الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوَّل: في تخريج هذا الأثر، وبيان ثبوته وذكر الشواهد عليه من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح
المبحث الأوَّل: تخريج هذا الأثر وبيان ثبوته عن الإمام مالك رحمه الله
-
لقد اشتهر هذا الأثر عن الإمام مالك رحمه الله شهرة بالغة، ورواه عنه طائفة من تلاميذه، وهو مرويٌّ عنه من طرق عديدة، وقد حَظِي باستحسان أهل العلم، وتلقَّوه بالقبول، وهو مخرَّج في كتب عديدة من كتب السنة.
وفيما يلي ذكرٌ لما وقفت عليه من طرق لهذا الأثر مع ذكر مخرِّجيها، وما وقفت عليه من كلام أهل العلم في بيان ثبوته.
1-
رواية جعفر بن عبد الله1
قال الحافظ أبو نعيم في الحلية: حدّثنا محمد بن علي بن مسلم العقيلي، ثنا القاضي أبو أميَّة الغلابي، ثنا سلمة بن شبيب2، ثنا مهدي بن جعفر3، ثنا جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله
1 عدَّه الذهبي في المشتبه في الرواة عن مالك، وتعقَّبه ابن ناصر الدين في توضيح المشتبه (4/98 - 99) بقوله:" فيه نظر؛ لأنَّ هذا الإطلاق يوهم أنَّ شيخ جعفر مالكُ بن أنس الإمام، وكأنَّه - والله أعلم - عند المصنِّف الإمام مالك، فلهذا أطلقه، وليس بالإمام، إنَّما هو مالك بن خالد الأسدي البصري كما سمَّاه الأمير وغيره"، وذكر نحواً من هذا ابن حجر في تبصير المنتبه (2/621) .
2 هو سلمة بن شبيب النيسابوري أبو عبد الرحمن الحَجْري المسمَعي، نزيل مكة.
قال أبو حاتم: (صدوق)، وقال أبو نعيم:"أحد الثقات، حدّث عنه الأئمة والقدماء"، توفي سنة (247هـ)، انظر: تهذيب الكمال (11/284) .
3 هو مهدي بن جعفر بن جَيْهان بن بهرام الرملي، أبو محمد.
قال فيه ابن حجر:"صدوق له أوهام" كما في التقريب له (برقم:6979) .
ونقل ابن حجر في تهذيبه (10/289) عن الذهبي قوله:"رأيت له رواية عن مالك في تفسير ابن أبي حاتم"، توفي سنة (230هـ) .
{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض وجعل ينكتُ بعود في يده حتى علاه الرّحضاء يعني العرق ثمَّ رفع رأسه ورمى بالعود وقال:"الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وأمر به فأُخرج1.
ورواه الإمام أبو إسماعيل الصابوني في كتابه (عقيدة السلف) قال: أخبرنا أبو محمد المخلدي العدل، حدّثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن مسلم الإسفراييني، حدّثنا أبو الحسين علي بن الحسن، حدّثنا سلمة بن شبيب به، وذكر نحوَه، إلاّ أنّه قال:"الكيف غير معلوم"2.
ورواه أيضاً الإمام الصابوني من طريق أخرى قال: أخبرنا به جدّي أبو حامد أحمد بن إسماعيل، عن جدّ والدي الشهيد، وأبو عبد الله محمد بن عدي بن حمدويه الصابوني، حدّثنا محمد بن أحمد ابن أبي عون النسوي، حدّثنا سلمة بن شبيب به3.
ورواه الحافظ اللالكائي في شرح الاعتقاد من طريق علي بن الربيع التميمي المقري قال: ثنا عبد الله بن أبي داود قال: ثنا سلمة ابن شبيب به، باللفظ السابق4.
1 الحلية لأبي نعيم (6/325،326) ، ورواه الذهبي في السير (8/100) من طريق أبي نعيم.
2 عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص:38) .
3 عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص:39) .
4 شرح الاعتقاد (3/398) .
قال الألباني - حفظه الله -:"وأما ما عزاه إليه صاحب (فرقان القران بين صفات الخالق وصفات الأكوان) (ص:16) : بلفظ:"الاستواء مذكور" فلم أره فيه، ولا رأيت من ذكره غير المشار إليه، وهو من الثقات [كذا في الأصل وهو تصحيف من الطابع، والصواب (وهو من النفاة) ] ؛ ولذلك ركن إلى هذا اللفظ لأن فيه ما يريده من نفي معنى الاستواء وأنه معروف عند مالك"، مختصر العلوّ (ص:142) .
وتابعه بكّار بن عبد الله1 عن مهدي بن جعفر عن مالك، ولم يذكر شيخه جعفر بن عبد الله.
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد2، أخبرنا محمد بن عبد الملك قال: حدّثنا عبد الله بن يونس قال: حدّثنا بقيُّ بن مخلد قال: حدّثنا بكار بن عبد الله القرشي قال: حدّثنا مهدي بن جعفر عن مالك ابن أنس أنَّه سُئل عن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : كيف استوى؟، قال: فأطرق مالك ثم قال:"استواؤه مجهول3، والفعل منه غير معقول، والمسألة عن هذا بدعة".
وتابعه أيضاً الإمام الدارمي، قال في كتابه الردّ على الجهميّة: حدّثنا مهدي بن جعفر الرملي ثنا جعفر بن عبد الله وكان من أهل الحديث ثقة عن رجل قد سمّاه لي، قال: جاء رجل إلى مالك ابن أنس، وذكره4.
فزاد في إسناده بعد جعفر بن عبد الله:"عن رجل".
ومهدي بن جعفر صدوق له أوهام وقد اضطرب في روايته لهذه القصة، فرواها مرّة عن شيخه جعفر بن عبد الله عن مالك، ورواها مرّة أخرى عن شيخه جعفر عن رجل عن مالك، ورواها مرّة ثالثة عن مالك مباشرة، وهذا
1 هو بكار بن عبد الله بن بسر بن أرطاة الدمشقي القرشي.
روى عن أسد بن موسى، وروى عنه أحمد بن أبي الحواري وأبو حاتم وأبو زرعة.
قال ابن أبي حاتم:"كتبت عنه عن أبي وسألته عن بكار هذا؟ فقال: (هو صدوق) ، الجرح والتعديل (1/1/410) .
(7/151) .
