المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان - رحلة ابن خلدون

[ابن خلدون]

فهرس الكتاب

- ‌التَّعريف بابن خَلدونورحلته غربا وشرقا

- ‌نسبه

- ‌سلفه بالأندلس

- ‌سلفه بأفريقية

- ‌نشأته ومشيخته وحاله

- ‌ولاية العلامة بتونس

- ‌ثم الرحلة بعدها إلى المغرب

- ‌والكتابة عن السلطان أبي عنان

- ‌حدوث النكبة من السلطان أبي عنان

- ‌الكتابة عن السلطان أبي سالم

- ‌في السر والإنشاء

- ‌الرحلة إلى الأندلس

- ‌الرحلة من الأندلس إلى بجايةوولاية الحجابة بها على الاستبداد

- ‌مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان

- ‌مشايعة السلطان عبد العزيزصاحب المغرب على بني عبد الواد

- ‌فصلٌ

- ‌العودة إلى المغرب الأقصى

- ‌الإجازة ثانية إلى الأندلسثم إلى تلمسان واللحاق بأحياء العربوالمقامة عند أولاد عريف

- ‌الفيئة إلى السلطان أبي العباسبتونس والمقام بها

- ‌الرحلة إلى المشرقوولاية القضاء بمصر

- ‌السفر لقضاء الحج

- ‌ولاية الدروس والخوانق

- ‌ولاية خانقاه بيبرس، والعزل منها

- ‌ فتنة الناصري

- ‌السعاية في المهاداة والاتحافبين ملوك المغرب والملك الظاهر

- ‌ولاية القضاء الثانية بمصر

- ‌سفر السلطان إلى الشاملمدافعة الططر عن بلاده

- ‌لقاء الأمير تمرسلطان المغل والططر

- ‌الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر

- ‌ولاية القضاء الثالثة والرابعة والخامسة بمصر

الفصل: ‌مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان

‌مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان

كان السلطان أبو حمو قد التحم ما بينه وبين السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية بالصهر في ابنته، وكانت عنده بتلمسان. فلما بلغه مقتل أبيها، واستيلاء السلطان أبي العباس ابن عمه صاحب قسنطينة على بجاية، أظهر الامتعاض لذلك. وكان أهل بجاية قد توجسوا الخيفة من سلطاتهم، بإرهاف حده، وشده سطوته، فانحرفوا عنه باطناً، وكاتبوا ابن عمه بقسنطينة كما ذكرناه.

ودسوا للسلطان أبي حمو بمثلها يرجون الخلاص من صاحبهم بأحدهما. فلما استولى السلطان أبو العباس، وقتل ابن عمه، رأوا أن جرحهم قد اندمل، وحاجتهم قد قضيت، فاعصَوصَبوا عليه؛ وأظهر السلطان أبو حمو الامتعاض للواقعة يسر منه حسواً في ارتغاء، ويجعله ذريعة للاستيلاء على بجاية، بما كان يرى نفسه كفؤها بعده وعديده، وما سلف من قومه في حصارها، فسار من تلمسان بحر الشوك والمدر، حتى خيم بالرشة من ساحتها، ومعه أحياء زغبة بجموعهم

وظعائنهم، من لدن تلمسان، إلى بلاد حصين، من بني عامرة وبني يعقوب، وسويد، والديالم والعطاف، وحصين.

وانحجر أبو العباس بالبلد في شرذمة من الجند، أعجله السلطان أبو حمو عن استيعاب الحشد، ودافع أهل البلد أحسن الدفاع. وبعث السلطان أبو العباس عن أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عم أبي حمو من قسنطينة، كان معتقلاً بها، وأمر مولاه وقائد عسكره بشيراً أن يخرج معه في العساكر، وساروا حتى نزلوا بني عبد الجبار قبالة معسكر أبي حمو، وكانت رجالات زغبة قد وجموا من السلطان، وأبلغهم النذير

ص: 97

أنه إن ملك بجاية اعتقلهم بها، فراسلوا أبا زيان، وركبوا إليه، واعتقدوا معه. وخرج رجل البلد بعض الأيام من أعلى الحصن، ودفعوا شرذمة كانت مجمرة إزاءهم، فاقتلعوا خباءهم. وأسهلوا من تلك العقبة إلى بسيط الرشة. وعاينهم العرب بأقصى مكانهم من المعسكر فأجفلوا، وتتابع الناس في الانجفال حتى أفردوا السلطان في مخيمه، فحمل رواحله وسار، وكضت الطرق بزحامهم، وتراكموا بعض على بعض، فهلك منهم عوالم، وأخذهم سكان الجبال من البربر بالنهب من كل ناحية، وقد غشيهم الليل، فتركوا أزودتهم ورحالهم. وخلص السلطان ومن خلص منهم بعد عصب الريق، وأصبحوا على منجاة. وقذفت بهم الطرق من كل ناحية إلى تلمسان، وكان السلطان أبو حمو قد بلغه خروجي من بجاية، وما أحدثه السلطان بعدي في أخي وأهلي ومخلفي، فكتب إلي يستقدمني قبل هذه الواقعة. وكانت الأمور قد اشتبهت، فتفاديت بالأعذار، وأقمت بأحياء يعقوب بن علي، ثم ارتحلت إلى بسكرة، فأقمت بها عند أميرها أحمد بن يوسف بن مزنى. فلما وصل السلطان أبو حمو إلى تلمسان، وقد جزع للواقعة، أخذ في استئلاف قبائل رياح، ليجلب بهم مع عساكره على أوطان بجاية، وخاطبني في ذلك لقرب عهده باستتباعهم، وملك زمامهم، ورأى أن يعول علي في ذلك،

واستدعاني لحجابته وعلامته، وكتب بخطه مدرجة في الكتاب نصها:

الحمد لله على ما أنعم، والشكر لله على ما وهب، ليعلم الفقيه المكرم أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، حفظه الله، على أنك تصل إلى مقامنا الكريم، لما اختصصناكم به من الرتبة المنيعة، والمنزلة الرفيعة، وهو قلم خلافتنا، والانتظام في سلك أوليائنا، أعلمناكم بذلك. وكتب بخط يده عبد الله، المتوكل على الله، موسى بن يوسف لطف الله به وخار له.

