الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: شبهة أن الوهابيين أدخلوا في المكفرات ما ليس فيها
نورد في هذا المبحث ما كتبه بعض الخصوم من مخالفات واعتراضات لما قرره علماء الدعوة السلفية، فلقد خالف هؤلاء الخصوم، وادعوا أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وأنصار دعوته قد أدخلوا في نواقض الإسلام ما ليس منها، وادعوا أيضا أن تلك المكفرات التي يؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنها تخرج عن دائرة الإسلام أنها ليست في الحقيقة عندهم مكفرات، بل هي دون ذلك
…
ولو تتبعنا أقوال الخصوم في هذا المقام، لطال بنا الحديث وامتد دون حد أو حصر.. ولكن -ومن خلال التأمل في تلك الأقوال والنقول عنهم- لاحظت أن السبب الرئيس لهذا الخلاف، هو الاختلاف في حد الكفر المخرج عن دين الإسلام بين أئمة الدعوة السلفية، وبين هؤلاء الخصوم، فقد قرر أئمة الدعوة نواقض الإسلام وبينوا وميزوا حد الكفر الأكبر من الأصغر، كما جاء هذا التقرير والبيان في نصوص القرآن ونصوص السنة النبوية، وآثار السلف الصالح، أما أولئك المخالفين من الخصوم فقد خالفوا سبيل المؤمنين، فلم يدركوا حد الكفر..، ولم يعرفوا معنى الكفر المخرج من الملة، لذا فإنهم قد حصروا الكفر في حدود ضيقة جدا، فأخرجوا كثيرا من المكفرات -مما جاءت الأدلة والبراهين على إثبات أنها من المكفرات-، وجعلوها غير داخلة في نواقض الإسلام.
ولقد وقع الخصوم في اللبس والقصور لحقيقة الكفر، بسبب جهلهم بحقيقة التوحيد، فلما لم يتصوروا حقيقة التوحيد تصورا تاما، ولم يفهموا حقيقة التوحيد فهما سليما، وجهلوا بعض خصائص التوحيد، أدى بهم ذلك إلى التصور المبتور، والجهل بمعرفة ما يناقض حقيقة التوحيد، إضافة إلى أثر العوائد المألوفة والتقليد الأعمى، ومن ثم جهلوا بعض أوصاف الكفر، فوقعوا -أي الخصوم- في بعض المكفرات، وأوقعوا العامة في أدران الشرك ونجاساته1 ثم أنكر الخصوم على من أدرك الحق في ذلك، وخالف هؤلاء الأدعياء في تصور حقيقة التوحيد، وحقيقة ما يناقضه.
إن التصور الناقص المبتور لحقيقة التوحيد عند الخصوم هو أنهم يعتقدون أن التوحيد الذي يجب على كل مكلف هو توحيد الربوبية فقط، فمن أقر بأن الله
1 سبق الإشارة إلى هذا الكلام.
هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت.. ونحوها من صفات الربوبية، فهو الموحد، وتصوروا -جهلا وتقليدا- أن معنى شهادة لا إله إلا الله هو إثبات أن الله هو الخالق والقادر على الاختراع، وجهلوا -أو تجاهلوا- أن معنى "الإله" بإجماع أهل اللغة وعلماء التفسير والفقهاء هو المعبود، فيكون المراد بكلمة الشهادة: لا معبود بحق إلا الله، أي صرف جميع أنواع العبادات لله وحده، وإثباتها له وحده -سبحانه، ونفيها عما سواه عز وجل 1.
وكأن هؤلاء الأدعياء لا يعلمون أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قاتل مشركي العرب مع إقرارهم بتوحيد الربوبية؛ لأنهم قد أنكروا توحيد العبادة ولم يعترفوا، ولم يقروا بأن الله وحده هو المستحق للعبادة بجميع أنواعها فلا تصرف لمعبوداتهم من الأحجار والأوثان والطواغيت.
ومما يدل على أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر.. ونحوها من أفعال الرب سبحانه، ولم يدخلهم ذلك في دين الإسلام قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 2.
وهذا التوحيد الذي أقر به مشركوا العرب ولم يدخلهم في الإسلام هو الغاية عند هؤلاء الخصوم.
