المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: فرية إنكار كرامات الأولياء - دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

[عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: مفتريات ألصقت بدعوة الشيخ مع الدحض لها

- ‌الفصل الأول: الافتراء على الشيخ بادعاء النبوة، وانتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثاني: الزعم بأن الشيخ مشبه مجسم

- ‌الفصل الثالث: فرية إنكار كرامات الأولياء

- ‌الباب الثاني: الشبهات المثارة حول دعوة الشيخ مع بيان الحق في ذلك

- ‌الفصل الأول: التكفير والقتال.. عرض ثم رد وبيان

- ‌المبحث الأول: مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على الشيخ في مسألة التكفير مع الرد والدحض لها

- ‌المبحث الثاني: فرية أن الوهابيين خوارج وأن نجد اليمامة قرن الشيطان مع الرد والدحض لها

- ‌المبحث الثالث: شبهة أن الوهابيين أدخلوا في المكفرات ما ليس فيها

- ‌المبحث الرابع: شبهة مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن تيمية وابن القيم في مسألة الذبح لغير الله..عرض ثم رد

- ‌المبحث الخامس: شبهة عدم طروء الشرك على هذه الأمة.. عرض ثم رد

- ‌المبحث السادس: شبهة تنزيل آيات في المشركين على مسلمين.. عرض ثم رد

- ‌المبحث السابع: شبهة خروج الشيخ على دولة الخلافة

- ‌الفصل الثاني: تحريم التوسل.. عرض ثم رد

- ‌الفصل الثالث: منع الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب الثالث: فيما اعترض عليه من قضايا الدعوة مع المناقشة

- ‌الفصل الأول: هدم الأبنية على القبور والنهي عن شد الرحال لزيارتها

- ‌الفصل الثاني: تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الثالث: إنكار دعاء الموتى

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الثالث: فرية إنكار كرامات الأولياء

‌الفصل الثالث: فرية إنكار كرامات الأولياء

نتحدث في هذا الفصل عما أورده بعض المناوئين لهذه الدعوة السلفية من إفك مبين وكذب عظيم، حيث بهتوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -كعادتهم- وافتروا عليها بأنها تنكر كرامات الأولياء.

وسنورد -كما فعلنا في الفصلين السابقين- تمهيدا يتضمن بعض النصوص التي اخترناها من كلام أئمة الدعوة وأنصارها، والتي تبين وضوح موقفهم من كرامات الأولياء..، وأنهم يثبتونها ويقرون بها

، كما كان يثبتها ويقررها إخوانهم من قبلهم من أهل القرون المفضلة ومن تبعهم..

وعقب هذا التمهيد، ننقل افتراء الخصوم في ذلك كما جاء مدونا في كتبهم ونعرض لما تضمنته تلك النقول من عناصر وأفكار..

ثم نتبع تلك الفرية بالدحض والرد، مما كتبه أئمة الدعوة وأنصارها، وبما سطروه من أدلة ساطعة وحجج دامغة لتلك الفرية الكاذبة الخاطئة.

يقرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله إثباته لكرامات الأولياء، فيقول بكل صراحة ووضوح:(وأقر بكرامات الأولياء، وما لهم من المكاشفات، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله)1.

ويقول أيضا: (وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} 2 إلى آخره هذا وحي إلهام،

1 "مجموعة مؤلفات الشيخ" 5/10، 11، وحكى هذا القول عن الشيخ الإمام صاحبُ كتاب "جواب الجماعة" ص199.

2 سورة القصص آية: 7.

ص: 138

ففيه إثبات كرامات الأولياء) 1.

ويذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب الواجب في حق أولياء الله الصالحين فيقول:

(.. الواجب عليهم حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال، ودين الله وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين)2.

ويؤكد أتباع الدعوة من بعد الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا الاعتقاد ويقررونه.

فنجد أن الإمام عبد العزيز الأول يشير إلى حقوق أولياء الله، مع بيان الفرق بين الولي الحق، وبين مدعي الولاية- كذبا وزورا- فقال رحمه الله:

(وكذلك حق أوليائه محبتهم والترضي عنهم، والإيمان بكراماتهم، لا دعاؤهم، ليجلبوا لمن دعاهم خيراً لا يقدر على جلبه إلا الله تعالى، أو ليدفعوا عنهم سوءاً لا يقدر على دفعه إلا هو عزوجلفإن ذلك عبادة مختصة بجلاله تعالى وتقدس.

هذا إذا تحققت الولاية أو رجيت لشخص معين كظهور اتباع سنة وعمل بتقوى في جميع أحواله، وإلا فقد صار الولي في هذا الزمان من أطال سبحته، ووسع كمه، وأسبل إزاره، ومد يده للتقبيل، ولبس شكلاً مخصوصا وجمع الطبول والبيارق، وأكل أموال عباد الله ظلما وادعاءاً، ورغب عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأحكام شرعه) 3.

وبين الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بعضا من حقوق الأولياء

لكن دون الغلو فيهم فيقول رحمه الله:

(ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم، مهما ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادات، لا حال الحياة، ولا بعد الممات بل يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته، بل، ومن كل مسلم)4.

وينص الشيخ عبد العزيز الحصين على ما قرره أسلافه فيقول- بيانا لحق الأولياء-:

1 "مجموعة مؤلفات الشيخ" 4/282.

2 "مجموعة مؤلفات الشيخ" 1/169.

3 رسالة الإمام عبد العزيز الأول، ص12.

4 "الدرر السنية" 1/128.

ص: 139

وحق أوليائه محبتهم، والترضي عنهم، والإيمان بكرامتهم، لا عبادتهم ليجلبوا لمن دعاهم خيراً لا يقدر على جلبه إلا الله تبارك وتعالى ويدفعوا عنهم سوءا لا يقدر على دفعه أو رفعه إلا الله، لأنه عبادة مختصة بجلاله سبحانه

) 1.

