويلحدوا في أسماء الله وآياته، وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، أما المعطِّلون فإنَّهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلاّ ما هو اللاّئق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثّلوا أوّلاً وعطّلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقُّه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللاّئقة بالله سبحانه وتعالى"1.
ويمكن تلخيص الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها في ستة أقسام ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكل قسم منها عليه طائفة من أهل القبلة وهي:
1 مجموع الفتاوى (5/26،27) .
قسمان يقولان: تجرى نصوص الصفات على ظواهرها.
وقسمان يقولان: إنَّ نصوص الصفات على خلاف ظاهرها، أي ظاهرها غير مراد.
وقسمان: يسكتون.
أما الأولون فقسمان:
أحدهما: من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبِّهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف، وإليهم يتوجّه الردّ بالحق.
الثاني: من يجريها على ظاهرها اللاّئق بجلال الله، كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك على ظاهرها اللاّئق بجلال الله، فإنَّ ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إمَّا جوهر محدَث، وإمَّا عرَض قائم به.
فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراضٌ، والوجه واليد والعين في حقه أجسام، فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأنَّ له علماً وقدرةً وكلاما ومشيئة وإن لم يكن ذلك عرَضاً يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين.
وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضحٌ، فإنَّ الصفات كالذات، فكما أنَّ ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات
…
وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني الذين يقولون ليس لها في الباطن
مدلول هو صفة الله تعالى قط، وأنَّ الله لا صفة له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات وهي الصفات السبعة أو الثمانية أوالخمسة عشر أو يثبتون الأحوال دون الصفات، ويقرّون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث، على ما قد عرف من مذاهب المتكلّمين، فهؤلاء قسمان:
قسم: يتأوّلونها ويُعيِّنون المراد مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علوّ المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلِّمين.
وقسم: يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنَّه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه.
وأما القسمان الواقفان:
فقوم: يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللاّئق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك، وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.
وقوم: يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات.
فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها"1.
والصواب في ذلك هو طريق السلف الصالح رحمهم الله، إثباتُ ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسولُه صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ونفيُ ما نفاه الله عن نفسه وما نفاه عنه رسولُه صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب، إثباتٌ بلا تمثيلٍ وتنزيهٌ بلا تعطيلٍ على حدِّ قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
1 انظر: مجموع الفتاوى (5/112 117) .
المبحث الثالث: في بيان أهميّة القواعد وعظم نفعها في معرفة صفات الباري
لا ريب أنَّ معرفةَ القواعد والأصول والضوابط الكليّة الجامعة يُعدُّ من أعظم العلوم وأجلِّها نفعاً وأكثرها فائدةً، ذلك أنَّ "الأصول والقواعد للعلوم بمنزلة الأساس للبنيان والأصول للأشجار لا ثبات لها إلاّ بها، والأصول تبنى عليها الفروع، والفروع تثبت وتتقوّى بالأصول، وبالقواعد والأصول يثبت العلم ويقوى وينمي نماءً مطَّرداً، وبها تُعرف مآخذ الأصول، وبها يحصل الفرقان بين المسائل التي تشتبه كثيراً، كما أنَّها تجمع النظائر والأشباه التي من جمال العلم جَمعُها"1 إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة والمنافع الجليلة التي لا تحصى.
بل إنَّ "من محاسن الشريعة وكمالها وجمالها وجلالها: أنَّ أحكامَها الأصوليَّة والفروعية والعبادات والمعاملات وأمورها كلّها لها أصولٌ وقواعدُ تَضبِطُ أحكامَها وتَجمعُ مُتفرِّقَها وتَنشر فروعَها وتَردُّها إلى أصولها"2.
والقاعدة: هي أمرٌ كلّيٌّ ينطبق على جزئيّاتٍ كثيرةٍ تُفهم أحكامُها منها3.
فإذا ضُبطت القاعدةُ وفُهم الأصلُ أمكن الإلمام بكثيرٍ من المسائل التي هي بمثابة الفرع لهذه القاعدة، وأُمن الخلطُ بين المسائل التي قد تشتبه، وكان فيها تسهيلٌ لفهم العلم وحفظه وضبطه، وبها يكون الكلام مبنياًّ على علمٍ متينٍ وعدلٍ وإنصافٍ.
1 طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول للشيخ عبد الرحمن بن سعدي (ص:4) .
2 الرياض الناضرة للشيخ عبد الرحمن بن سعدي (ص:243) .
3 انظر: شرح الكوكب المنيّر للفتوحي (ص:6) .
ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا بُدَّ أنْ يكون مع الإنسان أصولٌ كليّةٌ تُردُّ إليها الجزئيّات؛ ليتكلّم بعلمٍ وعدلٍ، ثمّ يعرف الجزئيّات كيف وقعت، وإلاّ فيبقى في كذبٍ وجهلٍ في الجزئيّات، وجهلٍ وظُلمٍ في الكليّات فيتولّد فسادٌ عظيمٌ"1.
