الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فانطلقت حميد الأثر، مشيعاً من الكافة بالأسف والدعاء وحميد الثناء، تلحظني العيون بالرحمة، وتتناجى الآمال في بالعودة، ورتعت فيما كنت راتعاً فيه قبل من مراعي نعمته وظل رضاه وعنايته، قانعاً بالعافية التي
سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه، عاكفاً على تدريس علم، أو قراءة كتاب، أو إعمال قلم في تموين أو تأليف، مؤملاً من الله، قطع صبابة العمر في العبادة، ومحو عوائق السعادة بفضل الله ونعمته.
السفر لقضاء الحج
ثم مكثت بعد العزل ثلاث سنين، واعتزمت على قضاء الفريضة، فودعت السلطان والأمراء، وزودوا وأعانوا فوق الكفاية. وخرجت من القاهرة منتصف رمضان سنة تسع وثمانين، إلى مرسى الطور بالجانب الشرقي من بحر السويس، وركبت البحر من هنالك، عاشر الفطر، ووصلنا إلى الينبع لشهر، فوافينا المحمل، ورافقتهم من هنالك إلى مكة، ودخلتها ثاني ذي الحجة، فقضيت الفريضة في هذه السنة، ثم عدت إلى الينبع، فأقمت به خمسين ليلة حتى تهيأ لنا ركوب البحر، ثم سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور، فاعترضتنا الرياح، فما وسعنا إلا قطع البحر إلى جانبه الغربي، ونزلنا بساحل القصير، ثم بَذْرَقْنا مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص قاعدة الصعيد، فأوحنا بها أياماً، ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر، فوصلنا إليها لشهر من
سفرنا، ودخلتها في جمادى سنة تسعين، وقضيت حق السلطان في لقائه، وإعلامه بما اجتهدت فيه من الدعاء له، فتقبل ذلك مني بقبول حسن، وأقمت فيما عهدت من رعايته وظل إحسانه. وكنت لما نزلت بالينبع، لقيت بها الفقيه الأديب المتقن، أبا القاسم بن محمد ابن
شيخ الجماعة، وفارس الأدباء، ومنفق سوق البلاغة، أبي إسحق إبراهيم الساحلي المعروف جده بالطويجن، وقد قدم حاجاً، وفي صحبته كتاب رسالة من صاحبنا الوزير الكبير العالم، كاتب سر السلطان ابن الأحمر صاحب غرناطة، الحظي لديه، أبي عبد الله بن زمرك، خاطبني فيه بنظم ونثر يتشوق، ويذكر بعهود الصحبة نصه:
سلوا البارق النجدي من علمي نجد
…
تبسم فاستبكى جفوني من الوجد
أجاد ربوعي باللوى بورك اللوى
…
وسح به صوب الغمائم من بعدي
ويا زاجري الأظعان وهي ضوامر
…
دعوها ترد هيماً عطاشفاً على نجد
ولا تنشقوا الأنفاس منها مع الصبا
…
فإن زفير الشوق من مثلها يعدي
يراها الهوى بري القداح وخطها
…
حروفاً على صفح من القفر ممتد
عجبت لها أني تجاذبني الهوى
…
وما شوقها شوقي ولا وجدها وجدي
لئن شاقها بين الغذيب وبارق
…
مياه بفيء الظل للبان والرند
فما شاقني إلا بذور خدورها
…
وقد لحن يوم النفر في قصب ملد
فكم في قباب الحي من شمس كلة
…
وفي فلك الأزرار من قمر سعد
وكم صارم قد شل من لحظ أحور
…
وكم ذابل قد هز من ناعم القد