وقد سئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن كرامات الأولياء، فأجاب على ذلك فكان مما قاله:

(مسألة: كرامات الأولياء حق، فهل تنتهي إلى إحياء الموتى وغيرها من المعجزات؟

(الجواب: كرامات الأولياء حق عند أهل السنة والجماعة، والولي أعطي الكرامة ببركة اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا تظهر حقيقة الكرامة عليه إلا إذا كان داعيا لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم بريئا من كل بدعة وانحراف عن شريعته صلى الله عليه وسلم فببركة اتباعه يؤيده الله تعالى بملائكته وبروح منه..)2.

ويشير محمود شكري الآلوسي- رحمه الله إلى وجوب الإيمان بكرامات الأولياء، فيقول:

(وأما الجواب عن مسألة الكرامات فيقال: إن كرامات الأولياء حق لا شبهة فيه، وهي ثابتة بالكتاب والسنة، ولشيخ الإسلام قدس الله روحه كتاب جليل في ذلك سماه الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن)3.

ويوضح الشيخ سليمان بن سحمان معتقدهم في كرامات الأولياء، فيقول في كتابه "الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد":

(واعلم أننا لا ننكر الكرامات التي تحصل لأولياء الله، إذا صدرت على القانون المرضي والميزان والشرعي، فإن أولياء الله هم المتقون المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم فيفعلون ما أمر به، وينتهون عما نهى وزجر

فيؤيدهم الله بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين

) 4.

ويقول ابن سحمان في قصيدته "عقود الجواهر واللآلي في معارضة بدء الأمالي،، حيث تحدث عن كرامات الأولياء، وبين أن خوارق العادات إما أن تكون

1 "الدرر السنية" 2/81.

2 "مجموعة الرسائل والمسائل" 2/83، 84 بتصرف.

3 "فتح البيان تتمة منهاج التأسيس" ص413.

4 ص180.

ص: 140

أحوالا شيطانية، أو كرامات فقال رحمه الله:

وكل كرامة ثبتت بحق

فحق للولي بلا اختلال

نوال من كريم حيث كانوا

بطاعة ربهم أهل انفعال

وليس لهم نوال أو حباء

لمن يدعوهمو من كل عال

وإن الخرق للعادات فاعلم

على نوعين واضحة المثال

فنوع من شياطين غواه

لمن والاهمو من ذي الخيال

ونوع وهو ما قد كان يجري

لأهل الخير من أهل الكمال

من الرحمن تكرمة وفضلا

لشخص ذي تقى سامي المعالي

ولكن ليس يوجب أن سيدعى

ويرجى أو يخاف بكل حال

فما في العقل ما يقضي بهذا

ولا في الشرع يا أهل الوبال1

ونختم هذه النقول النفيسة بما أورده الشيخ عبد الله بن بليهد- رحمه الله في خطابه الذي ألقاه أثناء الاجتماع بين علماء نجد وعلماء مكة المكرمة، فقال- ذاكراً حقوق أولياء الله-:

(وكذلك أولياء الله تجب محبتهم، والإقرار بفضائلهم على اختلاف مراتبهم، وما يجريه الله على أيديهم من الكرامات، وخوارق العادات، ولا ينكر كرامات الأولياء إلا أهل البدع، لكن يجب أن يفرق بين أولياء الله وغيرهم فإن أولياء الله هم المتقون العاملون لله بطاعته، كما قال تعالى في وصفهم {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 2. فمن كان مؤمناً تقيا كان لله ولياً ليس إلا..)3.

من خلال هذه النقول نلاحظ أنها متفقة على إثبات كرامات الأولياء، والإقرار بها، ومتفقة على وجوب محبتهم والاعتراف بفضائلهم ومناقبهم. كما أنها توضح أن الولي لله- حقاً- هو من كان مؤمناً متبعاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فليست الولاية مجرد لبس زي مخصوص، وإسبال الإزار، وإطالة السبحة، ومد اليد للتقبيل، مع ترك اتباع السنة النبوية.. وهذه النقول تؤكد النهي عن الغلو في الأولياء، فلا يجوز صرف شيء مما يستحقه الله تعالى لهم، فحق الأولياء هو المحبة والتقدير وإثبات الكرامات لهم فلا جفاء

1 "ديوان ابن سحمان"، ص155.

2 سورة يونس آية: 62.

3 ص21.

ص: 141

في حقهم، وليس من حقهم أن تصرف بعض أنواع العبادة- التي يجب أن تكون لله وحده- لهم، فلا غلو في قدرهم.

فاختار أئمة الدعوة- بهذا المسلك- دين الله الذي هو وسط بين طرفي الغلو والجفاء.

ننتقل بعد ذلك التمهيد إلى ما افتراه المناوئون وسودوا به الصحائف من قذف الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه بفرية إنكار كرامات الأولياء، وسنورد أقوالهم كما جاءت مسطورة في كتبهم، ثم نعرض لهذه النقول بنظرة سريعة فيما احتوته من قضايا وأفكار.

يزعم علوي الحداد في مصباحه أن إنكار كرامات الأولياء من جملة هذيان الشيخ ابن عبد الوهاب، فيقول الحداد:

(ومن جملة هذيانه أيضا إنكاره كرامات الأولياء وما خصهم الله به من الخصوصيات والأسرار والبركات)1.

ويقول علوي الحداد أيضا- حين ذكر ما أسماه بضلالات النجدي-:

(وأنه يرى أن الأموات لا نفع منهم للحي وأنه لا كرامة لهم.. وأن من مات انقطعت كرامته، حتى أدخل على العوام الشبه، والنزاع منه في ذلك مكابرة فيما هو معلوم بالتواتر، وأيضا إذا أقر بكرامات الأحياء، فهم أجمعوا بل وأخبروا بوقائع بينهم والأموات، فتكذيبه في حق الأموات تعدي لتكذيبه للأحياء فهو مكذبهما معا..)2.