وبعده بخط الكاتب ما نصه: بتاريخ السابع عشر من رجب الفرد الذي من عام تسعة وستين وسبعمائة عرفنا الله خيره.

ونص الكتاب الذي هذه مدرجته، وهو بخط الكاتب: أكرمكم الله يا فقيه أبا زيد، ووالى رعايتكم. إنا قد ثبت عندنا، وصح لدينا ما انطويتم عليه من المحبة في مقامنا، والانقطاع إلى جنابنا، والتشيع قديماً وحديثاً لنا، مع ما نعلمه من محاسن

ص: 98

اشتملت عليها أوصافكم، ومعارف فقتم فيها نظراءكم، ورسوخ قدم في الفنون العلمية والآداب العربية.

وكانت خطة الحجابة ببابنا العلي - أسماه الله - أكبر درجات أمثالكم، وأرفع الخطط لنظرائكم، قرباً منا، واختصاصاً بمقامنا، واطلاعاً على خفايا أسرارنا. آثرناكم بها إيثاراً، وقدمناكم لها اصطفاء واختياراً، فاعملوا على الوصول إلى بابنا العلي أسماه الله، لما لكم فيه من التنويه، والقدر النبيه، حاجباً لعلي بابنا، ومستودعاً لأسرارنا، وصاحب الكريمة علامتنا، إلى ما يشاكل ذلك من الأنعام العميم، والخير الجسيم، والاعتناء والتكريم. لا يشارككم مشارك في ذلك ولا يزاحمكم أحد، وإن وجد من أمثالك فاعلموه، وعولوا عليه، والله تعالى يتولاكم، ويصل سراءكم، ويوالي احتفاءكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وتأدت إلي هذه الكتب السلطانية على يد سفير من وزرائه، جاء إلى أشياخ

الدواودة في هذا الغرض، فقصت له في ذلك أحسن مقام، وشايعته أحسن مشايعة، وحملتهم على إجابة داعي السلطان، والبدار إلى خدمته. وانحرف كبراؤهم عن خدمة السلطان أبي العباس إلى خدمته، والاعتمال في مذاهبه، واستقام غرضه من ذلك، وكان أخي يحيى قد خلص من اعتقاله ببونة، وقدم علي ببسكرة، فبعثته إلى السلطان أبي حمو كالنائب عني في الوظيفة، متفادياً عن تجشم أهوالها، بما كنت نزعت عن غواية الرتب. وطال علي إغفال العلم، فأعرضت عن الخوض في أحوال الملوك، وبعثت الهمة على المطالعة والتدريس، فوصل إليه الأخ، فاستكفى به في ذلك، ودفعه إليه.

ووصلني مع هذه الكتب السلطانية كتاب رسالة من الوزير أبي عبد الله بن الخطيب من غرناطة يتشوق إلي، وتأدى إلى تلمسان على يد سفراء السلطان ابن الأحمر، فبعث إلي به من هنالك ونصه:

بنفسي وما نفسي علي بهينة

فينزلني عنها المكاس بأثمان

حبيب نأى عيني وصم لأنتي

وراش سهام البين عمداً فأصماني

وقد كان هم الشيب - لا كان - كافياً

فقد أدَّني لما ترحل همان

ص: 99

شرعت له من دمع عيني موارداً

فكدر شربي بالفراق وأظماني

وأرعيته من حسن عهدي جميمه

فأجدب آمالي وأوحش أزماني

حلفت على ما عنده لي من رضى

قياساً بما عندي فأحنث أيماني

وإني على ما نالني منه من قلى

لأشتاق من لقياه نَُغْبَةَ ظمآن

سألت جنوني فيه تقريب عرشه

فقست بجن الشوق جن سليمان

إذا ما دعا داع من القوم باسمه

وثبت وما استثبت شيمة هيمان

وتالله ما أصغيت فيه لعاذل

تحاميته حتى ارعوى وتحاماني

ولا استشعرت نفسي برحمة عابد

تظلل يوماً مثله عبد رحمان

ولا شعرت من قبله بتشوق

تخلل منها بين روح وجثمان

أما الشوق فحدث عن البحر ولا حرج، وأما الصبر فاسأل به أية درج، بعد لأن تجاوز اللوى والمنعرج، لكن الشدة تعشق الفرج، والمؤمن ينشق من روح الله الأرج، وأنى بالصبر على إبر الدبر، لا. بل الضرب الهبر، ومطاولة اليوم والشهر، تحت حكم القهر، ومن للعين إن تسلو سلو المبصر، عن إنسانها المبصر، أو نذهل ذهول الزاهد، عن سرها الرائي والمشاهد، وفي الجسد بضعة يصلح إذا صلحت، فكيف حاله إن رحلت عنه وإن نزحت، وإذا كان الفراق، هو الحمام الأول، فعلام المعول، أعيت مراوضة الفراق، عمل الراق، وكادت لوعة الاشتياق، إن تفضي إلى السياق.

تركتموني بعد تشييعكم

أوسع أمر الصبر عصيانا

أقرع سني ندماً تارة

واستميح الدمع أحيانا

ص: 100

وربما تعللت بغشيان المعاهد الخالية، وجددت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم البالية، اسأل نون النؤى عن أهليه، وميم الموقد المهجور عن مصطليه، وثاء الأثافي المثلثة عن منازل الموحدين، وأحار وبين تلك الأطلال حيرة الملحدين، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، كلفت لعمر الله بسال عن جفوني المؤرقة، ونائم عن همومي المتجمعة والمتفرقة. ظعن عن ملال، لا متبرماً منا بشر خلال، وكدر الوصل بعد صفائه، وضرج النصل بعد عهد وفائه.