3 كذا وردت العبارة في التمهيد وهي يقيناً محرّفة، والصواب كما في الطرق المتقدِّمة للأثر وغيرها"استواؤه غير مجهول"، وقد أفادني أحد طلَاّب العلم الثقات باطّلاعه على النسخة الخطية للتمهيد في المغرب ووجد لفظة [غير] ملحقة بالهامش من الناسخ، ثم وقفت على مصورة لها فوجدت الأمر كذلك.
4 الردّ على الجهميّة (ص:55،56) .
الاضطراب الذي في هذه الطريق لا ينفي صحة القصة؛ لأنَّها قد جاءت من طرق أخرى تعضدها وتقوِّيها - كما سيأتي -.
2-
رواية عبد الله بن وهب1
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أحمد بن محمد بن إسماعيل بن مهران2، ثنا أبي3، حدّثنا أبو الربيع بن أخي رشدين ابن سعد4 قال: سمعت عبد الله بن وهب يقول: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استواؤه؟، قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه فقال:"الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه،
1 هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي الفهري، أبو محمد.
روى عن خلق كثير، وثّقه ابن معين وأبو زرعة، وقال فيه أحمد بن حنبل:"ما أصحّ حديثه وأثبتَه".
وهو من أثبت الناس في مالك؛ فقد قال هارون بن عبد الله الزهري:"كان الناس يختلفون في الشيء عن مالك، فينتظرون قدوم ابن وهب حتى يسألوه عنه".
وقال أبو مصعب:"مسائل ابن وهب عن مالك صحيحة"، توفي سنة (197هـ) ، تهذيب الكمال (16/277 - 286) .
وقال فيه ابن حجر في التقريب (رقم:3718) :"ثقة حافظ عابد".
2 أحمد بن محمد بن إسماعيل بن مهران الإسماعيلي النيسابوري أبو الحسن.
قال فيه الذهبي في تاريخ الإسلام (وفيات 331هـ فما بعدها)(ص:187) : "أبو الحسن الإسماعيلي النيسابوري العدل".
وقال السمعاني في الأنساب (1/155) :"كان كثير السماع من أبيه".
3 محمد بن إسماعيل بن مهران أبو بكر الإسماعيلي، قال فيه الحاكم:"هو أحد أركان الحديث بنيسابور، كثرة ورحلة واشتهارا
…
ثقة مأمون"، قال إبراهيم ابن أبي طالب:"لم يجوِّد لنا حديث مالك كالإسماعيلي"، توفي سنة (295هـ)، انظر: سير أعلام النبلاء (14/117 - 118) .
4 أبو الربيع هو سليمان بن داود بن حماد بن سعد المَهْري، وجدّه حماد بن سعد أخو رِشْدين بن سعد، توفي سنة (253هـ) .
ترجم له المزي في تهذيب الكمال (11/409 - 410) ، وذكر أنَّ النسائي وثّقه.
ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه، قال: فأُخرج"1.
قال الذهبي في العلوّ:"وساق البيهقي بإسناد صحيح عن أبي الربيع الرشديني عن ابن وهب
…
" وذكره2.
وقال الحافظ ابن حجر:"وأخرج البيهقي بسند جيِّد عن ابن وهب
…
" وذكره3.
3-
رواية يحيى بن يحيى التميمي4
قال البيهقي رحمه الله في كتابه الأسماء والصفات:
أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه الأصفهاني5، أنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيَّان المعروف بأبي الشيخ6، ثنا أبو جعفر أحمد بن زيرك اليزدي: سمعت محمد بن عمرو بن النضر النيسابوري7 يقول: سمعت يحيى بن يحيى يقول: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله
1 الأسماء والصفات (2/304)، وأورده الذهبي في العلوّ (ص:141مختصره) والأربعين (ص:80 ضمن مجموع الرسائل الست للذهبي) والسير (8/100) .
2 مختصر العلوّ (ص:141) .
3 فتح الباري (13/406،407) .
4 هو يحيى بن يحيى بن بكر التميمي أبو زكريا النيسابوري.
وثّقه أحمد وابن راهويه والنسائي وغيرهم. توفي سنة (226هـ) ، تهذيب الكمال (32/31-37) .
5 أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن الحارث الفقيه التميمي الأصفهاني، قال فيه الذهبي في تاريخ الإسلام (وفيات 430هـ) (ص:281) :"الزاهد المقرئ النحوي المحدِّث
…
، وكان إماماً في العربية".
6 أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيّان المعروف بأبي الشيخ، قال فيه الخطيب البغدادي:"كان أبو الشيخ حافظاً ثبتاً متقناً"، توفي سنة (369هـ)، انظر: سير أعلام النبلاء (16/277 - 279) .
7 أبو علي محمد بن عمرو بن النضر الجرشي النيسابوري، قال الذهبي في تاريخ الإسلام (وفيات: 281 - 290) (ص:282) :"وكان صدوقاً مقبولاً".
{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} فكيف استوى؟، قال: فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال:"الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلاّ مبتدعاً. فأمر به أن يُخرج"1.
ورواه البيهقي في كتابه الاعتقاد بالإسناد نفسه2.
وأورده الذهبي في العلوّ قال: وروى يحيى بن يحيى التميمي وجعفر بن عبد الله وطائفة، وذكره ثم قال:"هذا ثابت عن مالك"3.
وقال الإمام شمس الدين محمد بن عبد الهادي في كتابه في الاستواء:"صحيح ثابت عن مالك"4.
4-
رواية جعفر بن ميمون5
قال الإمام أبو إسماعيل الصابوني حدّثنا أبو الحسن بن إسحاق المدني، حدّثنا أحمد بن الخضر أبو الحسن الشافعي6، حدّثنا شاذان، حدّثنا ابن مخلد بن يزيد
1 الأسماء والصفات (2/305،306) .
2 الاعتقاد (ص:56)، مختصر العلوّ (ص:141) .
3 مختصر العلوّ (ص:141) .
(ق: 4) وهو عندي قيد التحقيق.
5 هو جعفر بن ميمون التميمي أبو عليّ، ويقال: أبو العوّام الأنماطي.
روى عن أبي العالية وعطاء بن أبي رباح وغيرهما، وروى عنه السفيانان ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم.
قال عنه أحمد:"ليس بقويٍّ في الحديث"، ونحوه عن النسائي.
وقال فيه ابن معين:"ليس بذاك"، وقال في موضع آخر:"ليس بثقة"، وقال في موضع آخر:"صالح الحديث".
وقال أبو حاتم:"صالح"، ولعله من أجل هذا قال فيه الدارقطني:"يُعتبَر به".
انظر: تهذيب الكمال (5/114،115) .
وقال فيه ابن حجر في التقريب (رقم:969) :"صدوق يخطئ، من السادسة".
