الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعندئذٍ أُذِنَ لهم في القتال لرد العدوان؛ لأنَّ الإيمان والخير والحق لابدَّ لها من قوة تحميها من البطش، وتقيها من الفتن، وتحرسها من كُلِّ مَنْ يريد الاعتداء عليها1.
ووراء ذلك كُلِّه تلك القاعدة العامَّة، وهي حاجة العقيدة إلى الدفع عنها، وأنَّ الحقَّ مهما كان نوعه لابدَّ له من نصرة ودفاع، وهذه الحقيقة عبَّر عنها القرآن الكريم بمنتهى الدقة والوضوح في قوله -تعالى-:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 215] وإليها يشير في هذه الآيات بقوله -تعالى-: {وَوَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} فهذه المواضع - على قداستها وتخصيصها لعبادة الله - معرَّضة للهدم والخراب، ولا يشفع لها في نظر الباطل، كونها يُذْكَر فيها اسم الله كثيراً، ولا يحميها إلَاّ دفع الله الناس بعضهم ببعضٍ، أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها ويعتدون على أهلها، فكان من حكمة الجهاد في الإسلام، حماية العقيدة، وحرية العبادة، وتمكين المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائم على العقيدة، المتصل بالله، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية في الدنيا والآخرة2.
1 في ظلال القرآن 17/602، التيسير في أحاديث التفسير 4/179-180، التفسير الحديث 7/106-107، التفسير الواضح 2/71، التفسير القرآني للقرآن 17/1042-1044
2 المراجع السابقة.
المطلب الرابع: أن تلك الصورة الكريمة والسيرة الحسنة لم تدم طويلا
…
الرابع: أنَّ تلك الصورة الكريمة والسيرة الحسنة لم تدم طويلاً:
سبق أنَّ الصورة الكريمة التي سيكون عليها المؤمنون الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق - بعد التمكين لهم في الأرض - قد تحقَّقت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام - رضوان الله عليهم، وذلك بعد أن هاجروا إلى المدينة
النبوية، وتوفَّرت فيهم شروط التمكين، حيث قامت أول دولة إسلامية تحت راية لا إله إلَاّ الله وأنَّ محمَّداً رسول الله.
وكان أولئك المؤمنون القائمون على أمرها، مَصابيح هدى، وينابيع رحمة للإنسانية كلها، بما يقيمون فيها من موازين الحق والعدل، وما يغرسون في آفاقها من مغارس الخير والإحسان.
فكانت سيرتهم في الحكم والرعية شعيرة إسلامية يجب الاهتداء بها، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كُلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"1.
كما أصبحت سيرتهم في الرعية وما كانوا عليه من العدل أمنية إنسانية يود كل قائم ومسئول عن أمر المسلمين أن يسيرها ويهتدي بها أو بما يشابهها.
لكن تلك الصورة الكريمة والسيرة الطيبة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده - لم تدُم طويلاً، لحكمةٍ يعلمها الله، وأسباب قدرها، ومنها الابتعاد عن شروط التمكين في الأرض، والإخلال بما أمر الله به.. نعم! ما برحت عوامل الضعف الذاتية، ونقم الكيد الخارجية تنهش في جسم الأمة الإسلامية بما يوهن أو يمرض عافيتها2.
إلَاّ أنَّ الله -تعالى- بمقتضى اسمه اللطيف، واسمه الرحيم، وقى هذه الأُمَّة من الاستئصال3. وقضى بقدره الحكيم بحفظ الدين إلى يوم التناد، كما قال -تعالى-: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
1 رواه أبو داود، كتاب السُنَّة، حديث رقم (4067) . والترمذي في كتاب العلم، باب (16) حديث رقم (2676) . والإمام أحمد (4/126-127) . وابن ماجه في المقدمة 6: باب اتباع سُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، حديث (4342) .
2 المنهح القويم ص 25
3 لقوله – تعالى -: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال:33) .
وقال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَنْ خذلهم - أو مَن خالفهم - حتى يأتي أمرُ الله"1.
وإنَّ المستقرئ لتاريخ هذه الأُمَّة في حقبه المتتابعة والمتفاوتة، قوةً وضعفاً، يعلم أنَّ: دولة الإسلام لم ينقطع موكبها، ولم تقف سفينتها منذ أن أقام الرسول صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام العظمى في المدينة النبوية.
