الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: ذكرُ نظائر هذا الأثر مما جاء عن السلف الصالح
إنَّ لقول الإمام مالك رحمه الله هذا نظائرَ كثيرةً جداًّ عند أئمّة السلف وأهل العلم، وسوف أتناول في هذا المبحث - إن شاء الله - ذكر بعض نظائره، لكن يحسن قبل ذلك الإشارةُ إلى أنَّ هذا اللفظ المنقول عن مالك والمشهور عنه رحمه الله قد سبقه إليه شيخُه ربيعةُ الرأي، ويُروى قبل ذلك عن أمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لكن من وجه لا يثبت عنها رضي الله عنها.
روى اللالكائي في شرح الاعتقاد، والصابوني في عقيدة السلف، وابن قدامة في إثبات صفة العلوّ، والذهبي في العلوّ من طريق أبي كنانة محمد بن الأشرس الورّاق، حدّثنا أبو عمير الحنفي، عن قُرَّة بن خالد عن الحسن، عن أمِّه، عن أمِّ سلمة في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} قالت: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر"1.
قال شيخ الإسلام: "وقد رُوي هذا الجواب عن أمِّ سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يُعتمد عليه"2.
وقال الذهبي: "هذا القول محفوظ عن جماعة كربيعة الرأي، ومالك الإمام، وأبي جعفر الترمذي، فأما عن أم سلمة فلا يصح؛ لأنَّ أبا كنانة ليس بثقة، وأبو عمير لا أعرفه"3.
1 شرح الاعتقاد لللالكائي (3/397)، عقيدة السلف للصابوني (ص:37) ، إثبات صفة العلوّ لابن قدامة (ص:158) ، صفة العلوّ للذهبي (ص:65) .
2 مجموع الفتاوى (5/365) .
3 العلوّ للذهبي (ص:65) .
وقال الذهبي في ذيل ديوان الضعفاء والمتروكين عن ابن الأشرس: "له مناكير، ليس بشيء"1.
أما أثرُ ربيعة الرأي فقد رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد وابن قدامة في العلوّ من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة قال: سئل ربيعة عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، قال:"الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق"2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "روى الخلال بإسناد كلهم ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن
…
"فذكره3.
ورواه الذهبي في العلوّ من طريق النجَّاد قال: حدّثنا معاذ بن المثنى حدّثني محمد بن بشر حدّثنا سفيان [وهو الثوري] قال: "كنت عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن
…
" فذكره4.
قال الألباني: "وهو صحيح"5.
ورواه البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عبد الله بن صالح بن مسلم قال: سئل ربيعة الرأي عن قول الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، قال:"الكيف مجهول، والاستواء غير معقول، ويجب عليَّ وعليكم الإيمان بذلك كلِّه"6.
هكذا لفظه: "الكيف مجهول، والاستواء غير معقول"، وهو مخالف للفظ السابق في الطريقين المتقدِّمين، وفي إسناده عبد الله بن صالح بن مسلم وهو
1 ذيل ديوان الضعفاء والمتروكين (ص:58) .
2 شرح الاعتقاد اللالكائي (3/398)، إثبات صفة العلوّ لابن قدامة (ص:164) .
3 مجموع الفتاوى (5/40) .
4 العلوّ (ص:98) .
5 مختصر العلوّ (ص:97) .
6 الأسماء والصفات (2/306،307) .
أبو صالح المصري كاتب الليث، قال الحافظ في التقريب:"صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة".
ثم هو أيضاً لم يدرك ربيعة، فقد كان مولده سنة سبع وثلاثين ومائة كما في ترجمته في تهذيب الكمال1، وكانت وفاة ربيعة الرأي على الصحيح كما في التقريب لابن حجر2 سنة ست وثلاثين ومائة.
أورد هذه الآثار الثلاثة - أعني أثر أم سلمة وربيعة ومالك - ابنُ قدامة في كتابه (ذمّ التأويل) ثم قال: "وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى واللفظ، فمن المحتمل أن يكون ربيعة ومالك بلغهما قول أم سلمة فاقتديا بها وقالا مثل قولها لصحته وحسنه وكونه قول إحدى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المحتمل أن يكون الله تعالى وفقهما للصواب وألهمهما من القول السديد مثل ما ألهمها"3.
وقد تقدّم أنَّ أثر أم سلمة رضي الله عنها لم يثبت عنها، فلم يبق إلاّ الاحتمال الثاني وهو أنَّ الله وفقهما للصواب وألهمهما هذا القول السديد، وربما أنَّ مالكاً رحمه الله سمعه من شيخه فاقتدى به، أو أنَّه لم يسمعه منه ولكن وُفِّق إليه كما وُفِّق إليه شيخه.