ويدعي عمر المحجوب في رسالته- ردا على الشيخ محمد بن عبد الوهاب- هذه الفرية، فيقول:

(كما أنه يلوح من كتابك إنكار كرامات الأولياء وعدم نفع الدعاء وكلها عقائد عن السنة زائغة وعن الطريق المستقيم رائغة)3.

ويتلقف اللكنهوري هذه الفرية، فيزعم في أحد أبواب كتابه المسمى "كشف النقاب":

(الباب الثالث: عقيدته في الأولياء والصالحين كان منكرا لكرامتهم وزيارتهم

وقد بينه هو وأتباعه ببينات طويلة لا طائل تحتها، ونحن ننقل بعض عباراته في هذا المقام ليكون الناظر على بصيرة من نفثات لسانه) 4.

1 "مصباح الآنام"، ص18.

2 "مصباح الآنام"، ص23 ثم أورد الحداد نقولا وآثاراً على وقوع الكرامات بعد الموت ص23- 29.

3 "رسالة في الرد على الوهاببة"، ط1 المطبعة التونسية، تونس، 1327هـ، ص7.

4 ص41 ولم يبين هذا الكذاب فريته بالبينات الطويلة التي زعمها، حتى ولا القصيرة.

ص: 142

ومما كتبه داود بن سليمان بن جرجيس عن الغلو في الأولياء، قوله:

(ولما كان يحصل من التوسل والتشفع بالأنبياء والأولياء إنما هو من طريق الكرامة مع كونهم متسببين في دار برزخهم، فالولي ما دام لم يصل إلى الآخرة، وهي ما بعد القيامة فهو بدار دنيا، فتكون كراماته موجودة)1.

ويتوصل إبراهيم السمنودي في كتابه "سعادة الدارين"، إلى فهم أعوج، وقصد سيئ حين جعل ما ذكره أئمة الدعوة من انقطاع عمل الميت وعدم قدرته، إلى أنهم يقصدون بذلك إنكار كرامات الأولياء، فقال:

(وأما قول المنكرين للتوسل أن الميت لا يقدر على شيء أصلا إلى آخر ما زعموه فيقصدون به إنكار كرامات الأولياء، وما ثبت في تصرفهم كالأنبياء والشهداء بعد موتهم لعدم الكرامة فيما بينهم، وذلك أدل دليل على أنهم أهل بدعة كالمعتزلة المنكرين لها)2. ويقول حسن الشطي في رسالته "النقول الشرعية":

(وكرامات الأولياء حق، وأنكر الإمام أحمد من أنكرها وضلله، والحاصل أن علماء الحنابلة كغيرهم من أهل السنة يجمعون على إثباتها حتى طائفة النجدية الوهابية مع غلوهم يثبتونها للأولياء، إلا أن البعض منهم يخصها بالأحياء، ولم يثبت لهم دليل التخصيص أبدا)3.

ثم ذكر الشطي كلام الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في مسألة كرامات الأولياء، فكان مما نقله- هذا المفتري المحرف- ما نصه:(ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالفضل وأنهم على هدى من ربهم. مهما ساروا على الطريقة المرضية، والقوانين الشرعية، أحياء وأمواتا، إلا أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادة) ا. هـ كلامه بحروفه4.

1 "المنحة الوهبية في رد الوهابية"، مكتبة الحقيقة استنابول، 1403هـ، ص32، 33، بتصرف يسير.

2 "سعادة الدارين في الرد على الفرقتين الوهابية ومقلدة الظاهرية"، إدارة جريدة الإسلام، مصر، 1319هـ، 1/228.

3 "النقول الشرعية في الرد على الوهابية"(ضمن مجموعة كتب) ، ط2، مكتبة التهذيب، القاهرة، ص104.

4 هكذا يزعم المحرف: "انتهى كلامه بحروفه"، وكان من اللائق أن يقول: انتهى كلامه بعد تحريفه، فيلاحظ من نقل هذا الأفاك الأثيم، أنه ممن يحرفون الكلم عن مواضعه، فقد حرف كلام الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، فلم يقل الشيخ عبد الله- كما زعم المفتري- (ولا ننكر كرامات الأولياء

أحياء وأمواتا..) بل قال رحمه الله كما نقلنا قوله من قبل- (ولا ننكر كرامات الأولياء، إلا أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادات لا حال الحياة ولا بعد الممات)(انظر: "الدرر السنية": 1/128) . ويريد الشطي بذلك التحريف تجويز الاستغاثة بالموتى.. فانظر إلى شناعة هذا التبديل ونجاسة ذلك التغيير، ولم يقف هذا الشطي عند هذا القدر بل تجاوزه إلى رميهم بالتناقص والعناد، حتى يتحقق له ما ينبغي من الغلو والاستغاثة بالأموات.

ص: 143

- ثم قال الشطي: (فانظر إلى عبارة إمامهم المذكورة لا تجدها مخالفة لما عليه الجمهور من إثبات الحياة والكرامة للشهداء والأولياء والصالحين بعد وفاتهم كحال حياتهم

فكيف يسوغ الآن من هذه الطائفة أو من غيرهم بتخصيص الكرامة في حال الحياة وبنوا عليها تخصيص التوسل والطلب في حال الحياة فقط حتى من إمامهم المذكور، فما هو إلا من غلوهم وعنادهم وغلبة جهلهم..) 1.