6 هو أحمد بن الخَضِر بن أحمد أبو الحسن النيسابوري الشافعي.
قال فيه الذهبي في السير (15/501) :"الحافظ المجوِّد الفقيه
…
، من كبار الأئمة
…
، مات في جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وثلاثمائة".
القهستاني، حدّثنا جعفر بن ميمون قال: سئل مالك بن أنس عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، قال:"الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلاّ ضالاًّ، وأمر به أن يخرج من مجلسه"1.
5-
رواية سفيان بن عيينة2
قال القاضي عياض:"قال أبو طالب المكي: كان مالك
رحمه الله أبعدَ الناس من مذاهب المتكلِّمين، وأشدَّهم بُغضاً للعراقيين، وألزَمَهم لسنة السالفين من الصحابة والتابعين، قال سفيان بن عيينة: سأل رجلٌ مالكاً فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى يا أبا عبد الله؟، فسكت مالكٌ مليًّا حتى علاه الرحضاء، وما رأينا مالكاً وجد من شيء وجده من مقالته، وجعل الناس ينظرون ما يأمر به، ثمَّ سُريَّ عنه فقال:"الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، والإيمان به واجب، وإني لأظنُّك ضالاًّ، أخرجوه".
1 عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص:38) .
2 هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران، أبو محمد الكوفي ثم المكي.
قال فيه ابن حجر في التقريب (رقم:2464) :"ثقة، حافظ، فقيه، إمام، حجة، إلَاّ أنَّه تغيَّر حفظه بآخرة، وكان ربّما دلّس لكن عن الثقات".
وقال عنه الشافعي:"لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز".
وأما اختلاطه فرُوي عن يحيى بن سعيد القطان، وأنَّ ذلك كان في سنة (197هـ) أي سنة وفاة سفيان، قال الذهبي متعقِّباً إيّاه:"أنا أستبعد صحّةَ هذا القول؛ فإنَّ القطان مات في صفر سنة ثمان وتسعين، بُعيد قدوم الحُجَّاج بقليل، فمن الذي أخبره باختلاط سفيان؟، ومتى لَحِقَ يقول هذا القول؟!، فسفيان حجَّةٌ مطلقاً بالإجماع من أرباب الصحاح"، كذا في تاريخ الإسلام وفيات (191 - 200هـ، ص:199) .
فناداه الرجل: يا أبا عبد الله، والله الذي لا إله إلَاّ هو، لقد سألتُ عن هذه المسألة أهلَ البصرة والكوفة والعراق، فلم أجِد أحداً وُفِّق لما وُفِّقت له"1.
6-
رواية محمد بن النعمان بن عبد السلام التيمي2.
قال أبو الشيخ الأنصاري في كتابه طبقات المحدّثين: حدّثنا عبد الرحمن بن الفيض3، قال: ثنا هارون بن سليمان4، قال: سمعت محمد بن النعمان بن عبد السلام يقول:"أتى رجل مالكَ بنَ أنس فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، قال: فأطرق، وجعل يعرق، وجعلنا ننتظر ما يأمر به، فرفع رأسه، فقال:"الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلاّ ضالاًّ، أَخرجوه من داري"5، وإسناده جيّد.
1 ترتيب المدارك للقاضي عياض (2/39) ، ونقله الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/106،107) .
2 أبو عبد الله التيمي الأصبهاني.
قال عنه أبو الشيخ الأنصاري:"محدّث ابن محدّث ابن محدّث، توفي سنة أربعٍ وأربعين ومائتين، يحدّث عن وكيع وابن عيينة وحفص بن غياث وأبي بكر بن عياش وغيرهم، أحد الورعين، قليل الحديث، لم يحدّث إلَاّ بالقليل"، طبقات المحدّثين بأصبهان (2/211) .
وقال عنه الذهبي:"شيخ أصبهان، وابن شيخها، وأبو شيخها عبد الله"، تاريخ الإسلام وفيات (241 - 250) (ص:475) .
3 هو عبد الرحمن بن الفيض بن سنده بن ظهر أبو الأسود، أحد الثقات الأصبهانيين، تاريخ الإسلام وفيات (321 - 330) (ص:84) .
4 هو هارون بن سليمان الخزار الأصبهاني، أحد الثقات، توفي سنة خمس، وقيل: ثلاث وستين ومائتين، أخبار أصبهان لأبي نعيم (2/336) .
5 طبقات المحدّثين بأصبهان (2/214) .
7-
رواية عبد الله بن نافع1.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن2، قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ابن مالك3، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل4، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا سريج بن
1 روى عن مالك رجلان بهذا الاسم:
أحدهما: عبد الله بن نافع الصائغ (ت206هـ) .
والثاني: عبد الله بن نافع حفيد ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوّام، ولذلك يُقال له: الزبيري، كما يُعرف بعبد الله بن نافع الصغير (ت216هـ) .
ولم يتضح لي من خلال رواية ابن عبد البر هذه أيّهما المراد، وقد قال الذهبي في السير (10/372) :"وكثيراً ما تختلط روايتهم عند الفقهاء حتى لا علم عند أكثرهم بأنّهما رجلان"، ونقل قبل ذلك عن ترتيب المدارك للقاضي عياض أنَّ سحنوناً كان يرى وجوب بيانهما، وإن كانا ثقتين إمامين حتى لا تختلط روايتهما.
قال:"فإنَّ الصائغ أكبر وأقدم وأثبت في مالك لطول صحبته له".
وقد قال الحافظ ابن حجر في التقريب في الصائغ:"ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين"، وقال في الزبيري:"صدوق".
فليس في الأمر كبير إشكال؛ إذ حديث كل منهما لا ينزل عن درجة الحسن.
2 عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، أبو محمد يعرف بابن الزيات، توفي سنة (390هـ) .
انظر: جذوة المقتبس للحميدي (ص:252)، وبغية الملتمس للضبي (ص:332) ، وفهرست ابن خير (ص:102،104) ، وتذكرة الحفاظ للذهبي (ص:1511) .
3 أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك بن شبيب البغدادي، أبو بكر القطيعي، راوي مسند أحمد، قال فيه الدارقطني:"ثقة زاهد قديم"، وتُكلِّم فيه بأخرة، توفي سنة (368هـ) .
انظر: السير للذهبي (16/212 - 213) ، والمنهج الأحمد للعليمي (2/75 - 58) .
4 عبد الله بن إمام السنة أحمد بن حنبل.
