الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: اهتمامه بالدعامة الثانية (إيتاء الزكاة) :
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اهتمامه بالهدف العام لهذه الدعامة، وهو تحقيق الأخوة الإسلامية:
من الأمور التي يتميز بها الملك عبد العزيز رحمه الله أنَّه يسير على منهج واضح مبني على أصول ثابتة مستمدة من كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما فهمه السَّلف الصالح منهما.
وقد وصف الملك عبد العزيز بأنَّه داعية عقيدة ومنفذ شريعة.
وقد سبق أنَّ من أهداف الدعامة الثانية للتمكين في الأرض وهي
(إيتاء الزكاة) الاعتصام والالتفاف حول المنهج أو حول الإسلام الذي تضمنته الدعامة الأولى (إقام الصلاة) وأن لا يكون نفع المؤمن مقصوراً على نفسه وحسب.
وكل مؤرخ منصف أمين راسخ في العلم في التاريخ الحديث والمعاصر لا يستطيع أن يصف الملك عبد العزيز إلَاّ أنَّه من أعظم دعاة الوحدة التي دعا إليها الإسلام. ومن أعظم محققيها في العصر الحديث. وكما أنَّه استمد منهج العقيدة والشريعة من الإسلام، فكذلك استمد منهج الوحدة من الإسلام.
إذ كان يسترشد ويستضيء - وهو يرسي دعائم وبناء الوحدة الإسلامية - بالآيات القرآنية الداعية إلى الاعتصام بحبل الله.
قال -تعالى-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}
[الأنبياء:92]، وقال -تعالى-:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 10]، وقال -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] .
وكان الملك عبد العزيز ينظر إلى العقيدة والشريعة نظرة منهجية متكاملة.
فالعقيدة عنده هي توحيد الله، ثُمَّ اجتماع المؤمنين في ذات الله1.
والشريعة عنده هي النظام الذي يأتلف المسلمون على طاعته وموالاته، ويتحد صفهم تحت لوائه.
ومن العقيدة الموحدة والشريعة المنظمة تنبثق الوحدة، فما ينبغي لمجتمع اتحد في العقيدة والشريعة أن يتفرق اجتماعياً أو سياسياً أو جغرافياً.
ويبين الملك عبد العزيز منهجه في الوحدة فيقول: "نحن دعاة إلى العروة الوثقى التي لا انفصام لها".
وسبق أنَّه قال في العقيدة: "نحن دعاة إلى العقيدة السلفية"2.
وصيغ التعبير تكاد أن تكون متطابقة في المجالين، مِمَّا يدل على وضوح المنهج وترابطه لدى الملك عبد العزيز.
ويقول في الوحدة أيضاً: "إني أعتبر كبيركم بمنزلة الوالد، وأوسطكم أخاً، وصغيركم ابناً، فكونوا يداً واحدة، وألِّفُوا بين قلوبكم لتساعدوني على المهمة الملقاة على عاتقنا"3.
ويقول: "يجب أن تحرصوا على العمل، والعمل لا يكون إلَاّ بالتساند والتعاضد"4.
1 المراد من أجل الله. وانظر المنهج القويم في الفكر والعمل للدكتور التركي ص51.
2 المرجع السابق ص51.
3 من شيم الملك عبد العزيز 3/130
4 الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص 207
ويقول: "أنا مسلم وأحب جمع الكلمة، وتوحيد الصف، وليس هناك ما هو أحب إليَّ من تحقيق الوحدة"1.
وما قاله الملك عبد العزيز في المنهج طبَّقه بالفعل والإنجاز وما فكَّر فيه من الوحدة حقَّقه في الواقع، كأعظم ما يكون من تحقيق الوحدة، إنَّ المملكة العربية شبه قارَّة.
لكن عزيمة الملك عبد العزيز كانت أقوى من المثبطات والصعوبات التي كانت تقف في سبيل التوحيد، حيث مضى يوحد البلاد، ويرصها صفّاً واحداً، تحت رايةٍ واحدة، وخلف قيادة واحدة، في وطنٍ واحدٍ كبيرٍ، في ضوء منهجٍ جامعٍ قويم.
