المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: في أقوال المفسرين في معنى الآيات - دعائم التمكين

[حمد بن حمدي الصاعدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد:

- ‌الفصل الأول: فيما يتعلق بالآيات الكريمة

- ‌مدخل

- ‌‌‌المبحث الأول: في حالة العرب قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: في حالة العرب قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌‌‌المبحث الثاني: مناسبة الآيات لما قبلها

- ‌المبحث الثاني: مناسبة الآيات لما قبلها

- ‌‌‌المبحث الثالث: في سبب نزول الآيات الكريمة

- ‌المبحث الثالث: في سبب نزول الآيات الكريمة

- ‌‌‌المبحث الرابع: في أقوال المفسرين في معنى الآيات

- ‌المبحث الرابع: في أقوال المفسرين في معنى الآيات

- ‌المبحث الخامس: في دلالات الآية الكريمة، وعلاقة ذلك بما كان عليه حال الجزيرة العربية عند قيام الدولة السعودية الثالثة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: في الصورة الكريمة التي سيكون عليها المؤمنون بعد التمكين في الأرض:

- ‌المطلب الثاني: أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:

- ‌المطلب الثالث: وظيفة الدولة المسلمة. وأنَّ الحق لا يكفيه كونه حقّاً فقط:

- ‌المطلب الرابع: أن تلك الصورة الكريمة والسيرة الحسنة لم تدم طويلا

- ‌المطلب الخامس: في بيان العلاقة والموازنة بين دلالة الآية الكريمة وما كان عليه الحال إبان قيام المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز:

- ‌الفصل الثاني: في ماهية الدعائم، وبيان أهميتها

- ‌‌‌مدخل

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: في الدعامة الأولى (إقام الصلاة)

- ‌المطلب الأول: ماهية الصلاة

- ‌المطلب الثاني: أهمية الصلاة:

- ‌المطلب الثالث: في المقصود بإقامة الصلاة على ضوء الآية الكريمة

- ‌المبحث الثاني: في الدعامة الثانية (إيتاء الزكاة)

- ‌المطلب الأول: ماهية الزكاة

- ‌المطلب الثاني: في أهمية الزكاة:

- ‌المطلب الثالث: في الحكمة من تشريع الزكاة على ضوء الآية الكريمة:

- ‌المبحث الثالث: في الدعامة الثالثة والرابعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)

- ‌المطلب الأول: في ماهيتهما

- ‌المطلب الثاني: أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

- ‌المطلب الثالث: في الحكمة من مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الآية الكريمة:

- ‌الفصل الثالث: في اهتمام ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية بدعائم التمكين والأسس وتطبيقها على أنفسهم ورعيتهم

- ‌‌‌مدخل

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: في اهتمام المؤسس الأول الملك عبد العزيز بتلك الدعائم

- ‌مدخل

- ‌تمهيد:

- ‌المطلب الأول: تقرير الملك عبد العزيز للهدف العام من الدعامة الأولى للتمكين، وهو (العقيدة) :

- ‌المطلب الثاني: عناية الملك عبد العزيز بالهدف الخاص للدعامة الأولى (إقام الصلاة) :

- ‌المطلب الثالث: اهتمامه بالدعامة الثانية (إيتاء الزكاة) :

- ‌المطلب الرابع: في جهود الملك عبد العزيز واهتمامه بالدعامتين الثالثة والرابعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) :

- ‌‌‌المبحث الثاني: في جهود أبناء الملك عبد العزيز –رحمه الله– في ترسيخ تلك الدعائم والأُسس

- ‌المبحث الثاني: في جهود أبناء الملك عبد العزيز –رحمه الله– في ترسيخ تلك الدعائم والأُسس

- ‌‌‌المبحث الثالث: في ثمرات تطبيق تلك الدعائم

- ‌المبحث الثالث: في ثمرات تطبيق تلك الدعائم

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الرابع: في أقوال المفسرين في معنى الآيات

‌‌

‌المبحث الرابع: في أقوال المفسرين في معنى الآيات

المبحث الرابع: في أقوال المفسرين في معنى الآيات

المبحث الرابع: في أقوال المفسرين في معنى الآيات:

1 -

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] .