خذوا الحذر من سكان رامة إنها
…
ضعيفات كر اللحظ تفتك بالأسد
سهام جفون عن قسي حواجب
…
يصاب بها قلب البريء على عمد
وروض جمال ضاع عرف نسيمه
…
وما ضاع غير الورد في صفحة الخد
ونرجس لحظ أرسل الدمع لؤلؤاً
…
فرش بماء الورد روضاً من الورد
وكم غصن قد عانق الغصن مثله
…
وكل على كل من الشوق يستعدي
قبيح وداع قد جلا لعيوينا
…
محاسن من روض الجمال بلا عد
رعى الله ليلى لو علمت طريقهما
…
فرشت لأخفاف المطي به خدي
وما شاقني والطيف يرهب أدمعي
…
ويسبح في بحر من الليل مزبد
وقد سل خفاق الذؤابة بارق
…
كما سل لماع الصقال من الغمد
وهزت محلاة يد الشوق في الدجى
…
فحل الذي أبرمت للصبر من عقدي
وأفلق خفاق الجوانح نسمة
…
تنم مع الإصباح خافقة البرد
وهب عليل لف طي بروده
…
أحاديث أهداها إلى الغور من نجد
سوى صادح في الأيك لم يدر ما الهوى
…
ولكن دعا مني الشجون على وعد
فهل عند ليلى نعم الله ليلها
…
بأن جفوني ما تمل من السهد
وليلة إذ ولى الحجيج على منى
…
وفت لي المنى منها بما شئت من قصد
فقضيت منها - فوق ما أحسب - المنى
…
وبرد عفافي صانه الله من برد
وليس سوى لحظ خفي نجيله
…
وشكوى كما ارفض الجمان من العقد
غفرت لدهري بعدها كل ما جنى
…
سوى ما جنى وفد المشيب على فودي
عرفت بهذا الشيب فضل شبيبتي
…
وما زال فضل الضد يعرف بالضد
ومن نام في ليل الشاب ضلالة
…
سيوقظه صبح المشيب إلى الرشد
أما والهوى ما حلت عن سنن الهوى
…
ولا جرت في طرق الصبابة عن قصدي
تجاوزت حد العاشقين الألى قضوا
…
وأصبحت في دين الهوى أمة وحدي
نسيت وما أنسى وفائي لخلتي
…
وأقفر ربع القلب إلا من الوجد
إليك أبا زيد شكاة رفعتهما
…
وما أنت من عمرو لدي ولا زيد
بعيشك خبرني وما زلت مفضلاً
…
أعندك من شوق كمثل الذي عندي
فكم ثار بي شوق إليك مبرح
…
فظلت يد الأشواق تقدح من زندي
وصفق حتى الريح في لمم الربى
…
وأشفق حتى الطفل في كبد المهد
يقابلني منك الصباح بوجنة
…
حكى شفقاً فيه الحياء الذي تبدي
وتوهمني الشمس المنيرة غرة
…
بوجهك صان الله وجهك عن رد
محياك أجلى في العيون من الضحى
…
وذكرك أحلى في الشفاه من الشهد
وما أنت إلا الشمس في علو أفقها
…
تفيدك من قرب وتلحظ من بعد
وفي عمة من لا ترى الشمس عينه
…
وما نفع نور الشمس في الأعين الرمد
من القوم صانوا المجد صون عيونهم
…
كما قد أباحوا المال ينهب للرفد
إذا ازدحمت يوماً على المال أسرة
…
فما ازدحموا إلا مورد المجد
ومهما أغاروا منجدين صريخهم
…
يشبون نار الحرب في الغور والنجد
ولم يقتنوا بعد البناء ذخيرة
…
سوى الصارم المصقول والصافن النهد
وما اقتسم الأنفال إلا ممدح
…
بلاها بأعراف المطهمة الجرد
أتنسى ولا تنسى ليالينا التي
…
خلسنا بهن العيش في جنة الخلد
ركبنا إلى اللذات في طلق الصبا
…
مطايا الليالي وادعين إلى حد
فإن لم نرد فيها الكؤس فإننا
