الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: في ذكر معتقد أهل السنة والجماعة في صفة الاستواء بإيجاز
الاستواء صفةٌ من صفات الكمال الثابتة لذي العظمة والجلال – سبحانه -، وقد دلّ النقل على هذه الصفة حيث أثبتها الربٌّ – سبحانه - لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنّته، وأجمع على ثبوتها المسلمون.
وقد وردت هذه الصفة في القرآن الكريم في مواطن عديدة، وكان ورودها فيه على نوعين: تارة معدّاة بـ (على) ، وتارة معدّاة بـ (إلى) .
1-
أمّا النوع الأول: وهو مجيئها معدّاة بـ (على) فقد ورد في القرآن الكريم في سبعة مواضع، حيث تمدّح بها الرب – سبحانه -، وجعلها من صفات كماله وجلاله، وقرنها بما يبهر العقول من صفات الجلال والكمال، مما يدل على ثبوت هذه الصفة العظيمة لله ثبوت غيرها من الصفات.
قال الشيخ العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "اعلموا أنَّ هذه الصفة التي هي الاستواء صفةُ كمال وجلال تمدّح بها ربُّ السموات والأرض، والقرينة على أنّها صفة كمال وجلال أنَّ الله ما ذكرها في موضع من كتابه إلَاّ مصحوبة بما يبهر العقول من صفات جلاله وكماله التي هي منها، وسنضرب مثلاً بذكر الآيات:
فأوّل سورة ذكر الله فيها صفة الاستواء حسب ترتيب المصحف سورة الأعراف قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الَّيلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الخَلْقُ
وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} 1، فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
فهل لأحد أن ينفيَ شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال.
الموضع الثالث في سورة الرعد في قوله جلّ وعلا: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمَّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 3، وفي القراءة الأخرى: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ
1 سورة الأعراف، الآية:(54) .
2 سورة يونس، الآيات:(3 6) .
3 سورة الرعد، الآيات:(2 4) .
صِنْوَانٍ تُسْقِى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
الموضع الخامس في سورة الفرقان في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّاٍم ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 2.
فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال.
1 سورة طه، الآيات:(1 7) .
2 سورة الفرقان، الآيات:(58،59) .
فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الجلال والكمال.
الموضع السابع في سورة الحديد في قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 23.
أما النوع الثاني: وهو مجيئها معدّاة بـ (إلى) فقد ورد في القرآن في موطنين:
1 سورة السجدة، الآيات:(3 9) .
2 سورة الحديد، الآيات:(3،4) .
3 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص:15 17) .
الأول في سورة البقرة، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1.
الثاني: في سورة فُصّلت، قال الله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} 2.
والاستواء معناه معلوم في لغة العرب، لا يجهله أحد منهم، والله قد خاطب عباده في القرآن الكريم بكلام عربيٍّ مبين، والاستواء معناه في اللغة العلوّ والارتفاع3.
ولهذا فإنَّ مذهب السلف في الاستواء هو إثباته لله عز وجل كما أثبته لنفسه، وكما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأنَّ الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله، ولا يشبه استواء أحد من خلقه - تعالى الله عن ذلك -، ومعنى الاستواء عندهم العلوّ والارتفاع، ولا خلاف بينهم في ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكلام السلف والأئمة ومن نقل مذهبهم في هذا الأصل كثير يوجد في كتب التفسير والأصول.
1 سورة البقرة، الآية:(29) .
2 سورة فصّلت، الآية:(11) .
3 هذا إذا كان معدًّى بـ (إلى) أو (على)، أما إذا كان مطلقاً كقوله تعالى:{ولمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} فإنَّ معناه: كمُل وتمَّ، وأمَّا إذا كان مقروناً بواو (مع) التي تعدي الفعل إلى المفعول معه نحو:"استوى الماء والخشبة" فإنَّ معناه ساواها، انظر: مختصر الصواعق (ص:320) .
قال إسحاق بن راهويه: حدّثنا بشر بن عمر: سمعت غير واحد من المفسّرين يقولون: " {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : أي ارتفع"1.
