المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: شبهة مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن تيمية وابن القيم في مسألة الذبح لغير الله..عرض ثم رد - دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

[عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: مفتريات ألصقت بدعوة الشيخ مع الدحض لها

- ‌الفصل الأول: الافتراء على الشيخ بادعاء النبوة، وانتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثاني: الزعم بأن الشيخ مشبه مجسم

- ‌الفصل الثالث: فرية إنكار كرامات الأولياء

- ‌الباب الثاني: الشبهات المثارة حول دعوة الشيخ مع بيان الحق في ذلك

- ‌الفصل الأول: التكفير والقتال.. عرض ثم رد وبيان

- ‌المبحث الأول: مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على الشيخ في مسألة التكفير مع الرد والدحض لها

- ‌المبحث الثاني: فرية أن الوهابيين خوارج وأن نجد اليمامة قرن الشيطان مع الرد والدحض لها

- ‌المبحث الثالث: شبهة أن الوهابيين أدخلوا في المكفرات ما ليس فيها

- ‌المبحث الرابع: شبهة مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن تيمية وابن القيم في مسألة الذبح لغير الله..عرض ثم رد

- ‌المبحث الخامس: شبهة عدم طروء الشرك على هذه الأمة.. عرض ثم رد

- ‌المبحث السادس: شبهة تنزيل آيات في المشركين على مسلمين.. عرض ثم رد

- ‌المبحث السابع: شبهة خروج الشيخ على دولة الخلافة

- ‌الفصل الثاني: تحريم التوسل.. عرض ثم رد

- ‌الفصل الثالث: منع الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب الثالث: فيما اعترض عليه من قضايا الدعوة مع المناقشة

- ‌الفصل الأول: هدم الأبنية على القبور والنهي عن شد الرحال لزيارتها

- ‌الفصل الثاني: تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الثالث: إنكار دعاء الموتى

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الرابع: شبهة مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن تيمية وابن القيم في مسألة الذبح لغير الله..عرض ثم رد

‌المبحث الرابع: شبهة مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن تيمية وابن القيم في مسألة الذبح لغير الله..عرض ثم رد

يظن بعض الخصوم لهذه الدعوة السلفية أن ما قرره أئمتها من المكفرات، وعدوه من أنواع الشرك الأكبر، كالذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والاستغاثة بغير الله

وغيره من صرف بعض أنواع العبادة لغير الله، أنهم خالفوا بذلك ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله وتلميذه ابن القيم- رحمه الله، فادعى هؤلاء الخصوم أن هذين الشيخين لم يدخلا الذبح لغير الله والنذر لغير الله، والاستغاثة بالأموات ضمن الشرك الأكبر المخرج من الملة.

وحاول هؤلاء الخصوم التشبث بكل نص أو قول ينسب لابن تيمية أو لابن القيم يفهمون منه بناء على تصورهم الفاسد، وإدراكهم الخاطئ مخالفة الشيخ الإمام لابن تيمية، وابن القيم في مسألة التكفير، وذلك لكي يقنعوا أنفسهم- ومن تبعهم من سواد الناس- أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مخالف لسائر الأمة وعلمائها، حتى إنه خالف ابن تيمية وابن القيم، اللذين يكثر ابن عبد الوهاب من إيراد أقوالهما والنقل من كتبهما، ولقد أدت بهم هذه المحاولة الفاشلة إلى تحريف النصوص، وتبديلها، وسوء فهمها كما سيأتي موضحا.

وسنورد أقوال هؤلاء الخصوم، وما نقلوه من نصوص للشيخين، محتجين بهما على مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لهما، ونقتصر على بعض الأمثلة التي أوردوها، ثم نتبعها بالرد والدحض.

يسوق ابن عفالق جوابا لابن تيمية في الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم

فكان مما قاله ابن تيمية- بناء على نقله-:

(فإن كان الاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو اللايق لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو كافر إن أنكر ما يكفر، وإما مخطئ ضال)1.

ثم قال ابن عفالق: (فانظر هذا الكلام النفيس، وتأمل قوله: فإن كان الاستغاثة

1 رسالة ابن عفالق لابن معمر ق 45، 46 (هكذا نقل ابن عفالق العبارة) .

