الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجل سوء، صاحب بدعة"، وفرقٌ بين إطلاق الوصف على الشخص بأنَّه مبتدعٌ، وبين القول بأنَّه صاحب بدعة، ولو فُرض أنَّ الإمام مالكاً رحمه الله قد بدَّعه بعينه فإنَّه يُحمل على أنَّه عَلِم من حاله أنَّه وقع في الأمر المبتدَع على وجه لا يُعذر فيه، وممّا يقوِّي هذا أنَّ في بعض طرق القصة ما يشير إلى أنَّ هذا الرجل عنده شيء من التعنّت في هذه المسألة، وحبِّ الإثارة، والتمادي في الأمر، مما لا يكون إلَاّ في أهل الأهواء والبدع، ففي رواية سفيان للقصة: قال الرجل: "والله الذي لا إله إلا هو لقد سألت عن هذه المسألة أهلَ البصرة والكوفة والعراق فلم أجد أحداً وُفِّق لما وُفِّقَ إليه"1.
وعموماً فأهل العلم يفرّقون بين التعميم والتعيين في التكفير والتبديع والتفسيق، ولا يلحق شيء من هذه الأوصاف بإنسان معيّن إلَاّ وَفْق شروط وضوابط معلومة عند أهل العلم، والله أعلم.
1 ولعل الرجل استفاد من هذا العلم الذي وُفِّق إليه الإمام مالك رحمه الله.
2 رواه ابن بطة في الإبانة (1/435) .
المبحث الثالث:
ذكر ما في قوله: "أخرجوه عني" من فائدة
لقد أمر الإمام مالك رحمه الله بإخراج هذا السائل تأديباً له، وصيانةً لمجلسه من أن يكون لأحد من أهل الأهواء مجال أن يخوض فيه برأي أو هوى أو تقرير باطل أو إثارة شبهات أو نحو ذلك.
قال أبو قلابة: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يُلبِّسوا عليكم ما تعرفون"2.
وقال عمرو بن قيس الملائي: "كان يُقال: لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ
قلبك"1.
وقال مصعب بن سعد: "لا تجالس مفتوناً، فإنَّه لن يخطئك منه إحدى اثنتين: إمَّا أن يفتنك، وإمّا أن يؤذيك قبل أن تفارقه"2.
وقال الأوزاعي: "لا تمكّنوا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنة ارتياباً"3.
وقال أيوب السختياني: "دخل على محمد بن سيرين رجلٌ فقال: يا أبا بكر أقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد على أن أقرأها ثم أخرج، فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم قال: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما خرجت من بيتي، قال: فقال: يا أبا بكر إني لا أزيد على أن أقرأ ثم أخرج، قال: فقال بإزاره يشدّه عليه وتهيّأ للقيام فأقبلنا على الرجل فقلنا: قد حرج عليك إلَاّ خرجت، أفيحلّ لك أن تخرج رجلاً من بيته، قال: فخرج، فقلنا: يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج، قال: إني والله لو ظننت أنَّ قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ، ولكني خِفتُ أن يُلقيَ في قلبي شيئاً أجهد أن أخرجه من قلبي فلا أستطيع"4.
لأجل هذا كان أئمة السلف يوصون بعدم مجالسة أهل الأهواء ويأمرون بإخراجهم من مجالسهم.
وهذا الرجل الذي أمر مالك رحمه الله بإخراجه من مجالسه قد خاض في متشابه القرآن الكريم، إذ الصفات من حيث الكنه والكيفية أمرها من المتشابه
1 رواه ابن بطة في الإبانة (2/436) .
2 رواه ابن بطة في الإبانة (2/442) .
3 رواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص:35) .
4 رواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص:53) .
الذي لا يعلمه إلَاّ الله، وقد قال الله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} 1.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} إلى قوله: {أُولُو الأَلْبَابِ} 2 قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم"3.
فأرشد صلوات الله وسلامه عليه إلى الحذر منهم واجتنابهم، وقصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع صَبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن مشهورة، رواها غير واحد من أهل العلم، وفيها تأديب عمر له، ونفيه إلى البصرة، وهو نوع من التعزير له ليتأدَّب "والتعزير منه ما يكون بالتوبيخ، وبالزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب"4.
قال الإمام الآجري رحمه الله بعد أن روى قصة عمر: "فإن قال قائل: فمن يسأل عن تفسير {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً فَالحَامِلَاتِ وِقْراً} 5 استحق الضرب والتنكيل به والهجرة؟ قيل له: لم يكن ضرب عمر رضي الله عنه له بسبب هذه المسألة، ولكن لما تأدّى إلى
1 سورة: آل عمران، الآية:(7) .
2 سورة: آل عمران، الآية:(7) .
3 البخاري (8/209 الفتح) ، ومسلم (4/2053) .
4 الطرق الحكمية لابن القيم (ص:265) .
5 سورة: الذاريات، الآية:(1،2) .
عمر ما كان يسأل عنه من متشابه القرآن من قبل أن يراه، علم أنَّه مفتون، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نفعه، وعلم أنَّ اشتغاله بطلب علم الواجبات من علم الحلال والحرام أولى به، وتطلّب علم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به، فلما علم أنَّه مقبل على ما لا ينفعه، سأل عمرُ اللهَ تعالى أن يمكِّنه منه حتى يُنكِّل به، وحتى يحذر غيره، لأنَّه راعٍ يجب عليه تفقّد رعيّته في هذا وفي غيره، فأمكنه الله تعالى منه"1.
ولهذا فإنَّ من يخوض في المتشابه يستحق الزجر والتأديب ما يردعه ويجعله يكفُّ عن خوضه، روى يزيد بن هارون في مجلسه حديثَ إسماعيل بن خالد، عن قيس بن حازم، عن جرير بن عبد الله في الرؤية وقولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّكم تنظرون إلى ربِّكم كما تنظرون إلى القمر ليلة البدر" فقال له رجلٌ في مجلسه: يا أبا خالد ما معنى هذا الحديث؟ فغضب وحرد وقال: "ما أشبهك بصبيغ، وأحوجَك إلى مثل ما فُعل به، ويلك! ومن يدري كيف هذا؟ ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث أو يتكلّم فيه بشيء من تلقاء نفسه إلَاّ من سفه نفسه واستخفَّ بدينه؟ إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتَّبعوه، ولا تبتدعوا فيه، فإنَّكم إن اتّبعتموه ولم تُماروا فيه سلِمتم، وإن لم تفعلوا هلكتم"2. ثم إنَّ مالكاً إضافة إلى ما تقدّم قد يكون قد راعى حُرمة المكان الذي هو فيه، إذا كان السائل قد أتاه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، روي عنه أنَّه قال في قصة أخرى: "لا يُجتمع عند رجل مبتدع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"3، هذا وبالله وحده التوفيق.
1 الشريعة (1/484،485) .
2 أورده الصابوني في عقيدة السلف (ص:66) .
3 رواه ابن بطة في الإبانة (2/476) .