لأنَّه يعلم ويؤمن أنَّ أمَّةً تعتنق عقيدة التوحيد وتلتزم شريعة الإسلام لا يحل لها - بحالٍ من الأحوال - أن تتفرَّق وتتشتت؛ لأنَّ ذلك مخالفة جسيمة للعقيدة والشريعة.
ومن هنا يعلم أنَّ العزم على رد الأمة إلى العقيدة والشريعة هو عزم - في الوقت نفسه - إلى ردها إلى الوحدة. كما سبق في الآيات الكريمة التي تلوناها، وكما مرَّ في تقرير الملك عبد العزيز رحمه الله للعقيدة عالمياً.
المسألة الثانية: اهتمامه بالهدف الخاص للدعامة الثانية:
وهو (إيتاء الزكاة) بمعناها المعروف، أي دفعها إلى مستحقيها كما أمر الله بذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة، وقد سبق الكلام على أهميتها في الإسلام. والمنافع التي تعود على المزكِّي والمجتمع والآخذ للزكاة كثيرة، وفيها معنى التعبُّد - كما قال -تعالى-:{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] .
1 المصدر السابق ص 216، المنهج القويم في الفكر والعمل ص 51
وليس على المسلم في ماله حق سواها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في المال حق سوى الزكاة"1.
وقد حدَّد الرسول صلى الله عليه وسلم الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقدار الواجب فيها، والشروط التي يجب توفرها
…
وكان الرسولُ صلى الله عليه وسلم مثلاً رائعاً لكل المسلمين في زهده، وعفته، وكرمه، فأقبل الناس على إخراج زكاة أموالهم، مِمَّا أشاع المساواة والعدالة في جوانب الجزيرة القاحلة التي كانت قبل الإسلام تتسم بمظاهر الفوارق والأنانية والسلب والنهب..
لقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بفريضة الزكاة، فبعث السعاة لجمعها وتوزيعها على مستحقيها، وكان هديه صلى الله عليه وسلم انتقاء هؤلاء السعاة وإصدار التعليمات إليهم في معاملة أصحاب الأموال معاملة فيها رفق وتيسير، مع عدم التهاون في حق الله، وكان يحذر هؤلاء السعاة من الغلول ويحاسبهم على التقصير.
وكذلك سار على هديه خلفاؤه من بعده رضي الله عنهم. لكن العلماء اختلفوا في الزكاة التي يليها الأئمة ما هي:
قال الماوردي2 في الباب الحادي عشر من كتابه (الأحكام السلطانية) : "والأموال المزكاة ضربان: ظاهرة، وباطنة:
1 رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة، حديث رقم (1789) من حديث فاطمة بنت قيس أنَّها سَمِعَت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ليس في المال حق سوى الزكاة".
وضعفَّه الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزيادته، وأورد عن فاطمة رضي الله عنها:"إنَّ في المال لحق سوى الزكاة". مشكاة المصابيح، حديث رقم (1914) . ويجمع بينهما بأن المنفي الوجوب، والمثبت الندب.
وانظر كتاب الماوردي الباب الحادي عشر. وقارن بالتطبيق المعاصر للزكاة ص13.
2 الماوردي: هو علي بن محمد بن حبيب البصري، المعروف بالماوردي، فقيه شافعي، وكنيته أبو الحسن. وُلِدَ بالبصرة سنة (364هـ) . من شيوخه: الحسن بن علي الحنبلي، ومحمد بن عدي المقرئ، وأبو حامد الاسفراييني.
ومن تلاميذه: أبو بكر الخطيب، وأبو العينين كادش.
ومن مؤلفات: الحاوي في الفقه، ودلائل النبوة في الحديث، والأحكام السلطانية في السياسة.
الفتح المبين 1/240، شذرات الذهب 3/286، طبقات الشافعية للسبكي 3/303
فالظاهرة ما لا يمكن إخفاؤه - كالزرع والثمار والمواشي.
والباطنة ما يمكن إخفاؤه من الذهب والفضة وعروض التجارة.
وليس لولي الصدقات نظر في زكاة المال الباطن، وأربابه أحق بإخراج زكاته منه، إلَاّ أن يبذلها أرباب الأموال طوعاً يتقبلها منهم ويكون في تفريقها عوناً لهم.