ص: 207

إلخ فهذا حال المنكر للتوسل به صلى الله عليه وسلم يدور بين الكفر والضلال، فكيف بمن أنكرها، وقال من قال يا رسول الله فهو كافر، ومن لم يكفره فهو كافر

) 1.

ثم يقول ابن عفالق منفرا عن دعوة الشيخ: (والذي أوقع هذا الرجل في هذه الورطة العظيمة أنه ينظر في كتب ابن القيم فيأخذ منها ما وافق هواه، ويترك ما خالفه، ويأخذ من أول الفصل ويترك آخره

) 2. ويقول ابن عفالق أيضا:

(عده- أي الشيخ الإمام- قول البوصيري:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

نوع من الشرك الأكبر، وهو كذب صراح إن كان ينقله عن العلماء، وإلا فهو افتراء منه وبهت، فإن ابن القيم مع تعصبه وخلافه لجميع الأمة في مثل هذا الباب عد هذا من الشرك الأصغر

انظروا كتبه كـ"شرح المنازل" في باب الشرك الأصغر، و"إغاثة اللهفان") 3.

ونلاحظ أن سليمان بن عبد الوهاب في غالب رسالته في الرد على أخيه الشيخ الإمام، أراد أن يفصح عن مخالفة الشيخ الإمام لما كتبه ابن تيمية وابن القيم، فإن جل رسالته في سرد الأقوال والنقول للشيخين..، ثم يعقب تلك النقول بما يفهمه منها ويتوصل إليه تفكيره، بأن الشيخين لم يكفرا من ذبح أو نذر أو استغاث بغير الله.. يقول سليمان بن عبد الوهاب:

(قال تقي الدين: النذر للقبور، ولأهل القبور، كالنذر لإبراهيم الخليل عليه السلام، أو الشيخ فلان نذر معصية لا يجوز الوفاء به وإن تصدق بما نذر من ذلك على من يستحقه من الفقراء أو الصالحين كان خيرا له عند الله وأنفع. اهـ. فلو كان الناذر كافرا عنده لم يأمره بالصدقة؟ لأن الصدقة لا تقبل من كافر، بل يأمره بتجديد إسلامه، ويقول له خرجت من الإسلام بالنذر لغير الله. قال الشيخ أيضا: من نذر إسراج بئر أو مقبرة أو جبل أو شجرة أو نذر له أو لسكانه لم يجز، ولا يجوز الوفاء به، ويصرف في المصالح ما لم يعرف ربه. اهـ.

فلو كان الناذر كافرا لم يأمره برد نذره إليه، بل أمر بقتله، وقال الشيخ أيضا:

1 رسالة ابن عفالق لابن معمر ق 45، 46.

2 المرجع السابق ق 46.

3 المرجع السابق ق 52 باختصار.

ص: 208

من نذر قنديل نقد للنبي صلى الله عليه وسلم صرف لجيران النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.

فانظر كلامه هذا، وتأمله، هل كفر فاعل هذا، أو كفر من لم يكفره، أو عد هذا في المكفرات هو أو غيره من أهل العلم كما قلتم أنتم.

كذلك ابن القيم ذكر النذر لغير الله في فصل الشرك الأصغر من "المدارج"، واستدل بالحديث الذي رواه أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم "النذر حلفة" 1 وذكر غيره من جميع ما تسمونه شركا وتكفرون به في فصل الشرك الأصغر، وأما الذبح لغير الله، فقد ذكره في المحرمات ولم يذكره في المكفرات، إلا أن ذبح للأصنام، أو لما عبد من دون الله كالشمس والكواكب، وعده الشيخ تقي الدين في المحرمات الملعون صاحبها كمن غير منار الأرض، وقال الشيخ تقي الدين: كما يفعله الجاهلون بمكة شرفها الله تعالى وغيرها من بلاد المسلمين من الذبح للجن، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبائح للجن. اهـ.

ولم يقل الشيخ من فعل هذا فهو كافر، ومن لم يكفره فهو كافر كما قلتم أنتم) 2.

ثم جاء داود بن جرجيس، فحرف في كلام الشيخين، وبدل، وغير؛ من أجل أن يجيز بعض أنواع الشرك بالله

وقد جمع تلك النقول المتعددة المختلفة وجعلها في كتاب سماه "صلح الإخوان من أهل الإيمان وبيان الدين القيم في تبرئة ابن تيمية وابن القيم".

