الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: في الدعامة الأولى (إقام الصلاة)
المطلب الأول: ماهية الصلاة
…
المبحث الأول: في الدعامة الأولى (إقام الصلاة) :
وفيه مطالب:
الأول: ماهية الصلاة
الثاني: أهميتها.
الثالث: في المقصود بإقامة الصلاة على ضوء الآية الكريمة.
المطلب الأول: ماهية الصلاة:
أولاً: الصلاة في اللغة:
اختلف علماء اللغة في أصل الصلاة:
فقيل: الصلاة الركوع والسجود.
وقيل: أصل الصلاة الدعاء مأخوذة من (صَلَّى) يُصَلِّي إذا دعا. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا دُعِيَ أحدكم فليُجِب، فإن كان صائماً فليُصَلِّ، وإن كان مفطِراً فليَطْعَم"1. فقوله: (فليُصَلِّ) يعني فليدع لأرباب الطعام بالبركة والخير2.
ومنه قوله الأعشى:3
1 رواه مسلم 2/1045 كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة.
2 لسان العرب لابن منظور 14/465
3 ديوان الأعشى ص 106
والأعشى هو: ميمون بن قيس البكري، جاهلي قديم، وأحد أصحاب المعلَّقات. ويلقَّب بصناجة العرب؛ لأنَّه كان يتغنى بشعره. رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم فصدته قريش عنه.
انظر: طبقات الشعراء 1/65، الشعراء 1/257، الأعلام 7/341 الشعر والشعراء ص159
عليك مثل الذي صَلَّيْت فاغتمضي
…
نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً
أي: عليك مثل دعائك1.
وقيل: أصلها التعظيم وسُمِّيَت الصلاة المخصوصة صلاةً لما فيها من تعظيم الرب تعالى2.
وقيل: الأصل في الصلاة اللزوم، يقال: قد صَلِىَ واصطلى إذا لزم، ومن هذا مَن يُصْلَى في النار أي يلزم النار3.
هذه أشهر الأقوال التي قيلت في أصل الصلاة لغةً 4.
ثانياً: الصلاة شرعاً:
عرَّفها العلماء بأنها: أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم 5.
وأرادوا بالأقوال: القراءة، والتكبير، والتسبيح، والدعاء، ونحوه.
وبالأفعال: القيام، والركوع، والسجود، والجلوس، ونحوه6.
وإذا نظرنا إلى معنى الصلاة لغةً وشرعاً، وجدنا الصلة بينهما وثيقة؛ فالدعاء، واللزوم، والتعظيم. كلها معانٍ موجودة في الصلاة بمعناها الشرعي، وأُطْلِقَت على الصلاة، كلها من باب تسمية الشيء ببعض أجزائه. وإن كانت
1 لسان العرب 14/466
2 المرجع السابق.
3 المرجع السابق 14/465
4 الصلاة في القرآن مفهومها وفقهها ص 9، والصلاة للطيار ص 11
وقيل: إنَّها من الصَّلْوَيْن، وهما: مكتنفا العصعص.
(لسان العرب 14/465) .
5 الروض المربع مع حاشية العنقري 1/118
6 الصلاة في القرآن ص9، والصلاة للطيار ص 11
مأخوذة من "الصَّلْوَين" فهما موضعان في الإنسان يقوم عليهما الركوع والسجود، فلا ركوع ولا سجود بلا تحريك لهما، فأخذ اسم الصلاة منهما، كما أخذ اسم البيع من "الباعين" اللذين يمدهما البائع والمشتري1.
ثالثاً: الصلاة في القرآن:
لم يقصر القرآن الكريم إطلاق لفظ "الصلاة" على الصلوات الخمس المفروضة؛ بل أطلقه عليها وعلى غيرها، كما لم يقصر التعبير عن الصلاة المفروضة على لفظ "الصلاة" وحدها؛ بل عبَّر عن الصلاة المفروضة بألفاظ أخرى غير لفظ "الصلاة":
ففي المجال الأول: جاء لفظ "الصلاة" في القرآن مراداً به عِدَّة معانٍ:
الأول: الصلاة بمعنى الدعاء2، -قال تعالى-:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] أي ادع لهم.