وسنورد نماذج من أقوالهم من كتبهم توضح ما ذكرناه آنفا وتبين أن توحيد الربوبية هو مقصودهم، وأن مخالفة ومناقضة هذا التوحيد هي الكفر فقط، ولو وقع أحدهم في بعض أنواع المكفرات المخرجة عن دين الإسلام، كمن ذبح لغير الله أو نذر لغير الله، أو استغاث ودعا المخلوقين فيما لا يقدر عليه إلا الله، فإنه لا يعتبر بفعلها مرتدا، ما دام أنه يعتقد أن المؤثر في هذا الكون هو الله وحده
…
ثم نورد نماذج أخرى من أقوالهم في تجويز تلك المكفرات، أو جعلها معاصي دون الكفر المخرج عن الملة، مثل الذبح لغير الله والنذر لغير الله والدعاء والاستغاثة بغير الله، وإنكارهم على أئمة الدعوة خلاف ذلك. وعقب ذلك، نذكر الرد والبيان من كلام الأئمة الأعلام أتباع هذه الدعوة السلفية على تلك الدعاوى.
1 انظر: بيان ذلك في "مجموعة التوحيد النجدية"، المطبعة السلفية، القاهرة، 1375هـ، ص396، 398.
2 سورة يونس آية: 31.
يقرر ابن عفالق معنى التوحيد -عندهم- فيقول:
(التوحيد إفراد القديم من الحدث، وإفراده بالربوبية والوحدانية، ومباينته تعالى لجميع مخلوقاته
…
) 1.
ويذكر القباني إقرار المشركين الأولين بتوحيد الربوبية، لكي يدافع عن مشركي زمانه ممن يستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، فيقول:
(فهل سمعت عن أحد من المستغيثين أنه يعتقد في الرسول صلى الله عليه وسلم أو في الولي المستغاث به أنه إله مع الله تعالى يضر وينفع، ويشفع بذاته كما يعتقد المشركون فيمن عبدوه..)2.
ويدعي محمد بن عبد المجيد نفس الدعوى السابقة، وأن مشركي العرب لم يقروا بربوبية الله، فيقول:
(إنما كفر أهل الجاهلية بعبادة الأصنام لتضمنها اعتقادهم ثبوت شيء من صفات الربوبية لها
…
-ثم يقول- ومن هذه الحيثية شركهم وكفرهم؛ لأن صفاته تعالى تجب لها الوحدانية بمعنى عدم وجود نظير لها إلا قائم بذاته تعالى ولا بذات أخرى) 3.
فإذا كان مشركو العرب منكرين لشيء من صفات الربوبية -على حد زعمه- (فأين هذا ممن يستغيث من المسلمين بنبي أو ولي معتقدا أنه لا يملك نفعا ولا ضرا)4.
ويدافع "الحداد" عن أتباعه من عباد القبور، فيقول:
(.. هؤلاء مهما عظموا الأنبياء والأولياء فإنهم لا يعتقدون فيهم ما يعتقدون في جناب الحق تبارك وتعالى من الخلق الحقيقي التام العام، وإنما يعتقدون الوجاهة لهم عند الله في أمر جزئي، وينسبونه لهم مجازا، ويعتقدون أن الأصل والفعل لله سبحانه)5.
ويقرر "دحلان" أن الشرك هو اعتقاد التأثير لغير الله، وليس هناك مسلم يعتقد التأثير لغير الله، يقول:
1 جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ق65.
2 "فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب"، ق61.
3 "الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية"، ص11 باختصار.
4 "الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية"، ص15، 16 باختصار.
5 "مصباح الآنام"، ص5.
فالذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله سبحانه، أو اعتقاد التأثير لغير الله) 1.
ثم يقول (ولا يعتقد أحد من المسلمين ألوهية غير الله تعالى، ولا تأثير أحد سوى الله تعالى..)2.
ويؤكد "الزهاوي" أن المشركين الأولين كانوا يعتقدون لأصنامهم أنها تنفع وتضر بذواتها فيقول: (إن المشركين إنما كفروا بسبب اعتقادهم في الملائكة والأنبياء والأولياء أنهم ألهة مع الله يضرون وينفعون بذواتهم)3.
