المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرحلة من الأندلس إلى بجايةوولاية الحجابة بها على الاستبداد - رحلة ابن خلدون

[ابن خلدون]

فهرس الكتاب

- ‌التَّعريف بابن خَلدونورحلته غربا وشرقا

- ‌نسبه

- ‌سلفه بالأندلس

- ‌سلفه بأفريقية

- ‌نشأته ومشيخته وحاله

- ‌ولاية العلامة بتونس

- ‌ثم الرحلة بعدها إلى المغرب

- ‌والكتابة عن السلطان أبي عنان

- ‌حدوث النكبة من السلطان أبي عنان

- ‌الكتابة عن السلطان أبي سالم

- ‌في السر والإنشاء

- ‌الرحلة إلى الأندلس

- ‌الرحلة من الأندلس إلى بجايةوولاية الحجابة بها على الاستبداد

- ‌مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان

- ‌مشايعة السلطان عبد العزيزصاحب المغرب على بني عبد الواد

- ‌فصلٌ

- ‌العودة إلى المغرب الأقصى

- ‌الإجازة ثانية إلى الأندلسثم إلى تلمسان واللحاق بأحياء العربوالمقامة عند أولاد عريف

- ‌الفيئة إلى السلطان أبي العباسبتونس والمقام بها

- ‌الرحلة إلى المشرقوولاية القضاء بمصر

- ‌السفر لقضاء الحج

- ‌ولاية الدروس والخوانق

- ‌ولاية خانقاه بيبرس، والعزل منها

- ‌ فتنة الناصري

- ‌السعاية في المهاداة والاتحافبين ملوك المغرب والملك الظاهر

- ‌ولاية القضاء الثانية بمصر

- ‌سفر السلطان إلى الشاملمدافعة الططر عن بلاده

- ‌لقاء الأمير تمرسلطان المغل والططر

- ‌الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر

- ‌ولاية القضاء الثالثة والرابعة والخامسة بمصر

الفصل: ‌الرحلة من الأندلس إلى بجايةوولاية الحجابة بها على الاستبداد

والأوطان. وبعد أن لم يذخر عنه كرامة رفيعة، ولم يحجب عنه وجه صنيعة، فولاه القيادة والسفارة، وأحله جليساً معتماً بالإشارة، وألبسه من الحظوة والتقريب أبهى الشارة، وجعل محله من حضرته مقصوداً بالمثل معنياً بالإشارة، ثم أصحبه تشييعاً يشهد بالضنانة بفراقه، ويجمع له بر الوجهة من جميع آفاقه، ويجعله بيده رتيمة خنصر، ووثيقة سامع أو مبصر، فمهما لوى أخدعه إلى هذه البلاد بعد قضاء وطره، وتمليه من نهمة سفره، أو نزع به حسن العهد وحنين الود، فصدر العناية به مشروح، وباب الرضا والقبول مفتوح، وما عهده من الحظوة والبر ممنوح. فما كان القصد في مثله من أمجاد الأولياء ليتحول، ولا الاعتقاد الكريم ليتبدل، ولا الأخير من الأحوال لينسخ الأول. على هذا فليطو ضميره، وليرد متى شاء نميره، ومن وقف عليه من القواد والأشياخ والخدام، براً وبحراً، على اختلاف الخطط والرتب، وتباين الأحوال والنسب، أن يعرفوا حق هذا الاعتقاد، في كل ما يحتاج إليه من تشييع ونزول، وإعانة وقبول، واعتناء موصول، إلى أن يكمل الغرض، ويؤدى من امتثال هذا الأمر الواجب المفترض، بحول الله وقوته.

وكتب في التاسع عشر من جمادى الأولى عام ستة وستين وسبع مائة.

وبعد التاريخ العلامة بخط السلطان، ونصها: صح هذا.

‌الرحلة من الأندلس إلى بجاية

وولاية الحجابة بها على الاستبداد

كانت بجاية ثغراً لإفريقية في دولة بني أبي حفص من الموحدين. ولما صار أمرهم للسلطان أي بكر بن يحيى منهم، واستقل بملك إفريقية، ولى في ثغر بجاية

ابنه الأمير أبا زكرياء، وفي ثغر قسنطينة ابنه الأمير عبد الله. وكان بنو عبد الواد ملوك تلمسان والمغرب الأوسط، ينازعونه في أعماله، ويُجَمِّرون العساكر على بجاية، ويجلبون على قسنطينة، إلى أن تمسك السلطان أبو بكر بذمة من السلطان أبي