وسنورد بعض نقوله لكلام الشيخين محتجا به على جواز دعاء الموتى، والاستغاثة بهم

فمن هذه النقول الكثيرة.. ما نقله داود:

(النقل الثالث عشر: قال- أي ابن تيمية- رحمه الله في كتاب "الفرقان" ونجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله أنه صدر منه مكاشفة، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، أو أن بعضهم استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء، فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض، وليس شيء من هذه الأمور يدل على أن صاحبها ولي الله، بل اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء، ومشى على الماء لم يغتر به، حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه، وكرامات أولياء الله أعظم من هذه الأمور. اهـ نقله.

1 ذكر ابن القيم هذا الحديث في "مدارج السالكين" وعزاه إلى السنن من حديث عقبة بن عامر. انظر: "مدارج السالكين" 1/345.

2 "الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية" ص 8، 9.

ص: 209

ثم قال: فانظر إلى كلامه ولاسيما قوله: وإن بعضهم استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته، فإنه تسليم منه بأن هذا الأمر يقع على وجه الكرامة، ويستدل به على ولاية صاحبه، لكن بشرط أن يكون المستغاث به متابعا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقا له ولنهيه، قال العراقي: فحينئذ تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم من أولياء يجوز أن يعتقد فيهم الدلالة بسبب الاستغاثة بهم سواء كانوا غائبين أو ميتين، وأن هذا يقع على وجه الكرامة، وأن كرامات الأولياء يجب اعتقادها كما ذكره الشيخ في "التحفة العراقية"..، ومعلوم أن الكرامة لا تنشأ عن فعل محرم فلو كانت الاستغاثة محرمة لما عدها الشيخ وغيره كرامة، بل حينئذ تكون استدراجا

) 1.

ويورد العراقي نقولا لابن القيم يحتج بها لضلاله، منها ما كتبه ابن القيم- رحمه الله في كتابه "الكبائر"2 حيث ذكر حكاية خلاصتها: أن أحد الرافضة رفض أن يبيع دقيقا على رجل من أهل السنة، حتى يلعن الصديق والفاروق- رضي الله عنهما، وراجعه الرافضي مرات، حتى قال السني: لعن الله من يلعنهما، فلطم الرافضي عينه حتى سالت على خده، فانطلق هذا السني مع صاحب له إلى الحجرة النبوية في المسجد النبوي، وقال: السلام عليك يا رسول الله، قد جئناك مظلومين فخذ بثأرنا. فما جاء صباح الغد إلا وعينه صحيحة. ثم قال العراقي: فانظر إلى نقل هذه الحكاية من مثل ابن القيم، ذكرها في مقام الافتخار، والزجر عن الرفض. يدل على أن الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا بأس بها، وأنها غير منكورة

) 3.

وقد ذكر الآلوسي في كتابه "فتح المنان" نقولا أخرى لداود، منها ما ذكره ابن تيمية في "الكلم الطيب" وابن القيم في "الوابل الصيب" عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أن الإنسان إذا خدرت رجله، فليناد: يا محمد. فإن الخدر يذهب عنه، ثم قال داود: (وهذا ذكره في مقام تعليم المسلم الأذكار، فلو كان نداء الغائب شركا لكان الشيخان وغيرهما بل وأصحابه صلى الله عليه وسلم يعلمان الناس الشرك والعياذ بالله

) 4.

1 نقلا عن: "منهاج التأسيس" 157 ص.

2 يقول د. بكر أبو زيد - عن هذا الكتاب -: (ذكره ابن رجب، والداودي، وابن العماد، والبغدادي، وأحمد عبيد، وابن النحاس) انظر: كتابه "التقريب لفقه ابن القيم"، القسم الأول ص236.

3 "منهاج التأسيس"ص179 باختصار.

4 "فتح المنان تتمة منهاج التأسيس" ص375.

ص: 210

ويأتي عثمان بن منصور فيقتدي بداود بن جرجيس في تحريف الكلم عن مواضعه على حسب ما تمليه الأهواء والضلالات، يقول عثمان بن منصور:

(قال ابن تيمية بعد كلام سبق من ذكر أنواع العبادة التي لله تعالى، ثم قال: ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالف. فهذا صريح قوله. قال عثمان: وهم جعلوا مجرد تعريفهم حجة فكفروا به، فلا بد أن يتبين للمعرف الحجة، ويتضح له الصواب في نفس الأمر..)1.