المعنى: إنَّ الله يدافع عن المؤمنين الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه، غوائل المشركين وشر الأشرار وكيد الفجار.

وقيل: يعلي حجتهم. وقيل: يوفقهم. والمعنى متقارب.

والجملة مستأنفة لبيان هذه المزية الحاصلة للمؤمنين من رب العالمين وأنَّه المتولي للمدافعة عنهم1.

وفي الآية إشارة إلى أنَّ المؤمنين مُعَرَّضون للابتلاء من أعداء الله، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يدافع عنهم. فيربط على قلوبهم ويثبت أقدامهم على طريق الهدى، ويمدهم بالصبر على احتمال المكروه، وهذا الوعد أشبه بالدروع التي تتكسَّر عليها ضربات الباطل والكفر. ثُمَّ ينتهي الأمر بانحسار الضلال وأهله، وغلبة الإيمان وانتصار أهله؛ كما قال تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] . وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38] .

أي أنَّ الله لا يحب مَن اتَّصَف بهذه الصفة، وهي الخيانة في العهود والمواثيق، لا يفي بما قال.

والكفر: الجحود للنعم لا يعترف بها2.

والجملة مقررة لمضمون الجملة الأولى؛ فإنَّ مدافعة الله للكافرين عن عباده المؤمنين مشعرة أتم إشعار بأنَّهم مبغضون إلى الله غير محبوبين له.

1 فتح القدير للشوكاني 3/456، وابن جرير 7/171

2 ابن كثير 3/224.

ص: 30

وإيراد صيغتي المبالغة للدلالة على أنَّهم كذلك في الواقع لا لإخراج مَن خان دون خيانتهم، أو كفر دون كفرهم1.

وهكذا تضمَّنت الآية وعداً من الله بنصر المؤمنين، ووعيداً بخذلان الكافرين الخائنين، والخيانة - هنا - تصدق بالأصالة على الخيانة الكبرى. وهي خيانة الأمانة الإلهية التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان. مما يجب على الإنسان الوفاء به من حقوق الله تعالى، وحقوق العباد في كُلِّ آن.

وتصدق بالتبع على بقية صنوف الخيانات مِمَّا يتفرَّع عنها ويظهر أثره في مختلف التصرفات2.

2 -

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] .

الآية على تقدير محذوف: أي أذن لهم في القتال بسبب أنَّهم ظلموا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هذه أول آية نزلت في الجهاد"3.

وقال أكثر المفسرين: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان مشركو مكَّة يؤذونهم أذىً كثيراً، وكانوا يأتون إليه بين مضروب ومشجوج، ويتظلَّمون إليه، فيقول لهم:"اصبروا فإنِّي لم أومر بقتالهم"، حتى هاجروا، فأُنْزِلَت هذه الآية4.

وقال في أحكام القرآن: "إنَّ الله سبحانه وتعالى لَمَّا بعثَ محمَّداً صلى الله عليه وسلم بالحجَّة، دعا قومه إلى الله دعاءً دائماً عشرة أعوام لإقامة حجة الله، ووفاءً بوعده الذي امتن به بفضله في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً

} [الإسراء:15] .

1 فتح القدير 3/456

2 التيسير في أحاديث التفسير 4/178

3 صفوة التفاسير 2/291

4 صفوة التفاسير 2/291، وانظر تفسير ابن كثير 3/225.

ص: 31

واستمرَّ الناس في الطغيان، وما استدلوا بواضح البرهان، وحين أعذر الله بذلك إلى الخلق وأبوا عن الصدق، أمَرَ رسولَه صلى الله عليه وسلم بالقتال يستخرج الإقرار بالحق منهم بالسيف"1.

وقُرِئ {يُقَاتَلُونَ} بفتح التاء وكسرها. وقوَّى صاحب الأحكام2 قراءة الكسر؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقوع العفو والصفح عمَّا فعلوا، أذِنَ الله له بالقتال عند استقراره بالمدينة، فأخرج البعوث، ثُمَّ خرج بنفسه حتى أظهره الله يوم بدر. وذلك في قوله تعالى:{وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 3. وفي هذا التذييل للآية وعد من الله تعالى بنصر المؤمنين نصراً مؤزراً متى خاضوا المعركة لإعلاء كلمة الله ونصر دينه.