ويأتي أفاك أثيم، فيزيد على سابقيه بالكذب والبهتان وهو المدعو عثمان بن يحيى العلوي2 حيث يقول:

(وكذا كفر- أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب- من اعتقد كرامات الأولياء)3. (وأنه أنكر كرامات الأولياء) 4. ويتبع العلوي من الإمعان في الإفك والزيادة في الإثم والبهت، ما زعمه المدعو محمد بن توفيق سوقيه في رسالته "تبيين الحق والصواب" فيقول:

(وأما إنكارهم لكرامات الأولياء الثابتة بالكتاب والسنة، فأمر لا يخفى على أدنى ممارس لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والكرامة لا تقع إلا على يد من بالغ في الاتباع للشريعة حتى بلغ الغاية، فأنى تراها الوهابية مع انحرافهم عن الجادة)5.

ويكذب سوقية مرة أخرى فيقول: (ولا عبرة بإنكار الوهابية للكرامات حيث لا يعدون في العير، ولا في النفير، ولا ينظر لكلامهم البتة بعد ما ثبتت الكرامات..)6.

ويستمر في كذبه- كعادته- فيقول: (ولما كانت الوهابية لا إمام لها في كل شيء تقوله وتدين به سوى اختراع دين

1 "النقول الشرعية في الرد على الوهابية" ص104،105.

2 لم أعثر له على ترجمة.

3 "فصل الخطاب في بيان الصواب"، ص42.

4 "فصل الخطاب في بيان الصواب"، ص42.

5 ص22.

6 "فصل الخطاب في بيان الصواب" ص25.

ص: 144

جديد، حبا في الظهور قالت بإنكار الكرامات..1.

ويقول حسن خزبك في "مقالاته":

(ومن قال بأن كرامات الأولياء لا تكون إلا في حياتهم فقط، وتزول بعد الموت فقوله غير معتد به، لأن الكرامة أمر خارق للعادة.. يظهرها الله على يد رجل صالح متمسك بدينه الحق..)2.

ومن أواخر هؤلاء المفترين الكذابين ممن افترى على هذه الدعوة السلفية فرية إنكار كرامات الأولياء، ما كتبه المدعو مالك بن داود في كتابه "الحقائق الإسلامية":

(من أعظم خطئهم بعد تكفير المسلمين، إنكارهم على أولياء الله وكراماتهم مع أنهم يصدقون بالاختراعات العصرية. - ثم يقول: فهناك جماعة غير قليلة من الوهابيين ينكرون على أولياء الله وكراماتهم، ويرفضون حصول الكرامات والخوارق لهم.. ولهم في ذلك أقوال أعتذر عن حكايتها مراعاة للأدب ولعدم مناسبتها لحضرة أولياء الله تعالى..)3.

ويجدر بنا عقب هذا النقل لمفتريات خصوم الدعوة السلفية في مسألة كرامات الأولياء أن نلقي نظرة عابرة.. لما تضمنته تلك النقول من أفكار نوجزها بما يلي:

(1)

يظهر تناقض الخصوم واضطرابهم في كذبهم، وافترائهم، حين زعموا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وكذا أتباعه وأنصاره ينكرون كرامات الأولياء، فمرة يزعمون أن هذا الإنكار لكرامات الأولياء إنما هو بالنسبة للأموات، كما هو واضح فيما كتبه علوي الحداد.

مع أن بعض الخصوم أقر واعترف بإثبات أئمة الدعوة لكرامات الأولياء، ومن ذلك ما كتبه محمد بن عبد المجيد بن كيران الفاسي في رسالته "الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية" حيث يقول:

(وهذا المبتدع4 مصرح في رسالته الكبرى بإثبات الكرامات، حيث قال الواجب

1 "فصل الخطاب في بيان الصواب" ص26.

2 "المقالات الوفية في الرد على الوهابية" ص206.

3 مالك بن داود، "الحقائق الإسلامية في الرد على المزاعم الوهابية"، ط1، مكتبة الحقيقة، استانبول، 1403هـ ص25 4 يعني به الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود حيث أن الإمام سعود أرسل رسالتين إلى أمير المغرب- آنذاك-، فعرضها ذلك الأمير على محمد بن عبد المجيد بن كيران، فكتب الأخير ردا على تلك الرسالتين، بعنوان "الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية". انظر: مقدمة كتابه المذكور ص3.

ص: 145

عليك الإقرار بكراماتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال) 1.

ويورد محمد جواد مغنية اعترافه بإقرار أئمة الدعوى السلفية بكرامات الأولياء، ولكنه يورده مستنكراً عليهم هذا الإقرار، لأن الكرامة عنده هي الصدق والإخلاص2 يقول مغنية:

(ويعتقد الوهابية بكرامات الأولياء، وأن الله يجري على أيديهم خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات..)3.

(2)

يتبين مما سبق نقله-، أن هؤلاء الخصوم لا يرون أي فرق بين إثبات الكرامات للأحياء، وبين إثباتها للأموات، فليس هناك دليل يخص الكرامة بالأحياء دون الأموات.

(3)

نلاحظ ضلال الخصوم في تعريفهم الكرامة وبيان حدها، فهم يظنون أن الكرامة فعل الولي، مع أن الكرامة في الحقيقة هي فعل الله لا فعل للولي فليس له قدرة عليها ولا تأثير.

(4)

نجد هؤلاء الخصوم قد جعلوا كثيراً من الشركيات ومحدثات الأمور ضمن إثبات كرامات الأولياء، فأجازوا الاستغاثة بالأولياء فيما لا يقدر عليه إلا الله، ودعاءهم بحجة أن هذا الشرك ضمن إثباتهم كرامات الأولياء، ومن باب محبتهم وتقديرهم. ومن أنكر هذه الشركيات فهو منكر للكرامات، ومما يدل على أن الكثير من الشركيات قد صارت دينا وأمراً مشروعا، لأنها ضمن الإقرار بكرامات الأولياء، ما نجده مسطوراً في كتب هؤلاء الخصوم، ونذكر على ذلك مثالين:

الأول: ما قاله القباني في "فصل الخطاب": (وإغاثة الأولياء كرامة لهم)4.