فقد شهد التاريخ الإسلامي - بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة - عِدَّة دول2. تعنى بأمر العقيدة والشريعة، وتحمي الحوزة، وتدافع عن حصن الإسلام، وإن كان ذلك لا يقاس بمعيار الخلافة الراشدة، لكن الأمر الذي لا يجوز نكرانه، هو أنَّ تلك الدول قد قامت بمسئولياتٍ كبيرة، منها:
1 -
اتخاذ الكتاب والسُنَّة مصدراً للتشريع والحكم، وإن حصل تقصير في إنفاذ مقتضاهما دون الاستخفاف بالأصل أو ردّ للأمر أو جحود للأحكام.
2 -
الحفاظ على كيان الأُمَّة والاستمساك بمبدأ وحدتها، ولو على ضعف في بعض الأحيان.
3 -
استمرار الدعوة والفتح الإسلامي.
4 -
اتصال النشاط العلمي والحضاري ونشر الثقافة الإسلامية. ولو في مستوى أقل مِمَّا هو مطلوب3.
1 أخرجه الإمام أحمد (5/284،283،78) ، وأبو داود، حديث رقم (4252) وابن ماجه برقم (3952) ، وابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن ص 458، ومناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للسامرائي ص 255
2 مثل: الخلافة الأموية من 42-132، والخلافة العباسية، والدولة العثمانية، والدولة السعودية قبل الملك عبد العزيز. المنهج القويم ص 26
3 المنهج القويم ص 26.
وفي ذلك كله تصديق لمعنىً جليلٍ من معاني الحديث العظيم الذي مرَّ، كما أنَّ فيه دليلاً على صدق ما وعد الله به من أنَّه يخرج لهذه الأمة مَن يجدد لها دينها. كما في الحديث النبوي:" إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَنْ يجدِّد لها دينها"1.
فلم يزل المصلحون يتتابعون على هذه الأمَّة المحمدية، كلَّما بَعُدَ العهد بواحدٍ خلفه آخر، وفاءً من الله جلَّ وعلا بهذا الوعد الحكيم:
{إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9] .
حتى وصل الأمر بالأمة الإسلامية إلى العقد الأول والثاني من القرن الرابع عشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان المجدِّد فيه هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقد نشأ في زمن ضعفت فيه الآثار المحمدية. وضعفت المعالم الإسلامية، فلا راية إلَاّ لأهل الشرك والبدع. لهم الصولة والجولة، والعامة تبعٌ لهم. والخاصة دعاة لهم، قد ضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، لم يسلم من شباكهم إلَاّ نذر يسير. وأصبحت البدعة عندهم سُنَّة إذا غيرت قيل: غيرت السُنَّة.
فلمَّا رأى الشيخ حالهم، وعرف ضلالتهم، دعاهم إلى توحيد الله بالعبادة، وإفراده بها.
ولم يزل صابراً على ما يلقاه من أذى، داعياً إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، يسانده في ذلك - بعد عون الله تعالى - الإمام محمد بن سعود رحمه الله، إلى أن أتت هذه الدعوة المباركة ثمارها، وغرست غرساً
1 أخرجه أبو داود في الملاحم 2/424 وقال عنه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - حفظه الله: "هذا حديث إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات. وقد صحَّحه الحاكم، والحافظ العراقي، والعلَاّمة السخاوي، وآخرون". وصحَّحه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 599.
وانظر: الفواكه العذاب في معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 6
طيباً ما زال الناس يعيشون في ظله، فأثمرت تلامذة يدعون إلى الحق، وكتباً تهدى إليه، فسار الطلاب بهذه الدعوة إلى كل مكان، وسارت مؤلفات الحق مسار النهار، فانشرحت صدور الموفقين لهذه الدعوة وقبلوها، ودعوا إليها، والتقت قلوبهم عليها، وإن تباعدت أقطارهم. واتضح دين الحق، وظهر أمر الله:{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] .
لكن هذه الدعوة المباركة لم تسلم من حروبٍ شرسة، شنَّها أعداؤها، أعداء الدين الذين شَرِقُوا بدعوة الحق وكرهوها، وسعوا في الإطاحة بها، والقضاء عليها، وعملوا بكل ما أوتوا من الوسائل إلى إخماد نور هذه الدعوة الإصلاحية، ولكن وسائلهم باءت بالفشل، ولم تحقق تقدماً ولم تقض لهم وطراً؛ لأنَّ نور الله باقٍ ودينه منصور.
فحقق الله لعباده المؤمنين وعده بالنصر والتمكين في الأرض1 على يد الإمام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، حيث رفع راية التوحيد خفاقة، فأعزَّ الله به أهل هذه الدعوة بعد أن كانوا أذِلَّة، وأغناهم جلَّ وعلا به بعدما كانوا عالة2.
2 الدعوة في عهد الملك عبد العزيز (1/15-17) ، المنهج القويم في الفكر والعمل ص 21-27، الفواكه العذاب في معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 6-7