…
وردنا بها للأنس مستعذب الورد
أتيتك في غرب وأنت رئيسه
…
وبابك للأعلام مجتمع الوفد
فآنست حتى ما شكوت بغربة
…
وواليت حتى لم أجد مضض الفقد
وعدت لقطري شاكراً ما بلوته
…
من الخلق المحمود والحسب العد
إلى أن أجزت البحر يا بحر نحونا
…
وزرت مزار الغيث في عقب الجهد
ألذ من النعمى على حال فاقة
…
وأشهى من الوصل الهني على صد
وإن ساءني أن قوضت رحلك النوى
…
وعوضت عنا بالذميل وبالوخد
لقد سرني أن لحت في أفق العلا
…
على الطائر الميمون والطالع السعد
طلعت بأفق الشرق نجم هداية
…
فجئت مع الأنوار فيه على وعد
يميناً بمن تسري المطي سواهماً
…
عليها سهام قد رمت هدف القصد
إلى بيته كيما تزور معاهداً
…
أبان بها جبريل عن كرم العهد
لأنت الذي مهما دجا ليل مشكل
…
قدحت به للنور وارية الزند
وحيث استقلت بي ركاب لطية
…
فأنت نجي النفس في القرب والبعد
وإني بباب الملك حيث عهدتني
…
مديد ظلال الجاه مستحصف العقد
أجهز بالإنشاء كل كتيبة
…
من الكتب، والكتاب في عرضها جندي
نلوذ من المولى الإمام محمد
…
بظل على نهر المجرة ممتد
إذا فاض من يمناه بحر سماحة
…
وعم به الطوفان في النجد والوهد
ركبنا إلى الإحسان في سفن الرجا
…
بحور عطاء ليس تجزر عن مد
فمن مبلغ الأمصار عني ألوكة
…
مغلغلة في الصدق منجزة الوعد
بآية ما أعطى الخليفة ربه
…
مفاتيح فتح ساقها سائق السعد
ودونك من روض المحامد نفحة
…
تفوت إذا اصطف الندي عن الند
ثناء يقول المسك إن ضاع عرفه
…
أيا لك من ند أما لك من ند
وما الماء في جوف السحاب مروقاً
…
بأطهر ذاتاً منك في كنف بالمهد
فكيف وقد حلتك أسرابها الحلى
…
وباهت بك الأعلام بالعلم الفرد
وما الطل في ثغر من الدهر باسم
…
بأصفى وأذكى من ثنائي ومن ودي
ولا البحر معصوباً بتاج تمامه
…
بأبهر من ودي وأسير من حمدي
بقيت ابن خلدون إمام هداية
…
ولا زلت من دنياك في جنة الخلد
ووصلها بقوله: سيدي علم الأعلام، كبير رؤساء الإسلام، مشرف حملة السيوف والأقلام، جمال الخواص والظهراء، أثير الدول، خالصة الملوك، مجتبى الخلفاء، نير أفق العلاء، أوحد الفضلاء، قدوة العلماء، حجة البلغاء.
أبقاكم الله بقاء جميلاً يعاقد لواء الفخر، ويعلي منار الفضل، ويرفع عماد المجد، ويوضح معالم السؤدد، ويرسل أشعة السعادة، ويفيض أنوار الهداية، ويطلق ألسنة المحامد، وينشر أفق المعارف، ويعذب موارد العناية ويمتع بعمر النهاية ولا نهاية.
بأي التحيات أفاتحك وقدرك أعلى، ومطلع فضلك أوضح وأجلى، إن قلت تحية كسرى في السناء وتبع فأثر لا يقتفر ولا يتبع، تلك تحية عجماء لا تبين ولا تبين، وزمزمة نافرها اللسان العربي المبين، وهذه جهالة جهلاء، لا ينطبق على
حروفها الاستعلاء، قد محا رسومها الجفاء، وعلى آثار دمنتها العفاء، وإن كانت التحيتان طالما أوجف بهما الركاب وقعقع البريد، ولكن أين يقعان مما أريد.