قال فيه الذهبي في السير (13/516) :"الإمام الحافظ الناقد، محدّث بغداد أبو عبد الرحمن، ابن شيخ العصر أبي عبد الله
…
".
وقال الخطيب في تاريخه (9/375) :"وكان ثقة ثبتاً فهماً"، توفي سنة (290هـ) .
النعمان1، قال: حدّثنا عبد الله بن نافع، قال: قال مالك بن أنس:"الله عز وجل في السماء وعلمه في كلِّ مكان، لا يخلو منه مكان، قال: وقيل لمالك: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فقال مالك رحمه الله: استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء"2.
8-
رواية أيوب بن صالح المخزومي3.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: وأخبرنا محمد بن عبد الملك4، قال: حدّثنا عبد الله بن يونس5، قال: حدّثنا بقي بن
1 سريج بن النعمان بن مروان الجوهري اللؤلؤي، أبو الحسين، ويُقال أبو الحسن البغدادي.
وثَّقه يحيى بن معين، والعجلي، وأبو داود، وغيرهم.
وقال فيه ابن حجر:"ثقة يهم قليلاً"، كذا في التقريب، توفي سنة (217هـ) .
انظر: تهذيب الكمال للمزي (10/218) .
2 التمهيد (7/138) . والمراد بقوله:"الاستواء معقول" أي: معقول المعنى كما في الروايات الأخرى، وكما تفيده الجملة التي بعده، ألَا وهي قوله:"وكيفيته مجهولة".
3 أيوب بن صالح بن سلمة الحراني المخزومي أبو سليمان المدني، سكن الرملة، وروى عن مالك الموطأ، ضعّفه ابن معين، وقال فيه ابن عدي:"روى عن مالك ما لم يتابعه عليه أحد"، لسان الميزان (1/483) ، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (1/131) ، المغني في الضعفاء للذهبي (1/155) .
4 محمد بن عبد الملك بن ضيفون اللخمي القرطبي الحدَّاد، أبو عبد الله.
قال فيه ابن الفرضي:"كان رجلاً صالحاً أحد العدول، وكتب الناس عنه، وعلت سنُّه فاضطرب في أشياء قُرئت عليه وليست ممّا سمع، ولا كان من أهل الضبط"، توفي سنة (492هـ) .
انظر: تاريخ العلماء لابن الفرضي (2/110) ، والسير للذهبي (17/56) ، ولسان الميزان لابن حجر (5/267) ، وقد تحرّف في مطبوعة اللسان إلى (محمد بن عبد الملك بن صفوان!) .
5 عبد الله بن يونس بن محمد بن عبيد الله المرادي أبو محمد، يُعرف بالقَبْري، من قبْرة الأندلس.
هو صاحب بقي بن مخلد، سمع منه مصنَّف ابن أبي شيبة، توفي سنة (330هـ) .
انظر: تاريخ العلماء لابن الفرضي (1/265) ، وتوضيح المشتبه لابن ناصر الدين (7/178) .
مخلد1، قال: حدّثنا بكّار بن عبد الله القرشي2
…
وساق روايته للأثر المتقدّمة من طريق مهدي بن جعفر، ثم قال: قال بقي: وحدّثنا أيوب بن صلاح3 المخزومي بالرملة، قال:"كنا عند مالك إذ جاءه عراقي فقال له: يا أبا عبد الله مسألة أريد أن أسألك عنها؟، فطأطأ مالك رأسه فقال له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، قال: سألتَ عن غير مجهول، وتكلّمت في غير معقول، إنّك امرؤ سوء، أخرِجوه، فأخذوا بضبعيه فأخرجوه"4.
9-
رواية بشّار الخفّاف الشيباني5.
قال ابن ماجه في التفسير: حدّثنا علي بن سعيد6، قال: حدّثنا بشّار الخفّاف أو غيره، قال:"كنت عند مالك بن أنس فأتاه رجل فقال: يا أبا
1 بقي بن مَخلَد بن يزيد، أبو عبد الرحمن الأندلسي القرطبي.
قال ابن الفرضي:"كان بقيٌّ ورِعاً فاضلاً زاهداً".
وقال الذهبي:"الإمام القدوة شيخ الإسلام
…
الحافظ، صاحب التفسير والمسند اللذين لا نظير لهما"، توفي سنة (276هـ) .
انظر: تاريخ العلماء (1/107 - 109) ، وسير أعلام النبلاء (13/285) .
2 بكّار بن عبد الله بن بسر الدمشقي القرشي.
قال فيه أبو حاتم في الجرح والتعديل (2/410) :"هو صدوق".
3 كذا في التمهيد، وهو خطأ.
4 التمهيد (7/151) .
5 هو بشار بن موسى الخفّاف الشيباني أبو عثمان، روى عن مالك، وروى عنه عليّ بن سعيد النسوي، تكلّم فيه البخاري ويحيى بن معين، وأبو داود، والنسائي وعلي بن المديني، وغيرهم.
قال أحمد بن يحيى بن الجارود: سمعت علياً [يعني: ابن المديني] وذكر بشار بن موسى [الخفاف] فقال: ما كان ببغداد أصلب منه في السنة، وما أحسن رأي أبي عبد الله فيه، يعني أحمد بن حنبل، انظر: تهذيب الكمال (4/85 - 90) .
6 هو علي بن سعيد النسوي أو النسائي، قال في التقريب:"صدوق صاحب حديث".
عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، كيف استوى؟، وذكره، كذا في تهذيب الكمال1.
وقال أبو المظفر السمعاني في تفسيره:"وقد رووا عن جعفر بن عبد الله وبشر الخفّاف2 قالا: كنّا عند مالك بن أنس فأتاه رجل فسأله عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، كيف استوى؟ فأطرق مالك مليًّا، وعلاه الرحضاء، ثم قال:"الكيف غير معقول، الاستواء مجهول3، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنّك إلاّ ضالاًّ، ثم أمر به فأخرج"4، من غير شك في رواية بشار الخفاف.
10-
رواية سحنون5 عن بعض أصحاب مالك.
قال ابن رشد في البيان والتحصيل: قال سحنون: أخبرني بعض أصحاب مالك أنَّه كان قاعداً عند مالك فأتاه رجل فقال:"يا أبا عبد الله مسألة؟، فسكت عنه ثم قال له: مسألة؟، فسكت عنه، ثم عاد فرفع إليه مالك رأسَه كالمجيب له، فقال السائل: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، كيف كان استواؤه؟ فطأطأ مالك رأسَه ساعة ثم رفعه، فقال:"سألتَ عن غير مجهول، وتكلّمتَ في غير معقول، ولا أراك إلَاّ امرأ سوء، أَخرِجوه"6.