وقد جاء هذا الوعد في صيغة تحفز على الاستماتة في سبيل الله، كلها توكيد وتأييد.

ومَنْ كانت قدرة الله توجهه وترافق خطواته وحركاته، لن يستطيعَ عائق كيفما كان أن يقف في طريقه أو يفتّ من عزيمته4.

3 -

{الذين أُخْرِجُوا من الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] .

1 أحكام القرآن لابن العربي، القسم الثالث ص 1296-1297، وابن جرير 17/171-172

2 هو: أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الأندلسي الأشبيلي، ولد في شعبان سنة 468هـ، ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحُفَّاظها، وله عِدَّة مؤلَّفات منها: أحكام القرآن، وكتاب المسالك في شرح موطأ مالك، والعواصم من القواصم، والمحصول في أصول الفقه، وغيرها. وتوفي سنة 543هـ. طبقات المفسرين للدادي 2/167-170، طبقات المفسرين للسيوطي ص34، وفيات الأعيان 3/423

3 أحكام القرآن لابن العربي، القسم الثالث ص 1297

4 التيسير في أحاديث التفسير 4/178.

ص: 32

{الذين أُخرجوا من ديارهم} : وصفٌ للذين أذن لهم بالقتال، فهو بدل منصوب على المدح، أو مرفوع على أنَّه مبتدأ. والمراد بالديار: مكَّة المكرَّمة1.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أُخْرِجُوا من مكَّة إلى المدينة بغير حق، وهم محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه"2.

{إِلأَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} : أي ما كان لهم إلى قومهم إساءة،

ولا كان لهم ذَنْب إلَاّ أنَّهم وحَّدوا الله وعبدوه لا شريك له.

- وهل في هذا عدوان على أحد؟ أو ضرر يعود على أحد؟! ولكن أهل الضلال والبغي ينظرون بعيون مريضة، ويحكمون على الأمور بعقولٍ فاسدة. فيرون النور ظلمة، والخير شرّاً، والإحسان إساءً!! 3.

فتكون هذه الآية الكريمة مثل قوله تعالى: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [المائدة: 59] .

وقول النابغة4:

ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم

بهنَّ فلولٌ من قراع الكتائب5

وقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] .

1 فتح القدير 3/457

2 صفوة التفاسير 2/292

3 ابن كثير 3/225، التفسير القرآني للقرآن - الكتاب التاسع ص 1044

4 هو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري، أبو أمامة، شاعر جاهلي، من الطبقة الأولى. كانت تضرب له قبة في سوق عكاظ فتقصده الشعراء وتعرض عليه أشعارها.

طبقات ابن سلام ص51، الأعلام 3/54-55، الشعر والشعراء ص87 وما بعدها.

5 ديوان النابغة ص 39. وفتح القدير 3/225.

ص: 33

معنى: لهدِّمَت: لَخُرِّبَت باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل.

والصوامع: صوامع الرهبان. وقيل: صوامع الصابئين.

والبيع: جمع بيعة، وهي كنيسة النصارى.

والصلوات: هي كنائس اليهود.

والمساجد: هي مساجد المسلمين.

والمعنى: لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك، وذهبت مواضع العبادة من الأرض1.

قال ابن كثير2 رحمه الله: "أي لولا أنَّه يدفع بقومٍ عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، ولأهلك القويُّ الضعيفَ"3.

وقيل: لولا هذا الدفع لهدِّمَت في زمن موسى عليه السلام الكنائسُ. وفي زمن عيسى عليه السلام الصوامِعُ والبِيَعُ. وفي زمن محمَّد صلى الله عليه وسلم المسَاجِدُ.

وقيل: لولا دفع الله ظُلْمَ الظَّلَمة بعدل الولاة4.

وحمل الآية على العموم أولى؛ لأنَّ التخصيص لم يقم عليه دليل.

- والآية فيها تحريض على القتال المأذون فيه قبل، وأنَّه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية بأن ينتظم به الأمر، وتقوم الشرائع، وتصان المتعبدات من الهدم، وأهلها من القتل والشتات.