الثاني: ما كتبه الزهاوي في فجره: (المراد بالاستغاثة بالأنبياء، والصالحين، والتوسل بهم هو أنهم أسباب ووسائل لنيل المقصود، وأن الله تعالى هو الفاعل كرامة لهم..)5.

1 محمد بن عبد المجيد بن كيران الفاسي، "الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية"، ط1، مطبعة التقدم، مصر، 1327هـ، ص19.

2 انظر: كتاب "هذه هي الوهابية" ص106.

3 المرجع السابق ص105.

4 ق42.

5 ص53.

ص: 146

وتبدو هذه الأمور الأربعة ظاهرة جلية حين نعرض لها بالرد والدحض بما كتبه أئمة الدعوى وأنصارها في هذا المقام.

سنورد في مقام الرد والدحض لفرية إنكار كرامات الأولياء ما ذكره بعض أئمة الدعوة السلفية في رد هذه الفرية ودحضها.

ثم نشير إلى ما قالوه من عدم الاغترار بخوارق العادات عموما، وضرورة التفريق بين الولي حقا وبين مدعي الولاية كذبا وزوراً.

وعقب ذلك، نشير إلى ما قرره علماء الدعوة في بيان حد الكرامة وتعريفها.

ثم نورد بعض الردود على ما وقع فيه الخصوم من الغلو في الأولياء وصرف شيء مما يستحقه الله إليهم.

وقد رد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله على من اتهمه بانتقاص الصالحين فكان مما قاله:

(مما ذكره المشركون علي أني أتكلم في الصالحين أو أنهى عن محبتهم فكل هذا كذب وبهتان افتراه علي الشياطين)1.

ويقول- أيضاً- في هذا المقام:

(وأما الصالحون فهم على صلاحهم رضي الله عنهم، ولكن نقول ليس لهم شيء من الدعوة قال الله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 2)3.ويكذب الشيخ سليمان بن سحمان هذه الدعوى، فيقول:

(والجواب أن يقال إن هذه الدعوى دعوى كاذبة خاطئة، فإن الشيخ رحمه الله لا ينكر كرامات الأولياء بل يثبتها، ولا ينكر إلا خوارق الشياطين، فإن أولياء الرحمن لهم علامات يعرفون بها، فمن علامات أولياء الله محبة الله، ومحبة رسوله، والتزام

1 "مجموعة مؤلفات الشيخ" 5/52 باختصار.

2 سورة الجن آية: 18.

3 "مجموعات مؤلفات الشيخ" 5/101. وانظر: "الدرر السنية" 1/65، ومما يحسن ذكره هاهنا أن نسوق ما حكاه الشيخ أبو بطين في كتابه "تأسيس التقديس، ص85، وهو أن رجلا من أهل مكة ينسب إلى علم قال لرجل عامي من أهل نجد: أنتم ما للأولياء عنكم قدر والله يقول في الشهداء إنهم {أحياء عند ربهم يرزقون} ، فال له العامي: هل قال يرزقون يعني بفتح الياء أو قال يرزقون يعني بالضم، فإن كان يعني بالفتح فأنا أطلب منهم، وإن كان يعني بالضم فأنا أطلب من الذي يرزقهم، فقال المكي: حجاجكم كثيرة وسكت.

ص: 147

ما أمر الله به ورسوله، وتقديم ما دل عليه الكتاب والسنة على ما يخطر ببال أحدهم أنه كرامة..) 1.

ويقول ابن سحمان في دحض ما أورده الحداد من الحكايات في كرامات الأولياء بعد الممات:

(ذكر الملحد أحاديث وأخباراً وحكاياتٍ في كرامات الأنبياء والأولياء منها ما هو صحيح مؤول، وباطل مقول، ومنها ما هو خرافات ومنامات وخزعبلات وحكايات لا يثبت بها حكم شرعي، ولا يدل ما صح منها من الكرامة على أنهم يدعون من دون الله، أو يستغاث بهم في الشدائد والمهمات، أو يطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات

) 2.

ويدحض ناصر الدين الحجازي تلك الفرية بهذا الأسلوب فيقول:

(.. ثم إن كرامات الأولياء ما سمعنا من أحد إنكارها، وإذا كان ثم إنكار فإنما هو على أشياء مكذوبة لا تطابق عقلا ولا نقلا، وكيف ينكرها قوم يتلون كتاب الله وسنة رسوله، لكن صاحبنا أخذ يلتقط أشياء من أفواه العامة، ويسود به صحيفته، ومثل هذا يكون الكلام معه ضائعا، فلا يلتفت إليه وإن أطال مهما أطال، ونحن نكلفه أن يثبت مدعاه بالنقل من كتاب موثوق به، فإن وجد شيئا من ذلك فنحن نشاركه في الرد على المنكر، لكن على طبق الشرع وصحة النقل..)3.

وحيث إن الإقرار سيد الأدلة، وقد أوردنا في مقدمة هذا الفصل من النقول عن أئمة الدعوة السلفية، وعلى رأسهم مجددها الشيخ محمد بن عبد الوهاب مما يؤكد ويقرر إثباتها لكرامات الأولياء، فلسنا بحاجة إلى زيادة- عما سبق ذكره- ردود على تلك الفرية الساقطة.

ولكن مع أن هؤلاء الأئمة- رحمهم الله تعالى- يثبتون كرامات الأولياء، إلا أنهم لا ينخدعون بكل ما هو خارق للعادة، فإن خوارق العادات كما تحصل لأولياء الرحمن، فربما تقع بعض خوارق العادات لأولياء الشيطان من السحرة والدجالين والمشعوذين، فعلامة ولي الرحمن أنه مؤمن تقي متبع لسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فالقصد طلب الاستقامة- لا طلب الكرامة.

1 "الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد"، ص128.

2 "الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد"، ص179.