(4/90) ، و (20/449) .
2 كذا، ولعله مصحّف من (بشار) .
3 كذا في المصدر المنقول عن والصواب"الاستواء غير مجهول".
4 تفسير السمعاني (3/320) .
5 سحنون: هو الإمام العلَاّمة فقيه المغرب، أبو سعيد عبد السلام بن حبيب بن حسان التنوخي، قاضي القيروان، وصاحب المدونة.
سمع من ابن عيينة، ولازم تلاميذ مالك: ابن وهب وابن القاسم وأشهب، حتى صار من نظرائهم، توفي سنة (240هـ) .
انظر: السير للذهبي (12/63 - 69) .
6 البيان والتحصيل (16/367 - 368) .
فهذا جملة ما وقفت عليه من طرق لهذا الأثر عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، وبعض طرقه صحيحة ثابتة، وبعضها لا يخلو من مقال، إلا أنّها يشدّ بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، والأثر ثابت بلا ريب بمجموع هذه الطرق، ولذا اعتمده أهل العلم، وصححه غير واحد، وقد تقدّم الإشارة إلى بعض من صحّحه، ولا يُعرف أحدٌ منهم ضعّفه، وسيأتي في مبحث لاحق نقل كلام أهل العلم في التنويه به، والثناء عليه، وتلقّيهم له بالقبول والاستحسان.
وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ كلام الإمام مالك رحمه الله واضح في الإثبات على طريقة أئمة السلف، ومع ذلك فـ"قد حرّف بعضهم كلام هؤلاء الأئمة على عادته فقال: معناه الاستواء معلوم لله، فنسبوا السائل إلى أنَّه كان يشكّ هل يعلم الله استواء نفسه أو لا يعلمه، ولما رأى بعضهم فساد هذا التأويل قال: إنّما أراد به أنَّ ورود لفظه في القرآن معلوم، فنسبوا السائل والمجيب إلى الغفلة1، فكأنَّ السائل لم يكن يعلم أنّ هذا اللفظ في القرآن وقد قال يا أبا عبد الله:{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فلم يقل: هل هذا اللفظ في القرآن أم لا، ونسبوا المجيب إلى أنَّه أجابه بما يعلمه الصبيان في المكاتب ولا يجهله أحد، ولا هو مما يحتاج إلى السؤال عنه، ولا استشكله السائل، ولا خطر بقلب المجيب أنَّه يسأل عنه"2.
وقد أجاب عن هذا التحريف شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "فإن قيل: معنى قوله "الاستواء معلوم" أنَّ ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم، كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه.
قيل: هذا ضعيف، فإنَّ هذا من باب تحصيل الحاصل، فإنَّ السائل قد علم أنَّ هذا موجود في القرآن وقد تلا الآية، وأيضاً فلم يقل: ذكر الاستواء في القرآن، ولا إخبار الله بالاستواء، وإنَّما قال: الاستواء معلوم، فأخبر عن الاسم المفرد أنَّه معلوم، لم يخبر عن الجملة.
وأيضاً فإنَّه قال: "والكيف مجهول"، ولو أراد ذلك لقال: معنى الاستواء
1 في المطبوع: "إلى اللغة"، وهو خطأ، والتصويب من النسخة الخطية (ق160/ب)، وهي مصوّرة في قسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية (برقم:652 فلم) عن دار العلوم لندوة العلماء بلكنا والهند.
2 مختصر الصواعق (ص:336) .
عقله له نطاق محدّد، ومجال لا يمكن أن يتجاوزه.
يروى أنَّ رجلاً أتى بابن له إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: "لقد حيّرت الخصومة عقله، وأذهبت المنازعة قلبه، وذهبت به الكلفة عن ربه، فقال عبد الله: امدد بصرك يا ابن أخي ما السواد الذي ترى؟ قال: فلان، قال: صدقت، قال: فما الخيال المسرف من خلفه؟ قال: لا أدري، قال عبد الله: يا ابن أخي فكما جعل الله لأبصار العيون حداًّ محدوداً من دونها حجاباً مستوراً فكذلك جعل لأبصار القلوب غاية لا يجاوزها، وحدوداً لا يتعدّاها، قال: فردّ الله عليه غارب عقله، وانتهى عن المسألة عما لا يعنيه، والنظر فيما لا ينفعه، والتفكر فيما يحيِّره"1.
وهو كلام حسن وتنظير سديد وإن كان لم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما2 والأمر كما ذكر، فكما أنَّ الله جعل لأبصار العيون حدوداً معلومة فكذلك الشأن في أبصار القلوب، لها مجال محدود لا يمكنها أن تتجاوزه أو تتعدّاه.
أورد هذا الأثر ابن بطة في كتابه الإبانة وقال معلِّقاً عليه: "فاتقوا الله يا معشر المسلمين وانتهوا عن معرفة خلقه، أما تعلمون أنَّ الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلاّ الحق، فسبحان الله أنى تؤفكون"3.
وقد عقد الإمام ابن بطة رحمه الله في هذا الموضوع باباً نافعاً في كتابه الإبانة
1 رواه ابن بطة في الإبانة (1/422) .
2 في إسناده أبو اليقظان وهو عثمان بن عمير البجلي ضعيف اختلط وكان يدلِّس ويغلو في التشيُّع كما في التقريب لابن حجر، ومسعود بن بشير لم أجده.
3 الإبانة لابن بطة (1/423) .
وهو (باب ترك السؤال عما لا يعني البحث والتنقير عما لا يضر جهله والتحذير من قوم يتعمّقون في المسائل ويتعمّدون إدخال الشكوك على المسلمين)1.
أورد تحته جملة من النصوص والآثار منها:
1-
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فاعملوا منه ما استطعتم"2.
2-
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: "هلك المتنطِّعون" ثلاث مرات3.
3-
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلاّ عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض كلُّهن في القرآن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ} 4، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ} 5، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى} 6، {وَيَسَأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ} 7 ما كانوا يسألون إلاّ عمّا ينفعهم".
4-
حديث المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله عز وجل كره لكم ثلاثاً: قيل وقال وكثرة السؤال"8.
1 الإبانة (1/390 424) .
2 رواه البخاري (13/251 الفتح) ، ومسلم (4/1830) .
3 رواه مسلم (4/2055) .
4 سورة: البقرة، الآية:(217) .
5 سورة: البقرة، الآية:(219) .
6 سورة: البقرة، الآية:(220) .