ص: 92

الحسن، ملك المغرب الأقصى من بني مرين، وله الشفوف على سائر ملوكهم. وزحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان، فأخذ بمخنقها سنتين أو أزيد، وملكها عنوة، وقتل سلطانها أبا تاشفين، وذلك سنة سبع وثلاثين. وخف ما كان على الموحدين من إصر بني عبد الواد، واستقامت دولتهم. ثم هلك أبو عبد الله محمد ابن السلطان أبي يحيى بقسنطينة سنة أربعين، وخلف سبعة من الولد، كبيرهم أبو زيد عبد الرحمن، ثم أبو العباس أحمد، فولى الأمير أبا زيد مكان أبيه، في كفالة نبيل مولاهم. ثم توفي الأمير أبو زكرياء ببجاية سنة ست وأربعين، وخلف ثلاثة من الولد، كبيرهم أبو عبد الله محمد، وبعث السلطان أبو بكر ابنه الأمير أبا حفص عليها، فمال أهل بجاية إلى الأمير أبي عبد الله بن أبي زكرياء، وانحرفوا عن الأمير عمر وأخرجوه. وبادر السلطان فرقع هذا الخرق، بولاية أبي عبد الله عليهم كما طلبوه. ثم توفي السلطان أبو بكر منتصف سبع وأربعين، وزحف أبو الحسن إلى إفريقية فملكها، ونقل الأمراء من بجاية وقسنطينة إلى المغرب. وأقطع لهم هنالك، إلى أن كانت حادثة القيروان، وخلع السلطان أبو عنان أباه. وارتحل من تلمسان، إلى فاس، فنقل معه هؤلاء الأمراء، أهل بجاية وقسنطينة، وخلطهم بنفسه، وبالغ في تكرمتهم. ثم صرفهم إلى ثغورهم: الأمير أبا عبد الله أولاً، وإخوته من تلمسان، وأبا زيد وإخوته من فاس، ليستبدوا بثغورهم، ويخذلوا الناس عن السلطان أبي الحسن، فوصلوا إلى بلادهم، وملكوها بعد أن كان الفضل ابن السلطان أبي بكر قد استولى عليها من يد بني مرين، فانتزعوها منه. واستقر أبو عبد الله ببجاية، حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن بجبال المصامدة،

وزحف أبو عنان إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين، فهزم ملوكها من بني عبد الواد، وأبادهم، ونزل المدية، وأطل على بجاية. وبادر الأمير أبو عبد الله للقائه، وشكا إليه ما يلقاه من زَبُون الجند والعرب، وقلة الجباية. وخرج له عن ثغر بجاية فملكها، وأنزل عماله بها. ونقل الأمير أبا عبد الله معه إلى المغرب، فلم يزل عنده في حفاية وكرامة. ولما قدمت على السلطان أبي عنان آخر خمس وخمسين واستخلصني، نبضت عروق السوابق بين سلفي وسلف الأمير أبي عبد الله، واستدعاني للصحابة فأسرعت، وكان السلطان أبو عنان شديد الغيرة من مثل ذلك. ثم

ص: 93

كثر المنافسون، ورفعوا إلى السلطان، وقد طرقه مرض أرجف له الناس، فرفعوا له أن الأمير أبا عبد الله اعتزم على الفرار إلى بجاية، وأني عاقدته على ذلك، على أن يوليني حجابته، فانبعث لها السلطان، وسطا بنا، واعتقلني نحواً من سنتين إلى أن هلك. وجاء السلطان أبو سالم، واستولى على المغرب، ووليت كتابة سره. ثم نهض إلى تلمسان، وملكها من يد بني عبد الواد، وأخرج منها أبا حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، ثم اعتزم على الرجوع إلى فاس، وولى على تلمسان أبا زيان محمد بن أبي سعيد عثمان ابن السلطان أبي تاشفين، وأمده بالأموال والعساكر من أهل وطنه، ليدافع أبا حمو عن تلمسان، ويكون خالصة له. وكان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية معه كما ذكرناه، والأمير أبو العباس صاحب قسنطينة، بعد أن كان بنو مرين حاصروا أخاه أبا زيد بقسنطينة أعواماً تباعاً. ثم خرج لبعض مذاهبه إلى بونة، وترك أخاه أبا العباس بها، فخلعه، واستبد بالأمر دونه. وخرج إلى العساكر المجمرة عليها من بني مرين، فهزمهم، وأثخن فيهم. ونهض السلطان إليه من فاس، سنة ثمان وخمسين، فتبرأ منه أهل البلد وأسلموه، فبعثه إلى سبتة في البحر، واعتقله بها، حتى إذا ملك السلطان أبو سالم سبتة عند إجازته من الأندلس سنة ستين، أطلقه من الاعتقال،

وصحبه إلى دار ملكه، ووعده برد بلده عليه.

فلما ولى أبا زيان على تلمسان، أشار عليه خاصته ونصحاؤه، بأن يبعث هؤلاء الموحدين إلى ثغورهم: فبعث أبا عبد الله إلى بجاية، وقد كان ملكها عمه أبو إسحق صاحب تونس، ومكفول بن تافراكين من يد بني مرين، وبعث أبا العباس إلى قسنطينة، وبها زعيم من زعماء بني مرين. وكتب إليه السلطان أبو سالم أن يفرج له عنها، فملكها لوقته. وسار الأمير أبو عبد الله إلى بجاية، فطال إجلابه عليها، ومعاودته حصارها. ولجَّ أهلها في الامتناع منه مع السلطان أبي إسحق. وقد كان لي المقام المحمود في بعث هؤلاء الأمراء إلى بلادهم. وتوليت كِبْر ذلك مع خاصة السلطان أبي سالم وكبار أهل مجلسه، حتى تم القصد من ذلك. وكتب لي الأمير أبو عبد الله بخطه عهداً بولاية الحجابة متى حصل على سلطانه، ومعنى الحجابة - في

ص: 94

دولنا بالمغرب - الاستقلال بالدولة، والوساطة بين السلطان وبين أهل دولته، لا يشاركه في ذلك أحد. وكان لي أخ اسمه يحيى أصغر مني، فبعثته مع الأمير أبي عبد الله حافظاً للرسم، ورجعت مع السلطان إلى فاس. ثم كان ما قدمته من انصرافي إلى الأندلس والمقام بها، إلى أن تنكر الوزير ابن الخطيب، وأظلم الجو بيني وبينه.