أقل اشتياقاً أيها القلب إنما

رأيتك تصفي الود من ليس جازيا

فها أنا أبكي عليه بدم أساله، وأندب في ربع الفراق آسى له، وأشكو إليه حال قلب صدعه، وأودعه من الوجد ما أودعه، لما خدعه، ثم قلاه وودعه، وأنشق رياه أنف ارتياح قد جدعه، وأستعديه على ظلم ابتدعه.

خليلي فيما عشتما هل رأيتما

قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي

فلولا عسى الرجاء ولعله، لا بل شفاعة المحل الذي حله، لنشرت ألوية العتب، وبثثت كتائبها، كمناء في شعاب الكتب، تهز من الألفات رماحاً خزر الأسنة وتوتر من النونات أمثال القسي المرنة وتقود من مجموع الطرس والنقس بلقاً تردي في الأعنة، ولكنه آوى إلى الحرم الأمين، وتفيأ ظلال الجوار المؤمن من معرة الغوار عن الشمال واليمين، حرم الحلال المزنية، والظلال اليزنية، والهمم السنية، والشيم التي لا ترضى بالدون ولا بالدنية، حيث الرفد الممنوح، والطير

ص: 101

الميامين يزجر لها السُّنُوح والمثوى الذي إليه، مهما تقارع الكرام على الضيفان، حول جوابي الجفان فهو الجنوح:

كتب كأن عليه من شمس الضحى

نوراً ومن فلق الصباح عمودا

ومن حل بتلك المثابة فقد اطمأن جنبه، وتغمد بالعفو ذنبه ولله در القائل:

فوحقه لقد انتدبت لوصفه

بالبخل لولا أن حمصاً داره

بلد متى أذكره تهتج لوعتي

وإذا قدحت الزند طار شراره

اللهم غفراً، وأين قراره النخيل، من مثوى الأقلف البخيل، ومكذبة المخيل؛ وأين ثانية هجر، من متبوأ من ألحد وفجر:

من أنكر غيثاً منشؤه

في الأرض ينوء بمخلفها

فبنان بنى مزني مزن

تنهل بلطف مصرفها

مزن مذ حل ببسكرة

يوماً نطقت بمصحفها

شكرت حتى بعبارتها

وبمعناها وبأحرفها

ص: 102

ضحكت بأبي العباس من ال

أيام ثنايا زخرفها

وتنكرت الدنيا حتى

عرفت منه بمعرفها

بل نقول: يا محل الولد، لا أقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد، لقد حل بينك عرى الجلد، وخلد الشوق بعدك يا بن خلدون في الصميم من الخلد؛ فحيا الله زماناً

شفيت في قربك زمانته، واجتلت في صدف مجدك جمانته، وقضيت في مرعى خلتك لبانته؛ وأهلاً بروض أظلت أشتات معارفك بانته، فحمائمه بعدك تندب، فيساعدها الجندب، ونواسمه ترق فتتغاشى، وعشياته تتخافت وتتلاشى، وأدواحه في ارتباك، وحمائمه في مأتم ذي اشتباك؛ كان لم تكن قمر هالات قبابه، ولم يكن أنسك شارع بابه، إلى صفوة الطرف ولبابه، ولم يسبح إنسان عينك في ماء شبابه، فلهفي عليك من درة اختلستها يد النوى، ومطل بردها الدهر ولوى، ونعق الغراب ببينها في ربوع الهوى، ونطق بالزجر فما نطق عن الهوى، وبأي شيء يعتاض منك أيتها الرياض، بعد أن طما نهرك الفياض،

ص: 103

وفهقت الحياض، ولا كان الشاني المشنوء والجرب المهنوء؛ من قطع ليل أغار على الصبح فاحتمل، وشارك في الذم الناقة والجمل، واستأثر جنحه ببدر النادي لما كمل، نشر الشراع فراع، وواصل الإسراع، فكأنما هو تمساح النيل ضايق الأحباب في البرهة، واختطف لهم من الشط نزهة العين وعين النزهة؛ ولجَّجَ بها والعيون تنظر، والغمر عن الاتباع يحظر، فلم يقدر إلا على الأسف، والتماح الأثر المنتسف، (والرجوع بملء العيبة من الخيبة، ووقر الجسرة من الحسرة)؛ إنما نشكو إلى الله البث والحزن، ونستمطر من عبراتنا المزن، وبسيف الرجاء نصول، وإذا أشرعت لليأس أسنة ونصول:

ما أقدر الله أن يدني على شحط

من داره الحزن ممن داره صول

فإن كان كلم الفراق رغيباً، لما نويت مغيباً، وجللت الوقت الهني تشغيباً، فلعل الملتقى يكون قريباً، وحديثه يروى صحيحاً غريباً. إيه سيدي! كيف حال تلك الشمائل، المزهرة الخمائل، والشيم، الهامية الديم؟ هل يمر ببالها من

ص: 104

راعت بالبعد باله، وأخمدت بعاصف البين ذباله، أو ترثي لشئون شأنها سكب لا يفتر، وشوق يبت حبال الصبر ويبتر، وضنى تقصر عن حلله الفاقعة صنعاء وتَسْتُر، والأمر

أعظم والله يستر، وما الذي يضيرك، صين من لفح السَّموم نضيرك، بعد أن أضرمت وأشعلت، وأوقدت وجعلت، وفعلت فعلتك التي فعلت، أن تترفق بذماء، أو ترد بنغبة ماء، أرماق ظماء، وتتعاهد المعاهد بتحية يشم عليها شذا أنفاسك، أو تنظر إلينا - على البعد - بمقلة حوراء من بياض قرطاسك، وسواد أنقاسك، فربما قنعت الأنفس المحبة بخيال زور، وتعللت بنوال منزور، ورضيت، لما لم تصد العنقاء، بزرزور:

يا من ترحل والرياح لأجله

يشتاق إن هبت شذا رياها

تحيا النفوس إذا بعثت تحية

وإذا عزمت اقرأ ومن أحياها

ولئن أحييت بها فيما سلف نفوساً تفديك، والله إلى الخير أيهديك، فنحن نقول معشر مواديك: ثني ولا تجعليها بيضة الديك؛ وعذراً فإني لم اجترئ على خطابك بالفقر الفقيرة، وأدللت لدى حجراتك برفع العقيرة، عن نشاط بعثت

ص: 105

مرموسه، ولا اغتباط بالأدب تغري بسياسته سوسة، وانبساط أوحى إلي على الفترة ناموسه، وإنما هو اتفاق جرته نفثة المصدور وهناء الجرب المجدور؛ وإن تعلل به مخارق، فثم قياس فارق، أو لحن غنى به بعد البعد مخارق؛ والذي هيأ هذا القدر وسببه، وسهل المكروه إلي منه وحببه. ما اقتضاه الصنو يحيى - مد الله حياته، وحرس من الحوادث ذاته -، من خطاب ارتشف به لهذه القريحة بلالتها، بعد أن رضي علالتها، ورشح إلى الصهر الحضرمي سلالتها؛ فلم يسع إلا إسعافه، بما أعافه، فأمليت نجيباً، ما لا يعد في يوم الرهان نجيباً، وأسمعته وجيباً لما ساجلت بهذه الترهات سحراً عجيباً، حتى إذا ألف القلم العريان سبحه، وجمح برذون الغزارة فلم أطق كبحه، لم أفق من غمرة غلوه وموقف متلوه، إلا وقد تحيز إلى فئتك، معتزاً بل معتراً، واستقبلها ضاحكاً مفتراً، وهش لها براً،

ص: 106

وإن كان من الخجل مصفراً، وليس بأول من هجر، في التماس والوصل ممن هجر أو بعث

التمر إلى هجر، وأي نسب بيني اليوم وبين زخرف الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في محاورة الأعلام؛ بعد أن حال الجريض، دون القريض، وشغل المريض عن التعريض؛ وغلب حتى الكسل، ونصلت الشعرات البيض كأنها الأسل، تروع برقط الحيات، سرب الحياة، وتطرق بذوات الغرر والشيات، عند البيات؛ والشيب الموت العاجل، وإذا ابيض زرع صبحته المناجل، والمعتبر الآجل، وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده، حكم في الظاهر بأبعاده وأسره في ملكة عادة، فاغص أبقاك الله واسمح، لمن قصر عن المطمح، وبالعين الكليلة فالمح، واغتنم لباس ثوب الثواب، واشف بعض الجوى بالجواب.

تولاك الله فيما استضفت وملكت، ولا بعدت ولا هلكت، وكان لك آية سلكت؛ ووسمك في السعادة بأوضح السمات، وأتاح لقاءك من قبل الممات، والسلام الكريم يعتمد حلال ولدي، وساكن خلدي، بل أخي وإن اتقيت عتبه وسيدي، ورحمة الله وبركاته، من فحبه المشتاق إليه محمد بن عبد الله بن الخطيب، في الرابع عشر من شهر ربيع الثاني، من عام سبعين وسبعمائة.

ص: 107

وكان تقدم منه قبل هذه الرسالة كتاب آخر إلي، بعث به إلى تلمسان، فتأخر وصوله، حتى بعث به الأخ يحيى عند وفادته على السلطان، ونص الكتاب:

يا سيدي إجلالاً واعتداداً، وأخي وداً واعتقاداً، ومحل ولدي شفقة سكنت مني فؤاداً. طال علي انقطاع أنبائك، واختفاء أخبارك، فرجوت إن تبلغ النية هذا المكتوب إليك، وتخترق به الموانع دونك، وإن كنت في مياثتك كالعاطش الذي لا يروى، والآكل الذي لا يشبع، شأن من تجاوز الحدود الطبيعية، والعوائد المألوفة؛ فأنا الآن - بعد إنهاء التحية المطلولة الروض بماء الدموع، وتقرير الشوق اللزيم، وشكوى البعاد الأليم، وسؤال إناحة القرب قبل الفوت من الله ميسر العسير، ومقرب البعيد، - أسفل عن أحوالك سؤال أبعد الناس محالاً في مجال الخلوص

لك، وأشدهم حرصاً على اتصال سعادتك؛ وقد اتصل بي في هذه الأيام ما جرى به القدر من تنويع الحال لديك، واستقرارك ببسكرة محل الغبطة بك، باللجأ إلى تلك الرياسة الزكية، الكريمة الأب، الشهيرة الفضل، المعروفة القدر على البعد؛ حرسها الله ملجأ للفضلاء، ومخيماً لرجال العلياء، ومهباً لطيب الثناء، بحوله وقوته؛ وما كل وقت تتاح فيه السلامة؛ فاحمدوا الله على الخلاص، وقاربوا في معاملة الآمال، وضنوا بتلك الذات الفاضلة عن المشاق، وأبخلوا بها عن المتالف، فمطلوب الحريص على الدنيا خسيس، والموانع الحافة جمة، والحاصل حسرة، وبأقل السعي تحصل حالة العافية، والعاقل لا يستنكحه الاستغراق فيما آخره الموت، إنما ينال منه الضروري، ومثلك لا يعجزه - مع التماس العافية - أضعاف ما يزجي به العمر من المأكل والمشرب، وحسبنا الله.

وإن تشوفت لحال المحب تلك السيادة الفذة، والبنوة البرة، فالحال الحال، من جعل الزمام بيد القدر، والسير في مهيع الغفلة، والسبح في تيار الشواغل، ومن وراء الأمور غيب محجوب، وأمل مكتوب، نؤمل فيه عادة الستر من الله، إلا أن الضجر الذي تعلمونه، حفضه اليأس لما عجزت الحيلة، وأعوز المناص وسدت المذاهب،

ص: 108

والشأن اليوم شأن الناس فيما يقرب من الاعتدال.