لأجل هذا عُني أهل العلم كثيراً بوضع القواعد وجَمعها في الفنون المختلفة، فلا تكاد تجد فناًّ من الفنون إلاّ وله قواعدُ كثيرةٌ وضوابطُ عديدةٌ تَجمع مُتَفرِّقَه، وتُزيل مشتَبهَه، وتُنير معالمَه، وتُيسِّر فهمَه وحِفظَه وضبطَه2، "ويحصل بها من النفع والفائدة على اختصارها ما لا يحصل في الكلام الطويل"3.
ولهذا فإنَّه يترتَّب على العناية بالقواعد المأثورة والأصول الكليّة المنقولة عن السلف الصالح رحمهم الله من الفوائد والمنافع ما لا يعلمه إلاّ الله؛ لأنَّ فيها كما يقال وضعُ النقاط على الحروف، وفيها تجليةٌ للأُمور، وتوضيحٌ للمسائل، وإزالةٌ للّبْس، وأَمْنٌ من الخَلْط، إلى غير ذلك من الفوائد.
1 الفتاوى (19/203) .
2 انظر: مقدمة الرسالة التي بعنوان: (فائدة جليلة في قواعد الأسماء الحسنى) المستلّة من بدائع الفوائد لابن القيِّم، بتحقيقي.
3 تفسير ابن سعدي (5/3) .
تشبيه آخر، وهو تشبيه الله بالممتنعات والمعدومات أو الجمادات، وذلك بحسب نوع تعطيلهم، وقد "برّأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنّته عن ذلك كلّه فلم يصفوه إلَاّ بما وصف به نفسه ووصفه به نبيُّه صلى الله عليه وسلم، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبّهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عمّا أنزلت عليه لفظاً ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباتهم بريًّا من التشبيه، وتنزيههم خليًّا من التعطيل لا كمن شبّه حتى كأنَّه يعبد صنماً، أو عطّل حتى كأنَّه لا يعبد إلَاّ عدَماً"1، والحمد لله رب العالمين.
1 فائدة جليلة في قواعد الأسماء الحسنى (ص:51) ، وهي مستلّة من بدائع الفوائد لابن القيم.
2 ذم التأويل لابن قدامة (ص:26) .
3 سورة: فاطر، الآية:(10) .
المبحث الثالث:
في معنى قوله "والإيمان به واجب" والضوابط المستفادة منه
لا ريب أنَّ الإيمان بالاستواء وغيره من صفات الباري سبحانه واجبٌ، وكذلك "الجحود به كفرٌ، لأنَّه ردٌ لخبر الله، وكفرٌ بكلام الله، ومن كفر بحرف متفق عليه فهو كافر، فكيف بمن كفر بسبع آيات وردَّ خبَرَ الله تعالى في سبعة مواضع من كتابه"2، وقد سبق أنْ مرّ معنا نصوصٌ كثيرةٌ في مبحث سابق فيها أوضح دلالة على وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة. و"كتاب الله من أوّله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أوّلها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوءٌ بما هو إمّا نصٌ وإمّا ظاهرٌ في أنَّ الله سبحانه وتعالى هو العليُّ الأعلى، وهو فوق كلِّ شيء، وهو على كل شيء، وإنَّه فوق العرش، وإنَّه فوق السماء، مثل قوله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 3، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
إِلَيَّ} 1، {أَأَمِنْتُمْ مَن فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} 2، {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} 3، {بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} 4، {تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 5، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 6، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 7، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} ، في ستّة مواضع8، {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاِت فَأَطِّلِعَ إِلَى إِلَهِ ُموَسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} 9، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 10، {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 11 إلى أمثال ذلك مما لا يحصى إلا بكلفة.
وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة، مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربّه12، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار:"فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم"13.
1 سورة: آل عمران، الآية:(55) .
2 سورة: الملك، الآية:(16) .
3 سورة: الملك، الآية:(17) .
4 سورة: النساء، الآية:(158) .
5 سورة: المعارج، الآية:(4) .
6 سورة: السجدة، الآية:(5) .
7 سورة: النحل، الآية:(50) .
8 سورة: الأعراف الآية: (54) ، ويونس، الآية:(3) والرعد، الآية:(2) ، والفرقان، الآية:(59) ، والسجدة، الآية:(4) ، والحديد، الآية:(4) .
9 سورة: غافر، الآيات:(36،37)
10 سورة: فصلت، الآية:(42) .
11 سورة: الأنعام، الآية:(114) .
12 رواها البخاري (349 الفتح) ، ومسلم (1/145) وغيرهما من حديث أنس.
13رواه البخاري (555) ،و (3223 الفتح) ،ومسلم (1/439) وغيرهما من حديث أبي هريرة.