7 سورة: البقرة، الآية:(222) .
8 رواه البخاري (3/340 الفتح) ومسلم (3/1341) .
5-
وعن ابن شبرمة رحمه الله قال: "من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسؤول أن يجيب فيها".
6-
وعن عمران بن عبد الله الخزاعي قال: مرّ القاسم بن محمد بقوم يتكلّمون في القدر فقال: "انظروا ما ذكر الله في القرآن فتكلموا فيه وما كفّ الله عنه فكفُّوا".
7-
وعن إبراهيم النخعي قال: "كانوا لا يسألون إلاّ عن الحاجة".
8-
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إذا أراد الله بعبد خيراً سدده وجعل سؤاله عما يعنيه وعلمه فيما ينفعه".
وذكر آثاراً أُخر ثم قال: "فالعجب يا إخواني رحمكم الله لقوم حيارى تاهت عقولهم عن طرقات الهدى، فذهبت تند محاضره في أودية الردى، تركوا ما قدّمه الله عز وجل في وحيه وافترضه على خلقه، وتعبَّدَهم بطلبه وأمرهم بالنظر والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق ولا تقدمهم فيه سلَف سابق، فشغلوا به وفرّغوا له آراءهم وجعلوه ديناً يدعون إليه ويعادون من خالفهم عليه، أما علم الزائغون مفاتيح أبواب الكفر ومعالم أسباب الشرك، التكلف لما لم تحط الخلائق به علماً به، ولم يأت القرآن بتأويله ولا أباحت السنة النظر فيه، فتزيد الناقص الحقير والأحمق الصغير بقوته الضعيفة، وعقله القصير، أن يهجم على سر الله المحجوب، ويتناول علمه بالغيوب يريدها لنفسه، وطوى عليها علمها دون خلقه، فلم يحيطوا من علمها إلاّ بما شاء، ولا يعلمون منها إلاّ ما يريد، فكلما لم ينزل الوحي بذكره ولم تأت السنة بشرحه من مكنون علم الله ومخزون غيبه وخفي أقداره فليس للعباد أن يتكلّفوا من علمه ما لا يعلمون، ولا يتحمّلوا من نقله ما لا يطيقون، فإنه لن يعدو رجل كلف ذلك نظره وقلّب فيه فكره أن يكون كالناظرين في عين الشمس ليعرف قدرها، أو
كالمرتمي في ظلمات البحور ليدرك قعرها، فليس يزداد على المضي في ذلك إلاّ بعداً، ولا على دوام النظر في ذلك إلاّ تحيُّراً، فليقبل المؤمن العاقل ما يعود عليه نفعه، ويترك إشغال نظره وإعمال فكره في محاولة الإحاطة بما لم يكلفه، ومرام الظفر بما لم يطوقه، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة ويلزم الحجة الواضحة والجادة السابلة والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به والمخالفة إلى ما ينهى عنه، يقع والله في بحور المنازعة وأمواج المجادلة ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه والمخالفة لأمره والتعدي لحدوده، والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه، أما يعلمون أنَّ الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلاّ الحق فسبحان الله أنى تؤفكون.
حدّثني ابن الصواف، قال: سمعت أبي يقول: سمعت بعض العلماء يقول: "لو كلَّف الله هؤلاء ما كلَّفوه أنفسهم من البحث والتنقير لكان من أعظم ما افترضه عليهم".
فالزموا رحمكم الله الطريق الأقصد والسبيل الأرشد والمنهاج الأعظم من معالم دينكم وشرائع توحيدكم التي اجتمع عليها المختلفون واعتدل عليها المعترفون {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1، وترك الدخول في الضيق الذي لم نخلق له"2.
1 سورة: الأنعام، الآية:(153) .
2 الإبانة لابن بطة (1/420،421) .
الفصل الثالث: في إبطال تحريفات أهل البدع لهذا الأثر
رغم أنَّ كلام الإمام مالك رحمه الله واضح غايةَ الوضوح، ظاهر مراده به تمام الظهور، من خلال سياق الأثر نفسه، ومن خلال القصة التي ورد فيها، ومن خلال منهج الإمام مالك في الصفات عموماً، ومن خلال أيضاً مقارنته بأقوال غيره من أئمة السلف، إلاّ أنَّ أهل الأهواء قد فهم بعضهم من كلامه رحمه الله خلاف ما أراد، وبنوا عليه خلاف ما قصد.
والإمام مالك رحمه الله وغيره من أئمة السلف كالشافعي وأحمد وابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي وغيرهم يُنقل عنهم نقول كثيرة في تقرير العقيدة وإثبات الصفات والرد على المعطِّلة وذمّ المبتدعة وهجرانهم وعقوبتهم "وهذه الأقوال سمعها طوائف مِمَّن اتبعهم وقلّدهم ثم إنَّهم يخلطون في مواضع كثيرة السنة والبدعة، حتّى قد يبدّلون الأمر، فيجعلون البدعة التي ذمّها أولئك هي السنة، والسنة التي حمدها أولئك هي البدعة، ويحكمون بموجب ذلك، حتى يقعوا في البدع والمعاداة لطريق أئمتهم السنيّة، وفي الحب والموالاة لطريق المبتدعة التي أمر أئمتهم بعقوبتهم، ويلزمهم تكفير أئمتهم ولعنهم والبراءة منهم.....
ومن أمثلة ذلك: أنَّ كلام مالك في ذم المبتدعة وهجرهم وعقوبتهم كثير، ومن أعظمهم عنده الجهمية الذين يقولون: إنَّ الله ليس فوق العرش، وإنَّ الله لم يتكلّم بالقرآن كله، وإنَّه لا يُرى كما وردت به السنة، وينفون نحو ذلك من الصفات.
ثم إنَّه كثير من المتأخّرين من أصحابه من ينكر هذه الأمور، كما ينكرها فروع الجهمية، ويجعل ذلك هو السنة، ويجعل القول الذي يخالفها، وهو قول مالك وسائر الأمة السنة هو البدعة، ثم إنه مع ذلك يعتقد في أهل البدعة ما قاله مالك، فبدّل هؤلاء الدين فصاروا يطعنون في أهل السنة"1.
