المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرحلة إلى المشرقوولاية القضاء بمصر - رحلة ابن خلدون

[ابن خلدون]

فهرس الكتاب

- ‌التَّعريف بابن خَلدونورحلته غربا وشرقا

- ‌نسبه

- ‌سلفه بالأندلس

- ‌سلفه بأفريقية

- ‌نشأته ومشيخته وحاله

- ‌ولاية العلامة بتونس

- ‌ثم الرحلة بعدها إلى المغرب

- ‌والكتابة عن السلطان أبي عنان

- ‌حدوث النكبة من السلطان أبي عنان

- ‌الكتابة عن السلطان أبي سالم

- ‌في السر والإنشاء

- ‌الرحلة إلى الأندلس

- ‌الرحلة من الأندلس إلى بجايةوولاية الحجابة بها على الاستبداد

- ‌مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان

- ‌مشايعة السلطان عبد العزيزصاحب المغرب على بني عبد الواد

- ‌فصلٌ

- ‌العودة إلى المغرب الأقصى

- ‌الإجازة ثانية إلى الأندلسثم إلى تلمسان واللحاق بأحياء العربوالمقامة عند أولاد عريف

- ‌الفيئة إلى السلطان أبي العباسبتونس والمقام بها

- ‌الرحلة إلى المشرقوولاية القضاء بمصر

- ‌السفر لقضاء الحج

- ‌ولاية الدروس والخوانق

- ‌ولاية خانقاه بيبرس، والعزل منها

- ‌ فتنة الناصري

- ‌السعاية في المهاداة والاتحافبين ملوك المغرب والملك الظاهر

- ‌ولاية القضاء الثانية بمصر

- ‌سفر السلطان إلى الشاملمدافعة الططر عن بلاده

- ‌لقاء الأمير تمرسلطان المغل والططر

- ‌الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر

- ‌ولاية القضاء الثالثة والرابعة والخامسة بمصر

الفصل: ‌الرحلة إلى المشرقوولاية القضاء بمصر

ولما كان شهر شعبان من سنة أربع وثمانين، أجمع السلطان الحركة إلى الزاب، بما كان صاحبه ابن مزنى قد آوى ابن يملول إليه، ومهد له في جواره، فخشيت

أن يعود في شأني ما كان في السفرة قبلها. وكانت بالمرسى سفينة لتجار الإسكندرية قد شحنها التجار بأمتعهم وعروضهم، وهي مقلعة إلى الإسكندرية، فتطارحت على السلطان، وتوسلت إليه في تخلية سبيلي لقضاء فرضي، فأذن لي في ذلك، وخرجت إلى المرسى، والناس متسايلون على أثري من أعيان الدولة والبلد وطلبة العلم. فودعتهم، وركبت البحر منتصف شعبان من السنة، وقوضت عنهم بحيث كانت الخيرة من الله سبحانه، وتفرغت لتجديد ما كان عندي من آثار العلم، والله ولي الأمور سبحانه.

‌الرحلة إلى المشرق

وولاية القضاء بمصر

ولما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين، أقمنا في البحر نحواً من أربعين ليلة، ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر. ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر على التخت، واقتعاد كرسي الملك دون أهله بني قلاوون، وكنا على ترقب ذلك، لما كان يؤثر بقاصية البلاد من سموه لذلك، وتمهيده له. وأقمت بالإسكندرية شهراً لتهيئة أسباب الحج ولم يقدر عامئذ، فاننقلت إلى القاهرة أول في القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الحوانك والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، قد مثل بشاطئ

ص: 199

بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء، يسقيهم النهل والعلل سيحه ويجني إليهم الثمرات والخيرات ثجه، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. وما زلنا نحدث عن هذا البلد، وبعد مداه في العمران، واتساع الأحوال، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا، حاجهم وتاجرهم، بالحديث عنه. سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس، وكبير العلماء بالمغرب، أبا عبد الله المقري، (مقدمه من الحج سنة أربعين)، فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال: من لم يرها لم يعرف عز الإسلام.

وسألت شيخنا أبا العباس بن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال: كأنما انطلق أهله من الحساب، يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب.

وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس، الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان، منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر، وتأدية رسالته النبوية إلى الضريح الكريم، سنة ست وخمسين وسأله عن القاهرة فقال:

أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار: إن الذي يتخيله الإنسان، فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها، لاتساع الخيال عن كل محسوس، إلا القاهرة، فإنها أوسع

ص: 200

من كل ما يتخيل فيها. فأعجب السلطان والحاضرون بذلك.

ولما دخلتها، أقمت أياماً، وانثال علي طلبة العلم بها، يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يوسعوني عذراً، فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها.

