المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية - دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

[عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: مفتريات ألصقت بدعوة الشيخ مع الدحض لها

- ‌الفصل الأول: الافتراء على الشيخ بادعاء النبوة، وانتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثاني: الزعم بأن الشيخ مشبه مجسم

- ‌الفصل الثالث: فرية إنكار كرامات الأولياء

- ‌الباب الثاني: الشبهات المثارة حول دعوة الشيخ مع بيان الحق في ذلك

- ‌الفصل الأول: التكفير والقتال.. عرض ثم رد وبيان

- ‌المبحث الأول: مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على الشيخ في مسألة التكفير مع الرد والدحض لها

- ‌المبحث الثاني: فرية أن الوهابيين خوارج وأن نجد اليمامة قرن الشيطان مع الرد والدحض لها

- ‌المبحث الثالث: شبهة أن الوهابيين أدخلوا في المكفرات ما ليس فيها

- ‌المبحث الرابع: شبهة مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن تيمية وابن القيم في مسألة الذبح لغير الله..عرض ثم رد

- ‌المبحث الخامس: شبهة عدم طروء الشرك على هذه الأمة.. عرض ثم رد

- ‌المبحث السادس: شبهة تنزيل آيات في المشركين على مسلمين.. عرض ثم رد

- ‌المبحث السابع: شبهة خروج الشيخ على دولة الخلافة

- ‌الفصل الثاني: تحريم التوسل.. عرض ثم رد

- ‌الفصل الثالث: منع الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب الثالث: فيما اعترض عليه من قضايا الدعوة مع المناقشة

- ‌الفصل الأول: هدم الأبنية على القبور والنهي عن شد الرحال لزيارتها

- ‌الفصل الثاني: تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الثالث: إنكار دعاء الموتى

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الثاني: تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

‌الفصل الثاني: تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

أورد خصوم الدعوة السلفية اعتراضا آخر على إحدى قضايا الدعوة، فادعوا أن الشيخ الإمام ابتدع أمراً جديداً، واستحدث شأنا منكرا، حين جعل التوحيد قسمين: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وفرق بين معانيهما.

وقد ساق الخصوم هذا التقسيم والتفريق بين التوحيدين في مقام الاعتراض والمخالفة للشيخ الإمام وأتباع دعوته، ولذا فإن اعتراضهم لا يخلو من تلبيس وتمويه وتزوير.

ويظهر أن سبب هذا الاعتراض من قبل الخصوم، هو اعتقادهم أن الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، بيده النفع والضر.. هو غاية التوحيد، فتوحيد الربوبية هو الواجب على المكلف، وليس معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله عندهم إلا بأن الله وحده هو القادر على الاختراع، فإذا كان توحيد الربوبية هو غاية التوحيد، وهو المطلوب من كل مكلف، فلا اعتبار إلى غيره، ولا نظر إلى ما عداه، ومن ثم رفض هؤلاء القوم هذا التقسيم واستنكروه، واعترضوا على الشيخ الإمام في ذلك.

ونورد اعتراضهم كما جاء مسطورا في كتبهم، ثم نتبعها بالمناقشة التي تكشف عن صحة ما قصده الشيخ الإمام وأتباعه من إيراد هذا التقسيم والتفريق، وأن تقسيم التوحيد إلى توحيد ربوبية وألوهية هو تقسيم تثبته النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة، وآثار السلف الصالح.

يسوق علوي الحداد هذا الاعتراض فيقول:

(توحيد الألوهية داخل في عموم توحيد الربوبية، بدليل أن الله تعالى لما أخذ الميثاق على ذرية آدم، خاطبهم الله تعالى بقوله {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} 1 ولم يقل بإلهكم،

1 سورة الأعراف آية: 172.

ص: 328

فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ومن المعلوم أن من أقر له بالربوبية فقد أقر له بالألوهية، إذ ليس الرب غير الإله بل هو الإله بعينه. ومن العجب العجاب قول المدعي الكذاب لمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله من أهل القبلة أنت لم تعرف، التوحيد نوعان: توحيد الربوبية الذي أقرت به المشركون والكفار، وتوحيد الألوهية الذي أقرت به الحنفاء وهو الذي يدخلك في دين الإسلام.

وأما توحيد الربوبية فلا، فيا عجبا هل للكافر توحيد صحيح، فإنه لو كان توحيده صحيحا لأخرجه من النار، إذ لا يبقى فيها موحد كما صرحت به الأحاديث) 1.

ويورد محسن بن عبد الكريم قول أحد أسلافه، وهو عبد الله بن عيسى حيث يقول معترضا على هذا التقسيم:

(ثم إن المخالف- يعني ابن عبد الوهاب- جعل التوحيد توحيدين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فقال: إن الأول اعترف به المشركون، وأما الثاني فلم يعترفوا به، وجعل توحيد الإلهية راجعا إلى العبادة، ولا نعلم سلفاً له في هذا، ونحن لا نسلم الفرق، بل توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية، إذ الصفة لا تزول عن الموصوف، فرب السماوات والأرض إلههما

) 2.

ثم ينكر ابن عيسى إقرار مشركي العرب بتوحيد الربوبية مستدلا بقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} 3.

ثم قال ابن عيسى: (فلم يكن مشركوا العرب مقرين بالأحدية والربوبية كما زعم..)4.

ويقول داود بن جرجيس حول هذا التقسيم:

(إن هذه الشبهة هي التي غرّ بها إبليس هؤلاء وأشباههم، فإذا رأيت جوانها سقطت، وتبين المؤمن من الكافر، والموحد من المشرك، فاعلم أن الكفار كانوا مشركين بالله تعالى أصنامهم في الربوبية والعبادة.. فمن قال أن الكفار كانوا يوحدون الله

1 "مصباح الآنام"، ص17.