3 "النفخة على النفحة" ص50.

ص: 148

لذا يقول الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب أثناء ذكره لفوائد قصة آدم مع إبليس:

(ومنها أنه لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بخوارق العادة، إذا لم يكن مع صاحبها استقامة على أمر الله، فإن اللعين أنظره الله، ولم يكن ذلك إلا إهانة له وشقاء له، وحكمة بالغة يعلمها الحكيم الخبير، فينبغي للمؤمن أن يميز بين الكرامات وغيرها، ويعلم أن الكرامة هي لزوم الاستقامة)1.

ويبين الشيخ- أيضا- الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فيقول:

(بيان الله سبحانه لأولياء الله، وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله المنافقين والفجار، ويكفي في هذا آية في سورة آل عمران وهي قوله:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} 2 الآية، وآية في سورة المائدة، وهي قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 3 الآية، وآية في سورة يونس، وهي قوله:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 4.

ثم صار عند أكثر من يدعي العلم، وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن الأولياء لا بد فيهم من ترك اتباع الرسل، ومن تبعهم فليس منهم) 5.

ويبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن من صفات أهل الجاهلية أنهم يعتقدون في خوارق السحرة أنها من كرامات الأولياء الصالحين، يقول رحمه الله:

(العشرون: اعتقادهم في مخاريق السحرة.. وأمثالهم أنها من كرامات الصالحين، ونسبته إلى الأنبياء كما نسبوه لسليمان عليه السلام 6.

ويورد الشيخ عبد الظاهر أبو السمح- رحمه الله جهل عباد القبور حين اعتقدوا أن الكرامات هي مجرد الخوارق فقط، فأقحموا أفعال السحرة والدجالين ضمن الكرامات، يقول أبو السمح في "الرسالة المكية":

(ومن جهل عباد القبور أنهم يعتقدون أن الكرامات هي الخوارق فقط لا أكثر

1 "مجموعة مؤلفات الشيخ" 4/95.

2 سورة آل عمران آية: 31.

3 سورة المائدة آية: 54.

4 سورة يونس آية: 62.

5 "مجموعة مؤلفات الشيخ" 1/395.

6 "مجموعة مؤلفات الشيخ" 1/340.

ص: 149

ولا أقل. فهم يعتقدون كرامة كل من أظهر شيئا خارقا في نظرهم، وإن كان من السحرة والمشعوذين، ويعدونه وليا، وإن لم يصل، وإن لم يصم) 1.

وكما أن هناك فرقا بين الولي الحق، وبين مدعي الولاية كما أشرنا إلى ذلك، فهناك أيضا فرق بين حال الأولياء في حياتهم وبين حالهم بعد مماتهم، وليس كما يزعم هؤلاء الخصوم بأن أهل الكرامات حالهم في الممات كحالهم في الحياة.

لذا يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن- رحمه الله في الرد على داود بن جرجيس حين زعم أن أهل الكرامات حالهم في الممات كحالهم في الحياة، فقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وهذا يبطله ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 2 فلم يجعلهم الله سواء بل فرق بين الأحياء والأموات، وشبه بهم من لم ينتفع بسماع الهدى) 3.

وعقب ذلك، نورد ما قرره بعض علماء الدعوة في حد الكرامة وتعريفها وسيتضح خطأ وضلال الخصوم في فهمهم لمعنى الكرامة، وترتب على ضلالهم في معناه الكثير من الآثار السيئة والنتائج الوخيمة كما ستظهر بوضوح حين نتحدث عما أورده بعض علماء الدعوة من الردود فيما وقع فيه الخصوم من الغلو في الأولياء، يقول الشيخ محمد بن ناصر التهامي- رحمه الله:

(الكرامات فعل الله يكرم بها من يشاء من عباده، كما أنه سخر بعض العباد لبعض، وليس إلى المعتقد شيء من الكرامات بل هي إلى الله..)4.

ويقول الشيخ صنع الله الحنفي الحلبي5 في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة.

(الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيه، ولا تحدي، ولا قدرة ولا علم..)6.

ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن في بيان معنى الكرامة:

(الكرامة أمر يجعله الله للعبد لا صنع للبشر فيه. فالذي أوجد الكرامة لمن شاء

1 "الرسالة المكية في الرد على الرسالة الرملية"، ط1، مطبعة المنار، مصر، 1349هـ، ص25.

2 سورة فاطر آية: 22.

3 "القول الفصل النفيس في الرد على المفتري داود بن جرجيس" ط2، دار الهداية، الرياض، 1405هـ، ص36.

4 "إيقاظ الوسنان على بيان الخلل الذي في صلح الإخوان، مخطوط بجامعة الملك سعود، ق20.

5 له ترجمة في "معجم المؤلفين" 5/24.

6 نقلا عن: "الانتصار لحزب الله الموحدين"، ط3، مكتبة الصحابة، الكويت، ص45.

ص: 150

من عباده هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، فإن الكرامة إنما تقع لبعض الموحدين المخلصين بسبب توحيدهم وإخلاصهم لله تعالى) 1.

ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في "البراهين الإسلامية": (والمعروف في حد الكرامة أنها خرق الله العادة لوليه من غير تحد..)2.

ثم يوضح ذلك فيقول: (ولا يخفى أن الملحدين وعباد القبور القائلين بالتصرف يموهون على الناس بأن تصرف الأولياء كرامة، وأن من نفاه فقد نفا الكرامة

وأهل الحق لا ينكرون الكرامة التي جاء بها القرآن الكريم، كما في قوله تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 3 وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 4 الآية.

فيثبتون خرق العادة للأولياء في بعض الأحيان، لكن ليس في هذا دليل على أنهم يتصرفون، ولا تلازم بين التصرف والكرامة؛ لأن الكرامة خرق الله العادة لوليه، من غير فعل من ذاك الولي

) 5.