وقال البخاري في صحيحه: قال أبو العالية: "استوى إلى السماء: ارتفع"، قال: وقال مجاهد: "استوى: علا على العرش"2.
وقال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور: "وقال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: استوى إلى السماء: ارتفع إلى السماء، وكذلك قال الخليل بن أحمد"3.
وروى البيهقي في كتاب الصفات قال: قال الفرّاء: "ثم استوى، أي صعد، قاله ابن عباس، وهو كقولك للرجل: كان قاعداً فاستوى قائماً"4.
وروى الشافعي في مسنده عن أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة: "وهو اليوم الذي استوى فيه ربّكم على العرش"5.
1 أورده الذهبي في العلو، وقال الألباني - حفظه الله - (ص:160 مختصره) :"وهذا إسناد صحيح مسلسل بالثقات الحفاظ
…
".
2 صحيح البخاري (13/403 الفتح) .
3 تفسير البغوي (1/59) .
4 الأسماء والصفات (2/310) .
5 مسند الشافعي (ص:70 71)، ورواه الذهبي في العلو من طريق الشافعي (ص:29 30) ثم قال: "إبراهيم وموسى ضعفاء، أخرجه الإمام محمد بن إدريس في مسنده، وقد أخرجه الدارقطني من طريق حمزة بن واصل المنقري، عن قتادة، عن أنس، ومن طريق عنبسة الرازي، عن أبي اليقظان عثمان بن عُمير، عن أنس، عن ابن محمد بن شعيب بن سابور، عن عمر مولى عفرة، عن أنس.
وأخرجه القاضي أبو أحمد العسّال في كتاب المعرفة له عن رجال، عن جرير ابن عبد الحميد، عن ليث بن أبي سليم، عن عثمان بن أبي حميد وهو أبو اليقظان عن أنس، ورواه من طريق سلام بن سليمان، عن شعبة وإسرائيل وورقاء، عن ليث أيضاً.
وساقه الدارقطني من رواية شجاع بن الوليد، عن زيادة بن خيثمة، عن عثمان ابن أبي سليمان، عن أنس، والظاهر أنَّ عثمان أبو اليقظان، وحدّث به الوليد ابن مسلم، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن سالم بن عبد الله، عن أنس ابن مالك، وهذه طرق يعضد بعضها بعضاً، رزقنا الله وإيّاكم لذّةَ النظر إلى وجهه الكريم".
والتفاسير المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدُحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم، وتفسير أبي بكر بن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز، وتفسير أبي الشيخ الأصبهاني، وتفسير أبي بكر بن مردويه، وما قبل هؤلاء من التفاسير مثل تفسير أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم، وبقي بن مخلد وغيرهم، ومن قبلهم مثل تفسير عبد بن حميد، وتفسير سُنيد، وتفسير عبد الرزاق، ووكيع بن الجراح فيها من هذا الباب الموافق لقول المثبتين ما لا يكاد يُحصى، وكذلك الكتب المصنّفة في السنة التي فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين"1.
وجاء عن الخليل بن أحمد قال: "أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت وكان على سطح فلما رأيناه أشرنا إليه بالسلام، فقال: استووا، فلم ندر ما قال، فقال لنا شيخ عنده: يقول لكم: ارتفعوا، قال الخليل: هذا من قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ} " 2، أي: ارتفع وعلا3.
والاستواء سواء عُدّيَ بـ"إلى" أو بـ"على" فمعناه العلو والارتفاع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله: "ومن قال: استوى بمعنى عَمَدَ، ذكره في قوله:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ} ؛ لأنَّه عُدي بحرف الغاية، كما يقال: عمدت إلى كذا، وقصدت إلى كذا، ولا يقال: عمدت على كذا ولا قصدت عليه، مع أنَّ ما ذُكر في تلك الآية لا يُعرف في اللغة أيضاً، ولا هو قول أحد من
1 درء تعارض العقل والنقل (2/20 22)، وانظر أيضاً: مجموع الفتاوى (5/518 وما بعدها) .
2 سورة فصّلت، الآية:(11) .
3 أورده الذهبي في العلو (ص:171 مختصره) .