وفيما يرجع إلى السلطان - تولاه الله -، على أضعاف ما باشر سيدي من الاغياء في البر ووصل سبب الإلتحام، والاشتمال، مع الاستقلال، وما ينتجه متعود الظهور، والحمد لله.

وفيما يرجع إلى الأحباب والأولاد، فعلى ما علمت، إلا إن الشوق مخامر القلوب، وتصور اللقاء مما يزهد في الوطن وحاضر النعم. سنى الله ذلك على أفضل حال، ويسره قبل الارتحال، عن دار المحال.

وفيما يرجع إلى الوطن، فأحلام النائم خصباً، وهدنة وظهوراً على العدو، وحسبك

بافتتاح حصن آشَِرْ، وبُرْغُه القاطعة بين بلاد الإسلام، ووبذة، والغارين وبِيغُهْ وحصن السهلة، في عام؛ ثم دخول بلد إطريرة: بنت

ص: 109

إشبيلية عنوة، والاستيلاء علي ما يناهز خمسة آلاف من السبي؛ ثم فتح دار الملك، ولدة قرطبة: مدينة جيان عنوة في اليوم الأغر المحجل، وقتل المقاتلة، وسبي الذرية، وتعفية الآثار حتى لا يلم بها العمران، ثم افتتاح مدينة أبدة التي تلف جيان في ملاءتها: دار التجر، والرفاهية، والبنى الحافلة، والنعم الثرة، نسأل الله - جل وعلا - أن يصل عوائد نصره، ولا يقطع عنا سبب رحمته، وإن ينفع بما أعان عليه من السعي في ذلك والإعانة عليه.

ولم يتزيد من الحوادث إلا ما علمتم، من أخذ الله لنسمة السوء، وخبث الأرض، المسلوب من أثر الخير: عمر بن عبد الله، وتحكم شر الميتة في نفسه، وإتيان النكال على حاشيته، والاستئصال على ذاته؛ والاضطراب مستول على الوطن بعده، إلا أن الغرب على علاته لا يرجحه غيره.

والأندلس اليوم شيخ غزاتها الأمير عبد الرحمن بن علي ابن السلطان أبي

ص: 110

علي، بعد وفاة الشيخ أبي الحسن: علي بن بدر الدين رحمه الله. وقد استتر بها - بعد انصراف - سيدي الأمير المذكور، والوزير مسعود بن رَحُّو وعمر بن عثمان بن سليمان.

والسلطان ملك النصارى بطره، قد عاد إلى ملكة بإشبيلية، وأخوه مجلب عليه بقشتالة، وقرطبة مخالفة عليه، قائمة بطائفة من كبار النصارى الخائفين على أنفسهم، داعين لأخيه، والمسلمون قد اغتنموا هبوب هذه الريح. وخرق الله لهم عوائد في باب الطهور والخير، لم تكن تخطر في الآمال. وقد تلقب السلطان - أيده الله - بعقب هذه المكيفات، بالغني بالله وصدرت عنه مخاطبات، بمجمل الفتوح ومفضلها، يعظم الحرص على إيصالها إلى تلك الفضائل لو أمكن.

وأما ما يرجع إلى ما يتشوف إليه ذلك الكمال من شغل الوقت، فصدرت تقاييد، وتصانيف، يقال فيها - بعدما أعملته تلك السيادة من الانصراف - يا إبراهيم، ولا إبراهيم اليوم.

منها: أن كتاباً رفع إلى السلطان في المحبة، من تصنيف ابن أبي حجلة من المشارقة، أشار الأصحاب بمعارضته، فعارضته، وجعلت الموضوع أشرف، وهو محبة الله، فجاء كتاباً أدعى الأصحاب غرابته. وقد وجه إلى المشرق صحبة كتاب:

ص: 111

تاريخ غرناطة، وغيره من تآليفي. وتعرف تحبيسه بخانقاه سعيد السعداء من مصر؛ وانثال الناس عليه، وهو في لطافة الأغراض، يتكلف أغراض المشارقة. من ملحه:

سلمت لمصر في الهوى من بلد

يهديه هواؤه لدى استنشاقه

من ينكر دعواي فقل عني له

تكفي امرأة العزيز من عشاقه؟

والله يرزق الإعانة في انتساخه وتوجيهه. وصدر عني جزء سميته: الغيرة على أهل الحيرة؛ وجزء سميته: حمل الجمهور على السنن المشهور. والأكباب على اختصار كتاب التاج للجوهري، ورد حجمه إلى مقدار الخمس، مع حفظ ترتبيه السهل؛ والله المعين على مشغلة تقطع بها هذه البرهة القريبة البداءة من التتمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ص: 112

والمطلوب المثابرة على تعريف يصل من تلك السيادة والبنوة، إذ لا يتعذر وجود قافل من حج، أو لاحق بتلمسان. يبعثها السيد الشريف منها، فالنفس شديدة التعطش، والقلوب قد بلغت - من الشوق والاستطلاع - الحناجر. والله أسأل أن يصون في البعد وديعتي منك لديه، ويلبسك العافية، ويخلصك وإياي من الورطة، ويحملنا أجمعين على الجادة، ويختم لنا بالسعادة. والسلام الكريم عوداً على بدء، ورحمة الله وبركاته، من المحب المتشوق، الذاكر الداعي، ابن الخطيب. في الثاني

من جمادى الأولى من عام تسعة وستين وسبعمائة. انتهى.