ويحاول "العاملي" أن يثبت بلا دليل أن مشركي العرب ينكرون ربوبية الله، وأن يرد على ما قرره الشيخ الإمام -بالأدلة والبراهين في رسالتيه:"كشف الشبهات" و"أربع قواعد"- بأن مشركي العرب معترفون بربوبية الله، فيقول -في دفاع هزيل عن أتباعه المشاركين لهؤلاء المشركين في الإقرار بتوحيد الربوبية فقط-:(لا شيء يدلنا على أنهم -أي مشركي العرب- لا يعتقدون في الأصنام والأوثان ومعبوداتهم. أنه لا تأثير لها في الكون، وأن التأثير وحده لله تعالى وهي شافعة فقط، إذ يجوز أن يعتقدوا أن لها تأثيراً بنفسها بغير ما في الآيات المستشهد بها، فتشفي المرض وتكشف الضر..)4.
ويقرر الشطي أن الشرك الأكبر هو -فقط-: (عبادة الأوثان والأصنام) 5 ويذكر حكاية لجده، فقال: (ومرة دخل جدي جامع بني أمية في الشام، فسمع عجوزا تقول:
يا سيدي يحيى عاف لي بنتي، فوجد هذا اللفظ بظاهره مشكلا، وغير لائق بالأدب الإلهي، فأمرها بالمعروف، وقال لها: يا أختي قولي بجاه سيدي يحيى عاف لي بنتي، فقالت له: أعرف أعرف، ولكن هو أقرب مني إلى الله تعالى، فأفصحت عن صحة عقيدتها من أن الفعال هو الله تعالى، وإنما صدر هذا القول منها على وجه التوسل والتوسط إلى الله تعالى، بحصول مطلوبها منه..) 6.
1 "الدرر السنية في الرد على الوهابية"، ص33.
2 المرجع السابق، ص 34.
3 "الفجر الصادق في الرد على منكري التوسل والكرامات والخوارق"، ص51 باختصار.
4 "كشف الارتياب"، ص170، باختصار.
5 "النقول الشرعية"، ص100.
6 المرجع السابق، ص102.
ويبرِّئ الرافضيُّ محمدُ حسين طائفتَه الرافضةَ، ومن سار على نهج ضلالهم من عباد القبور، ويعلن براءتهم من شرك الربوبية فيقول:
فهل تحس أن أحدا من زوار القبور يقصد أن القبر الذي يطوف حوله، أو صاحب الملحود فيه هو صانعه وخالقه، أو أنه يقول للغير أو لمن فيه: يا خالقي ويا رازقي ويا معبودي.. كلا ثم كلا.. ما أحسب أن أحدا يخطر على باله شيء من تلك المعاني..) 1.
ويسد محمد الطاهر باب الردة، ويلغي نواقض الإسلام حين يهذي فيقول:
(إذا وجد في كلام المسلمين إسناد شيء لغير الله يجب حمله على المجاز العقلي، ولا سبيل لتكفير أحد من المسلمين.. فإذا قال العامي من المسلمين: نفعني النبي صلى الله ليه وسلم أو الصحابي أو الولي، فإنما هو يريد الإسناد المجازي، والقرينة على ذلك أنه مسلم موحد لا يعتقد التأثير إلا لله وحده لا لغيره)2.
بناء على النقول السابقة لهؤلاء الخصوم فليس الذبح لغير الله شركا، وليس النذر لغير الله شركا، وليست الاستغاثة بالأموات شركا، كل ذلك ليس شركا يخرج عن دائرة الإسلام، ما دام أن مرتكبها يعتقد أن الله هو الفاعل وأنه المؤثر وحده.. هكذا فهم هؤلاء البشر وإليك أقوالهم من كتبهم التي تثبت ذلك، وتستنكر بشدة على من خالفهم في ضلالاتهم وانحرافاتهم. يقول ابن عفالق نافيا أن يكون الذبح والنذر لغير الله شركا:
(فاجتمعت الأمة على أن الذبح والنذر لغير الله حرام، ومن فعلها فهو عاص لله ورسوله.. والذي منع العلماء من تكفيرهم أنهم لم يفعلوا ذلك باعتقاد أنها أنداد لله..)3.
ويشنع ابن سحيم على الشيخ الإمام، لأنه كفر من ذبح لغير الله، يقول ابن سحيم:
(ومنها أنه يقطع بكفر الذي يذبح الذبيحة ويسمي عليها، ويجعلها لله، لكن يدخل مع ذلك دفع شر الجن ويقول ذلك كفر واللحم حرام..)4.