ويورد علامة العراق محمود شكري الآلوسي تعريف الكرامة، فيقول رحمه الله:

(كل من يذكر تعريف الكرامة وحدها يقول: هي خرق الله العادة لوليه لحكمة ومصلحة تعود عليه أو على غيره، وعلى هذا التعريف لا فعل للولي فيها، ولا إرادة، فلا تكون سببا يقتضي دعاء من قامت به أو فعلت له، ومن أي وجه دلت الكرامة على هذا؟)6.

ويؤكد الشيخ عبد الظاهر أبو السمح أن الكرامة من فعل الله، فيقول:(الكرامات لا يملكها أحد لنفسه بل الله يكرم من يشاء من عباده بالإيمان والتقوى {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} 7)8.

فالكرامة - إذن - هي فعل الله، وهي خرق الله العادة لوليه، فلا فعل للولي فيها،

1 القول الفصل النفيس"، ص52.

2 "البراهين الإسلامية في رد الشبه الفارسية" مخطوط بالمكتبة السعودية، ق24.

3 سورة يونس آية: 62.

4 سورة فصلت آية: 30.

5 "البراهين الإسلامية" ق42.

6 "فتح المنان تتمة منهاج التأسيس" ص 413.

7 سورة الحج آية: 18.

8 "الرسالة المكية"، ص25.

ص: 151

بل هي فعل الله تعالى، وقد لا يكون طالبا لها، وإنما قصده وغايته الاستقامة والاتباع للسنة النبوية؛ لأن الكرامة قد تقع للمفضول دون الفاضل، لذا كانت الكرامة في عهد التابعين أكثر منها في عهد الصحابة، كما أن الكرامة قد تحصل لضعفاء الإيمان لزيادة إيمانهم1.

لذا قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (ليست الكرامة من لوازم المنزلة وعلو الدرجة، مشى قوم فوق البحار، ومات عطشا من هو أفضل منهم، وأقوى إيمانا)2.

لقد ترتب على خطأ وضلال هؤلاء المناوئين في تحديد وتعريف الكرامة، أنهم أقحموا- ضمن معنى الكرامة- الكثير من الكفريات والمحدثات، فجعلوا دعاء الأموات والاستغاثة بهم واتخاذ قبور الأولياء أعيادا، والتوسل بالموتى والتشفع بهم، كل ذلك جعلوه ضمن كرامات الأولياء، وزعموا أن ذلك هو من محبة الصالحين وتقديرهم.

ورحم الله محمود شكري الآلوسى حيث يقول:

(من الأمور التي يجب التنبيه عليها: أن من مكايد الغلاة التي كادوا بها العوام أنهم يقولون إن الاستغاثة بالأموات، وندائهم في المهمات

هو من علامات محبتهم، ومن أنكر ذلك، وأبى ما هنالك، فهو من المبغضين للصالحين، والمنكرين لكرامات الأولياء والصديقين، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، فإن من أنكر تلك البدع والضلالات هم المحبون لهم، والمحافظون على هديهم وطريقتهم3.

ولقد قام علماء الدعوة وأنصارها بالرد والدحض لهذا الغلو، وسنورد بعضا من أقوالهم.

فيقول صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة:

(هذا وأنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفا في حياتهم، وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات) ،

1 انظر: تفاصيل ذلك في كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لابن تيمية.

2 "دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ" ص52، 53.

3 "غاية الأماني في الرد على النبهاني" 1/37.

ص: 152

وقالوا: منهم أبدال ونقباء وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا فيهما الأجور. قال (الحلبي) وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق ومضادة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة.

إلى أن قال: فأما قولهم إن للأولياء تصرفا في حياتهم وبعد الممات، فيرده قول الله تعالى:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 1 {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 2 {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 3 فهو سبحانه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه. والكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا وإحياء، وإماتة، وخلقا.

إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات، فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 4 وفي الحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث "56 الحديث، فهذا يدل على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة أو نقصان، فليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره بحركة، وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة؛ لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياء لا قصد لهم فيه ولا قدرة

إلخ) 7.

ويدحض الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن غلو داود بن جرجيس في الأولياء حيث زعم داود (أن أرواح الصالحين تدعى وتدبر، واستدل بقوله تعالى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّه} 8 وأن المفسرين - ومنهم البغوي، قالوا: رأى يعقوب عاضا على أنملته يقول إياك وإياها، فلم يفعل، فكان يوسف في مصر، ويعقوب في الشام، فهذا نوع من الكرامة وهي سبب، والقدرة لله) 9 ا. هـ كلام داود. فقال الشيخ عبد اللطيف في "دلائل الرسوخ" ردا عليه: (يريد العراقي أن مثل هذا يدل على جواز دعاء الصالحين، وندائهم بالحوائج

1 سورة النمل آية: 60.

2 سورة الأعراف آية: 54.

3 سورة البقرة آية: 107.

4 سورة الزمر آية: 30.

5 سنن الترمذي: كتاب الأحكام (1376) .

6 رواه مسلم.

7 نقلا عن كتاب "الانتصار" لأبي بطين، ص43-45 باختصار.

8 سورة يوسف آية: 24.

9 انظر "دلائل الرسوخ" ص 48، 49.

ص: 153

في الغيبة، وبعد الممات؛ لأن هذا كرامة، والكرامة يدعى صاحبها وينادى..

والجواب أن يقال: عبادة الله وحده لا شريك له وإفراده بالدعاء والطلب فيما لا يقدر عليه إلا هو، دلت على وجوبها الكتب السماوية، واتفقت عليها الدعوة الرسالية، وهي أصل الدين وقاعدته لا يعتريها نسخ ولا تخصيص.

وهو سبحانه المختص بالخلق والرزق اللذين هما أصل المخلوقات وقوامها، فكيف يعارض هذا الأصل بمثل هذه الأوهام الضالة.