فأجبته عن هذه المخاطبات، وتفاديت من السجع خشية القصور عن مساجلته، فلم يكن شأوه يلحق. ونص الجواب:

سيدي مجداً وعلواً، وواحدي ذخراً مرجواً، ومحل والدي براً وحنواً. ما زال الشوق - مذ نأت بي وبك الدار، واستحكم بيننا البعاد - يرعي سمعي أنباءك، ويخيل إلي من أيدي الرياح تناول رسائلك، حتى ورد كتابك العزيز على استطلاع، وعهد غير مضاع، وود في أجناس وأنواع، فنشر بقلبي ميت السلو، وحشر أنواع المسرات، وقد للقائك زناد الأمل، ومن الله أسأل الإمتاع بك قبل الفوت على ما يرضيك، ويسني أماني وأمانيك. وحييته تحية الهائم، لمواقع الغمائم، والمُدْلِج، للصباح المتبَلِّج وأمل على مقترح الأولياء، خصوصاً فيك، من اطمئنان الحال، وحسن القرار، وذهاب الهواجس، وسكون النفرة، وعموماً في الدولة، من رسوخ القدم، وهبوب ريح النصر، والظهور على عدو الله، باسترجاع الحصون التي استنقذوها في اعتلال الدولة، وتخريب المعاقل التي هي قواعد النصرانية، غربية لا تثبت إلا في الحلم، وآية من آيات الله. وإن خبيئة هذا الفتح في طي العصور السابقة، إلى هذه المدة الكريمة، لدليل على عناية الله بتلك الذات الشريفة، حين ظهرت على يدها خوارق العادة، وما تجدد آخر الأيام من معجزات الملة، ولكم فيها - والحمد لله - بحسن التدبير، ويمن النقيبة، من حميد الأثر، وخالد الذكر، طراز في حلة

ص: 113

الخلافة النصرية، وتاج في مفرق الوزارة. كتبها الله لكم فيما يرضاه من عباده.

ووقفت عليه الأشراف من أهل هذا القطر المحروس؛ وأذعته في الملأ سروراً بعز الإسلام، وإظهاراً لنعمة الله، واستطراداً لذكر الدولة المولوية بما تستحقه من طيب الثناء، والتماس الدعاء، والحديث بنعمتها، والإشادة بفضلها على الدول

السالفة والخالفة وتقدمها، فانشرحت الصدور حباء وامتلأت القلوب إجلالاً وتعظيماً، وحسنت الآثار اعتقاداً ودعاء.

وكان كتاب سيدي لشرف تلك الدولة عنواناً، ولما عساه يستعجم من لغتي في مناقبها ترجمانا؛ زاده الله من فضله، وأمتع المسلمين ببقائه. وبثثته شكوى الغريب، من السوق المزعج، والحيرة التي تكاد تذهب بالنفس أسفاً، للتجافي عن مهاد الأمن، والتقويض عن دار العز، بين المولى المنعم، والسيد الكريم، والبلد الطيب، والإخوان البرة، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير. وإن تشوفت السيادة الكريمة إلى الحال، فعلى ما علمتم، سيراً مع الأمل، ومغالبة للأيام على الحظ، وإقطاعاً للغفلة جانب العمر:

هل نافعي والجد في صبب

مري مع الآمال في صعد

رجع الله بنا إليه. ولعل في عظتكم النافعة، شفاء هذا الداء العياء إن شاء الله، على أن لطف الله مصاحب، وجوار هذه الرياسة المزنية - وحسبك بها علمية - عصمة وافية صرفت وجه القصد إلى ذخيرتي التي كنت أعتدها منهم كما علمتم، على حين تفاقم الخطب، وتلون الدهر، والإفلات من مظان النكبة، وقد رتعت حولها، بعد ما جرته الحادثة بمهلك السلطان المرحوم على يد ابن عمه، قريعه في الملك، وقسيمه في النسب، والتياث الجاه، ولغير السلطان، واعتقال الأخ المخلف، واليأس منه،

ص: 114

لولا تكييف الله في نجائه، والعيث بعده في المنزل والولد، واغتصاب الضياع المقتناة من بقايا ما متعت به الدولة النصرية - أبقاها الله - من النِّعمة؛ فآوى إلى الوكر، وساهم في الحادث، وأشرك في الجاه والمال، وأعان على نوائب الدهر، وطلب الوتر، حتى رأى الدهر مكاني، وأمل الملوك استخلاصي، وتجاروا في إتحافي. والله المخلص من عقال الآمال، والمرشد إلى نبذ هذه الحظوظ المورطة.

وأنبأني سيدي بما صدر عنه من التصانيف الغريبة، والرسائل البليغة، في هذه الفتوحات الجليلة، وبودي لو وقع الاتحاف بها أو بعضها، فلقد عاودني الندم على ما فرطت.

وأما أخبار هذا القطر فلا زيادة على ما علمتم، من استقرار السلطان أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى بتونس مستبداً بأمره بالحضرة بعد مهلك شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين القائم بأمره، رحمة الله عليه، مضايقاً في جبابة الوطن، وأحكامه بالعرب المستظهرين بدعوته، مصانعاً لهم بوفره على أمان الرعايا والسابلة، لو أمكن، حسن السياسة جهد الوقت، ومن انتظام بجاية محل دولتنا في أمر صاحب قسنطينة وبونة، غلاباً كما علمتم، محفلاً الدولة بصرامته وقوة شكيمته فوق طوقها، من الاستبداد والضرب على أيدي المستغلين من الأعراب، منتقض الطاعة أكثر أوقاته لذلك، إلا ما شمل البلاد من تغلب العرب، ونقص الأرض من الأطراف والوسط، وخمود ذبال الدول في كل جهة، وكل بداية فإلى تمام.

وأما أخبار المغرب الأقصى والأدنى فلديكم طلعه، وأما المشرق فأخبار الحاج هذه السنة من اختلاله، وانتقاض سلطانه، وانتزاء الجفاة على كرسية، وفساد المصانع والسقايات المعدة لوفد الله وحاج بيته، ما يسخن العين ويطيل البث، حتى لزعموا أن الهيعة اتصلت بالقاهرة أياماً، وكثر الهرج في طرقاتها وأسواقها، لما

ص: 115

وقع بين أسندمر المتغلب بعد يلبغا الخاسكي، وبين سلطانه ظاهر القلعة، من الجولة التي كانت دائرتها عليه، أجلت عن زهاء الخمسمائة قتلى، من حاشية وموالي يلبغا، وتقبض على الباقين، فأودع منهم السجون، وصلب الكثير، وقتل أسندمر في محبسه، وألقي زمام الدولة بيد كبير من موالي السلطان، فقام بها مستبداً، وقادها مستقلاً، وبيد الله تصاريف الأمور، ومظاهر الغيوب، جل وعلا.