وبعد إيراد هذه النقول التي اختارها هؤلاء القوم، وفهموا منها أن الذبح والنذر لغير الله، وأن الاستغاثة بالأموات.. ليست من نواقض الإسلام، كما فهموا منها عدم تكفير المعين..، فإننا بعد ذلك نتبعها بالإيضاح والبيان، وإزالة اللبس والإشكال بشيء من الإيجاز، بناء على ما سجله بعض أئمة الدعوة وأنصارها جوابا على هذه الشبهة.

يورد الشيخ الإمام نصا لابن تيمية، يتبين فيه أنه يقرر أن الذبح لغير الله شرك أكبر يخرج عن دين الإسلام، كما يتضح منه أنه يكفر المعين إذا ذبح لغير الله

فيقول رحمه الله:

(قال أبو العباس رحمه تعالى في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه} 2 ظاهره أنه ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم، وقال فيه بسم الله ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه وتعالى كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه بسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم، وإن قال فيه بسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال، ولكن يجتمع في الذبيحة مانعان. ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. اهـ كلام ابن تيمية.

وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر المعين، فانظر أرشدك الله

1 نقلا عن "مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام، ص 323 بتصرف.

2 سورة المائدة آية: 3.

ص: 211

إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة، وتصريحه أن المنافقين يصير مرتدا بذلك، وهذا في المعين، إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة المعين) 1.

ثم يقول الشيخ الإمام: (قال ابن تيمية: أنا من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تفسيق أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى. اهـ كلامه.

وهذه صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه، لا يذكر عدم تكفير الميت إلا ويصله بما يزيل الإشكال، أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، وإذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية.

وصرح رضي الله عنه أيضا أن كلامه في غير المسائل الظاهرة، فقال في الرد على المتكلمين لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا، فقال: هذا إن كان في المقالات الخفية، فقد يقال أنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة، التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام

ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين، وأبلغ من ذلك منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبد الله الرازي..- يعنى الفخر الرازي- قال: وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين. اهـ كلامه.

فتأمل هذا، وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكرها أعداء الله، لكن من يرد الله فتنته، فلن تملك له من الله شيئا) 2.

ويورد الشيخ الإمام نصا لابن القيم- رحمه الله يؤكد فيه أن النذر للموتى، ودعاءهم شرك أكبر مخرج عن دين الإسلام. وليس كما ظنه الخصوم من أمثال سليمان بن عبد الوهاب وغيره أنه من الشرك الأصغر، وشبهتهم في ذلك أن ابن القيم رحمه الله ذكر في "شرح منازل السائرين" الشرك الأكبر، ثم ذكر الشرك الأصغر، وقال بعدها: (ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير الله.. وطلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم

) 3 فنسب هؤلاء الخصوم إلى الشيخ ابن القيم أن ما سبق هو من

1 "مجموعة مؤلفات الشيخ" 1/285،.

2 "مجموعة مؤلفات الشيخ" 1/289، 290.

3 انظر:"مدارج السالكين"، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، 1375 هـ، 1/344.

ص: 212

الشرك الأصغر؛ لأن ابن القيم بعد ما ذكر الشرك الأكبر ثم الأصغر، قال ومن أنواع الشرك، فظنه هؤلاء الجهلة أنه يقصد الشرك الأصغر، ولكن كما قال الشيخ الإمام: (وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول، والثاني صريحا لا يحتمل التأويل

) 1.

وحتى تكتمل صورة هذا الرد، فإننا نسوق كلام ابن القيم- كما نقله الشيخ الإمام مختصرا.

(ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير الله؛ والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله والإنابة، والخضوع، والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره

ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم. فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا لمن استغاث به. بل الميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة. فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارةَ العبادةِ وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقص الأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا

وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله..) 2.

ويورد الشيخ الإمام نصا آخر لابن القيم مستدلا به على تكفير المعين:

(وقال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" في إنكار تعظيم القبور: "وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا سماه "مناسك المشاهد" ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام" اهـ. وهذا الذي ذكره ابن القيم رجل من المصنفين يقال له ابن المفيد فقد رأيت ما قال فيه بعينه، فكيف ينكر تكفير المعين)3.