الثاني: بمعنى الاستغفار3، قال -تعالى-:{وَصَلَوَاتِ الرَّسُول}
[التوبة: 99] أي استغفاره لهم.
الثالث: بمعنى بيوت الصلاة أو الكنائس4، قال -تعالى-:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40] .
1 الصلاة في القرآن ص10، والصلاة للطيار ص 12
2 بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي 3/437، ومنتخب قرة العيون النواظر ص 161
3 منتخب قرة العيون 3/438، إصلاح الوجوه والنظائر للدامغاني ص 284، وكشف السرائر لابن العماد ص 106
4 المراجع السابقة، ونزهة الأعين النواظر لابن الجوزي ص 395
الرابع: بمعنى الإسلام، قال -تعالى-:{فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة: 31] أي: ولا أسلم1.
الخامس: بمعنى الدين2، قال -تعالى-:{أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هود: 87] .
السادس: بمعنى القراءة3، قال -تعالى-:{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِك}
[الإسراء: 110] أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن4.
السابع: بمعنى الصلاة الشرعية5 أو الصلوات الخمس، قال -تعالى-:{وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة: 2] . قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "وكذلك كل صلاة قُرِنَت بذكر الزكاة"6.
الثامن: الصلاة بمعنى صلاة الأمم الماضية 7، قال -تعالى-:{وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 31] .
وهذا بالنسبة لإطلاق لفظ الصلاة في القرآن على معانٍ متعددة ومنها المعنى الشرعي.
كما عبَّر القرآن عن الصلاة بألفاظٍ أخرى غير لفظ "الصلاة" ومنها:
الأول: عبَّر عن صلاة الجمعة بلفظ الذكر8، قال -تعالى-:{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، وكذلك صلاة العصر على لسان سليمان عليه
1 بصائر ذوي التمييز 3/437، فتح القدير 5/341، وابن كثير 8/307.
2 منتخب قرة العيون، ابن الجوزي ص 161، وكشف السرائر ص 105
3 المعجم الجامع، عبد العزيز السيروان ص 244، وانظر: منتخب قرة العيون ص 161
4 صحيح البخاري في كتاب التفسير، سورة الإسراء، باب 14 ج5/229
5 بصائر ذوي التمييز 3/438، وكشف السرائر ص 106
6 منتخب قرة العيون النواظر ص 106
7 بصائر ذوي التمييز 3/438
8 منتخب قرة العيون ص121، وتحصيل نظائر القرآن للحكيم الترمذي ص52
السلام: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] ، وعبَّر عن الصلوات الخمس بالذكر أيضاً، قال -تعالى-:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 239] أي: صلوا الصلاة كاملة بدون نقص1.
الثاني: التعبير عن الصلاة بلفظ الاستغفار. قال -تعالى-: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] أي: يصلون؛ لأنَّ في الصلاة سؤال المغفرة2.
الثالث: التعبير عن الصلاة بلفظ الركوع3، قال -تعالى-:{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] أي: صلوا 4.
الرابع: التعبير عن الصلاة بلفظ الإيمان5، قال -تعالى-:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] .
الخامس: التعبير عن الصلاة بلفظ الحسنات6، قال -تعالى-:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] أي الصلوات7.
تلك بعض المعاني التي يشملها لفظ الصلاة في القرآن، وهذه بعض الألفاظ التي عبر بها القرآن الكريم عن الصلاة.
وحين نتأمل في هذا التعبير القرآني ندرك اهتمام القرآن بالصلاة وتفخيمه لشأنها لفظاً ومعنى.
1 الصلاة في القرآن ص 15
2 تحصيل نظائر القرآن ص 118، وابن كثير 7/395، ونسبه إلى مجاهد وغيره. والنكت للماوردي5/366.
3 إصلاح الوجوه للدامغاني ص 210
4 صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة المرسلات 6/77، والصلاة في القرآن ص15
5 كشف السرائر ص 105، بصائر ذوي التمييز 2/105
6 المرجعان السابقان.
7 الصلاة في القرآن مفهومها وفقهها ص17، وجامع البيان لابن جرير15/409، والنكت والعيون للماوردي2/509.