وذكر الذهبي في كتابه الأربعين أنَّ هذا الأثر يروى أيضاً عن وهب بن منبِّه4، لكن لم أقف عليه في مصادر التخريج.
ويشبه تماماً قولَ ربيعة ومالك هذا قولُ أبي جعفر الترمذي (ت295هـ) رحمه الله عندما سُئل عن صفة النزول.
(15/107) .
(ص:322) .
3 ذم التأويل (ص:26) .
4 الأربعين "ص:80 ضمن مجموع الرسائل الست له".
قال الخطيب البغدادي: حدّثني الحسن بن أبي طالب قال: نبّأنا أبو الحسن منصور بن محمد بن منصور القزاز قال: سمعت أبا الطيب أحمد بن عثمان السمسار والد أبي حفص بن شاهين يقول: حضرت عند أبي جعفر الترمذي فسأله سائل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا
…
"، فالنزول كيف يكون يبقى فوقه علوّ؟!، فقال أبو جعفر الترمذي: "النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"1.
وأورده الذهبي في العلوّ، قال الألباني - حفظه الله -: "وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات
…
"2.
وعلّق الذهبيُّ على هذا الأثر بقوله: "صدق فقيهُ بغداد وعالمُها في زمانه؛ إذ السؤال عن النزول ما هو؟ عيٌّ؛ لأنَّه إنما يكون السؤال عن كلمة غريبة في اللغة، وإلاّ فالنزول والكلام والسمع والبصر والعلم والاستواء عباراتٌ جليّةٌ واضحةٌ للسامع، فإذا اتّصف بها من ليس كمثله شيء، فالصفة تابعةٌ للموصوف، وكيفية ذلك مجهولة عند البشر، وكان هذا الترمذي من بحور العلم ومن العباد الورعين. مات سنة خمس وتسعين ومائتين"3.
ويشبه هذا الأثر إلى حدٍّ ما ما أجاب به سهل بن عبد الله التستري (ت283هـ) عندما سُئل عن القدر.
قال الحافظ اللالكائي: أخبرنا محمد بن إبراهيم النجيرمي، قال: ثنا أبو عبيد محمد بن عليّ بن حيدرة، قال: ثنا أبو هارون الأُبُلِّي وكان ممن صحب سهل بن عبد الله، وكان رجلاً صالحاً، وكان يُقرئنا القرآن في المسجد الجامع، قال: سُئل
1 تاريخ بغداد (1/365) .
2 مختصر العلوّ (ص:232) .
3 مختصر العلوّ (ص:231) .
سهل بن عبد الله عن القدر، فقال:"الإيمان بالقدر فرضٌ، والتكذيب به كفرٌ، والكلام فيه بدعةٌ، والسكوت عنه سنةٌ"1.
ثم إنَّ لأهل العلم أقوالاً كثيرةً جداًّ مماثلة لقول الإمام مالك هذا، وتُؤدّي إلى مقصوده، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهكذا سائر الأئمّة قولهم يوافق قول مالك
…
"2.
ومن أقوال السلف المماثلة لقول مالك ما يلي:
1-
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "روى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: "أمرّوها كما جاءت"، وروى أيضاً عن الوليد ابن مسلم قال: سألت مالك ابن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: "أمرُّوها كما جاءت"،- وفي رواية قالوا: "أمرُّوها كما جاءت بلا كيف"- وقولهم رضي الله عنهم: "أمرّوها كما جاءت" ردٌّ على المعطِّلة، وقولهم: "بلا كيف" ردٌّ على الممثِّلة، والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما
…
".
وأورد أثر مالك وربيعة ثم قال: "فقول ربيعة ومالك الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب" موافق لقول الباقين: "أمرُّوها كما جاءت بلا كيف"، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرّد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول"، ولما قالوا:"أمرّوها كما جاءت بلا كيف"، فإنَّ الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً، بل
1 شرح الاعتقاد (4/711) .
2 مجموع الفتاوى (5/365) .
مجهول بمنزلة حروف المعجم، وأيضاً فإنَّه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، إنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أُثبتت الصفات.
وأيضاً فإنَّ من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول: "بلا كيف"، فمن قال: إنَّ الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف.