1 "مجموعة مؤلفات الشيخ" 1/297.

2 المرجع السابق 1/296.

3 المرجع السابق 1/303. وقد أورد الشيخ الإمام في رده على أخيه سليمان نقولا كثيرة للشيخين ابن تيمية وابن القيم، في إثبات. تكفير المعين، ولم يقتصر على ذلك بل ذكر أقوال المذاهب الأربعة في تلك المسألة. وانظر: ما كتبه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين حول تكفير المعين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل، فلا يحكم عليه إلا بعد أن تقوم عليه الحجة، والذي لا يعذر.. (مجموعة الرسائل والمسائل 4/509- 523) .

ص: 213

ويرد الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين على تلبيس وخلط داود العراقي، فيقول رحمه الله:

(وقد أورد بعضهم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ذكر كلاما وحكايات تدل على أن دعاء الأموات ليس بشرك، كما ذكر أنه روي أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي إلى عمر بن الخطاب فيأمره أن يستسقي بالناس، وغير ذلك من الحكايات) .

قال أبو بطين: (هذا تلبيس من الناقل، وكذب على الشيخ رحمه الله، لأنه إنما قال ذلك في سياق الكلام في بعض البدع، كتحري دعاء الله عند قبر النبي أو غيره)1.

ويكشف محمد بن ناصر التهامي تلاعب ابن جرجيس بنصوص الشيخين: ابن تيمية وابن القيم، فيقول رحمه الله:

(ذكر صاحب الرسالة- أي داود- أن الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم رحمهما الله لا يطلقون الكفر، والشرك على من اعتقد في القبور، واستغاث بالأموات، وأنهم قائلون بأن ذلك من باب كفر دون كفر، وقد أورد من كلامهما ما بتره من الأبحاث بنقل بعض ما في مؤلفاتهما مما هو فيه له مستند، ولا يستكمل البحث

) 2.

ثم أورد التهامي نقولا للشيخين من كتبهم، منها ما ذكره ابن القيم في "شرح منازل السائرين" في نوعي الشرك: الأكبر والأصغر، ثم ذكر- بعده- قول ابن تيمية في رسالته السنية: "أن كل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يجعل معه إلها آخر

،) 3. ثم قال التهامي بعد إيراد تلك النصوص:

(فهذه نصوص ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله قاضية بكفر من اعتقد

1 "الانتصار" ص 14، وقد ذكر قريبا من ذلك في "مجموعة الرسائل 4/473.

2 "إيقاظ الوسنان" ق 7.

3 المرجع السابق ق 7.

ص: 214

النفع والضر في مخلوق ونذر له، أو دعا له، أو استغاث به، وهو صريح في ذلك كفر أكبر يحل الدم والمال، إذا عرفت هذا فقد انتقض على صاحب الرسالة ما طول به، وبذل فيه مجهوده أن أفعال هؤلاء من الشرك الأصغر، زاعما أن ذلك صريح قول ابن القيم وشيخه ابن تيمية الذين قصد الذب عنهم بما هم فيه مصرحون بأنه شرك أكبر، والأدلة القرآنية قاضية بما صرحا به، ولو أراد إنسان أن يجمع ما ورد في هذا المعنى من الكتاب والسنة لكان مجلدا ضخما

) 1.

ويزيل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن اللبس الذي افتعله داود، وادعى من خلال سياقه لنصوص الشيخين أنها تدل على ما يهواه من الغلو في الأولياء وصرف بعض أنواع العبادات - التي يجب أن تكون لله وحده - للموتى.

فيقول الشيخ عبد اللطيف جوابا على ما نقل داود عن ابن تيمية من كتاب "الفرقان"2.