ويستنكر سليمان بن عبد الوهاب تكفير من ذبح أو نذر لغير الله، ويستغرب من
1 "رسالة نقض فتاوى الوهابية"، ص27-30 باختصار.
2 "قوة الدفاع والهجوم"، ص 16،17.
3 جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ق60.
4 نقلا عن: أحمد القباني، "فصل الخطاب"، ق211.
تكفير من دعا غير الله فيقول:
(من أين لكم أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إذا دعا غائبا، أو ميتا أو نذر له، أو ذبح لغير الله، أن هذا هو الشرك الأكبر الذي من فعله حبط عمله وحل ماله ودمه)1.
ويقول سليمان: (لم يقل أهل العلم من طلب من غير الله فهو مرتد ولم يقولوا من ذبح لغير الله فهو مرتد..)2.
ويجوز محمد بن محمد القادري الاستغاثة بغير الله ما دام أن المستغيث بغير الله، لا يعتقد أن غير الله هو الموجد، وأنه لا تأثير إلا لله وحده يقول القادري:
(وقول يا سيدي أحمد أو شيخ فلان ليس من الإشراك؛ لأن القصد التوسل والاستغاثة.. ولا يشك في مسلم أنه يعتقد في سيدي أحمد أو غيره من الأولياء أن له إيجاد شيء من قضاء مصلحة أو غيرها إلا بإرادة الله وقدرته..)3.
ويعتبر الحداد أن منع النذر للأولياء من مفتريات الشيخ، فيقول الحداد:
(وأما نص النجدي بمنع النذر مطلقا للأكابر، فمن افترائه على كتب الشريعة وجهله المركب)4.
ويقول محسن بن عبد الكريم في "لفحات الوجد" أثناء مدحه لأحد خصوم الشيخ:
(وألزمهم بعد ذلك أن الشرك في الدعاء ليس بشرك أكبر، فلا يخرج به فاعله من دائرة الإسلام بعد تحقيق دخوله فيه)5.
وألف عبد الله بن حسين بلفقيه العلوي رسالة في الرد على أئمة الدعوة.. في هذه المسألة، لكي يثبت أن دعاء غير الله ليس شركا أكبر6.
كما أن داود بن جرجيس يزعم أن دعاء الأموات والغائبين والذبح والنذر لغير الله ليس بشرك7.
1 "الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية"، ص6.
2 المرجع السابق، ص7.
3 رسالة في الرد على الوهابية، ق6. 7.
4 "مصباح الآنام"، ص44.
5 ق 88.
6 انظر: رسالته في الرد على الوهابية، صورة خطية من معهد المخطوطات بالكويت، ق13.
7 انظر: مقدمة "تأسيس التقديس" للشيخ عبد الله أبي بطين ص2.
ويحتج جعفر النجفي على جواز الذبح لغير الله بأن (أهل الإسلام من قديم الأيام يذبحون للأنبياء والأولياء..)1.
ويدعي الرافضي العاملي جواز الاستغاثة بغير الله، فيقول:
(لو قال في دعائه واستغاثته بغير الله: اقض ديني، أو اشف مريضي أو انصرني على عدوي، فليس منه مانع ولا محذور، فضلا عما يوجب الإشراك والتكفير، للعلم بحال المسلم الموحد المعتقد أن من عدا الله تعالى لا يملك لنفسه أو لغيره نفعا ولا ضرا)2.
ويستنكر الشطي أن تكون الاستغاثة بغير الله شركا -كما هو عليه أئمة الدعوة السلفية-، فيقول حاكيا معتقد الوهابيين في ذلك:
(فإنهم يصرحون بأن من يستغيث بالرسول عليه السلام، أو غيره، في حاجة من حوائجه، أو يطلب منه أو يناديه في مطالبه ومقاصده، ولو بيا رسول الله، أو اعتقد على نبي أو ولي ميت وجعله واسطة بينه وبين الله في حوائجه فهو مشرك حلال الدم والمال..)3.
ويأتي محمد بن علوي المالكي -في ذيل تلك القافلة المتعثرة- فيدعي: (أنه لا يكفر المستغيث إلا إذا اعتقد الخلق والإيجاد لغير الله)4.