ونظرهُ مختص بزكاة الأموال الظاهرة يؤمر أرباب الأموال بدفعها إليه وفي هذا الأمر إذا كان عادلاً قولان:
أحدهما: أنَّه محمول على الإيجاب، وليس لهم التفرد بإخراجها ولا تجزئهم إن أخرجوها.
والقول الثاني: أنَّه محمول على الاستحباب إظهاراً للطاعة، وإن تفردوا بإخراجها أجزأتهم. وله على القولين معاً أن يقاتلهم عليها إذا امتنعوا من دفعها - كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة - لأنَّهم يصيرون بالامتناع من طاعة ولاة الأمر بغاة"1.
وهذا ما ذهب إليه واختاره أبو عبيد2 في كتاب الأموال. وقال عنه: "هو قول أهل السنَّة والعلم من أهل الحجاز والعراق وغيرهم - في الصامت -؛ لأنَّ المسلمين مؤتمنون عليه كما ائتمنوا على الصلاة.
وأمَّا المواشي والحب والثمار فلا يليها إلَاّ الأئمة، وليس لربها أن يغيبها عنهم، وإن هو فرَّقها ووضعها مواضعها فليست كافية عنه، وعليه إعادتها إليهم. فرَّقت بين ذلك السُنَّة والأثر"3.
1 الأحكام السلطانية للماوردي، طبعة نهضة الوطن بمصر، سنة 1298 هـ ص 108، وانظر التطبيق المعاصر للزكاة ص12 للدكتور شوقي إسماعيل.
2 أبو عبيد: القاسم بن سلام. البغدادي، الفقيه الأديب صاحب المصنفات الكثيرة في القرآن والفقه والشعر. توفي سنة 244هـ.
مقدمة كتاب الأموال بتحقيق محمد خليل هراس ص5.
3 المراد بالسنة: سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، والأثر: آثار الصحابة والتابعين. انظر التطبيق المعاصر للزكاة ص12.
ويقول: "ألا ترى أنَّ أبا بكر الصديق إنَّما قاتل أهل الردة في المهاجرين والأنصار على منع صدقة المواشي، ولم يفعل ذلك في الذهب والفضة"1.
والملك عبد العزيز - يرحمه الله - كما سبق - هو داعية عقيدة ومنفذ شريعة، ومتبع لسنة السلف الصالح. فجهوده - بلا شك - ستكون على هذا النحو الذي هو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل خلفائه من بعده. ثُمَّ السلف الصالح.
حيث كان يبعث السعاة كل عام لجلب الزكاة من الأموال التي تجب فيها الزكاة وصرفها على مصارفها الشرعية. وكان يحث على أداء الزكاة في المناسبات، ويأمر رجال هيئة الأمر بالمعروف والأئمة والخطباء بتوضيح أحكام الزكاة وبيان مصارفها.
ولمَّا توسعت الدولة وكثرت الوزارات والهيئات الحكومية والإدارات والمصالح خصصت للزكاة مصلحة خاصة تقوم على شئونها وتنظيمها وجمعها ثُمَّ تفريقها على مستحقيها، حتى وصل الأمر في الأيام الأخيرة إلى تشجيع أهل الأموال على أداء زكاة أموالهم وذلك بإعطائهم بروات2 تسهل لهم الحصول على الإعانات الحكومية التي تدفعها الحكومة للمواشي والمزارع وغيرها. مِمَّا جعل صاحب المال هو الذي يبحث عن الساعي بعد أن كان الساعي هو الذي يأتي إليه. وقد أدَّى ذلك إلى الاجتهاد في إحصاء الأموال الزكوية ودفع زكاتها بنفسٍ رضية، فجزى الله ولاة الأمر عن ذلك خير الجزاء؛ لأنَّ فيه تعاوناً على البر والتقوى - فضلاً - على أنَّه واجب من واجبات المسلم فرداً كان أو والياً من ولاة الأمر.
1 الأموال لأبي عبيد ص 567، طبعة المكتبة التجارية، سنة 1355هـ.
2 البروات: وثائق تدل على دفع الزكاة.