(والجواب أن يقال: سياق الكلام، ومقتضى التقرير في كلام الشيخ الذي نقله العراقي نفي الولاية بهذه المذكورات، ونفي الاستدلال عليها بالمكاشفة، وخوارق العادة، ورؤية المستغاث به من الغائبين والأموات، والإخبار بما سرق وبحال الغائب والمريض، وقرر أن هذا أو نحوه لا يدل على الولاية أصلا، وأن أولياء الله متفقون على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به حتى يتقيد بمتابعة الرسول وموافقته لأمره ونهيه. وهذا تصريح من الشيخ بنفي الاستدلال بهذا على الولاية وإبطاله، وليس فيه تسليم مجيء المستغاث به الميت أو الغائب إلى المستغيث، وأنه يقضي حاجته وأنه يستدل به على الولاية كما زعم العراقي

والعراقي صرف العبارة عن مدلولها وصدف عنها، ونسب إلى الشيخ ما لا يحتمله كلامه بوجه من الوجوه فبعدا لقوم لا يؤمنون. قال رحمه الله: والطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وفي مغيبه ليس مشروعا قط، ولكن كثير من الناس يدعون الموتى، والغائبين من الشيوخ وغيرهم فتمثل لهم الشياطين تقضي بعض مآربهم لتضلهم عن سبيل الله، كما تفعل الشياطين بعباد الأصنام، وعباد الشمس والقمر وتخاطبهم وتتراءى لهم، وهذا كثير يوجد في زماننا وغير زماننا) 3.

ومما قاله الشيخ عبد اللطيف: (واعتقاد الولاية لا يسوغ ولا يجوز بسبب

1 "إيقاظ الوسنان" ق 7.

2 سبق ذكر هذا النقل.

3 "منهاج التأسيس"، ص158.

ص: 215

الاستغاثة ودعاء غير الله، وصريح كلام الشيخ، وصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الولاية لا تثبت بسبب من هذه الأسباب التي أنكرها الشيخ، وألزمه إياها العراقي جهلا وظلما، وإنما تثبت بالإيمان بالله واليوم الآخر والكتب والنبيين والقيام بالواجبات الدينية..، ولو كانت الاستغاثة بغير الله سببا للولاية، ودليلا عليها، للزم القول بولاية كل معبود مع الله من الفاسقين والكهان والشياطين بل والأصنام؛ لأن عبادها قد تقضي حوائجهم، ويخاطبون منها كما ذكره الشيخ وغيره

) 1.

ويجيب الشيخ عبد اللطيف على ما نقله داود عن ابن القيم حين ذكر حكاية2.. فهم منها داود بغير فكر ولا روية، أنها تدل على جواز الاستغاثة بالرسول.. فكان من جواب الشيخ عبد اللطيف:

(والجواب أن يقال ليس في الحكاية جواز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وفاعل ذلك لا يحتج بفعله بإجماع المسلمين، وإنما سيقت العبارة لتقرير نصر الله لأوليائه، وإثابة من نصرهم، ووالاهم، لا لأجل الاستغاثة، وأنها تجوز بغير الله، وأن ذلك صواب. والاستدلال بالحكاية خروج عن موضوعها، وموضوع الكتاب الذي سيقت فيه، وابن القيم نص في غير موضع أن دعاء الموتى هو أصل شرك العالم وأنه من الشرك الأكبر.. إلى آخر ما قاله- رحمه الله)3.

وأما جواب الشيخ محمود شكري الآلوسي علامة العراق على ما نقله داود عن الشيخين ابن تيمية وابن القيم، ثم زعم ابن جرجيس أنهما يجوزان "الاستغاثة بالأموات"، وسماها داود- تلبيسا وتمويها- نداء الغائبين.

(والجواب أن يقال: هذا أيضا ليس مما نحن فيه، فإنه ليس نداء بما لا يقدر عليه إلا الله، غاية ما فيه ذكر المحبوب لا طلب شيء منه، ولا استغاثته، وإلا لزم أن كل من ذكر محبوبه قد استغاث به، وبطلانه ظاهر. ولفظ الشفاء: أن ابن عمر خدرت رجله، فقيل له: اذكر أحب الناس إليك فصاح يا محمداه فانتشرت رجله4. وهذا يقتضي صحة ما جربه الناس، فإن من أصابه الخدر منهم إذا ذكر محبوبه زال بسهولة، لأنه بمسرته تنتعش الحرارة الغريزية، فيندفع الخدر)5.

1 "منهاج التأسيس"، ص159.، 160.

2 سبق ذكر هذه الحكاية.

3 "منهاج التأسيس"، ص 179.

4 ضعفه الألباني في تحقيقه لكتاب "الكلم الطيب" لابن تيمية ص 120 كما ضعفه عبد القادر الأرناؤوط في تحقيقه لكتاب "الوابل الصيب" لابن القيم ص 181.