هذا لو سلم أن الكرامات سبب، وأن هذا المثال فيه إثبات الكرامة، فكيف والأمر بخلاف ذلك بإجماع أهل العلم، والمقدمتان كاذبتان؛ لأن الكرامة فعل الله تعالى لا فعل للولي فيها، ولا قدرة له عليها ولا تأثير.

كما أن أكثر المفسرين على غير هذا، فمنهم من قال إن هم يوسف من جنس الخطرات، والواردات التي لا تستقر، وليست بعزم فتركها..) 1.

ويذكر الحازمي شيئا من هذا الغلو والابتداع عند هؤلاء الخصوم، ويجعلونه ضمن معنى الكرامة:

(وليس معنى كرامة الولي أن يبنى قبره، ويتصل بالمسجد، ويعتنى به أكثر من المسجد، ويبخر وينقش جداره، وتعلق فيه الألواح المنقوشة والقناديل

فهذه الأمور لا تسمى كرامة ولا يكرم الله عبدا بمحرم، وهذه محرمات وإضاعة مال، وتقرب إلى الله باقتراف كبائر

) 2.

ويورد عبد الظاهر أبو السمح صورة من صور ضلال من غلى في القبور، فيقول في "الرسالة المكية".

(ومن خبل عباد القبور، إنك إذا ذكرت الله وحده لهم وقلت: ادعوه وحده، ولا تلتفتوا إلى سواه، اشمأزت قلوبهم، وغضبوا غضبا شديدا، وعدوا ذلك تنقصا لأوليائهم الذين لم تثبت ولايتهم ولا بنصف دليل، ولا شبه خبر صحيح، وقالوا: ينكر الكرامات، في حين أنهم بدعاء غير الله ينتقصون ربهم، وبالتفاتهم عنه سبحانه يقعون في عار كبير، وظلم عظيم لو فطنوا)3.

1 "دلائل الرسوخ" ص 49 -53 باختصار.

2 "إيقاظ الوسنان" ق17.

3 "الرسالة المكية" ص25.

ص: 154

ويقول في موضع آخر: (فلو فرضنا أن عدم سؤال الأولياء يستلزم عدم كرامتهم، وهو في الحقيقة لا يستلزم، فإن عدم سؤال الله يستلزم ظن السوء به جل وعلا حقيقة لا فرضا..)1.

وإذا نظرنا إلى كتب هؤلاء الخصوم، وما تضمنته من الغلو في الأولياء وصرف بعض أنواع العبادة التي يجب صرفها لله وحده لهم تحت ستار محبة الأولياء والإيمان بكرامتهم، فإنا نجد فيها من الطامات والدواهي ما لا يعد، ولا يحصى

ونذكر أمثلة معدودة من غلوهم في الأولياء من أحد هذه الكتب، وهو كتاب "مصباح الآنام" لعلوي بن أحمد الحداد، يقول الحداد:

(قال السيد الجليل محمد بن زين بن سميط في كتابه "غاية القصد والمراد من مناقب السيد الحبيب القطب عبد الله الحداد". في الباب الرابع في ذكر الحكايات والوقائع من كراماته. حيث ذكر أن أحدهم قال: لم تأت لي زيارة النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، وأنا بمكة، فرأيت النبي في المنام، فقال لي: يا عبد الله لم لا تزورنا أما علمت أن من زار السيد عبد الله الحداد تقضى له سبعون حجة، فما بالك بزيارتنا.

وذكر أن رجلا من أهل الخطوة وصل من بلد المغرب في سبعة أيام إلى تريم لزيارة السيد عبد الله الحداد، وأمر شيخه بالمغرب لما استشاره للحج فقال له: اخرج لزيارة القطب عبد الله الحداد بالمشرق خير لك من كذا وكذا حجة، قال: فخرجت لزيارة سيد عبد الله) 2.

(وقال السكران با علوي: في مقبرة تريم ألوف من الأولياء المتصوفين بعد موتهم كحياتهم.

ويقول السيد يوسف بن عابد الفاسي إن بعض أجداده كثر في الاعتقاد فيه قبائل المغرب، فلما دفنه أولاده من حيث لا تعلم للناس، صار كل يطلب دفنه عنده لاعتقاد كل فيه منهم، ففعل كل منهم قبرا أو قبة، وادعى كل أنه عنده، فاجتمعوا على التبيين والتحقيق، ومن ظهر عنده يسلمون له ذلك، فبحثوا في كل المشاهد، فوجدوه في كلها، وذلك بمحضر عظيم، وخلائق لا يحصى لهم عدد) 3.

يظهر من هذه الأمثلة المحدودة ما كان عليه خصوم الدعوة السلفية من الغلو

1 "الرسالة المكية" ص39.

2 "مصباح الآنام" ص46.

3 "مصباح الآنام" ص51.

ص: 155

الشديد في الصالحين، والاعتقاد الفاسد حين زعموا أن زيارة أضرحة بعض الأولياء أفضل من حج بيت الله الحرام أضعافا مضاعفة، وأما ما أورده الحداد من قصة ذلك الولي الذي وجد جسده بعد موته في عدة مشاهد وقباب، فهذه من كيد الشيطان لهم وتلبيسه عليهم، فلا عجب أن يتمثل بعض الشياطين على هيئة ذلك الولي الميت، فيظن عباد القبور أن هذه كرامة لذلك الولي -بعد موته- وتصرفا له بعد موته، حين وجدوا جثته في عدة قباب وقبور، فيعتقدون فيه ويشركونه في العبادة، وعندئذ يتحقق مراد الشيطان1.

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَاّ شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} 2.

1 انظر: ما كتبه ابن تيمية حول هذه المسألة، "الفتاوى" 1/168، 360.

2 سورة النساء آيات: 116- 119.

ص: 156