2 "لفحات الوجد"، ق23، 24.

3 سورة الفرقان آية: 60.

4 "لفحات الوجد"، ق24.

ص: 329

توحيد الربوبية أخذاً من ظاهر بعض الآيات، فقد أخطأ، وما أصاب، ولا تدبر السنة ولا الكتاب، فإن الربوبية والألوهية متلازمان الرب والإله معناهما واحد، لأن الذي يستحق أن يعبد لا بد أن يكون ربا) 1.

ويدعي السمنودي أن مشركي العرب وقعوا في الكفر بسبب اتخاذهم ربا من دون الله، وعلى ذلك فهم غير مقرين بتوحيد الربوبية، يقول السمنودي:

(لقد جاء مشركوا العرب الكفر من جهة اعتقادهم استحقاق العبادة لغير الله، واتخاذه رباً من دون الله، وأما المسلمون فإنهم بحمد الله بريئون من ذلك، إذ لا يعتقدون شيئا يستحق الألوهية والعبادة غير الله تعالى، فهذا هو الفرق بين الحالين. وأما هؤلاء الجاهلون المكفرون للمسلمين، فإنهم لم يعرفوا الفرق بين الحالين، تخبطوا وقالوا إن التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية)2.

ويقول السمنودي في موضع آخر: (وأما المشركون الذين نزلت فيهم الآيات القرآنية، فكانوا يعتقدون استحقاق أصنامهم الألوهية والعبادة، ويعظمونها تعظيم الربوبية، وإن كانوا يعتقدون أنها لا تخلق شيئا)3.

ويورد أحمد دحلان تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية ويستنكر هذا التقسيم، ثم يذكر أدلته على إبطاله، يقول دحلان:

(وقالوا إن التوحيد نوعان توحيد الربوبية، وهو الذي أقر به المشركون، وتوحيد الألوهية وهو الذي أقر به الموحدون، وهو الذي يدخلك في دين الإسلام، وأما توحيد الربوبية فلا يكفي، وكلامهم باطل.. فإن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية.

ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 4 ولم يقل ألست بإلهكم، فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ومن المعلوم أن من أقر لله بالربوبية فقد أقر له بالألوهية، إذ ليس الرب غير الإله، بل هو الإله بعينه. وفي الحديث "إن الملكين يسألان في قبره فيقولان له: من ربك؟ " 5 ولم يقولا:

1 نقلا عن: "سعادة الدارين" 2/22.

2 "سعادة الدارين" 2/22.

3 "سعادة الدارين"، 1/304.

4 سورة الأعراف آية: 172.

5 رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وهو جزء من حديث البراء بن عازب.

ص: 330

من إلهك، فدل على أن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية.

- ثم قال- وهل للكافر توحيد صحيح؟ فإنه لو كان للكافر توحيد صحيح لأخرجه من النار، إذ لا يبقى فيها موحد. فهل سمع المسلمون في الأحاديث والسير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه أجلاف العرب ليسلموا على يده، يفضل لهم توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، ويخبرهم أن توحيد الألوهية هو الذي يدخلهم في دين الإسلام، أو يكتفي منهم بمجرد الشهادتين، وظاهر اللفظ، ويحكم بإسلامهم، فما هذا الافتراء والزور على الله ورسوله، فإن من وحد الرب فقد وحد الإله، ومن أشرك بالرب فقد أشرك بالإله، فليس للمسلمين إله غير الرب، فإذا قالوا لا إله إلا الله، إنما يعتقدون أنه هو ربهم، فينفون الألوهية عن غيره، كما ينفون الربوبية عن غيره) 1.

وقد تحدث يوسف الدجوي عن هذا الاعتراض فأطال، فاستنكر التقسيم السابق وذكر أدلته وحججه، فقال:

(فقولهم إن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية تقسيم غير معروف لأحد قبل ابن تيمية..، وغير معقول، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد دخل في الإسلام أن هناك توحيدين، وأنك لا تكون مسلما حنى توحد توحيد الألوهية، ولا أشار إلى ذلك بكلمة واحدة، ولا سمع ذلك عن أحد من السلف الذين يتبجحون باتباعهم في كل شيء، ولا معنى لهذا التقسيم، فإن الإله الحق هو الرب الحق، والإله الباطل هو الرب الباطل، ولا يستحق العبادة والتأليه إلا من كان ربا، ولا معنى لأن نعبد من لا نعتقد فيه أنه رب ينفع ويضر..)2.

ثم ساق الدجوي أدلته واستدلاله فقال:

(يقول تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} 3 فصرح بتعدد الأرباب عندهم، وعلى الرغم من تصريح القرآن بأنهم جعلوا الملائكة أربابا، يقول ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب:

أنهم موحدون توحيد الربوبية، وليس عندهم إلا رب واحد، وإنما أشركوا في توحيد الألوهية.

ويقول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن وهو يدعوهما إلى التوحيد {أَأَرْبَابٌ

1 "الدرر السنية" ص40، 41.

2 مجلة نور الإسلام، المجلد الرابع، مقال بعنوان "توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية" ص255،256.

3 سورة آل عمران آية: 80.

ص: 331

مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1 ويقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي} 2 وأما هم- أي مشركوا العرب- فلم يجعلوه ربا، ومثل ذلك قوله تعالى:{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} 3 خطابا لمن أنكر ربوبيته تعالى) .