5 "فتح البيان تتمة منهاج التأسيس" ص 375.

ص: 216

(وأقول: إن هذا كان من مذاهب العرب في الجاهلية، فكان الرجل منهم إذا خدرت رجله، ذكر من يحب أو دعاه فيذهب خدرها- ثم ذكر الآلوسي بعض أشعار العرب التي تدل على ما قاله-)1.

ثم قال الآلوسي: (أفيقال: إن هؤلاء الشعراء لما خدرت أرجلهم استغاثوا بمن يحبونه من امرأة أو غلام لا أرى من يقول بذلك إلا من خدر عقله، وتركب جهله)2.

وأما ما أورده ابن منصور من نقل عن ابن تيمية، فقد أظهر الشيخ عبد اللطيف رحمه الله، تحريف ابن منصور لهذا النص، وكثافة جهله فقال:

(والجواب أن يقال: قد تصرفت في كلام الشيخ، وأسقطت أوله الذي يستبين به مقصوده، وقد تقدم أن هذه حرفة يهودية صار هذا المعترض على نصيب وافر منها..

وقبل هذا النقل قرر شيخ الإسلام في هذه الرسالة التي يشير إليها المعترض أن دعاء الصالحين مع الله، وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله، كمغفرة الذنوب، وهداية القلوب وطلب الرزق من غير جهة معينة.. ونحو ذلك مما يصدر ممن يعبد الأموات ويدعو الصالحين، ويستغيث بهم كفر صريح، وشرك ظاهر يستتاب فاعله فإن تاب وإلا قتل.

وبعد تقرير هذا قال: ولكن لغلبة الجهل

- إلى آخر العبارة التي أوردها المعترض-.

ومراد ابن تيمية بهذا الاستدراك أن الحجة إنما تقوم على المكلفين، ويترتب حكمها بعد بلوغ ما جاءت به الرسل من الهدى ودين الحق

فمن بلغته دعوة الرسل إلى توحيد الله ووجوب الإسلام له، وفقه أن الرسل جاءت بهذا لم يكن له عذر في مخالفتهم، وترك عبادة الله. وهذا هو الذي يجزم بتكفيره إذا عبد غير الله، وجعل معه الأنداد والآلهة. والشيخ وغيره من المسلمين لا يتوقفون في هذا، وشيخنا رحمه الله قد قدر هذا وبينه وفاقا لعلماء الأمة واقتداء بهم. ولم يكفر إلا بعد قيام الحجة وظهور الدليل، حتى إنه رحمه الله توقف في تكفير الجاهل من عباد القبور إذا لم يتيسر له من ينبهه.

ثم يقول الشيخ عبد اللطيف:

1 "فتح البيان تتمة منهاج التأسيس" ص 376.

2 المرجع السابق ص 376.

ص: 217

(وإذا تبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأصر وعاند فهو غير مستجيب، والحجة قائمة عليه، سواء كان إصراره لشبهة مثل النصارى، أو كان ذلك عن عناد واستكبار مثل فرعون وقومه، فالصنفان يحكم بكفرهم إذا قامت الحجة التي يجب اتباعها، ولا يلزم أن يعرف الحق في نفس الأمر كما عرفته اليهود وأمثالهم، بل يكفي في التكفير رد الحجة وعدم قبول ما جاءت به الرسل

) 1.

وبإيجاز فإن من قرأ ما كتبه الشيخان ابن تيمية وابن القيم- رحمهما الله- في مسألة نواقض الإسلام، فسيجدهما يتفقان مع ما كتبه الشيخ الإمام في تلك المسألة، وأما دعوى المخالفة فلا تكون إلا ممن قصر فهمه، وساء قصده كحال أولئك الخصوم.

1 "مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام" ص 324، 325 باختصار. انظر: ما كتبه محمود شويل في كتابه "القول السديد" ردا على من زعم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب خالف ابن تيمية وابن القيم ص 35- 40. ولمعرفة التفصيل في مسألة قيام الحجة على الكافر المعين، والفرق بين قيام الحجة، وبين فهمها. انظر: ما كتبه الشيخ عبد الله أبو بطين في رسالته "الكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل"، فلا يحكم عليه إلا بعد أن تقوم عليه الحجة، والذي لا يعذر". "مجموعة الرسائل المسائل" 4/ 510- 523.

ص: 218