ثم كان الاتصال بالسلطان، فأبر اللقاء، وأنس الغربة، ووفر الجراية من صدقاته، شأنه مع أهل العلم، وانتظرت لحاق أهلي وولدي من تونس، وقد صدهم السلطان هنالك عن السفر، اغتباطاً بعودي إليه، فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه في تخلية سبيلهم، فخاطبه في ذلك بما نصه.

بسم الله الرحمن الرحيم.

عبد الله ووليه أخوه برقوق. . . . . .

السلطان الأعظم، المالك الملك الظاهر، السيد الأجل، العالم العادل، المؤيد المجاهد، المرابط المثاغر، المظفر، الشاهنشاه، سيف الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، اسكندر الزمان، مولي الإحسان، مملك أصحاب التخوت والأسرة والتيجان، واهب الأقاليم والأقطار، مبيد الطغاة والبغاة والكفار، ملك البحرين، مسلك سبيل القبلتين، خادم الحرمين الشريفين، ظل الله في

ص: 201

أرضه، القائم بسنته وفرضه، سلطان البسيطة مؤمن الأرض المحيطة، سيد الملوك والسلاطين، قسيم أمير المؤمنين، أبو سعيد برقوق ابن الشهيد شرف الدنيا والدين أبي المعالي أنس. خلد الله سلطانه، ونصر جيوشه وأعوانه يخص الحضرة السنية السرية، المظفرة الميمونة، المنصورة المصونة، حضرة السلطان العالم، العادل المؤيد، المجاهد الأوحد، أبي العباس، ذخر الإسلام والمسلمين، عدة الدنيا والدين،

قدوة الموحدين، ناصر الغزاة والمجاهدين، سيف جماعة الشاكرين، صلاح الدول. لا زالت مملكته بقوته عامرة، ومهابته لنفوس الجبابرة قاهرة، ومعدلته تبوئه غرفات العز في الدنيا والآخرة. سلام صفا ورده وضفا برده، وثناء فاح نده، ولاح سعده، ووداد زاد وجده وجاد جده.

أما بعد حمد الله الذي جعل القلوب أجناداً مجندة، وأسباب الوداد على البعاد مؤكدة، ووسائل المحبة بين الملوك في كل يوم مجددة، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله، الذي نصره لله بالرعب مسيرة شهر وأيده وأعلى به منار الدين وشيده، وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا طريقه وسؤدده، صلاة دائمة مؤبده. فإننا نوضح لعلمه الكريم، أن الله - وله الحمد - جعل جبلتنا الشريفة مجبولة على تعظيم العلم الشريف وأهله، ورفعة شأنه، ونشر أعلامه، ومحبة أهله وخدامه، وتيسير مقاصدهم وتحقيق أملهم، والإحسان إليهم، والتقرب إلى الله بذلك في السر والعلانية، فإن العلماء رضي الله عنهم ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء، وهداة خلق الله في أرضه، لا سيما من رزقه الله الدراية فيما علمه من ذلك، وهداه للدخول إليه من أحسن المسالك، مثل كل سطرنا هذه المكاتبة بسببه: المجلس السامي، الشيخي،

ص: 202

الأجلي، الكبيري، العالمي، الفاضلي، الأثيلي، الأثيري، الإمامي، العلامي القدوة، المقتدي، الفريدي، المحققي، الأصيلي، الأوحدي، الماجدي، الولوي، جمال الإسلام والمسلمين جمال العلماء في العالمين، أوحد الفضلاء، قدوة البلغاء، علامة الأمة، إمام الأئمة، مفيد الطالبين، خالصة الملوك والسلاطين عبد الرحمن بن خلدون المالكي. أدام الله نعمته، فإنه أولى بالإكرام، وأحرى، وأحق بالرعاية وأجل قدراً، وقد هاجر إلى ممالكنا الشريفة، وآثر الإقامة عندنا بالديار المصرية، لا رعبة عن بلاده، بل تحبباً إلينا، وتقرباً إلى خواطرنا، بالجواهر النفيسة، من ذاته الحسنة، وصفاته الجميلة، ووجدنا منه فوق ما في

النفوس، مما يجل عن الوصف ويربي على التعداد. يا له من غريب وصف ودار، قد أتى عنكم بكل غريب، وما برح - من حين ورد علينا - يبالغ في شكر الحضرة العلية ومدح صفاتها الجميلة، إلى أن استمال خواصرنا الشريفة إلى حبها، وآثرنا المكاتبة إليها.