1 فتح القدير 3/457

2 هو: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء بن درع. الحافظ، عماد الدين أبو الفداء، ولد سنة 701هـ، وتوفي سنة 774هـ، له عِدَّة مؤلفات منها: التفسير، والبداية والنهاية، والأحكام على أبواب الفقه، وغيرها. طبقات المفسرين للداودي 1/111-113، الدرر الكامنة 1/399.

3 ابن كثير 3/226.

4 ابن كثير 3/226.

ص: 34

- وكأنَّه لما قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} قيل: فليقاتِل المؤمنون، فلولا القتال لَتُغُلِّبَ على أهل الحق في كُلِّ أُمَّة1.

وقوله -تعالى-: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} .

الضمير {فِيهَا} يعود على المساجد؛ لأنَّها أقرب مذكور. وقيل: يعود على الجميع، باعتبار ما كان عليه الأمر قبل أن ينحرف أهلها عن دين الحق، وتنسخ بما جاء في القرآن. وأُخِّرَت المساجد لتأخرها في الوجود.

وقيل: إنَّ هذه المواضع ذُكِرَت مرتَّبة على الأشرف فالأشرف. فأُخِّرَت المساجد لشرفها2؛ ولأنَّها أماكن العبادة الحقة3.

{وَلَيَنْصُرنَّ الله مَنْ ينْصُرُه إنَّ الله لقويٌّ عزيز}

اللام واقعة في جواب القسم. والمعنى: والله لينصرن مَنْ ينصره.

- والمراد بمَن ينصر الله: من ينصر دينه وأولياءه4.

- ونصر الله تعالى لهم: أن يظفر أولياءه بأعدائهم جلاداً وجدالاً، وفي ذلك حضٌّ على القتال.

- ثُمَّ أخبر تعالى: أنَّه قوي على نصرهم، عزيز، لا يغالب5.

فوصف الله نفسه بالقوة والعزَّة، فبقوته خلق كل شيء، فقدَّره تقديراً. وبعزَّته لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب. بل كل شيء ذليل لديه، فقيرٌ إليه.

ومَن كان القاهر الذي لا يغالب ناصرَهُ، فهو المنصور، وعَدَوَّهُ المقهور. قال تعالى: {ولقد سَبَقَت كَلِمَتُنا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ. إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورونَ. وإنَّ

1 البحر المحيط 6/374-375

2 ابن كثير 3/226

3 صفوة التفاسير 2/292

4 فتح القدير 3/457

5 أحكام القرآن لابن العربي، القسم الثالث ص 1297.

ص: 35

جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173] . وقد أنجز الله وعده حيث سلَّط المهاجرين والأنصار على صناديد الكفر من العرب، وعلى أكاسرة العجم، وقياصرة الروم، وأورثهم أرضهم وديارهم1.

ولن يخلف الله وعده لمن جاء بما شرطه في هذه الآية وغيرها مِمَّن تحقَّق فيه هذا الوعد.

4 -

{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] .

{الذين} : منصوب بدل {ممن ينصره} أو وصف المأذون لهم في القتال. فيجوز فيه من الإعراب ما جاز في قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا} كما سبق.

- والتمكين: السلطنة ونفاذ الأمر على الخلق.

- وفي الآية إخبار بالغيب عمَّا تكون عليه سيرتهم إنْ مكَّن لهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين2.

وعن عثمان بن عفَّان3 رضي الله عنه هذا والله – "ثناء قبل بلاء": يريد أنَّ الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا. وقالوا: فيه دليل على صحة

1 البحر المحيط 6/376، تفسير النووي لمراح لبيد 2/56

2 البحر المحيط 6/376، تفسير النووي لمراح لبيد 2/56، التفسير القرآني للقرآن، الكتاب التاسع ص 1046-1047

3 هو: عثمان بن عفان رضي الله عنه ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي أمير المؤمنين، ذو النورين، أحد السابقين الأولين، وثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، استشهد في ذي الحجة سنة 35هـ، وكانت خلافته اثنتى عشرة سنة، وعمره ثمانون سنة.