وقول الإمام مالك رحمه الله الذي هو موضوع هذه الدراسة ناله شيء من هذا الذي سبق الإشارة إليه، حيث فُهم منه أمورٌ لم يُرِدْها رحمه الله، وذلك من قِبل من تأثّر بالمناهج الكلامية والطرق الفلسفية، فإنَّ مثل هؤلاء يأتون إلى أقوال الأئمة بل إلى نصوص القرآن والسنة وهم يحملون تصوُّرات مسبقة وعقائد راسخة لا تمتُّ إلى الحق بصلة، ثم يحاولون جاهدين صرف النصوص إلى عقائدهم وحملها على أهوائهم بطرُقٍ متكلَّفة، ورحم الله الإمام ابن القيم إذ يقول:"وما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة، ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال جداً، وإن ساعد الله أفردنا لها كتاباً"2.
وقد ظنَّ هؤلاء أنَّ طريقة الإمام مالك رحمه الله وغيره من أئمة السلف هي مجرّد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لمعانيها بمنزلة الذين قال الله فيهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلَاّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} 3 وسبب ذلك هو اعتقاد هؤلاء أنَّ النصوص لم تدل على صفة حقيقية لله عز وجل، لأنَّ ثبوتها يلزم منه بزعمهم التشبيه، فحملتهم هذه الظنون الفاسدة والاعتقادات المنحرفة إلى تحريف أقوال الأئمة رحمهم الله.
1 الاستقامة لابن تيمية (1/13 15) باختصار وتصرّف يسير، وقد ذكر شيخ الإسلام أمثلة أخرى في بعض أتباع الشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله.
2 مدارج السالكين (2/431) .
3 سورة: البقرة، الآية:(78) .
وسأقتصر في التمثيل على ذلك بنقلين عن اثنين من المعاصرين حول ما فهماه من كلامه رحمه الله، ثم أوضِّح ما في ذلك من انحراف وفساد وشطط في فهم كلام الإمام مالك رحمه الله.
1-
قال الكوثري معلِّقاً على أثر الإمام مالك: "الاستواء معلوم يعني مورده في اللغة والكيفية التي أرادها الله مما يجوز عليه من معاني الاستواء مجهولة، فمن يقدر أن يعيِّنها؟ فتحصّل لك من كلام إمام المسلمين مالك أنَّ الاستواء معلوم وأنَّ ما يجوز على الله غير متعيّن وما يستحيل عليه هو منزّه عنه"1.
ففهم من كلام الإمام مالك رحمه الله أنَّه أراد تفويض المعنى، لأنَّ الاستواء بزعمه مورده في اللغة جاء على معان عديدة ولا يُدرى ما المقصود بالاستواء المضاف إلى الله منها، ولهذا قال:"والكيفية التي أرادها الله مما يجوز عليه من معاني الاستواء مجهولة فمن يقدر أن يعيِّنها؟ ".
ولهذا قال في تعليقه على الأسماء والصفات للبيهقي: "الاستواء الثابت له جل جلاله استواء يليق بجلاله على مراد الله ومراد رسوله من غير خوض في المعنى كما هو مسلك السلف"2.
2-
وقال البوطي بعد ما قرّر أنَّ مذهب الخلَف هو تأويل النصوص: "وهكذا فقد كان بوسع الإمام مالك رحمه الله أن يقول في عصره لذلك الذي سأله عن معنى الاستواء في الآية: "الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، إذ كان العصر عصر إيمان
1 مقالات الكوثري (ص:294،295) ، مطبعة الأنوار بالقاهرة عام (1388هـ) .
2 الأسماء والصفات (ص:320)، وانظر:(ص:513 515) منه.
ويقين راسخين، بسبب قرب العهد بعصر النبوة، وامتداد الإشراق إليه، ولكن لم يكن بوسع الأئمة الذين قاموا في عصر التدوين وازدهار العلوم، واتّساع حلقات البحث وفنون البلاغة أن يسلِّموا ذلك التسليم دون أن يحلِّلوا هذه النصوص على ضوء ما انتهوا إليه من فنون البلاغة والمجاز، خصوصاً أنَّ فيهم الزنادقة الذين لا يقنعهم منهج التسليم ويتظاهرون بالحاجة إلى الفهم التفصيلي وإن كانوا في حقيقة الأمر معاندين.
والمهم أن تعلم بأنَّ كلا المذهبين متّجهان إلى غاية واحدة، لأنَّ المآل فيهما إلى أنَّ الله عز وجل لا يشبهه شيء من مخلوقاته، وأنَّه منزَّه عن جميع صفات النقص، فالخلاف الذي تراه بينهما خلاف لفظي وشكلي فقط"1.
فظنَّ أنَّ مذهب السلف ومنهم الإمام مالك رحمه الله هو تفويض المعاني وإمرار الألفاظ بدون فهمٍ لما تدل عليه، وقرّر أنَّ السلف كانوا يقطعون بأنَّ ظاهر نصوص الصفات غير مراد وأوَّلها تأويلاً إجمالياً، حيث قال قبل كلامه هذا: "فمذهب السلف هو عدم الخوض في أيِّ تأويل أوتفسير تفصيلي لهذه النصوص والاكتفاء بإثبات ما أثبته الله تعالى لذاته مع تنزيهه عز وجل عن كلِّ نقص ومشابهة للحوادث، وسبيل ذلك التأويل الإجمالي لهذه النصوص وتحويل العلم التفصيلي بالمقصود منها إلى علم الله عز وجل، أما ترك هذه النصوص على ظاهرها دون أيِّ تأويل سواء كان إجمالياً أو تفصيلياً فهو غير جائز وهو شيء لم يجنح إليه سلف ولا خلَف
…
"2.
1 كبرى اليقينيات الكونية (ص:141) ، طبع دار الفكر (1413هـ)، ونقله وهبي غاوجي في مقدمة تحقيقه لإيضاح الدليل لابن جماعة (ص:56) ، طبع دار السلام، الأولى (1410هـ) .
2 كبرى اليقينيات (ص:138 139) .
ولا ريب أنَّ هذا الذي قرّره البوطي هنا ومن قبله الكوثري ومن قبلهما عامة المتكلِّمين يعدُّ افتراء على السلف الصالح رحمهم الله وتقويلاً لهم لشيء لم يقولوه، وقد جمع هؤلاء فيما نسبوه إلى السلف بين أخطاء عديدة أهمّها:
1-
تجهيل السلف الصالح رحمهم الله حيث وصفوهم بأنهم لا يفهمون معاني نصوص الصفات، بل يقرأونها قراءة مجرّدة بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون
الكتاب إلاّ أمانيّ، وأيُّ تجهيل لهم أعظم من هذا.
2-
الجهل بمذهب السلف الصالح، وأيُّ جهل بمذهب السلف الصالح رحمهم الله أعظم من هذا.
3-
الكذب على السلف عندما نسبوا إليه عدم فقه المعاني.