لكي نجيب على تلك الشبهة، ونزيل اعتراض الخصوم، فإننا نُذكِّر بما قررناه من قبل أن الخصوم قصرت تصوراتهم عن إدراك حقيقة التوحيد فجعلوا توحيد الربوبية هو غاية التوحيد، وأنه الواجب على المكلف.. ومن ثم قصرت تصوراتهم لحقيقة الشرك -الذي يناقض التوحيد-، فحصروا الشرك في الربوبية كمن يعتقد أن الخلق والإيجاد لغير الله، أو النفع والضر لغيره سبحانه
…
أما علماء هذه الدعوة وأتباعها فقد تصوروا تصورا تاماً وفهموا فهما شاملا لكل من حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك.
ومن المناسب إذن أن نذكر حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده كما قرره بعض علماء الدعوة.. وهو:
1 "منهج الرشاد لمن أراد السداد"، ص30.
2 "كشف الارتياب" ص274.
3 "النقول الشرعية" ص101.
4 "مفاهيم يجب أن تصحح"، دار الإنسان القاهرة، 1405هـ، ص15.
(أن يصرف العبد نوعا أو فردا من أفراد العبادة لغير الله.. فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع، فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر)1.
فمثلا أمر الله بالذبح له، وإخلاص ذلك لوجهه، كما هي صريحة بذلك النصوص القرآنية في الصلاة، فقد قرن الله الذبح بالصلاة في عدة مواضع من كتابه، وإذا ثبت أن الذبح لله من أجَلّ العبادات وأكبر الطاعات، فالذبح لغير الله شرك أكبر مخرج عن دائرة الإسلام2.
وكذلك النذر عبادة، مدح الله الموفين به، وأمر النبي صلى الله ليه وسلم بالوفاء بنذر الطاعة، وأمر سبحانه بالاستغاثة به في كل شدة ومشقة، فهذه إخلاصها إيمان وتوحيد وصرفها لغير الله شرك وتنديد3.وأما دعوى الخصوم أن مشركي العرب يعتقدون النفع والضر لأصنامهم، فنصوص القرآن الكريم ترد تلك الدعوى الخاطئة -كما ذكرنا بعضها من قبل- ويكفي من ذلك قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 4.
فهؤلاء الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم مقرون بأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله وحده، ومقرون أن معبوداتهم -سواء كانت أصناما أو أولياء- لا تدبر ولا تخلق شيئا، وأن النفع والضر من عند الله..
وبهذا يتضح بطلان اعتقاد هؤلاء الجهال -من عباد القبور- ممن يذبح للأولياء أو ينذر لهم القرابين أو يستغيث بالموتى، ويظن أنه مسلم بمجرد اعتقاده أن الله هو المؤثر المتصرف، فإن هذه طريقة مشركي العرب سواء بسواء5.
1 عبد الرحمن بن ناصر السعدي، "القول السديد في مقاصد التوحيد"، مكتبة المعارف، الرياض، ص43.
2 المرجع السابق، ص42= بتصرف يسير.
3 المرجع السابق، ص47، 48.
4 سورة المؤمنون آية: 84-89.
5 انظر: للرد على اعتراضات الخصوم التي يتوصلون بها إلى الشرك ونقص التوحيد ما كتبه الشيخ الإمام في رسالته النفيسة "كشف الشبهات". وانظر: كذلك ما كتبه الدكتور صالح العبود في رسالته "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" 2/591-602.
ولبيان أن دعاء غير الله والاستغاثة بالأولياء ونحوهم، وكذا الذبح لغير الله، والنذر لغيره عز وجل
…
أن هذه كلها من أنواع الشرك الأكبر الذي يخرج عن دائرة الإسلام، فإننا نذكر بعض ما كتبه أئمة الدعوة في هذا الشأن ردا على شبهة أولئك الخصوم.
يورد الشيخ محمد بن عبد الوهاب الجواب الشافي على شبهة ابن سحيم حين ظن أن النذر لغير الله حرام ليس بشرك، فقال الشيخ مجيبا على ذلك ومخاطبا ابن سحيم:(فدليلك قولهم إن النذر لغير الله حرام بالإجماع فاستدللت بقولهم حرام على أنه ليس بشرك، فإن كان هذا قدر عقلك فكيف تدعي المعرفة؟ يا ويلك ما تصنع بقول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1 فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر يا هذا الجاهل الجهل المركب، ما تصنع بقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن} 2 إلى قوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} 3 هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه؟ يا ويلك في أي كتاب وجدته إذا قيل لك هذا حرام، أنه ليس بكفر، فقولك إن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر، كذب وافتراء على أهل العلم، بل يقال ذكر أنه حرام، وأما كونه كفراً فيحتاج إلى دليل آخر، والدليل عليه أنه مصرح في "الإقناع" أن النذر عبادة، ومعلوم أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله، فإذا كان النذر عبادة وجعلتها لغيره كيف لا يكون شركا)4.