تقريب التهذيب ص 235، الإصابة 2/455، الاستيعاب مع الإصابة 3/69

ص: 36

أمر الخلفاء الراشدين؛ لأنَّ الله تعالى لم يجعل التمكن ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة لغيرهم من المهاجرين. فلا حَظَّ فيها للأنصار والطلقاء1.

- وفي الآية أخذ العهد على مَنْ مكَّنه الله أن يفعل ما رتب على التمكين في الآية2.

- وقيل: نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم3.

- وعن الحسن4، وأبي العالية5: هم أمته عليه السلام.

وقيل: هم أهل الصلوات الخمس، وهو قريب مِمَّا قبله6.

وقال ابن أبي نجيح7: هم الولاة.

1 انظر: البحر المحيط 6/376، والطقاء: جمع طليق وهو الأسير الذي خلى سبيله. ترتيب القاموس، مادة طلق. ومختار الصحاح ص:396.

2 انظر: البحر المحيط 6/376

3 انظر: البحر المحيط 6/376

4 هو: الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد، مولى زيد بن ثابت الأنصاري ولد بالمدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثُمَّ نشأ بوادي القرى، وقرأ القرآن على حطان الرقاشي، وروى عن خلف، من التابعين، له ترجمة مطولة في سير أعلام النبلاء 4/563 رقم الترجمة 223، وشذرات الذهب 1/136، وطبقات المفسرين للداودي 1/150. ومن مؤلفاته: التفسير، وكتابه إلى عبد الملك بن مروان في الرد على القدرية. توفي سنة 110هـ.

5 هو: رُفَيْع - بالتصغير - بن مهران، أبو العالية الرياحي - بكسر الراء والتحتانية - ثقة كثير الإرسال، من الثانية، مات سنة 90هـ. له تفسير رواه عنه الربيع بن أنس البكري.

تقريب التهذيب ص 154، طبقات المفسرين للداودي 1/178-179

6 البحر المحيط 6/376

7 هو: عبد الله بن أبي نجيح، الإمام الثقة المفسر. أبو يسار الثقفي المكي، واسم أبيه يسار، مولى الأخنس بن شريف الصحابي، وهو من أخص الناس بمجاهد، توفي سنة 131هـ.

تقريب التهذيب ص 191، سير أعلام النبلاء 6/125-126، شذرات الذهب 1/182، طبقات المفسرين للداودي 2/258، تقريب التهذيب ص 191

ص: 37

وقال الضحاك1: هو شرطٌ شرطه الله من أتاه الملك.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: المهاجرون والأنصار والتابعون.

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: "فينا نزلت هذه الآية {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} . والآية بعدها. أُخْرِجْنَا من ديارنا بغير حق2 إلَاّ أن قلنا: ربنا الله، ثُمَّ مكنا في الأرض فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور، فهي لي ولأصحابي"3.

وقال الصباح بن سوادة الكندي4: "سمعت عمر بن عبد العزيز5: يخطب ويقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْض

} الآية. ثُمَّ قال: ألا إنَّها ليست على الوالي وحده. ولكنها على الوالي والموَلَّى عليه. ألا أُنبئكم بما لكم على الوالي من ذلك. وبما للوالي عليكم منه؟:

1 -

إنَّ لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم.

2 -

وأن يأخذ لبعضكم من بعض.

3 -

وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع.

1 هو: الضحاك بن مزاحم الهلالي، أبو القاسم الخرساني المفسر، يروي تفسيره عنه عبيد بن سليمان، وهو صدوق كثير الإرسال، مات بعد المائة.

انظر: طبقات المفسرين للداودي 1/222، شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي 1/124، سير أعلام النبلاء 4/598-599

2 فتح القدير 3/358

3 المرجع السابق 3/358

4 لم أعثر على ترجمته.

5 هو: عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي أمية، أمير المؤمنين، أمُّه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، ولي إمرة المدينة...... وكان مع سليمان كالوزير، وولي الخلافة بعده، فعُدَّ من الخلفاء الراشدين، وروى له الجماعة، كان عادلاً في رعيته وأعادها إلى عهد الخلفاء الراشدين، فلذا عُدَّ الخليفة الخامس، مات رحمه الله سنة مائة وواحد 101هـ.