- إلى أن قال الدجوي-: (فليس عند هؤلاء الكفار توحيد الربوبية، كما قال ابن تيمية، وما كان يوسف عليه السلام يدعوهم إلا إلى توحيد الربوبية؛ لأنه ليس هناك شيء يسمى توحيد الربوبية، وشيء آخر يسمى توحيد الألوهية عند يوسف عليه السلام. فهل هم أعرف بالتوحيد منه أم يجعلونه مخطئا في التعبير بالأرباب دون الآلهة.

ويقول الله تعالى في أخذ الميثاق: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 4 فلو كان الإقرار بالربوبية غير كاف، وكان متحققاً عند المشركين، ولكنه لا ينفعهم كما يقول ابن تيمية، ما صح أن يؤخذ عليهم الميثاق بهذا، ولا صح أن يقولوا يوم القيامة:{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 5 وكان الواجب أن يغير الله عبارة الميثاق إلى ما يوجب اعترافهم بتوحيد الألوهية، حيث إن توحيد الربوبية غير كاف كما يقول هؤلاء إلى آخر ما يمكننا أن نتوسع فيه، وهو لا يخفى عليك، وعلى كل حال فقد اكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ولو لم يكونا متلازمين لطلب إقرارهم بتوحيد الألوهية أيضا) 6. ثم يقول:

(فهل ترى للمشركين توحيدا بعد ذلك يصح أن يقال فيه أنه عقيدة؟ أما التيميون7 فيقولون بعد هذا كله إنهم موحدون توحيد الربوبية، وأن الرسل لم يقاتلوهم إلا على توحيد الألوهية الذي لم يكفروا إلا بتركه، ولا أدري ما معنى هذا الحصر مع أنهم كذبوا الأنبياء وردوا ما أنزل عليهم، واستحلوا المحرمات وأنكروا البعث واليوم الآخر، وزعموا أن لله صاحبة وولدا.. إلخ، وذلك كله لم يقاتلهم عليه الرسل في رأي هؤلاء، وإنما قاتلوهم على عدم توحيد الألوهية كما يزعمون)8.

1 سورة يوسف آية: 39.

2 سورة الرعد آية: 30.

3 سورة الكهف آية: 38.

4 سورة الأعراف آية: 172.

5 سورة الأعراف آية: 172.

6 مجلة نور الإسلام، المجلد الرابع، مقال بعنوان "توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية" ص256، 257.

7 يريد الدجوي بهذا اللقب: أتباع ابن تيمية.

8 المرجع السابق، ص259.

ص: 332

ويتعجب الدجوي مرة أخرى من هذا التفريق فيقول:

(وإني أعجب لتفريقهم بين توحيد الألوهية والربوبية، وجعل المشركين موحدين توحيد الربوبية مع قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 وهل المراد من الأرباب إلا المعبودون؟)2.

ويسوق العاملي تقسيم التوحيد في مقام الاعتراض حيث يقول:

(وقسموا التوحيد إلى توحيد الربوبية، وهو الاعتقاد بأن الخالق الرازق المدبر للأمر هو الله، وتوحيد العبادة وهو صرف العبادة كلها إلى الله قالوا: ولا ينفع الأول بدون الثاني؛ لأن مشركي قريش كانوا يعتقدون بالأول فلم ينفعهم لعدم إقرارهم بالثاني، كذلك المسلمون لا ينفعهم الإقرار بتوحيد الربوبية، لعبادتهم الأنبياء والصالحين وقبورهم بنفس الأشياء التي كان المشركون يعبدون أصنامهم بها)3.

ويورد حسن خزبك عنوانا في كتابه المقالات الوفية باسم: "العقيدة المستحدثة التفريق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية" كان مما قاله فيه:

(وعقيدتهم الجديدة هي التفريق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، فقالوا إن الكفار وحدوا توحيد الربوبية، ولم يوحدوا توحيد الألوهية؛ لأنهم مع اعترافهم بأن الله هو الخالق الرازق عبدوا الأصنام..) 4 - ثم نقل حسن خزبك كلام دحلان-.

فأنكر هؤلاء الخصوم تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ولم يفرقوا بينهما، وجعلوا توحيد الربوبية هو الغاية والمطلوب من المكلف، وادعوا أن مشركي والعرب الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا مقربين بأن الله هو الرب الخالق الرازق المدبر المحيي المميت.. ونحوها من صفات الربوبية- كما هو ظاهر كلام الخصوم-.

لذا يقول الطباطبائي:

(ثم إنه سبحانه حكم بشركهم لاتخاذهم تلك الأصنام شريكا لله في خلق وتدبير العالم، وجوزوا عبادتها خلافا لله تعالى فيما نهاهم عنه على لسان أنبيائه بقوله تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} 5 وأين هذا ممن لا يعتقد في الأنبياء، والصلحاء الخلق

1 سورة التوبة آية: 31.

2 المرجع السابق، ص322.

3 "كشف الارتياب"، ص 140.

4 "المقالات الوفية"، ص 203 بتصرف يسير.

5 سورة البقرة آية: 22.

ص: 333

والتدبير ولا يعتقد عبادتهم) 1.

وترتب على ما سبق بيانه، أن الخصوم فهموا أن العبادة لله هي مجرد الخضوع للرب، والاعتراف بأفعال الرب مثل الرزق والإحياء والإماتة والنفع والضر. لذا يقول أحدهم- وهو محمد بن عبد المجيد- في تعريف العبادة:

(فالعبادة شرعا غاية التذلل والخضوع لمن يعتقد له الخاضع بعض صفات الربوبية، كما ينبئ عنه مواقع استعمالها في الشرع.