ويورد الشيخ الإمام قاعدة مهمة أثناء جوابه على من ادعى أن الذبح للجن منهي عنه فهو معصية وليس ردة.. يقول الشيخ: (قوله: الذبح للجن منهي عنه، فاعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي أن لفظ "التحريم" و "الكراهة" وقوله "لا ينبغي" ألفاظ عامة تستعمل في المكفرات، والمحرمات التي هي دون الكفر، وفي كراهة التنزيه التي هي دون الحرام، مثل استعمالها في المكفرات: قولهم لا إله إلا الذي لا تنبغي العبادة إلا له. وقوله {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} 5 ولفظ التحريم مثل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
1 سورة الأنعام آية: 151.
2 سورة الأعراف آية: 33.
3 سورة الأعراف آية: 33.
4 "مجموعة مؤلفات الشيخ" 5/229.
5 سورة مريم آية: 92.
أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 1،
وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم "يحرم كذا" لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر، وقولهم "يكره" كقوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} 2 إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} 3 وأما كلام الإمام أحمد في قوله: "أكره كذا" فهو عند أصحابه على التحريم، إذا فهمت هذا، فهم صرحوا أن الذبح للجن ردة تخرج وقالوا: الذبيحة حرام ولو سمى عليها..) 4.
ويقرر الشيخ حمد بن ناصر بن معمر حكم الاستغاثة بغير الله فيقول:
(ونحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 5 {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 6)7.
ثم يقول: (فكل من دعا ميتا من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة أو الجن، فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه، ولا تحويله)8.
ويبين الشيخ حمد بن ناصر بن معمر- رحمه الله نوعي دعاء غير الله، ثم يرد على بعض الاعتراضات التي أوردها بعض الخصوم، لكي يجيزوا دعاء غير الله ويحسبون أنه ليس بكفر، فكان مما قاله:
(اعلم أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان، أحدهما: سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه مثل سؤاله أن يدعو له، أو ينصره، أو يعينه، فهذا جائز كما كان الصحابة يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فيشفع لهم، ويسألونه الدعاء فيدعو لهم.
النوع الثاني: سؤال الميت والغائب وغيرهما ما لا يقدر عليه إلا الله مثل سؤال قضاء الحاجات وتفريج الكربات، فهذا من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين
1 سورة الأنعام آية: 151.
2 سورة الإسراء آية: 23.
3 سورة الإسراء آية: 38.
4 "مجموعة مؤلفات الشيخ" 3/66.
5 سورة الجن آية: 18.
6 سورة الشعراء آية: 213.
7 "الهدية السنية" ص54.
8 الهدية السنية ص55.
وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه ليس من دين الإسلام) 1. وقال أيضا:
(فقول القائل: إن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه: الوجه الأول:
عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه كلام باطل بل النصوص صريحة في كفر من دعا غير الله، وجعل لله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في أموره كلها.
قال الله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 2 3.
ويقول في موضع آخر:
(وأيضا فإن كثيرا من المسائل التي ذكرها العلماء في مسائل الردة والكفر وانعقد عليها الإجماع، لم يرد فيها نصوص صريحة بتسميتها كفرا، وإنما يستنبطها العلماء من عمومات النصوص..)4.
ثم يقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر في رد اعتراض آخر:
(وأما قوله الثاني إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله وقد ورد أنه شرك وكفر ثم أولوه بالأصغر
…
فنقول: هذا كلام باطل، وليس يخفى ما بينهما من الفرق، فأي مشابهة بين من وحد الله وعبده، ولم يشرك معه أحدا من خلقه، وأنزل حاجاته كلها بالله واستغاث به في تفريج كربته، لكنه حلف بغير الله يمينا مجردة لم يقصد بها تعظيمه على ربه، ولم يسأله ولم يستغث به، وبين من استغاث بغير الله وسأله جلب الفوائد وكشف الشدائد، فإن هذا صرف مخ العبادة الذي هو لبها وخالصها لغير الله
…
) 5.