تحية الإسلام أصل شي الفخر نسبا، وأوصل بالشرع سببا، فالأولى أن أحييك بما حيا الله في كتابه رسله وأنباءه، وحيت به ملائكته في جواره أولياءه فأقول:
سلام عليكم يرسل من رحمات الله غماماً، ويفتق من الطروس عن أزهار المحامد كماماً، ويستصحب من البركات ما يكون على الذي أحسن من ذلك تماماً، وأجدد
السؤال عن الحال الحالية بالعلم والدين، المستمدة من أنوارها سرج المهتدين. زادها الله صلاحاً، وعرفها نجاحاً يتبع فلاحاً، وأقرر ما عندي من تعظيم أرتقي كل آونة شرفه، واعتقاد جميل يرفع عن وجه البدر كلفه، وثناء انشر بيد الترك صحافه، وعلى ذلك أيها السيد المالك، فقد تشعبت علي في مخاطبتك المسالك، إن أخذت في تقرير فخرك العميم، وحسبك الصميم، فو الله ما أدري بأي ثنية للفخر يرفع العلم، وفي أي بحر من ثنائك يسبح القلم، الأمر جلل، والشمس تكبر عن حلي وعن حلل، وإن أخذت في شكاة الفراق، والاستعداء على الأشواق، اتسع المجال، وحصرت الروية والارتجال، فالأولى أن أترك عذبة اللسان تلعب بها رياح الأشواق، وأسلة اليراع تخضب مفارق الطروس بنجيع الحبر المراق، وغيرك من تركض في مخاطبته جياد اليراع، في مجال الرقاع، مستولية على أمد الإبداع والاختراع، إنما هو بث يبكى، وفراق يشكى، فيعلم الله حرصي على أن أشافه عن أنبائك ثغور البروق البواسم، وأن أحملك الرسائل حتى مع سفراء النواسم، وأن أجتلي غرر ذلك الجبين في محيا الشارق، ولمح البارق.
ولقد وجهت لك جملة من الكتب والقصائد، ولا كالقصيدة الفريدة في تأبين الجواهر التي استأثر بهن البحر، قدس الله أرواحهم، وأعظم أجرك فيهم، فإنها أنافت على مائة وخمسين بيتاً، ولا أدري هل بلغكم ذلك أم غاله الضياع، وغدر وصوله بعد
المسافة، والذي يطرق لي سوء الظن بذلك، ما صدر في مقابله منكم. فإني على علم من كرم قصدكم، وحسن عهدكم.
ومن حين استقل نيركم بذلك بالأفق الشرقي، لم يصلني منكم كتاب، مع علمي بضياع اثنين منها بهذا الأفق الغربي. انتهى.
وفي الكتاب إشارة إلى أنه بعث قصيدة في مدح الملك الظاهر صاحب مصر، ويطلب مني رفعها إلى السلطان، وعرضها عليه بحسب الإمكان، وهي على روي
الهمزة، ومطلعها:
أمدامع منهلة أم لؤلؤ
…
لما استهل العارض المتلألئ
وبعثها في طي الكتاب، واعتذر بأنه استناب في نسخها، فكتبت همزة رويها ألفاً، قال وحقها أن تكتب بالواو، لأنها تبدل بالواو، وتسهل بين الهمزة والواو، وحرف الإطلاق أيضا يسوقها واواً. هذا مقتضى الصناعة، وإن قال بعض الشيوخ تكتب ألفاً على كل حال، على لغة من لا يسهل، لكنه ليس بشيء.
وأذن لي في نسخ القصيدة المذكورة بالخط المشرقي لتسهل قراءتها عليهم ففعلت ذلك، ورفعت النسخة والأصل للسلطان، وقرأها كاتب سره عليه، ولم يرجع إلي منهما شيء، ولم أستجز أن أنسخها قبل رفعها إلى السلطان، فضاعت من يدي.