فغاية الخضوع لا تكون عبادة بمجردها بل حتى تكون على وجه خاص، وهو اعتقاد الخاضع ثبوت صفة من صفات الربوبية للمخضوع له) 2.

وإذا انتقلنا إلى مجال المناقشة والجواب على الاعتراض السابق، فنجد أن الشيخ الإمام رحمه الله قد اعتنى بهذا التقسيم، والتفريق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فقد قرر رحمه الله الفرق بينهما في أكثر من موضع، وبين أن مشركي العرب مقرون بتوحيد الربوبية- كما سيأتي موضحا بالنصوص القرآنية، ولكنهم أنكروا توحيد العبادة، وقالوا - كما حكى القرآن عنهم- {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3. يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله:

(فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى:{فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4.

فإقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وإن قصدهم الملائكة والأنبياء، والأولياء، يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم

وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله) 5.

ويبين الشيخ الإمام الفرق بين التوحيدين فيقول:

1 "البراهين الجلية" ص32، 33وانظر:"منهج الرشاد" لجعفر النجفي، ص29.

2 "الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية" ص10.

3 سورة ص آية: 5.

4 سورة الجن آية: 18.

5 "مجموعة مؤلفات الشيخ"، 1/156، 157.

ص: 334

(فإذا قيل لك ما الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؟ فقل: توحيد الربوبية فعل الرب مثل الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وإنزال المطر، وإنبات النبات، وتدبير الأمور. وتوحيد الإلهية فعلك أيها العبد مثل: الدعاء، والرجاء، والخوف، والتوكل، والإنابة، والرغبة، والرهبة، والنذر، والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادة)1. ويوضح الشيخ رحمه الله اجتماع الربوبية والألوهية، وافتراقهما فيقول:

(اعلم أن الربوبية والألوهية يجتمعان، ويفترقان كما في قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ} 2 وكما يقال رب العالمين وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل: من ربك، مثاله الفقير والمسكين نوعان في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} 3 ونوع واحد في قوله صلى الله عليه وسلم "افترض عليهم صدقة توخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم" 4 إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك؟ معناه من إلهك، لأن الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها وكذلك قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} 5 وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} 6 وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 7 فالربوبية في هذا هي الألوهية ليست قسيمة لها، كما تكون قسيمة لها عند الاقتران فينبغي التفطن لهذه المسألة)8.

وفي هذه المقالة السابقة التي سطرها الشيخ الإمام جواب على كثير من الأدلة التي استدل بها أولئك الخصوم في إبطال هذا التقسيم، حين أظهر الشيخ وفصل متى يجتمع توحيد الربوبية والألوهية، ومتى يفترقان مما أثبت صواب هذا التقسيم والتفريق، وأن نصوص القرآن والسنة تثبته وتدل عليه.

1 "مجموعة مؤلفات الشيخ"، 1/371. وانظر: ما كتبه الشيخ حول تلك المسألة في مجموعة مؤلفاته: 1/200، 363، 398، 399 5/124، 144، 150، 182، 187.

2 سورة الناس آية: 1.

3 سورة التوبة آية: 60.

4 جزء من حديث رواه البخاري ومسلم.

5 سورة الحج آية: 40.

6 سورة الأنعام آية: 164.

7 سورة فصلت آية: 30.

8 "مجموعة مؤلفات الشيخ"، 5/17.

ص: 335

ويرد صاحب "التوضيح" على من ادعى أن الألوهية هي القدرة على الاختراع فيذكر مقالته ثم يجيب عليها:

(معنى الألوهية أنها القدرة على اختراع الخلق والتدبير، فمن قال لا إله إلا الله واعتقد أنه لا يقدر على اختراع الخلق والتدبير إلا الله فلا شريك له في ذلك، كان ذلك هو معنى لا إله إلا الله.

ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا المعنى معترفين، فلم يقولوا أن العالم له خالقان، أو مدبران بل الخالق والمدبر واحد، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1.

فهذا التوحيد من الواجب على العبيد، ولكن لا يحصل به التوحيد لإله كل العبيد، ولا يخلص بمجرده عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر، ولا يغفره الله يوم تبلى السرائر، بل لا بد أن يخلص الدين كله لله فلا يتأله بقلبه غير الله، ولا يعبد إلا إياه مخلصا له الدين) 2.

ويرد صاحب "التوضيح" على من زعم أن مشركي العرب يعتقدون النفع والضر لغير الله فيقول:

(زعمه أن المشركين الأولين كانوا يعتقدون النفع والضر، والعطاء والمنع من غير رب العالمين، ويرد هذا صريح قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 3 وقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4)5.

ويذكر الحازمي الغاية من إرسال الرسل، فيشير إلى الفرق بين التوحيدين حيث يقول:

(اعلم أن الله تعالى لم يبعث رسله عليهم السلام وينزل كتبه ليعرف خلقه بأنه هو الخالق لهم، الرازق ونحو ذلك، فإن هذا يقر به كل مشرك قبل بعثة الرسل، قال

1 سورة العنكبوت آية: 61.

2 "التوضيح عن توحيد الخلاق"، ص180.

3 سورة الأنعام آية: 40.

4 سورة يوسف آية: 106.

5 "التوضيح عن توحيد الخلاق"، ص180 وانظر: بقية الأدلة ص181، 182.