ورغبتي من سيدي - أبقاه الله - أن لا يغب خطابه عني، متى أمكن، يصل بذلك مننه الجمة، وأن يقبل عني أقدام تلك الذات المولوية، ويعرفه بما عندي من التشيع لسلطانه، والشكر لنعمته، وأن تنهوا عني لحاشيته وأهل اختصاصه، التحية، المختلسة من أنفاس الرياض، كبيرهم وصغيرهم.

وقد تأدى مني إلى حضرته الكريمة خطاب على يد الحاج نافع - سلمه الله - تناوله من الأخ يحيى عند لقائه إياه بتلمسان، بحضرة السلطان أبي حمو - أيده الله - فربما يصل، وسيدي يوضح من ثنائي ودعائي ما عجز عنه الكتاب. والله يبقيكم ذخراً للمسلمين، وملاذاً للآملين بفضله. والسلام عليكم وعلى من لاذ بكم من السادة الأولاد المناجيب، والأهل والحاشية والأصحاب، من المحب فيكم، المعتد بكم شيعة فضلكم، ابن خلدون، ورحمة الله وبركاته.

عنوانه: سيدي وعمادي، ورب الصنائع والأيادي، والفضائل الكريمة الخواتم والمبادي، إمام الأمة، علم الأئمة، تاج الملة، فخر العلماء الجلة، عماد الإسلام، مصطفى الملوك الكرام، نكتة الدول، كافل الإمامة، تاج الدول، أثير الله، ولي أمير المسلمين الغني بالله - أيده الله - الوزير أبو عبد الله بن الخطيب، أبقاه الله، وتولى عن المسلمين جزاءه.

وكتب إلي من غرناطة:

يا سيدي ووليي، وأخي ومحل ولدي! كان الله لكم حيث كنتم، ولا أعدمكم لطفه وعنايته. لو كان مستقركم بحيث يتأتى لي إليه ترديد رسول، أو إيفاد متطلع، أو

ص: 116

توجيه نائب، لرجعت على نفسي باللائمة في إغفال حقكم، ولكن العذر ما علمتم، واحمدوا الله على الاستقرار في كهف ذلك الفاضل الذي وسعكم كنفه. وشملكم فضله شكر الله حسبه الذي لم يخلف، وشهرته التي لم تكذب.

وإني اغتنمت سفر هذا الشيخ، وافد الحرمين بمجموع الفتوح، في إيصال كتابي

هذا، وبودي لو وقفتم على ما لديه من البضاعة التي أنتم رئيسها وصدرها، فيكون لكم في ذلك بعض أنس، وربما تأدى ذلك في بعضه مما لم يختم عليه، وظاهر الأمور نحيل علية في لعريفكم بها، وأما البواطن فمما لا يتأتى كثرة وضنانة، وأخص، بالصاد، ما أظن تشوفكم إليه حالي. فاعملوا أني قد بلغ بي الماء الزُّبَى، واستولى علي سوء المزاج المنحرف، وتوالت الأمراض، وأعوز العلاج، لبقاء السبب، والعجز عن دفعه. وهي هذه المداخلة جعل الله العاقبة فيها إلى خير، ولم أترك وجهاً من وجوه الحيلة إلا بذلته. فما أغنى ذلك عني شيئاً، ولولا أنني بعدكم شغلت الفكر بهذر التأليف، مع الزهد. وبعد العهد. وعدم الإلماع بمطالعة الكتب. لم يتمش حالي من طريق فساد الفكر إلى هذا الحد، وآخر ما صدر عني كناش سميته باستنزال اللطف الموجود، في أسر الوجود. أمليته في هذه الأيام التي أقيم بها رسم النيابة عن السلطان في سفره إلى الجهاد. بودي لو وقفتم عليه. وعلى كتابي في المحبة، وعسى الله أن ييسر ذلك.

ومع هذا كله. والله ما قصرت في الحرص على إيصال مكتوب إليكم. إما من جهة أخيكم، أو من جهة السيد الشريف أبي عبد الله. حتى من المغرب إذا سمعت الركب يتوجه منه فلا أدري هل بلغكم شيء من ذلك أم لا. والأحوال كلها على ما تركتموها عليه. وأحبابكم بخير. على ما علمتم من الشوق والتشوف والارتماض

ص: 117

لمفارقتكم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والله يحفظكم. ويكون لكم. ويتولى أموركم، والسلام عليكم ورحمة الله. من المحب الواحش الشيخ ابن الخطيب. في غرة ربيع الثاني من عام إحدى وسبعين وسبعمائة.

وبباطنه مدرجة نصها:

سيدي رضي الله عنكم. استقر بتلمسان. في سبيل تقلب ومطاوعة مزاج تعرفونه.

صاحبنا المقدم في صنعة الطب أبو عبد الله الشقوري. فإن اتصل بكم فأعينوه على ما يقف عليه اختياره وهذا لا يحتاج معه إلى مثلكم.

عنوانه: سيدي ومحل أخي. الفقيه الجليل. الصدر الكبير المعظم. الرئيس الحاجب. العالم الفاضل الوزير ابن خلدون. وصل الله سعده. وحرس مجده. بمنه.

وإنما طولت بذكر هذه المخاطبات. وإن كانت فيما يظهر. خارجة عن غرض الكتاب. لأن فيها كثيراً من أخباري. وشرح حالي. فيستوفي ذلك منها من يتشوف إليه من المطالعين للكتاب.