مفسريّ السلف؛ بل المفسِّرون من السلف قولهم بخلاف ذلك - كما قدّمناه عن بعضهم –"1، وقد حكى ابن القيم رحمه الله إجماع السلف على ذلك2.
فهذا ملخَّص معتقد أهل السنة والجماعة في هذه الصفة، ومن أراد الاطّلاع على كلام أهل العلم في هذه الصفة موسّعاً فليطالع الكتب التي أُفرِدت في ذلك وهي كثيرة جداًّ، وكما قال السفاريني رحمه الله:"وقد أكثر العلماء من التصنيف، وأجلبوا بخيلهم ورَجِلِهم من التأليف، في ثبوت العلوّ والاستواء ونبّهوا على ذلك بالآيات والحديث وما حوى، فمنهم الراوي الأخبارَ بالأسانيد، ومنهم الحاذفُ لها وأتى بكلِّ لفظٍ مفيدٍ، ومنهم المُطَوِّل المُسهِب، ومنهم المُختصِر والمتوسِّط والمهذِّب، فمن ذلك (مسألة العلوّ) لشيخ الإسلام ابن تيمية، و (العلوّ) للإمام الموفق صاحب التصانيف السنيّة، و (الجيوش الإسلاميّة) للإمام المحقق ابن قيِّم الجوزية، و (كتاب العرش) للحافظ شمس الدين الذهبي صاحب الأنفاس العليّة، وما لا أُحصي عدّهم إلاّ بكُلْفة، والله تعالى الموفِّق"3.
1 مجموع الفتاوى (5/521) .
2 مختصر الصواعق (ص:320) .
3 لوامع الأنوار البهيّة (1/195،196) .
وفي الصحيح في حديث الخوارج: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً"1، وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره "ربّنا الله الذي في السماء، تقدّس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتُك في السماء اجعل رحمتَك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفاءك على هذا الوجع" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء
…
"، وذكره2، إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلاّ الله، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية"3.
فليس لمسلمٍ يؤمن بوحي الله وتنزيله ويؤمن بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجحد شيئاً من ذلك أو يتعرَّض له بردٍّ أو تحريفٍ أو نحو ذلك، بل الواجب هو القبول والتسليم والإيمان والتعظيم، و"القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يُتجاوز القرآن والحديث.
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: "لا يوصف إلَاّ بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يُتجاوز القرآن والحديث"، ومذهب السلف أنّهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أنَّ ما وصف الله به من ذلك فهو حقٌّ ليس فيه لُغْزٌ ولا أحَاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلّم بكلامه، لا سيما إذا كان المتكلّم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم،
1 رواه البخاري (4351 الفتح) ، ومسلم (2/741) من حديث أبي سعيد الخدري.
2 رواه أحمد (6/21) ، وأبو داود (3892) .
3 مجموع الفتاوى (5/12 15) .
الصفات الجزئية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول: "بلا كيف" فمن قال: إنَّ الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف. وأيضاً فقولهم: "أمرُّوها كما جاءت" يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنّها جاءت ألفاظاً دالّة على معاني، فلو كانت دلالتُها منتفية لكان الواجب أن يُقال: أمرّوا لفظها مع اعتقاد أنَّ المفهوم منها غير مراد، أو أمرّوا لفظها مع اعتقاد أنَّ الله لا يوصف بما دلّت عليه حقيقة، وحينئذ تكون قد أُمِرَّت كما جاءت، ولا يُقال حينئذ:"بلا كيف"، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغوٌ من القول"1.
وقول السلف رحمهم الله: "الكيف مجهول" أو "بلا كيف" يتضمّن عدّة فوائد أُجملها فيما يلي:
1-
قطع طمع العقل في إدراك كيفية صفات الله، وأنَّ ذلك غير ممكن "مهما تصوّر في وهمك فالله بخلاف ذلك"2.
2-
أنّهم نفوا علمنا بالكيفية، ولم ينفوا أن يكون في نفس الأمر كيفية لا يعلمها إلَاّ هو سبحانه "نفي الشيء غير نفي العلم به"3"لم يقل مالك: الكيف معدوم، وإنما قال الكيف مجهول"4.