ص: 336

الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 1 - وذكر الحازمي آيات كثيرة تدل على ما قال-

بل بعث رسله، وأنزل كتبه، لإخلاص توحيده، وإفراده بالعبادة لا يتم إلا بأن الدعاء كله لله والنداء والاستغاثة، والاستعانة، والرجا، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره، ولا من غيره، ولا يدعى مع الله أحد

وقد تقرر أن شرك المشركين الذين بعث الله تعالى إليهم خاتم رسله صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا باعتقادهم أن الأنداد التي اتخذوها تنفعهم، وتقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم عنده مع اعترافهم بأن الله سبحانه هو خالقها، وخالقهم، ورازقها، ورازقهم، ومحييها ومحييهم ومميتها ومميتهم..) 2.

ثم يقول الحازمي مبينا وجه الشبه بين المشركين الأولين وبين عباد القبور:

(فإن قلت إن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله تعالى هو الضار النافع، والخير والشر بيده، وإنما استغاثوا بالأموات قصدا لإنجازه ما يطلبونه من الله عز وجل.

قلت: وهكذا كانت الجاهلية فإنهم يعلمون أن الله سبحانه هو الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز) 3.

ويورد الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين هذا التقسيم، ويسوق بعض أقوال أهل العلم التي توضح ذلك التقسيم وتقرره، فيقول رحمه الله:

(وأما الإقرار بتوحيد الربوبية وهو أن الله سبحانه خالق كل شيء ومليكه ومدبره. فهذا يقر به المسلم والكافر ولا بد منه، لكن لا يصير الإنسان به مسلما حتى يأتي بتوحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وبه يتميز المسلم من المشرك، وأهل الجنة من أهل النار، فقد أخبر سبحانه في مواضع من كتابه عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، ويحتج عليه سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية على إشراكهم في توحيد الألوهية.

قال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 4 الآية.

1 سورة الزخرف آية: 9.

2 "إيقاظ الوسنان"، ق1، 2.

3 "إيقاظ الوسنان"، ق1، 2.

4 سورة يونس آية: 31.

ص: 337

قال البكري الشافعي في تفسيره على هذه الآية: إذا قلت إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام؟ قلت: كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله، والتقرب إليه، لكن في طرق مختلفة، ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة لعظمته، فعبدناها لتقربنا إليه زلفى. وفرقة قالت: الملائكة ذو وجاهة عند الله، اتخذناها أصناما على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى، وقالت: جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته. وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطانا متوكلا بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله، وإلا أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله.

وقال ابن كثير عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 إنما يحملهم على عبادتهم أنهم عبدوا الأصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم، ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا.

وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2 قال ابن عباس وغيره: إذا سألتهم من خلق السماوات والأرض قالوا الله، وهم يعبدون معه غيره. ففسروا الإيمان في هذه الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية، والشرك بعبادتهم غير الله وهو توحيد الألوهية) 3.

ويبين الشيخ الشثري الفرق بين التوحيدين من خلال إقرار المشركين بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، فيقول رحمه الله:

(توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقروا به، فلو أشرك أحد فيما يختص بالرب من ذلك، لكان شركا في توحيد الربوبية لا يغفر، والرب سبحانه يأمر نبيه في كتابه العزيز بأن يحتج على المشركين في شركهم في توحيد الألوهية بإقرارهم بتوحيد الربوبية. قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 4 وقال تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 5 - وغيرها من الآيات التي ذكرها

1 سورة الزمر آية: 3.

2 سورة يوسف آية: 106.

3 "الانتصار"، ص8، 9.

4 سورة يونس آية: 31.

5 سورة يونس آية: 34.

ص: 338

المؤلف- ثم قال الشثري:

(أتراهم مشركين في ربوبيته التي أقروا بها أم شركهم في توحيد الألهية بجعل معبوديهم وسائط بينهم وبين الله؟)1. ويقول أيضا- موضحا شرك كفار العرب الأولين-:

(فإذا عرفت أنهم لم يعتقدوا فيمن عبدوهم صفات الربوبية، وإنما جعلوهم وسائط بينهم وبين الله يحبونهم كحب الله، يدعونهم ويتذللون لهم، ويتضرعون إليهم لطلب الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، بزعمهم أن رتبتهم قصرت عن التأهل لسؤال رب الأرض والسماوات قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّّّّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2)3.

ومما أورده السهسواني في الجواب على اعتراض دحلان، قوله رحمه الله:(لا مرية في أننا مأمورون باعتقاد أن الله وحده هو ربنا ليس لنا رب غيره وباعتقاد أن الله وحده هو معبود ليس لنا معبود غيره، وأن لا نعبد إلا إياه، والأمر الأول هو الذي يقال له توحيد الربوبية، والأمر الثاني هو الذي يقال له توحيد الألوهية..) 4 ثم ذكر السهسواني الآيات الدالة على كلا الأمرين5 - إلى أن قال رحمه الله:

(ولا أظنك شاكا في أن مفهوم الرب، ومفهوم الإله متغايران، وإن كان مصداقهما في نفس الأمر، وفي اعتقاد المسلمين الخالص واحدا. وذلك يقتضي تغاير مفهومي التوحيد، فيمكن أن يعتقد أحد من الضالين توحيد "الرب" ولا يعتقد توحيد الإله، وأن يشرك واحد من المبطلين في الإلهية، ولا يشرك في الربوبية، وإن كان هذا باطلا في نفس الأمر، ألا ترى أن مصداق الرازق، ومالك السمع والأبصار، والمحي والمميت، ومدبر الأمر، ورب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء والخالق، ومسخر الشمس والقمر، ومنزل الماء من السماء، ومصداق الإله واحد؟ ومع ذلك كان مشركو العرب يقرون بتوحيد الرازق ومالك السمع والأبصار وغيرهما ويشركون في الألوهية والعبادة)6.