ويوضح صاحب "التوضيح" الإشكال عند الخصوم، ويزيل اللبس عندهم في مسألة النذر لغير الله
…
فيفصل الفرق بين نذر فعل المعصية، والنذر لأجل غير الله..،
1 "مجموعة الرسائل والمسائل، 4/592.
2 سورة الأنعام آية: 1.
3 مجموعة الرسائل والمسائل 4/599.
4 المرجع السابق 4/602.
5 المرجع السابق 4/ 611. ومما يجدر ذكره أن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر قد قال في مسألة الحلف بغير الله ما نصه: (أما إن فعل الحلف بغير الله مستحلا أو لكون المخلوق أعظم في قلبه من الخالق كان ذلك كفرا..) عن المرجع السابق 4/612.
ويبين تحقق الشرك وحصوله في النذر لغير الله.. يقول صاحب "التوضيح": (والنذر غير الجائز قسمان:
أحدهما: نذر فعل معصية كشرب الخمر، وقتل معصوم، وصوم يوم عيد فيحرم الوفاء به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " 1 ولأن معصية الله تبارك وتعالى لا تباح في حال من الأحوال
…
الثاني: النذر لغير الله كالنذر لإبراهيم الخليل أو محمد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أو ابن عباس، أو عبد القادر، أو الخضر.. فلا خلاف بين من يعتد به من علماء المسلمين أنه من الشرك الاعتقادي، لأن الناذر لم ينذر هذا النذر الذي لغير الله إلا لاعتقاده في المنذور له أنه يضر وينفع ويعطي ويمنع إما بطبعه، وإما بقوة سببية فيه، ويجلب الخير والبركة، ويدفع الشر والعسرة، والدليل على اعتقاد هؤلاء الناذرين وشركهم حكيهم وقولهم إنهم قد وقعوا في شدائد عظيمة، فنذروا نذرا لفلان وفلان أصحاب القبور من الأنبياء والمشايخ، وللغار الفلاني، والشجرة الفلانية فانكشفت شدائدهم، واستراحت خواطرهم، فقد قام في نفوسهم أن هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم، ومن تأمل القرآن وسنة المبعوث به صلى الله عليه وسلم ونظر أحوال السلف الصالح علم أن هذا النذر نظير ما جعلته المشركون لآلهتهم في قوله تعالى:{هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} 2 3.
ويرد الشيخ عبد الله أبو بطين شبهة القبوريين حين ظنوا أن دعاءهم الأموات مجاز، وأن الله عزوجل هو المسؤول حقيقة، فيقول:
(وأما قول القائل إن دعاء الأموات وسؤالهم قضاء الحاجات مجاز، والله سبحانه هو المسؤول حقيقة، فهذا حقيقة قول المشركين {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 4 {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 5 فهم يسألون الوسائط زاعمين أنهم يشفعون لهم عند الله في قضاء حوائجهم، قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم كفر إجماعا)6.
1 سنن الترمذي: كتاب النذور والأيمان (1526)، وسنن النسائي: كتاب الأيمان والنذور (3806 ،3807 ،3808)، وسنن أبي داود: كتاب الأيمان والنذور (3289)، وسنن ابن ماجه: كتاب الكفارات (2126) ، ومسند أحمد (6/208)، وموطأ مالك: كتاب النذور والأيمان (1031)، وسنن الدارمي: كتاب النذور والأيمان (2338) .
2 سورة الأنعام آية: 136.
3.
"التوضيح عن توحيد الخلاق" ص382،383 باختصار.
4 سورة يونس آية: 18.
5 سورة الزمر آية: 3.
6.
"الدرر السنية" 8/237.