تقريب التهذيب ص 255، شذرات الذهب 1/119.

ص: 38

- وإنَّ عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة1، ولا المستكثر بها. ولا المخَالِف سرُّها علانيتها".

وقال عطية العوفي2: "هذه الآية كقوله -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} ، وقوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} كقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} "[طه: 132] .

وعن زيد بن أسلم3: في قوله -تعالى-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْض} : قال: "أرض المدينة". {أَقَامُوا الصَّلاةَ} : قال: "المكتوبة". {وَآتُوا الزَّكَاةَ} : قال: "المفروضة". {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوف} : قال: "بلا إله إلَاّ الله". {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} : قال: "الشرك بالله". {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُُمُورِ} : قال: "وعند الله ثواب ما صنعوا"4.

ويقول ابن جرير5 - رحمه الله تعالى - في تأويل قوله -تعالى-:

{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ

1 المبزوزة: من بزّ قرينه، بزّاً، وبزّة، غلبه. والشي نزعه وأخذه بجفاء وقهر.

انظر: تفسير ابن كثير 3/226، توفيق الرحمن في دروس القرآن 3/107، المعجم الوسيط 1/54

2 هو: عطية بن سعيد بن جنادة الجدلي العوفي الكوفي، أبو الحسن، صدوق يخطئ كثيراً، مدلساً من الثالثة، مات سنة إحدى عشرة.

تقريب التهذيب ص240، شذرات الذهب 1/144

3 هو: زيد بن أسلم العدوي، مولى عمر، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدني، ثقة عالم. وكان يرسل، من الثالثة، مات سنة 136هـ. كانت له حلقة للفتوى والعلم بالمدينة، له تفسير القرآن يرويه عنه ابنه عبد الرحمن.

تقريب التهذيب ص 111-112، شذرات الذهب 1/194، سير أعلام النبلاء 5/316

4 فتح القدير 3/458، ابن كثير 3/226، زاد المسير 5/437

5 هو: محمد بن جرير الطبري، الإمام الحبر، صاحب التفسير المشهور والتاريخ والمصنفات الكثيرة، سمع إسحاق بن إسرائيل ومحمد بن حميد الرازي وطبقتهما، وكان مجتهداً لايقلد أحداً، أثنى العلماء على تفسيره وعدوه من أفضل التفاسير. كانت ولادته سنة أربعٍ وعشرين ومائتين بآمل طبرستان، ووفاته في بغداد سنة 310هـ. شذرات الذهب 2/260

ص: 39

وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] : "يقول تعالى ذكره: أذن للذين يقاتلون بأنَّهم ظلموا - الذين إنْ مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة - والذين ههنا رد على الذين يقاتلون.

ويعني قوله: {إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْض} : إن وطَّنا لهم في البلاد فقهروا المشركين وغلبوهم عليها، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إنْ نصرناهم على أعدائهم وقهروا مشركي مكة، أطاعوا الله فأقاموا الصلاة بحدودها.

{وَآتُوا الزَّكَاةَ} : يقول: وأعطوا زكاة أموالهم من جعلها الله له.

{وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} : يقول: ودعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته وما يعرفه أهل الإيمان بالله1.

{وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر} : يقول: ونهوا عن الشرك بالله والعمل بمعاصيه الذي ينكره أهل الحق والإيمان بالله.

{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} : يقول: ولله آخر أمور الخلق، يعني أنَّ إليه مصيرها في الثواب عليها، والعقاب في الدار الآخرة2.

وعن أبي العالية: "كان أمرهم بالمعروف أنَّهم دعوا إلى الإخلاص لله وحده لا شريك له. ونهيهم عن المنكر أنَّهم نهوا عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان. ثُمَّ قال: فمن دعا إلى الله من الناس كلهم فقد أمر بالمعروف، ومن نهى عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان فقد نهى عن المنكر3.

1 تفسير ابن جرير 17/179، صفوة التفاسير 2/292

2 ابن جرير 17/179

3 المرجع السابق 17/179

ص: 40