وكان في الكتاب فصل عرفني فيه بشأن الوزير مسعود بن رحو المستبد بأمر المغرب لذلك العهد، وما جاء به من الانتقاض عليهم، والكفران لصنيعهم، يقول فيه: كان مسعود بن رحو الذي أقام بالأندلس عشرين عاماً يتبنك النعيم، ويقود الدنيا، ويتخير العيش والجاه، قد أجيز صحبة ولد أبي عنان، كما تعرفتم من نسخة كتاب أنشأته بجبل الفتح لأهل الحضرة، فاستولى على المملكة، وحصل على الدنيا، وانفرد برياسة دار المغرب، لضعف السلطان رحمه الله، ولم يكن إلا أن كفرت الحقوق، وحنظلت نخلته السحوق، وشف على سواد جلدته العقوق،
وداخل من بسبتة، فانتقضت طاعة أهلها، وظنوا أن القصبة لا تثبت لهم، وكان قائدها الشيخ البهمة، فل الحصار وحلي القتال، ومحش الحرب، أبو زكرياء بن شعيب، فثبت للصدمة، ونور للأندلس فبادره المدد من الجبل، ومن مالقة. وتوالت الأمداد، وخاف أهل البلد، وراجع شرفاؤه، ودخلوا القصبة. واستغاث أهل البلد بمن جاورهم وجاءهم المدد أيضاً. دخل الصالحون في رغبة هذا المقام، ورفع القتال. وفي أثناء ذلك غدروا ثانية، فاستدعى الحال إجازة السلطان المخلوع أبي العباس
لتبادر القصبة به، ويتوجه منها إلى المغرب، لرغبة بني مرين وغيرهم فيه، وهو ولد السلطان المرحوم أبي سالم الذي قلدكم رياسة داره، وأوجب لكم المزية على أوليائه وأنصاره انتهى.
وبعده فصل آخر يطلب فيه كتباً من مصر يقول فيه:
والمرغوب من سيدي أن يبعث لي ما أمكن من كلام فضلاء الوقت وأشياخهم على الفاتحة، إذ لا يمكن بعث تفسير كامل، لأني أثبت في تفسيرها ما أرجو النفع به عند الله. وقد أعلمتكم أن عندي التفسير أوصله إلى المغرب عثمان التجاني من تأليف الطيبي، والسفر الأول من تفسير أبي حيان، وملخص إعرابه، وكتاب
المغني لابن هشام وسمعت عن بدأة تفسير للإمام بهاء الدين بن عقيل، ووصلت إلي بدأة من كلام أكمل الدين الأثيري رضي الله عن جميعهم. ولكن لم يصل إلا للبسملة، وذكر أبو حيان في صدر تفسيره أن شيخه سليمان النقيب، أو أبو سليمان. لا أدري الآن، صنف كتاباً في البيان في سفرين، جعله مقدمة في كتاب تفسيرة الكبير، فإن أمكن سيدي توجيهه. انتهى.
وفي الكتاب فصول أخرى في أغراض متعددة لا حاجة إلى ذكرها هنا. ثم ختم الكتاب بالسلام، وكتب اسمه: محمد بن يوسف بن زمرك الصريحي، وتاريخه العشرون من محرم تسع وثمانين.
وكتب إلي قاضي الجماعة بغرناطة، أبو الحسن علي بن الحسن البني:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله.