وبينا نحن في ذلك، وصل الخبر باستيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية من يد عمه، في رمضان (سنة) خمس وستين، وكتب الأمير أبو عبد الله يستقدمني، فاعتزمت على ذلك، ونكر السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ذلك مني، لا يظنه لسوى ذلك، إذ لم يطلع على ما كان بيني وبين الوزير ابن الخطيب، فأمضيت العزم، ووقع منه الإسعاف، والبر والألطاف. وركبت البحر من ساحل المرية، منتصف ست وستين. ونزلت بجاية لخامسة من الإقلاع، فاحتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي، وأركب أهل دولته للقائي. وتهافت أهل البلد عليَّ من كل أوب

يمسحون أعطافي، ويقبلون يدي، وكان يوماً مشهوداً.

ثم وصلت إلى السلطان فحيا وفدَّى، وخلع وحَمَل؛ وأصبحت من الغد، وقد أمر السلطان أهل الدولة بمباكرة بابي، واستقلت بحمل ملكه، واستفرغت جهدي في سياسة أموره وتدبير سلطانه، وقدمني للخطابة بجامع القصبة، وأنا مع ذلك، عاكف بعد انصرافي من تدبير الملك غدوة إلى تدريس العلم أثناء النهار بجامع القصبة لا أنفك عن ذلك.

ووجدت بينه وبين ابن عمه السلطان أبي العباس صاحب قسنطينة فتنة، أحدثتها المشاحة في حدود الأعمال من الرعايا والعمال، وشب نار هذه الفتنة عرب أوطانهم من الدواودة من رياح، تنفيقاً لسوق الزبون يمترون به أموالهم. وكانوا في كل سنة يجمع بعضهم لبعض، فالتقوا سنة ست وستين بفرجيوة، وانقسم العرب عليهما. وكان يعقوب بن علي مع السلطان أبي العباس، فانهزم السلطان أبو عبد الله، ورجع إلى

ص: 95

بجاية مفلولاً، بعد أن كنت جمعت له أموالاً كثيرة أنفق جميعها في العرب. ولما رجع أعوزته النفقة، فخرجت بنفسي إلى قبائل البربر بجبال بجاية المتمنعين من المغارم منذ سنين، فدخلت بلادهم واستبحت حماهم، وأخذت رهنهم على الطاعة، حتى استوفيت منهم الجباية، وكان لنا في ذلك مدد وإعانة؛ ثم بعث صاحب تلمسان إلى السلطان (أبي عبد الله) يطلب منه الصهر، فأسعفه بذلك ليصل يده به على ابن عمه، وزوجه ابنته، ثم نهض السلطان أبو العباس سنة سبع وستين، وجاس أوطان بجاية، وكاتب أهل البلد، وكانوا وجلين من السلطان أبي عبد الله، بما كان يرهف الحد لهم، ويشد وطأته عليهم؛ فأجابوه إلى الانحراف عنه، وخرج السلطان أبو عبد الله يروم مدافعته، ونزل جبل ليزو معتصماً به؛ فبيته السلطان أبو العباس في عساكره وجموع الأعراب من أولاد محمد بن رياح بمكانه ذلك، بإغراء ابن صخر وقبائل سدويكش. وكبسه في

مخيمه وركض هارباً، فلحقه وقتله، وسار إلى البلد بمواعده أهلها. وجاءني الخبر بذلك، وأنا مقيم بقصبة السلطان وقصوره، وطلب مني جماعة من أهل البلد القيام بالأمر، والبيعة لبعض الصبيان من أبناء السلطان، فتفاديت من ذلك، وخرجت إلى السلطان أبي العباس، فأكرمني وحباني، وأمكنته من بلده، وأجرى أحوالي كلها على معهودها. وكثرت السعاية عنده في، والتحذير من مكاني. وشعرت بذلك، فطلبت الإذن في الانصراف بعهد كان منه في ذلك، فأذن لي بعد لأْي؛ وخرجت إلى العرب، ونزلت على يعقوب بن علي. ثم بدا للسلطان في أمري، وقبض على أخي، واعتقله ببونة؛ وكبس بيوتنا يظن بها ذخيرة وأموالاً، فأخفق ظنه. ثم ارتحلت من أحياء يعقوب بن علي، وقصدت بسكرة، لصحابة بيني وبين شيخها أحمد بن يوسف بن مزني، وبين أبيه، وساهم في الحادث بماله وتجاهه.

ص: 96