3-
عدم العلم بالكيفية لا يقدح في الإيمان بالصفات.
4-
إثبات الصفة لله حقيقة، لأنَّ من ينفي الصفات ولا يثبتها لا يحتاج أن يقول:"لا كيف".
1 الحموية (ص:25) .
2 سير أعلام النبلاء (11/535) وهو من كلام ذي النون المصري.
3 نقض التأسيس (1/198)
4 مجموع الفتاوى (13/309)
5-
إنَّ العلم بكيفية الشيء تكون برؤيته أو رؤية نظيره أو الخبر الصادق عنه، والمؤمنون لن يرى أحدٌ منهم ربَّه في الدنيا، والله تبارك وتعالى لا نظير له، ولم يأت في الخبر الصادق ذكر لكيفية صفات الباري سبحانه.
6-
إمكانية العلم بكيفية الصفة عند رؤية الله في الآخرة.
7-
بطلان قول المعتزلة وغيرهم الذين ينفون أن يكون له ماهية وحقيقة وراء ما علموه.
8-
التوقّف عند النصوص وما دلّت عليه وعدم تجاوزها فالكيف مجهول، "لأنَّه لم يرد به توقيف ولا سبيل إلى معرفته بغير توقيف"1.
9-
الردّ على الممثِّلة، لأنَّ كلَّ ممثِّل مكيِّف.
10-
أنَّ إثبات أهل السنة والجماعة للصفات هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فالمؤمن مُبصِرٌ بها من وجه، أعمى من وجه آخر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المشهور بين أهل السنة والجماعة أنَّه لا يُقال في صفات الله عز وجل (كيف) ولا في أفعاله (لِمَ) وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أنَّ السلف والأئمة نفوا علمنا الآن بكيفيته، كقول مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول". لم ينفوا أن يكون في نفس الأمر له حقيقة يعلمها هو، وتكلّمنا على إمكان العلم بها عند رؤيته في الآخرة أو غير ذلك، لكن كثيراً من الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينفون أن يكون له ماهية وحقيقة وراء ما علموه"2.
وقال ابن القيم رحمه الله: "ومراد السلف بقولهم: "بلا كيف" هو نفي
1 ذم التأويل لابن قدامة (ص:26) .
2 نقض التأسيس (1/197)، وانظر: درء التعارض (2/35) .
للتأويل، فإنَّه التكييف الذي يزعمه أهل التأويل، فإنَّهم هم الذين يثبتون كيفيةً تخالف الحقيقة فيقعون في ثلاثة محاذير: نفي الحقيقة، وإثبات التكييف بالتأويل، وتعطيل الرب تعالى عن صفته التي أثبتها لنفسه، وأما أهل الإثبات فليس أحد منهم يكيِّف ما أثبته الله تعالى لنفسه، ويقول: كيفية كذا وكذا، حتى يكون قول السلف "بلا كيف" ردًّا عليه، وإنّما ردّوا على أهل التأويل الذي يتضمّن التحريف والتعطيل، تحريف اللفظ وتعطيل معناه"1.
وقال أيضاً: "إنَّ العقل قد يئس من تعرّف كُنه الصفة وكيفيتها، فإنَّه لا يعلم كيف الله إلَاّ الله، وهذا معنى قول السلف "بلا كيف" أي: بلا كيف يعقله البشر، فإنَّ من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعَجْزُنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم.
فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كلّه، والجمال كلّه، والعلم كلُّه، والقدرة كلّها، والعظمة كلّها، والكبرياء كلّها؟ من لو كُشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، وما وراء ذلك، الذي يقبض سمواته بيده فتغيب كما تغيب الخردلة في كفِّ أحدنا، الذي نسبة علوم الخلائق كلّها إلى علمه أقلَّ من نسبة نقْرة عصفور من بحار العلم الذي لو أنَّ البحر يمدُّه من بعده سبعة أبحر مداد وأشجار الأرض من حين خلقت إلى قيام الساعة أقلام، لفَنِيَ المداد وفنيت
1 اجتماع الجيوش الإسلامية (ص:77) .