يا سيدي وواحدي وداً وحباً، ونجي الروح بعداً وقرباً. أبقاكم الله، وثوب سيادتكم سابغ، وقمر سعادتكم - كلما أفلت الأقمار - بازغ، أسلم بأتم السلام عليكم، وأقرر بعض ما لدي من الأشواق إليكم، من حضرة غرناطة - مهدها الله -، عن ذكر لكم يتضوع طيبه، وشكر لا يذوي - وإن طال الزمان - رطيبه، وقد كان بلغ ما
جرى من تأخيركم عن الولاية التي تقلدتم أمرها، وتحملتم مرها، فتمثلت بما قاله شيخنا أبو الحسن ابن الجياب، عند انفصال صاحبه الشريف أبي القاسم عن خطة القضاء:
لا مرحباً بالناشز الفارك
…
إذ جهلت رفعة مقدارك
لو أنها قد أوتيت رشدها
…
ما برحت تعشو إلى نارك
ثم تعرفت كيفية انفصالكم، وأنه كان عن رغبة من السلطان المؤيد هنالكم، فرددت - وقد توهمت مشاهدتكم - هذه الأبيات:
لك الله يا بدر السماحة والبشر
…
لقد حزت في الأحكام منزلة الفخر
ولكنك استعفيت عنها تورعاً
…
وتلك سبيل الصالحين كما تدري
جريت على نهج السلامة في الذي
…
تخيرته أبشر بأمنك في الحشر
وحقق بأن العلم ولاك خطة
…
من العز لا تنفك عنها مدى العمر
تزيد على مر الجديدين جدة
…
وتسري النجوم الزاهرات ولا تسري
ومن لاحظ الأحوال وازن بينها
…
ولم ير للدنيا الدنية من خطر
وأمسى لأنواع الولايات نابذاً
…
فغير نكير أن تواجه بالنكر
فيهنيك يهنيك الذي أنت أهله
…
من الزهد فيها والتوقي من الوزر
ولا تكترث من حاسديك فإنهم
…
حصى والحصى لا يرتقي مرتقى البدر
ومن عامل الأقوام بالله مخلصاً
…
له منهم نال الجزيل من الأجر
بقيت لربع الفضل تحمي ذماره
…
وخار لك الرحمن في كل ما تجري
إيه سيدي رضي الله عنكم وأرضاكم، وأطنبتم في كتابكم في الثناء على السلطان الذي أنعم بالإبقاء، والمساعدة على الانفصال عن خطة القضاء، واستوهبتم الدعاء له ممن هنا من الأولياء، ولله دركم في التنبيه على الإرشاد إلى ذلكم، فالدعاء له من الواجب، إذ فيه استقامة الأمور، وصلاح الخاصة والجمهور، وعند ذلك
ارتفعت أصوات العلماء والصلحاء بهذا القطر له ولكم بجميل الدعاء. أجاب الله فيكم أحسنه وأجمله، وبلغ كل واحد منكم ما قصده وأمله. وأنتم أيضاً من أنتم من أهل العلم والجلالة، والفضل والأصالة، وقد بلغتم بهذه البلاد الغاية من التنويه، والحظ الشريف النبيه، لكن أراد الله سبحانه أن يكون لمحاسنكم في تلك البلاد المعظمة ظهور، وتحدث بعد الأمور أمور، وبكل اعتبار، فالزمان بكم - حيث كنتممباه، والمحامد مجموعة لكم جمع تناه. ولما وقف على مكتوبكم إلي مولانا السلطان أبو عبد الله، أطال الثناء على مقاصدكم، وتحقق صحيح ودادكم، وجميل اعتقادكم، وعمر مجلسه يومئذ بالثناء عليكم، والشكر لما لديكم.
ثم ختم الكتاب بالسلام من كاتبه علي بن عبد الله بن الحسن مؤرخاً بصفر تسعين. وفي طيه مدرجة بخطه، وقد قصر فيها عن الإجادة نصها:
سيدي رضي الله عنكم وأرضاكم، وأظفر يمناكم بنوائب مناكم.
أعتذر لكم عن الكتاب المدرج هذا طيه بغير خطي، فإني في الوقت بحال مرض من عيني، ولكم العافية الواقية، فيسعني سمحكم، وربما أن لديكم تشوقاً لما نزل في هذه المدة بالمغرب من الهرج حاطه الله، وأمن جميع بلاد المسلمين.
والموجب أن الحصة الموجهة لتلك البلاد في خدمة أميرهم الواثق، ظهر له ولوزيره ومن ساعده على رأيه إمساكها رهينة، وجعلهم في القيود إلى أن يقع الخروج لهم عن مدينة سبتة. وكان القائد على هذه الحصة العلج المسمى مهند، وصاحبه الفتى المدعو نصر الله. وكثر التردد في القضية، إلى أن أبرز القدر توجيه السلطان أبي العباس - تولاه الله - صحبة فرج بن رضوان بحصة ثانية، وكان ما كان، حسبما تلقيتم من الركبان، هذا ما وسع الوقت من الكلام. ثم دعا، وختم.