وأيضاً فقولهم: "أمرّوها كما جاءت" يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظاً دالَّة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال أمرّوا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو: أمرّوا لفظها مع اعتقاد أنَّ الله لا يوصف بما دلّت عليه حقيقةً، وحينئذ تكون قد أُمرَّت كما جاءت، ولا يقال حينئذٍ:"بلا كيف"، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول.
وروى الأثرم في السنة وأبو عبد الله بن بطة في الإبانة وأبو عمرو الطلمنكي وغيرهم بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون - وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة الذين هم: مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبي ذئب - وقد سُئل عما جحدت به الجهمية: "أما بعد فقد فهمتُ ما سألتَ فيما تتابعت الجهمية ومن خلفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتدبر، وكلّت الألسن عن تفسير صفته، وانحصرت العقول دون معرفة قدرته، وردت عظمته العقول فلم تجد مساغاً فرجعت خاسئة وهي حسيرة، وإنما أُمروا بالنظر والتفكير، فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال: "كيف" لمن لم يكن مرّة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلاّ هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ، ومن لا يموت ولا يبلى؟، وكيف يكون لصفته شيء منه حدٌّ أو منتهى يعرفه عارف، أو
يحدُّ قدره واصف؟، على أنَّه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين منه، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه، لا تكاد تراه صغراً، يحول ويزول، ولا يُرى له سمع ولا بصر، لما يتقلّب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، وخالقهم، وسيِّد السادة، وربُّهم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
اعرف - رحمك الله - غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها، إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلّفك علم ما لم يصف؟!، هل تستدل بذلك على شيء من طاعته؟، أو تزجر به عن شيء من معصيته؟
…
".
إلى أن قال: "فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه، ولم تتكلّف منه صفة ما سواه، لا هذا ولا هذا، ولا نجحد ما وصف، ولا نتكلّف معرفة ما لم يصف
…
"، إلى آخر كلامه رحمه الله -1.
2-
وقال إسماعيل بن علي الأبلي: سمعت سهل بن عبد الله بالبصرة سنة ثمانين ومئتين يقول: "العقل وحده لا يدل على قديم أزليّ فوق عرش محدث، نصبه الحق دلالة وعلَماً لنا لتهتدي القلوب به إليه ولا تتجاوزه، ولم يكلّف القلوبَ علم ماهية هُويّته، فلا كيف لاستوائه عليه، ولا يجوز أن يُقال: كيف الاستواء لمن أوجد الاستواء؟، وإنَّما على المؤمن الرضى والتسليم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّه على عرشه"، وقال: إنَّما سُمي الزنديق زنديقاً؛ لأنَّه وَزَن دِقَّ
1 الحموية (ص:24- 27) .
الكلام بمخبول عقله وقياس هوى طبعه، وترك الأثر والاقتداء بالسنة، وتأوّل القرآن بالهوى، فسبحان من لا تكيّفه الأوهام، في كلام نحو هذا"1.
3-
وقال الإمام أبو حنيفة في كتابه الفقه الأكبر: "فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذِكر الوجه واليد والنفس فهو له صفاتٌ بلا كيف، ولا يُقال إنَّ يده قدرته أو نعمته؛ لأنَّ فيه إبطال الصفة، هو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفتُه بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف"2.
4-
وروى الأثرم في كتاب السنة حدّثنا إبراهيم بن الحارث يعني العبادي، حدّثني الليث بن يحيى، قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث، قال أبو بكر صاحب الفضيل: سمعت الفضيل بن عياض يقول: "ليس لنا أن نتوهّم في الله كيف وكيف؛ لأنَّ الله وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، فلا صفة أبلغ مما وصف الله به نفسه، وكذا النزول والضحك والمباهاة والاطلاع، كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يباهي وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهّم كيف وكيف، وإذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب ينزل عن مكانه، فقل أنت: أنا أومن برب يفعل ما يشاء"3.
5-
وعن سلمويه بن عاصم قاضي هجر قال: "كتب بشر المريسي إلى منصور بن عمار يسأله عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : كيف استوى؟، فكتب إليه: استواؤه غير محدود، والجواب فيه تكلّف، ومسألتك عن
1 سير أعلام النبلاء (13/331،332)، وأورده الذهبي في العلو (ص:220- مختصره) ، لكن بلفظ: "
…
لأنَّه لا يجوز لمؤمن أن يقول: كيف الاستواء، لمن خلق الاستواء
…
"، وفيه إشكالٌ ظاهرٌ، إلَاّ إن أريد بالاستواء الثاني استواء المخلوق.
2 شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري (ص36،37) .
3 ذكره ابن تيمية في درء التعارض (2/23،24)، وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص:105،106) .