والعين تعشق قبل الأذن أحياناً

وذكر لنا في أثناء ذلك، أن أهله وأولاده، في مملكة تونس تحت نظر الحضرة العلية، وقصد إحضارهم إليه ليقيموا عنده، ويجتمع شمله بهم مدة إقامته عندنا، فاقتضت آراؤنا الشريفة، الكتابة إلى الحضرة العلية لهذين السببين الجميلين، وقد آثرنا إعلام الحضرة العلية بذلك، ليكون على خاطره الكريم، والقصد من محبته، يقدم أمره العالي بطلب أهل الشيخ ولي الدين المشار إليه، وإزاحة أعذارهم، وإزالة عوائقهم، والوصية بهم، وتجهيزهم إليه مكرمين، محترمين، على أجمل الوجوه صحبة قاصده الشيخ الصالح، العارف السالك الأوحد، سعد الدين مسعود المكناسي، الواصل بهذه المكاتبة أعزه الله، ويكون تجهيزهم على مركب من مراكب الحضرة العلية، مع توصية من بها من البحرية بمضاعفة إكرام المشار إليهم ورعايتهم، والتأكيد عليهم في هذا

ص: 203

المعنى، وإذا وصل من بها من البحرية، كان لهم الأمن والإحسان فوق ما في أنفسهم، ويربي على أملهم، بحيث يهتم بذلك على ما عهد من محبته، وجميل اعتماده، مع ما يتحف به من مراسلاته، ومقاصده ومكاتباته. والله تعالى يحرسة بملائكته وآياته، بمنه ويمنه إن شاء الله.

كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ست وثمانين وسبعمائة حسب المرسوم الشريف. الحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ثم هلك بعض المدرسين بمدرسة القمحية بمصر، من وقف صلاح الدين بن أيوب، فولاني تدريسها مكانه، وبينا أنا في ذلك، إذ سخط السلطان قاضي المالكية

في دولته، لبعض النزعات فعزله، وهو رابع أربعة بعدد المذاهب، يدعى كل منهم قاضي القضاة، تمييزاً عن الحكام بالنيابة عنهم، لاتساع خطة هذا المعمور، وكثرة عوالمه، وما يرتفع من الخصومات في جوانبه، وكبير جماعتهم قاضي الشافعية، لعموم ولايته في الأعمال شرقاً وغرباً، وبالصعيد والفيوم، واستقلاله بالنظر في أموال الأيتام، والوصايا، ولقد يقال بأن مباشرة السلطان قديماً بالولاية إنما كانت تكون له.

ص: 204

فلما عزل هذا القاضي المالكي سنة ست وثمانين، اختصني السلطان بهذه الولاية، تأهيلاً لمكاني، وتنويهاً بذكري، وشافهته بالتفادي من ذلك، فأبى إلا إمضاءه، وخلع علي بإيوانه، وبعث من كبار الخاصة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقصت بما دفع إلي من ذلك المقام المحمود، ووفيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الحق لومة، ولا يزعني عنه جاه ولا سطوة، مسوياً في ذلك بين الخصمين، آخذاً بحق الضعيف من الحكمين، معرضاً عن الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحاً إلى التثبت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمل الشهادات، فقد كان البر منهم مختلطاً بالفاجر، والطيب ملتبساً بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم متجاوزون عما يظهرون عليه من هناتهم، لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة، فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمين للقرآن، وأئمة في الصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة، فيظنون بهم الخير، ويقسمون لهم الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاة، والتوسل لهم، فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم، ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجع العقاب، ومؤلم النكال، وتأدى إلي العلم بالجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمل الشهادة، وكان منهم كتاب لدواوين القضاة، والتوقيع في مجالسهم، قد دربوا على إملاء الدعاوى، وتسجيل

الحكومات، واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود، بإحكام كتابتها، وتوثيق شروطها، فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم، وتمويه على القضاة

ص: 205

بجاههم، يدرعون به مما يتوقعونه من عتبهم، لتعرضهم لذلك بفعلاتهم، وقد يسلط بعض منهم قلمه على العقود لمحكمة، فيوجد السبيل إلى حلها بوجة فقهي، أو كتابي، ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاه أو منحة، وخصوصاً في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر بكثرة عوالمه، فأصبحت خافية الشهرة، مجهولة الأعيان، عرضة للبطلان، باختلاف المذاهب المنصوبة للحكام بالبلد، فمن اختار فيها بيعاً أو تمليكاً شارطوه وأجابوه، مفتاتين فيه على الحكام الذين ضربوا دونه سد الحظر والمنع حماية عن التلاعب، وفشا في ذلك الضرر في الأوقاف، وطرق الغرر في العقود والأملاك.

فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم علي وأحقدهم، ثم التفت إلى الفتيا بالمذهب، وكان الحكام منهم على جانب من الخبرة، لكثرة معارضتهم، وتلقينهم الخصوم، وفتياهم بعد نفوذ الحكم، وإذا فيهم أصاغر، بيناهم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون، إذا بهم طفروا إلى مراتب الفتيا والتدريس، فاقتعدوها، وتناولوها بالجزاف، واحتازوها من غير مثرب ولا منتقد للأهلية ولا مرشح، إذ الكثرة فيهم بالغة، ومن كثرة الساكن مشتقة، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق، وعنانها مرسل، يتجاذب كل الخصوم منه رسنا، ويتناول من حافته شقاً، يرم به الفلج على خصمه، ويستظهر به لإرغامه، فيعطيه المفتي من ذلك ملء رضاه، وكفاء أمنيته، متتبعاً إياه في شعاب الخلاف، فتتعارض الفتاوى وتتناقض، ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم، والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذر، وأهلية المفتي أو شهرة الفتيا ليس تمييزها للعامي، فلا يكاد هذا المدد ينحسر، ولا الشغب ينقطع.

فصدعت في ذلك بالحق، وكبحت أعنة أهل الهوى والجهل، ورددتهم على أعقابهم. وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب، يشعوذون بمفترق من اصطلاحات

ص: 206

العلوم هنا وهناك، لا ينتمون إلى شيخ مشهور، ولا يعرف لهم كتاب في فن، قد اتخذوا الناس هزؤاً، وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض، ومأبنة للحرم، فأرغمهم ذلك مني، وملأهم حسداً وحقداً علي، وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة، يشترون بها الجاه ليجيروا به على الله، وربما اضطر أهل الحقوق إلى تحكيمهم، فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم يترخصون به للإصلاح، لا يزعهم الدين عن التعرض لأحكام الله بالجهل، فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيت أحكام الله فيمن أجاروه، فلم يغنوا عنه من الله شيئاً، وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطلة. وانطلقوا يراطنون السفهاء في النيل من عرضي، وسوء الأحدوثة عني بمختلق الإفك، وقول الزور، يبثونه في الناس، ويدسون إلى السلطان التظلم مني فلا يصغي إليهم، وأنا في ذلك محتسب عند الله ما فنيت به من هذا الأمر، ومعرض فيه عن الجاهلين، وماض على سبيل سواء من الصرامة، وقوة الشكيمة، وتحري المعدلة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها، وصلابة العود عن الجاه والأغراض متى غمزني لامسها، ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة، فنكروه علي، ودعوني إلى تبعهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر، ومراعاة الأعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، أو دفع الخصوم إذا تعذرت، بناء على أن الحاكم لا يتعين عليه الحكم مع وجود غيره، وهم يعملون أن قد تمالأوا عليه.

وليت شعري! ما عذرهم في الصور الظاهرة، إذا علموا خلافها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في ذلك: من قضيت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقضي له من النار.

فأبيت في ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقها، والوفاء لها ولمن قلدنيها، فأصبح الجميع علي ألبا، ولمن ينادي بالتأفف مني عوناً، وفي النكير علي أمة، وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير الحق، لاعتمادي على علمي في الجرح،

ص: 207

وهي قضية إجماع، وانطلقت الألسنة، وارتفع الصخب، وأرادني بعض على الحكم بغرضهم فوقفت، وأغروا بي الخصوم فتنادوا بالتظلم عند السلطان، وجمع القضاة وأهل الفتيا في مجلس حفل للنظر في ذلك، فخلصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز، وتبين أمرهم للسلطان، وأمضيت فيها حكم الله إرغاماً لهم، فغدوا على حرد قادرين، وعسوا لأولياء السلطان وعظماء الخاصة، يقبحون لهم إهمال جاههم، ورد شفاعتهم مموهين بأن الحامل على ذلك جهل المصطلح، وينفقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إلي، تبعث الحليم، وتغري الرشيد، يستثيرون حفائظهم علي، ويشربونهم البغضاء لي، والله مجازيهم ومسائلهم.

فكثر الشغب علي من كل جانب، وأظلم الجو بيني وبين أهل الدولة. ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفين، فأصابها قاصف من الريح فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود، فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب، فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته، خشية من نكير السلطان وسخطه، فوقفت بين الورد والصدر، وعلى صراط الرجاء واليأس، وعن قريب تداركني اللطف الرباني، وشملتني نعمة السلطان - أيده الله - في النظر بعين الرحمة، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها، ولا عرفت - كما زعموا - فصطلحها، فردها إلى صاحبها الأول، وأنشطني من عقالها،

ص: 208