1 "تأييد الملك المنان"، ق24، 25.

2 سورة الزمر آية: 3.

3 "تأييد الملك المنان"، ق26.

4 "صيانة الإنسان"، ص444.

5 "صيانة الإنسان" ص444- 446.

6 "صيانة الإنسان"، ص446، 447.

ص: 339

ويكشف السهسواني عن تنبيه مفيد، وهو أن كون مصداق الرب عين مصداق الإله في نفس الأمر، وعند المسلمين المخلصين، لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية والألوهية، ولا اتحاد مصداق الرب والإله عند المشركين. يقول رحمه الله:

(فعباد القبور يقرون بتوحيد الرازق، والمحي والمميت، والخالق والمؤثر، والمدبر والرب، ومع ذلك يدعون غير الله من الأموات خوفا وطمعا، ويذبحون لهم، ويطوفون لهم، ويحلقون لهم، ويخرجون من أموالهم جزءا لهم، وكون مصداق الرب عين مصداق الإله في نفس الأمر، وعند المسلمين المخلصين، لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ولا اتحاد مصداق الرب والإله عند المشركين من الأمم الماضية، وهذه الأمة.

أما نعقل أن لفظ توحيد الربوبية، ولفظ توحيد الألوهية كلاهما مركبان إضافيان، والمضاف في كليهما كلي، وهذا غني عن البيان، وكذلك المضاف إليه في كليهما، فإن الربوبية والألوهية منتزعان من الرب والإله، وهم كليان. أما الرب فلأن معناه المالك والسيد والمتصرف للإصلاح والمصلح والمدبر، والمربي، والجابر، والقائم والمعبود، وكل واحد مما ذكر معنى كلي. وأما الإله فلأن معناه المعبود بحق أو باطل، وهو معنى كلي، فالمنتزع منهما أيضا يكون معنى كليا، فتوحيد الربوبية اعتقاد أن الرب واحد سواء كان ذلك الرب عين الإله أو غيره، وتوحيد الألوهية اعتقاد أن الإله واحد سواء كان ذلك الإله عين الرب أو غيره.

وإذا تقرر هذا فنقول: يمكن أن يوجد في مادة توحيد الربوبية ولا يوجد توحيد الألوهية لمن يعتقد أن الرب واحد، ولا يعتقد أن الإله واحد، بل يعبد آلهة كثيرة. ويمكن أن يوجد في مادة توحيد الألوهية ولا يوجد توحيد الربوبية لمن يعتقد أن المستحق للعبادة واحد، ولا يعتقد وحدانية الرب، بل يقول إن الأرباب كثيرة متفرقة، ويمكن أن يجتمعا في مادة واحدة كمن يعتقد أن الرب والإله واحد، فثبت أن مفهوم توحيد الربوبية مغاير لمفهوم توحيد الألوهية. نعم توحيد الربوبية من حيث إن الرب مصداقه إنما هو الله تعالى لا غير يستلزم توحيد الألوهية، من حيث إن الإله مصداقه إنما هو الله تعالى لا غير، لكن هاتين الحقيقتين زائدتان على نفس مفهومي التوحيدين، ثابتان بالبرهان العقلي والنقلي) 1.

1 "صيانة الإنسان" ص447- 449.

ص: 340

ثم يقول السهسواني:

(على أنا لو قطعنا النظر عن بحث تغاير مفهومي التوحيدين، فمطلوبنا حاصل أيضا، فإن توحيد الألوهية لا يتأتى إنكاره من أحد من المسلمين. وهو كاف لإثبات إشراك عباد القبور، فإنهم إذا دعوا غير الله رغبة ورهبة، وطلبوا منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ونحروا لهم، ونذروا لهم، وطافوا لهم، وحلقوا لهم، وصنعوا غير تلك من العبادات فقد عبدوا غير الله، واتخذوهم آلهة من دون الله)1.

ثم يسوق السهسواني ما استدل به دحلان على اتحاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ويعقبه بالمناقشة والجواب، فلما ادعى دحلان أن قوله تعالى:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 2 دليل على أن الله اكتفى من البشر بتوحيد الربوبية، لأنه لم يقل ألست بإلهكم، فكان جواب السهسواني على هذا الاستدل بما يلي:

(إن غاية ما يثبت من الآية أن الله تعالى لم يذكر في هذه الآية توحيد الألوهية، وهذا لا دلالة له بشيء من الدلالات على اتحادهما، فرب حكم يذكر في آية دون أخرى، وتوحيد الألوهية وإن لم يذكر في هذه الآية فهو مذكور في آيات أخرى، وتوجيه الاكتفاء بتوحيد الربوبية ليس منحصرا في أنهما لما كانا متحدين اكتفى بذكر أحدهما، بل هناك احتمالات أخر:

الأول: أن الإقرار بتوحيد الربوبية مع لحاظ قضية بديهية، وهي أن غير الرب لا يستحق العبادة يقتضي الإقرار بتوحيد الألوهية عند من له عقل سليم وفهم مستقيم، قال ابن كثير تحت قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} 3 الآية، يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانية ربوبيته على وحدانية ألوهيته.

الاحتمال الثاني: أن في الآية اختصارا والمقصود: ألست بربكم وإلهكم؟ يدل عليه أثر ابن عباس: إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدون ولا يشركوا به شيئا، وتكفل لهم بالأرزاق.. الحديث.

1 "صيانة الإنسان"، ص449.

2 سورة الأعراف آية: 172.

3 سورة يونس آية: 31.