ذلك بدعة، والإيمان بجملة ذلك واجب، قال الله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} "1.
6-
وسئل أبو علي الحسين بن الفضل البجلي عن الاستواء وقيل له: كيف استوى على عرشه؟، فقال:"أنا لا أعرف من أنباء الغيب إلَاّ مقدار ما كُشف لنا، وقد أعلمنا جلّ ذكره انَّه استوى على عرشه ولم يخبرنا كيف استوى"2.
7-
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: "أما الكلام في الصفات، فإنَّ ما روي منها في السنن الصحاح، مذهبُ السلف إثباتُها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قومٌ فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين، فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصدُ إنَّما هو سلوك الطريقة المتوسّطة بين الأمرين، ودينُ الله تعالى بين الغالي فيه والمقصِّر عنه، والأصلُ في هذا أنَّ الكلام في الصفات فرعُ الكلام في الذات، ويُحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوماً أنَّ إثبات ربِّ العالمين إنّما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنَّما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا: لله يدٌ وسمعٌ وبصرٌ، فإنَّما هي صفاتٌ أثبتها الله لنفسه، ولا نقول: إنَّ معنى اليد القدرة، ولا إنَّ معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول: إنَّها جوارح، ولا نشبّهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارحُ وأدوات للفعل، ونقول: إنَّما وجب إثباتها؛ لأنَّ التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} "3.
1 رواه الخطيب في تاريخه (13/75،76) ، وأورده الذهبي في السير (9/97) ، وفي العلو (ص161- مختصره) ، وضعّف إسناده الألباني.
2 رواه الصابوني في عقيدة السلف (ص:40) .
3 سير أعلام النبلاء (18/284) .
8-
وقال أبو منصور معمر بن أحمد: "ولما رأيت غربة السنة، وكثرة الحوادث واتباع الأهواء أحببت أن أوصي أصحابي وسائر المسلمين بوصية من السنة وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف من السلف المتقدّمين، والبقية من المتأخرين
…
- فذكر أموراً - ثم قال: وأنَّ الله عز وجل استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فالاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، والإيمان به واجب، والإنكار له كفر، وأنَّه – جل جلاله مستوٍ على عرشه بلا كيف، وأنَّه جل جلاله بائنٌ من خلقه والخلق بائنون منه، فلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنَّه الفرد البائن من خلقه، الواحد الغني عن الخلق، علمه بكلِّ مكان، ولا يخلو من علمه مكان"1.
9-
وقال ابن قتيبة: "وعدلُ القول في هذه الأخبار أن نؤمن بما صحّ منها بنقل الثقات لها، فنؤمن بالرؤية والتجلي، وأنَّه يعجب وينزل إلى السماء الدنيا، وأنَّه على العرش استوى وبالنفس واليدين من غير أن نقول في ذلك بكيفية أو بحدّ أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت، فنرجو أن نكون في ذلك القول والعقد على سبيل النجاة غداً - إن شاء الله تعالى -"2.
والآثار في هذا المعنى عن السلف مستفيضة، وممّا روي في هذا المعنى - لكن لم أقف له على إسناد - ما روي عن الشافعي أنَّه قال - لما سئل عن الاستواء -:"آمنت بلا تشبيه، وصدّقت بلا تمثيل، واتهمت نفسي في الإدراك، وأمسكت عن الخوض غاية الإمساك".
1 ذكره التيمي في الحجة (1/232) ، ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الفتاوى (5/191) .
2 الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة (ص:53) .
وعن أحمد أنّه قال: (استوى كما ذكر لا كما يخطر للبشر"1، والله أعلم.
ومن جميل ما قيل في هذا شعراً قول الناظم:
"على عرشه الرحمن سبحانه استوى
…
كما أخبر القرآن والمصطفى روى
وذاك استواء لائق بجلاله
…
وأبرأ من قولي له العرش قد حوى
فمن قال مثلَ الفلك كان استواؤه
…
على جبل الجودي من شاهق هوى
ومن يتبع ما قد تشابه يبتغي
…
به فتنة أو يبغِ تأويله غوى
فلم أقل: استولى ولست مكلّفاً
…
بتأويله كلَاّ ولم أقل احتوى
ومن قال لي كيف استوى؟، لا أجيبه
…
بشيء سوى أني أقول له: استوى"2.
1 أوردهما مرعي الكرمي في أقاويل الثقات (ص:121) ، والسفاريني في لوامع الأنوار (1/200) .
2 انظر: الكواكب الدرية لابن مانع (ص:28) .