ويؤكد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن أن صرف بعض أنواع العبادة لغير الله شرك.. كما قرره الأئمة الأعلام..، وعلى تقريرهم سار علماء هذه الدعوة فيقول الشيخ عبد اللطيف:
(وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله، والتوكل على سواه، واتخاذ الوسائط بين العباد وبين الله في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وغير ذلك من أنواع عباداتهم، فكلامهم- أي العلماء- فيه، وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به ويحصر، وقد حكى الإجماع عليه غير واحد ممن يقتدى به، ويرجع إليه من مشايخ الإسلام، والأئمة الكرام. ونحن قد جرينا على سنتهم في ذلك وسلكنا منهاجهم فيما هنالك، لم نكفر أحدا إلا من كفره الله ورسوله، وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره ممن أشرك بالله، وعدل به سواه، أو عطل صفات كماله، ونعوت جلاله، أو زعم أن لأرواح المشايخ والصالحين تصرفا وتدبيرا مع الله. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا)1.
ويتحدث محمود شكري الآلوسي عن حال الناذرين في نذورهم لمن يعتقدون فيه الصلاح، ويذكر أنهم يعتقدون فيمن نذروا له من الأولياء أنه ينفع ويضر، ويعطي ويمنع، ويذكر الآلوسي الدليل على ذلك، فيقول:
(والدليل على اعتقادهم هذا، قولهم: وقعنا في شدة فنذرنا لفلان فانكشفت شدتنا، ويقول بعضهم: هاجت علينا الأمواج، فندبت الشيخ فلان، ونذرت له الشيء الفلاني فسلمت سفينتنا، وتراهم إذا هم لم يفوا، وحصلت لهم بعض الآلام، قيل للناذر أَوْفِ بنذرك، وإلا يفعل بك الشيخ كذا وكذا، فيسارع بالوفاء، ولو أنه يستدين في ذمته، ولو كان مديونا أو مضطرا، وربما يموت وهو مديون، كل ذلك خوفا من المنذور له، وطلبا لرضاه. وهل هذا إلا من سوء اعتقاده، وقلة دينه وكساده، وغاية جوابه إذا عذلته أن يقول لك: مقصودي يشفعون لي. والله لا تخطر الشفاعة على قلبه، ولا يعرف إلا أن ذلك المنذور له هو القاضي لحاجته والمهيئ لبغيته)2.
وسرد الآلوسي أقوال العلماء التي تؤكد وتثبت أن الذبح لغير الله يعتبر شركا أكبر يخرج من الملة، ثم قال: (فقد تبين لك من هذه النقول كلها أن من يقرب لغير الله تقربا إلى ذلك الغير ليدفع عنه ضيرا، أو يجلب له خيرا تعظيما له من الكفر الاعتقادي والشرك الذي
1 "مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 221.
2 " فتح المنان تتمة منهاج التأسيس" ص 418.
كان عليه الأولون) 1. ومما تضمنه "البيان المفيد" ما نصه:
(ونعتقد أن عبادة غير الله شرك أكبر، وأن دعاء غير الله من الأموات والغائبين وحبه كحب الله، وخوفه، ورجاءه، ونحو ذلك شرك أكبر، وسواء دعاه دعاء عبادة، أو دعاء استعانة في شدة أو رخاء، فإن الدعاء مخ العبادة، وأن اعتقاد أن لشيء من الأشياء سلطانا على ما خرج عن قدرة المخلوقين شرك أكبر، وأن من عظم غير الله مستعينا به فيما لا يقدر عليه إلا الله كالاستنصار في الحروب بغير قوة الجيوش.. والاستعانة على السعادة الأخروية أو الدنيوية بغير الطرق والسنن التي شرعها الله لنا، يكون مشركا شركا أكبر)2.
ونذكر في خاتمة هذا المبحث أن ما قرره أئمة الدعوة السلفية وأنصارها في مسألة نواقض الإسلام، وأنواع المكفرات التي توجب على مرتكبها الخروج والانسلاخ عن دين الإسلام، أن هذا التقرير ليس بدعا من عند أنفسهم، وإنما كان ذلك اتباعا لنصوص القرآن الكريم، ونصوص السنة النبوية الصحيحة، والتزاما بأقوال الصحابة والتابعين وعلماء الأمة المعتبرين من المذاهب الأربعة3.
1 فتح المنان تتمة منهاج التأسيس ص 421.
2 "البيان المفيد مما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد"، ص 6.
3 انظر: بيان ذلك مما ذكره الشيخ الإمام في رسالته المسماة "مفيد المستفيد"(مجموعة مؤلفات الشيخ 5/304، 305. وما كتبه الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في رسالته النفيسة "الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة" (مجموعة التوحيد 281- 332) . وغيرهما من رسائل أئمة الدعوة.