4-
تكذيب القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} 1 وأيُّ تبيان في كلمات لا يدرى ما معناها.
5-
فتح باب الشر للفلاسفة والقرامطة وغيرهم لنشر ضلالهم وباطلهم فقالوا لهؤلاء المفوِّضة أنتم لا تعرفون شيئاً، ونحن نعرف كيف ننزِّه الله فعطّلوا صفاته بأنواع من التحريفات.
6-
تفضيل طريقة الخلف على طريقة السلف، ولهذا قال أرباب هذه المقالة إنَّ مذهب السلف أسلم ومذهب الخلَف أحكم وأعلم.
إلى غير ذلك من الأخطاء والمفاسد التي ترتبت على اعتقاد هؤلاء في مذهب السلف أنَّه التفويض، وعدم إثبات الصفات التي دلّت عليها النصوص ومن يتأمل الأمر حقيقة يجد أنَّ "السلف كلهم أنكروا على الجهمية النفاة، وقالوا بالإثبات وأفصحوا به، وكلامهم في الإثبات والإنكار على النفاة أكثر
1 سورة: النحل، الآية:(89) .
من أن يمكن إثباته في هذا المكان، وكلام الأئمة المشاهير: مثل مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأئمة أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، موجود كثير لا يحصيه أحد.
وجواب مالك في ذلك صريح في الإثبات، فإنَّ السائل قال له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول" وفي لفظ: "استواؤه معلوم، أو معقول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". فقد أخبر رضي الله عنه بأنَّ نفس الاستواء معلوم، وأنَّ كيفية الاستواء مجهولة، وهذا بعينه قول أهل الإثبات.
وأما النفاة فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته، بل عند هذا القائل الشاك وأمثاله أنَّ الاستواء مجهول غير معلوم، وإذا كان الاستواء مجهولاً لم يحتج أن يُقال: الكيف مجهول، لا سيما إذا كان الاستواء منتفياً، فالمنتفي المعدوم لا كيفية له حتى يُقال: هي مجهولة أو معلومة، وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء، وأنَّه معلوم، وأنَّ له كيفية، لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن.
ولهذا بَدَّع السائل الذي سأله عن هذه الكيفية، فإنَّ السؤال إنّما يكون عن أمر معلوم لنا، ونحن لا نعلم كيفية استوائه، وليس كلُّ ما كان معلوماً وله كيفية تكون تلك الكيفية معلومة لنا، يبيّن ذلك أنَّ المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنَّه قال:"الله في السماء وعلمه في كلِّ مكان"، حتى ذكر ذلك مكيّ - خطيب قرطبة - في كتاب التفسير الذي جمعه من كلام مالك، ونقله أبو
عمرو الطلمنكي، وأبو عمر بن عبد البر، وابن أبي زيد في المختصر، وغير واحد، ونقله أيضاً عن مالك غير هؤلاء ممّن لا يُحصى عددُهم، مثل أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، والأثرم، والخلال، والآجري، وابن بطة، وطوائف غير هؤلاء من المصنّفين في السنة، ولو كان مالك من الواقفة أو النفاة لم ينقل هذا الإثبات"1.
وقد ألزم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هؤلاء القائلين بأنَّ مذهب السلف التفويض بسبعة لوازم، لا فكاك لهم منها ولا مناص لهم عنها، وهي تنادي على مذهبهم بالإبطال:
أحدها: أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسنة نبيّه من هذه الألفاظ ما يضلّهم ظاهره ويوقعهم في التشبيه والتمثيل.
الثاني: أن يكون قد ترك بيان الحق والصواب لهم ولم يُفصح به، بل رمز إليه رمزاً، وألغزه ألغازاً لا يفهم من ذلك إلَاّ بعد الجهد الجهيد.
الثالث: أن يكون قد كلَّف عباده أن لا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها، وكلّفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه، ولم يجعل معها قرينة تفهم ذلك.
الرابع: أنَّه يكون دائماً متكلّماً في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوّعة من الخطاب تارة بأنَّه استوى على عرشه، وتارة بأنَّه فوق عباده، وتارة بأنَّه العليّ الأعلى، وتارة بأنَّ الملائكة تعرج إليه، وتارة بأنَّ الأعمال الصالحة تُرفع إليه، وتارة بأنَّ الملائكة في نزولها من العلوِّ إلى أسفل تنزل من عنده، وتارة بأنَّه رفيع الدرجات، وتارة بأنَّه في السماء، وتارة بأنَّه الظاهر الذي ليس فوقه
1 مجموع الفتاوى (5/180 182) .
شيء، وتارة بأنَّه فوق سماواته على عرشه، وتارة بأنَّ الكتاب نزل من عنده، وتارة بأنَّه ينزل كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا، وتارة بأنَّه يُرى بالأبصار عياناً، يراه المؤمنون فوق رؤوسهم، إلى غير ذلك من الدلالات على ذلك، ولا يتكلّم فيه بكلمة واحدة توافق ما يقوله النفاة ولا يقول في مقام واحد قط ما هو الصواب فيه لا نصًّا ولا ظاهراً، ولا يبيّنه.
الخامس: أن يكون أفضل الأمة وخير القرون قد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا النبأ العظيم الذي هو من أهمّ أصول الإيمان، وذلك إمّا جهل ينافي العلم، وإمّا كتمان ينافي البيان، ولقد أساء الظنّ بخيار الأمة من نسبهم إلى ذلك، ومعلوم أنَّه إذا ازدوج التكلّم بالباطل والسكوت عن بيان الحق، تولّد من بينهما جهل الحق وإضلال الخلق، ولهذا لما اعتقد النفاة التعطيل صاروا يأتون من العبارات بما يدلّ على التعطيل والنفي نصًّا وظاهراً، ولا يتكلّمون بما يدل على حقيقة الإثبات لا نصًّا ولا ظاهراً، وإذا ورد عليهم من النصوص ما هو صريح أو ظاهر في الإثبات حرّفوه أنواع التحريفات، وطلبوا له مستكره التأويلات.
السادس: أنهم التزموا لذلك تجهيل السلف وأنّهم كانوا أميّين مقبلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل، ولم تكن الحقائق من شأنهم.
السابع: أن ترك الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفع لهم وأقرب إلى الصواب، فإنَّهم ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال ولم يستفيدوا منها يقيناً ولا علماً بما يجب لله ويمتنع عليه، إذ ذاك إنَّما يُستفاد من عقول الرجال وآرائها1.
1 انظر: الصواعق المرسلة (1/314) .