ص: 341

الاحتمال الثالث: أن المراد بالرب المعبود، قال القرطبي: الرب المعبود، وعن عكرمة في تفسير قوله تعالى:{وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 قال يسجد بعضنا لبعض، كذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره وغيره، وقال الله تعالى في سورة التوبة:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2 فالمراد بالأرباب في تلك الآية هم المعبودون) 3.

ويرد الشيخ ابن سحمان دعاوى الحداد في اعتراضه على ذلك التقسيم فيقول رحمه الله:

(وأما قوله- أي الحداد-: فيا عجبا هل للكافر توحيد صحيح؟ فإنه لو كان توحيده صحيحا لأخرجه من النار.. إلخ.

والجواب: لم يقل الشيخ إن للكافر المشرك توحيدا صحيحا، ولكن أخبر أن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين، قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4 قال طائفة من السلف: تسألهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله وهم مع ذلك يعبدون غيره، فإيمانهم هو إقرارهم بتوحيد الربوبية، وهذا الإيمان بتوحيد الربوبية لا يدخلهم في الإسلام وهم يعبدون غير الله، أي يشركون به في توحيد الألوهية) 5. ويؤكد عبد الكريم بن فخر الدين على ضرورة التفريق بين نوعي التوحيد، فيقول:

(أقول قال الله سبحانه: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 6 وقال عز من قائل: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ

1 سورة آل عمران آية: 64.

2 سورة التوبة آية: 31.

3 "صيانة الإنسان"، ص450-454 باختصار. وما كتبه السهسواني في الاحتمال الثالث، هو قريب مما كتبه الشيخ الإمام حول اجتماع التوحيدين، وافتراقهما، فإن كلمة "الرب" وكلمة "الإله" إذا اجتمعتا افترقتا، إذا افترقتا اجتمعتا، كما بينه الشيخ الإمام بالأدلة والبراهين، مما ذكرناه سابقا.

4 سورة يوسف آية: 106.

5 "الأسنة الحداد"، ص117 وانظر: ما كتبه ابن سحمان في الفرق بين التوحيدين في كتابه "الصواعق المرسلة الشهابية" ص141.

6 سورة المؤمنون آية: 86.

ص: 342

يَسْتَكْبِرُونَ} 1 الآية، فتبين لك أن المشركين من العرب الأول كانوا يقرون بربوبية الله تعالى، وينكرون وحدانيته تعالى في الألوهية أي العبودية، ويقولون إنكارا منهم {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2 الآية.. فلأجل ذلك تنوع التوحيد بنوعين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فإنكار هذا إنكار الحس) 3.

وقد أجاب القصيمي على دعاوى الدجوي، وتتبعها بالرد والنقاش، ثم أعقبها بالبراهين الدالة على خلاف تلك الدعوى

فلما زعم الدجوي أن المشركين كانوا ينكرون وجود الله مستدلا بما فهمه من الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} 4 فأجاب القصيمي على هذا الاستدلال بعدة أوجه نذكر منها:

(الأول: ليس في الآية الكريمة إنكار للرحمن، وإنما فيها استفهام عنه "بما" التي يسأل بها عن حقيقة الشىء، والمصدق بوجود الأمر يسأل عنه، لا خلاف بين اللغويين في ذلك، فهم يقولون: ما الروح؟ كما قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} 5 وهم يؤمنون بها.. فالسؤال عن الأمر ليس إنكارا له.

الثاني: نقول هب ذلك جحودا، ولكن هل هو جحود لذاته تعالى؟ أم جحود لتسميته بالرحمن؟ هو لم يدلل على ما قال، وقد سمع العربي لفظ عقار وخندريس وكميت، من أسماء الخمر، فيقول ما العقار وما الخندريس وما الكميت؟ وهو مؤمن بها، وقد يكون شربها، ولكن يجحد تسميتها بهذا الاسم، أو يجهلها، فالاسم غير المسمى، والمدلول غير الدال.

الثالث: في خبر صلح الحديبية لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل بن عمرو نائب المشركين في الصلح: أما الرحمن فلا نعرفه، ولكن اكتب باسمك اللهم، فقول سهيل: لا نعرف الرحمن، ولكن اكتب باسمك اللهم. يدل على أمرين، على أنهم مؤمنون بالله، وأنهم يستعينون به في أمورهم، وعلى أن الذي ينكرونه هو وصفه بالرحمن، ولو كانوا ينكرون ذاته لعارض باسم اللهم، ولأنكر لفظ الجلالة، ولفظ الرحيم المذكورين فهذا يفسر الآية، ويوضح قولهم {وَمَا الرَّحْمَنُ} 6.

1 سورة الصافات آية: 35.

2 سورة ص آية: 5.

3 "الحق المبين"، ص36.

4 سورة الفرقان آية: 60.

5 سورة الإسراء آية: 85.

6 سورة الفرقان آية: 60.

ص: 343

الرابع: المفسرون قاطبة يفسرون الآية بإنكار المشركين لهذا الاسم لا لذاته، وقد أجمعوا على هذا التفسير.

الخامس: هذه الآية على فهمهم مخالفة لتسمية العرب مشركين بالله والناس قاطبة يقولون أنهم مشركون بالله، فلو كانوا جاحديه لما كانوا مشركين به، فتسميتهم مشركين بالله يدل على أنهم مؤمنون بوجوده، ولكن عبدوا معه غيره) 1. وقد ذكر القصيمي أجوبة أخرى

فنكتفي بما ذكرناه2.