فإذا قيل: علة اهتمام القرآن بأجزاء الصلاة وإطلاقها على كل الصلاة ظاهرة لا تخفى، فما عِلَّة اهتمامه باسم (الصلاة) وإطلاقها على غيرها؟
فالجواب: إنَّ المتأمل في المعاني التي أطلق عليها لفظ الصلاة يجدها لا تعدو أربع حالات:
الأولى: استعمال كلمة (الصلاة) في معناها الأصلي (الدعاء) ، ومنه الاستغفار.
الثانية: إطلاق الكل على البعض، مثل إطلاق الصلاة على صلاة الخوف.
الثالثة: إطلاق الصلاة على بيوت الصلاة.
الرابعة: إطلاق لفظ الصلاة على غيرها؛ لإظهار الصلة الوثيقة بين المعنيين وجعل اللفظ (الصلاة) بمثابة الرباط القوي بينهما، الذي يجعلهما – كالشيء الواحد الذي لا ينفصل بعضه عن بعض – كإطلاق لفظ الصلاة على الدين في:{أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} 1 أو على الإسلام في: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} 2 أي: ولا أسلم. وفي هذا بلا شك كشف للتلازم بين الصلاة والدين، أو الصلاة والإسلام، أو إطلاقها على المغفرة في قوله -تعالى- {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} 3، أو على الرحمة في قوله -تعالى-:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَة} 4.
وفي هذا إشارة هامة إلى أثرين من آثار الصلاة على العباد، وكأنَّ المغفرة والرحمة لازمتان من لوازم الصلاة المقبولة لا ينفكان عنها. ولذلك ورد في الحديث:" الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن"5.
1 هود: 87
2 القيامة: 31
3 الأحزاب: 43
4 البقرة: 157
5 صحيح مسلم 1/209
ولو لم يكن في استعمالات القرآن كلها للفظ الصلاة إلَاّ إطلاقه لها على الدين والإسلام لكفى بهما بياناً لمفهوم الصلاة في القرآن الكريم، حيث جعلهما كالشيىء الواحد الذي لا ينفصل بعضه عن بعض.
وهذا المعنى ظاهر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"1.
وحديث: "إنَّ العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"2.
فأي تلازم بين الصلاة والإسلام أكثر من هذا؟! وكفى بهذا المفهوم للصلاة في القرآن بياناً3.
والذي يهمنا في هذا أنَّ الصلاة أُطْلِقَت في القرآن الكريم على الدين وعلى الإسلام، وعلى الإيمان.
وقد جاء في الآية التي هي موضوع البحث {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ
…
} الآية.
وسبقتها الآية الكريمة: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وهذا معنى الإيمان.
فلو حُمِلَت الصلاة في الآية التي هي موضوع البحث على الإيمان، أو الدين، أو الإسلام، لم يكن في ذلك بُعْد؛ لوجود التلازم بين هذه الأمور في الاصطلاح الشرعي.
ولو قيل: إنَّ الصلاة في الشرع من الأمور التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت، كالإسلام والإيمان. لم أر في ذلك بعْداً أيضاً. وهذا الأمر هو الذي دعاني لذكر المعاني التي جاء القرآن بها للفظ الصلاة. أو التعبير عن الصلاة بما هو من لوازمها أو ثمراتها.
1 رواه مسلم في كتاب الإيمان، حديث 134 ج1/88
2 رواه النسائي في كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة 1/231-232
3 الصلاة في القرآن ص 18
فيكون معنى الآية الكريمة: الذين إنْ مكَّناهم في الأرض أقاموا الإسلام، أو أقاموا الدين، أو أقاموا الإيمان. وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك السلف الصالح من بعدهم؛ لأنَّ من لوازم إقامة الصلاة الشرعية العمل بالإسلام.
ولأنَّ الإيمان قولٌ وعمل، فالقول وُجِدَ من المهاجرين في مكَّة؛ ولذا قال -تعالى-:{إِلَاّ أَنْ يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} . وأمَّا العمل الكامل بالإسلام فلَمَّا مكَّنهم اللهُ في الأرض، أمرهم في مقابل هذا التمكين أن يأتوا بحق الإيمان، وحق الإسلام، وحق الدين كاملاً، وحق الأخوة الإسلامية كاملاً؛ لعدم العذر.