الأقلام، ولم تنفد كلماته، الذي لو أنَّ الخلق من أول الدنيا إلى آخرها، إنسهم وجِنَّهم، وناطقهم وأعجمهم، جُعلوا صفًّا واحداً ما أحاطوا به سبحانه، الذي يضع السموات على إصبع من أصابعه، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والأشجار على إصبع، ثمّ يهزّهنَّ، ثم يقول: أنا الملك.
فقاتل الله الجهمية والمعطّلة! أين التشبيه ها هنا؟ وأين التمثيل؟ لقد اضمحلَّ ها هنا كلُّ موجود سواه، فضلاً عن أن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال، ويشابهه فيه، فسبحان من حجب عقول هؤلاء عن معرفته، وولاّها ما تولّت من وقوفها مع الألفاظ التي لا حرمة لها، والمعاني التي لا حقائق لها.
ولما فهمت هذه الطائفة من الصفات الإلهية ما تفهمه من صفات المخلوقين، فرَّت إلى إنكار حقائقها، وابتغاء تحريفها، وسمَّته تأويلاً، فشبّهت أوَّلاً، وعطّلت ثانياً، وأساءت الظنَّ بربِّها وبكتابه وبنبيِّه، وبأتباعه"1.
ثم بيّن رحمه الله وجه إساءة هؤلاء الظنّ بربِّهم وكتابه ونبيّهم وأتباعه.
وقال الجويني في رسالته (النصيحة في صفات الرب جلَّ وعلا) : "وصفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة له من حيث التكييف والتحديد، فيكون المؤمن بها مبصراً من وجه، أعمى من وجه، مبصراً من حيث الإثبات والوجود، أعمى من حيث التكييف والتحديد، وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله به نفسه، وبين نفي التحريف والتشبيه والوقوف، وذلك هو مراد الله تعالى مِنَّا في إبراز صفاته لنا لنعرفه بها، ونؤمن بحقائقها وننفي عنها التشبيه، ولا نعطلها بالتحريف والتأويل، لا فرق بين الاستواء والسمع، ولا بين النزول والبصر، لأنَّ الكلَّ ورد في النص"2.
1 مدارج السالكين (3/359،360) .
2 النصيحة في صفات الرب جلَّ وعلا للجويني (الصلاة: 39، 40)، وانظر: ذمّ التأويل لابن قدامة (ص:15) .
فهذا هو مراد السلف رحمهم الله بقولهم: "بلا كيف".
ومع ذلك فقد قال الزمخشري المعتزلي في كشافه: "ثم تعجب من المتسمّين بالإسلام، المتسمّين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة1 مذهباً، ولا يغرّنك تستّرهم بالبَلْكَفَة2، فإنَّه من منصوبات أشياخهم3، والقول ما قال بعض العدلية4 فيهم:
لجماعة سمّوا هواهم سنّة
…
وجماعة حمر لعمري موكفه5
قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا
…
شنع الورى فتستّروا بالبلكفه"6.
وقد أجاب بعض أهل العلم عن هذين البيتين بمثلهما فقال:
عجباً لقوم ظالمين تلقّبوا
…
بالعدل ما فيهم لعمري معرفة
قد جاءهم من حيث لا يدرونه
…
تعطيل ذات الله مع نفي الصفة7
ثم هم مع تعطيل الذات ونفي الصفة قد شبّهوا الله تبارك وتعالى بخلقه، لأنّهم إنما قالوا بالتعطيل لتوهمهم التشبيه، ففرّوا منه إلى التعطيل، فوقعوا في
1 يقصد رؤية المؤمنين لربِّهم يوم القيامة بلا كيف إيماناً منهم بالنصوص وتصديقاً.
2 يريد قول السلف: "بلا كيف" فهو من باب المنحوتات مثل: البسملة والحمدلة، أي: أنَّ قولهم محض التشبيه، ويقولون بلا كيف على سبيل التستّر. انظر: ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري لأبي شامة (ص:159) .
3 أي: مالك، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي، ومكحول، والزهري، وغيرهم من أئمة السلف، وتقدّم نقل ذلك عنهم.