ثم رد القصيمي مقالة الدجوي بأن الرسول لم يذكر الفرق بين التوحيدين فقال القصيمي:

(نقول: إما أن يريد أنهم لم يذكروه باللفظ المذكور، وإما أن يريد أنهم لم يذكروه ولا بالمعنى، ولم يفهموا من دخل في الدين أن هناك توحيدين، إن أراد الأول فلا يضرنا ولا ينفعنا..، وإن أراد الثاني نازعناه، وقلنا إنك لم تقم دليلا عليه، بل نقول إن الرسول وأصحابه أعلموا الداخلين في الدين أن هناك توحيد ألوهية وربوبية بقولهم لهم قولوا لا إله إلا الله، ولا تعبدوا إلا الله ولا تدعوا إلا إياه، مع قولهم لا خالق ولا رازق إلا الله، وهؤلاء يريدون أن يكون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول: ينقسم التوحيد إلى قسمين

) 3.

ثم ذكر القصيمي البراهين على الفرق بين توحيد الألوهية، والربوبية فكان مما قاله:

البرهان الأول: فرقت كتب اللغة والتفسير بين معنى كلمة الإله، وبين معنى كلمه الرب، فالإله بمعنى المعبود، والرب بمعنى المالك للشيء وصاحبه.

البرهان الثائي: قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ} 4 ذكر الرب ثم المالك ثم الإله، فلو كان الرب والإله شيئا واحدا. لكان في الآية تكرار ينبو بها عن حد البلاغة. البرهان الثالث: باتفاق أهل اللغة أن إلها بمعنى مألوه ككتاب أي مكتوب، وأن

1 "الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، ص23- 25.

2 الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم ص 25-40. ثم ذكر القصيمي البراهين الدالة على أن المشركين الأوائل مؤمنون بأن الله خالق كل شيء. ص40- 55.

3 الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، ص59 باختصار. وانظر: الرد مفصلا ص 58- 67.

4 سورة الناس آية: 1.

ص: 344

ربا بمعنى راب أي اسم فاعل، لأنه يقال رب الناس أي ملكهم، فلا يصح تفسير اسم الفاعل باسم المفعول.

البرهان الرابع: أخبر القرآن أن الكفار كان يسمون أصنامهم آلهة قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِك} 1 ولم يخبر في آية أنهم قالوا لها أربابا، فلو كان لا فرق بين اللفظين لسموها أربابا كما سموها آلهة.

البرهان الخامس: الذي يحقن دم المشرك أن ينطق بكلمة الإخلاص على- ألا يأتي بما بنقضها- وهذه الكلمة التي تحقن الدم هي لا إله إلا الله باتفاق المسلمين. ولا يعصمه أن يقول لا خالق إلا الله بإجماع المذاهب، ولو كان معنى الإله والرب واحدا لما عصم دمه أحد اللفظين دون الآخر) 2.

وهكذا يظهر- عبر تلك النقول لأئمة الدعوة وأنصارها- أن تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، والتفريق بينهما، أن ذلك تقسيم وتفريق تثبته الأدلة، وتقرره النصوص، ويشهد له أئمة العلم والهدى. فليس تقسيما مبتدعا- كما ادعاه أولئك الناس- استحدثه ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، بل الصواب والحق في هذا التقسيم والتفريق، والزيغ والضلال في الإعراض عنه، والاعتراض عليه، ومن ثم ظهر ما كان عليه الخصوم من الجهل بحقيقة التوحيد، وقصر التوحيد على توحيد الربوبية، حتى ظنوا أن مشركي العرب قد أنكروا توحيد الربوبية، الذي يعتبرونه - هؤلاء الخصوم- غاية التوحيد.

ومن المناسب في نهاية هذا الفصل أن نذكر ما كتبه حسين بن مهدي النعمي رحمه الله حول إقرار مشركي العرب بتوحيد الربوبية، دون الإقرار بتوحيد العبادة، يقول:

(ولقد تتبعنا في كتاب الله فصول تراكيبه، وأصول أساليبه، فلم نجده تعالى حكى عن المشركين أن عقيدتهم في آلهتهم وشركائهم التي عبدوها من دونه، أنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت، وتنزل من السماء ماء، وتخرج الحي من الميت، والميت من الحي

بل إذا ضاق عليهم الأمر واشتدت بهم الكرب، فزعوا إلى الله وحده، فإذا سئلوا عن حقيقة دينهم هل هو شرك في الربوبية؟ دانوا وأذعنوا للرب وحده بالاختصاص بكل ذلك والانفراد، وهذا واضح لمن ألقى السمع للقرآن فيما حكى عنهم

1 سورة هود آية: 53.

2 "الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم"، ص67- 71. بتصرف يسير. وانظر: بقية البراهين ص67- 72، ومجموعها سبعة عشر برهانا.

ص: 345

بقوله: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1 الآيات.

فهذا شرك القوم واتخاذهم الآلهة الذي كان سببا أن سجل عليهم ربهم القاهر فوق عباده بالشرك والغي والضلال والكفر والظلم والجهلة) 2. ويقول النعمي في موضع آخر:

(ومن أمعن النظر في آيات الكتاب وما قص من محاورات الرسل مع أممهم وجد أن أس الشأن، ومحط رحال القصد شيوعا، وكثرة وانتشارا وشهرة، هو دعاء الله وحده، وإخلاص العبادة له، وأن الغافلين كانوا بنقيض هذه الصفة من دون أن يضيفوا لما عبدوا شيئا من صفات الربوبية كخلق ورزق وغيرهما، أو يجعلوا لها من ذواتها وصفاتها مقتضيا وملزما للعبادة، بل أعربوا عن اتخاذها آلهة لتقريبهم إلى الله وشفاعتها عنده..)3.

1 سورة المؤمنون آية: 84.

2 "معارج الألباب" ص202، 204 باختصار.

3 معارج الألباب، ص214.

ص: 346