ثم إن السلطان أبا حمو لم يزل معتملاً في الاجلاب على بجاية. واستئلاف قبائل رياح لذلك. ومعولا على مشايعتي فيه. ووصل يده مع ذلك بالسلطان أبي إسحاق ابن السلطان أبي بكر صاحب تونس من بني أبي حفص، لما كان بينه وبين أبي العباس صاحب بجاية وقسنطينة، وهو ابن أخيه، من العداوة التي تقتضيها مقاسمة النسب والملك، وكان يوفد رسله عليه في كل وقت، ويمرون بي، وأنا ببسكرة، فأؤكد الوصلة بمخاطبة كل منهما، وكان أبو زيان ابن عم السلطان أبي حمو بعد إجفاله عن بجاية، واختلال معسكره، قد سار في أثره إلى تلمسان، وأجلب على نواحيها، فلم يظفر بشيء، وعاد إلى بلاد حصين، فأقام بينهم، واشتملوا عليه،

ص: 118

ونجم النفاق في سائر أعمال المغرب الأوسط، واختلف أحياء زغبة على السلطان، وانتبذ الكثير عنه إلى القفر. ولم يزل يستألفهم حتى اجتمع له الكثير منهم، فخرج في عساكره في منتصف تسع وستين إلى حصين وأبي زيان، واعتصموا بجبل تيطري، وبعث إلي في استنفار الدواودة للأخذ بحجزتهم من جهة الصحراء، وكتب يستدعي أشياخهم: يعقوب بن علي كبير أولاد محمد، وعثمان بن يوسف كبير أولاد سباع بن يحيى. وكتب إلى ابن مزنى قعيدة وطنهم بإمدادهم في ذلك، فأمدهم، وسرنا مغربين إليه، حتى نزلنا القطفا قبلة تيطري، وقد أحاط السلطان به

من جانب التل، على أنه إذا فرغ من شأنهم سار معنا إلى بجاية وبلغ الخبر إلى صاحب بجاية أبي العباس، فاستألف من بقي من قبائل رياح، وعسكر بطرف ثنية القصاب المفضية إلى المسيلة. وبينما نحن على ذلك اجتمع المخالفون من زغبة: وهم خالد بن عامر كبير بني عامر وأولاد عريف كبراء سويد، ونهضوا إلينا بمكاننا من القطفا، فأجفلت أحياء الدواودة، وتأخرنا إلى المسيلة، ثم إلى الزاب. وسارت زغبة إلى تيطري، واجتمعوا مع أبي زيان وحصين، وهجموا على معسكر السلطان أبي حمو ففلوه ورجع منهزماً إلى تلمسان. ولم يزل من بعد ذلك على استئلاف زعبة ورياح يؤمل الظفر بوطنه وابن عمه، والكرة على بجاية عاماً فعاماً، وأنا على حال في مشايعته، وإيلاف ما بينه وبين الدواودة، والسلطان أبي إسحاق صاحب تونس، وابنه خالد من بعده. ثم دخلت زغبة في طاعته، واجتمعوا على خدمته، ونهض من تلمسان لشفاء نفسه من حصين وبجاية، وذلك في أخريات إحدى وسبعين، فوفدت عليه بطائفة من الدواودة أولاد عثمان بن يوسف بن سليمان لنشارف أحواله، ونطالعه بما يرسم لهم في خدمته، فلقيناه بالبطحاء. وضرب لنا موعدا بالجزائر، انصرف به العرب إلى أهليهم، وتخلفت بعدهم لقضاء بعض الأغراض واللحاق بهم، وصليت به عيد الفطر على البطحاء، وخطبت به، وأنشدته عند انصرافه من المصلى أهنيه بالعيد، وأحرضه:

ص: 119

هذي الديار فحيهن صباحاً

وقف المطايا بينهن طلاحا

لا تسأل الأطلال إن لم تروها

عبرات عينك واكفاً ممتاحا

فلقد أخذن على جفونك موثقاً

أن لا يرين مع البعاد شحاحا

إيه عن الحي الجميع وربما

طرب الفؤاد لذكرهم فارتاحا

ومنازل للظاعنين استعجمت

حزناً وكانت بالسرور فصاحا

وهي طويلة، ولم يبق في حفظي منها إلا هذا.

وبينما نحن في ذلك، بلغ الخبر بأن السلطان عبد العزيز صاحب المغرب الأقصى من بني مرين، قد استولى على جبل عامر بن محمد الهنتاتي بمراكش، وكان آخذاً بمخنقه منذ حول. وساقه إلى فاس فقتله بالعذاب، وإنه عازم على النهوض إلى تلمسان، لما سلف من السلطان أبي حمو أثناء حصار السلطان عبد العزيز لعامر في جبلة، من الأجلاب على ثغور المغرب، ولحين وصول هذا الخبر، أضرب السلطان أبو حمو عن ذلك الشأن الذي كان فيه، وكر راجعاً إلى تلمسان. وأخذ في أسباب الخروج إلى الصحراء، مع شيعة بني عامر من أحياء زغبة، فاستألف، وجمع، وشد الرحال، وقضى عيد الأضحى، وطلبت منه الإذن في الانصراف إلى الأندلس، لتعذر الوجهة إلى بلاد رياح، وقد أظلم الجو بالفتنة، وانقطعت السبل، فأذن لي، وحملني رسالة فيما بينه وبين السلطان ابن الأحمر. وانصرفت إلى المرسى بهنين، وجاءه الخبر بنزول صاحب المغرب تازاً في عساكره، فأجفل بعده من تلمسان، ذاهباً إلى الصحراء عن طريق البطحاء. وتعذر علي ركوب البحر من هنين فأقصرت، وتأدى الخبر إلى السلطان عبد العزيز بأني مقيم بهنين، وإن معي وديعة احتملتها إلى صاحب بالأندلس، تخيل ذلك بعض الغواة، فكتب إلى السلطان عبد العزيز فأنفذ من وقته سرية من تازا تعترضني لاسترجاع تلك الوديعة، واستمر هو إلى تلمسان، ووافتني

ص: 120