4 هم جماعته المعتزلة، سمّوا أنفسهم بذلك زاعمين أنهم نسبوا الله تعالى إلى العدل، حيث آخذ العبّاد بما جَنَوه على أنفسهم، ولم يجر به القضاء عليهم. انظر: ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري لأبي شامة (ص:159) .
5 قوله: "حمر" هو جمع حمار، وقوله:"موكفة"، الوكاف هو البرذعة التي توضع على الحمار، بهذا شبه هذا الظالم أهل السنة والجماعة، عامله الله بعدله.
6 الكشاف للزمخشري (2/92) .
7 ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري لأبي شامة (ص:159) .
تشبيه آخر، وهو تشبيه الله بالممتنعات والمعدومات أو الجمادات، وذلك بحسب نوع تعطيلهم، وقد "برّأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنّته عن ذلك كلّه فلم يصفوه إلَاّ بما وصف به نفسه ووصفه به نبيُّه صلى الله عليه وسلم، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبّهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عمّا أنزلت عليه لفظاً ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباتهم بريًّا من التشبيه، وتنزيههم خليًّا من التعطيل لا كمن شبّه حتى كأنَّه يعبد صنماً، أو عطّل حتى كأنَّه لا يعبد إلَاّ عدَماً"1، والحمد لله رب العالمين.
1 فائدة جليلة في قواعد الأسماء الحسنى (ص:51) ، وهي مستلّة من بدائع الفوائد لابن القيم.
2 ذم التأويل لابن قدامة (ص:26) .
3 سورة: فاطر، الآية:(10) .
المبحث الثالث:
في معنى قوله "والإيمان به واجب" والضوابط المستفادة منه
لا ريب أنَّ الإيمان بالاستواء وغيره من صفات الباري سبحانه واجبٌ، وكذلك "الجحود به كفرٌ، لأنَّه ردٌ لخبر الله، وكفرٌ بكلام الله، ومن كفر بحرف متفق عليه فهو كافر، فكيف بمن كفر بسبع آيات وردَّ خبَرَ الله تعالى في سبعة مواضع من كتابه"2، وقد سبق أنْ مرّ معنا نصوصٌ كثيرةٌ في مبحث سابق فيها أوضح دلالة على وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة. و"كتاب الله من أوّله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أوّلها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوءٌ بما هو إمّا نصٌ وإمّا ظاهرٌ في أنَّ الله سبحانه وتعالى هو العليُّ الأعلى، وهو فوق كلِّ شيء، وهو على كل شيء، وإنَّه فوق العرش، وإنَّه فوق السماء، مثل قوله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 3، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
إِلَيَّ} 1، {أَأَمِنْتُمْ مَن فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} 2، {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} 3، {بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} 4، {تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 5، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 6، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 7، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} ، في ستّة مواضع8، {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاِت فَأَطِّلِعَ إِلَى إِلَهِ ُموَسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} 9، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 10، {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 11 إلى أمثال ذلك مما لا يحصى إلا بكلفة.
وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة، مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربّه12، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار:"فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم"13.
1 سورة: آل عمران، الآية:(55) .
2 سورة: الملك، الآية:(16) .
3 سورة: الملك، الآية:(17) .
4 سورة: النساء، الآية:(158) .
5 سورة: المعارج، الآية:(4) .
6 سورة: السجدة، الآية:(5) .
7 سورة: النحل، الآية:(50) .
8 سورة: الأعراف الآية: (54) ، ويونس، الآية:(3) والرعد، الآية:(2) ، والفرقان، الآية:(59) ، والسجدة، الآية:(4) ، والحديد، الآية:(4) .
9 سورة: غافر، الآيات:(36،37)
10 سورة: فصلت، الآية:(42) .
11 سورة: الأنعام، الآية:(114) .
12 رواها البخاري (349 الفتح) ، ومسلم (1/145) وغيرهما من حديث أنس.
13رواه البخاري (555) ،و (3223 الفتح) ،ومسلم (1/439) وغيرهما من حديث أبي هريرة.