المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفيئة إلى السلطان أبي العباسبتونس والمقام بها - رحلة ابن خلدون

[ابن خلدون]

فهرس الكتاب

- ‌التَّعريف بابن خَلدونورحلته غربا وشرقا

- ‌نسبه

- ‌سلفه بالأندلس

- ‌سلفه بأفريقية

- ‌نشأته ومشيخته وحاله

- ‌ولاية العلامة بتونس

- ‌ثم الرحلة بعدها إلى المغرب

- ‌والكتابة عن السلطان أبي عنان

- ‌حدوث النكبة من السلطان أبي عنان

- ‌الكتابة عن السلطان أبي سالم

- ‌في السر والإنشاء

- ‌الرحلة إلى الأندلس

- ‌الرحلة من الأندلس إلى بجايةوولاية الحجابة بها على الاستبداد

- ‌مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان

- ‌مشايعة السلطان عبد العزيزصاحب المغرب على بني عبد الواد

- ‌فصلٌ

- ‌العودة إلى المغرب الأقصى

- ‌الإجازة ثانية إلى الأندلسثم إلى تلمسان واللحاق بأحياء العربوالمقامة عند أولاد عريف

- ‌الفيئة إلى السلطان أبي العباسبتونس والمقام بها

- ‌الرحلة إلى المشرقوولاية القضاء بمصر

- ‌السفر لقضاء الحج

- ‌ولاية الدروس والخوانق

- ‌ولاية خانقاه بيبرس، والعزل منها

- ‌ فتنة الناصري

- ‌السعاية في المهاداة والاتحافبين ملوك المغرب والملك الظاهر

- ‌ولاية القضاء الثانية بمصر

- ‌سفر السلطان إلى الشاملمدافعة الططر عن بلاده

- ‌لقاء الأمير تمرسلطان المغل والططر

- ‌الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر

- ‌ولاية القضاء الثالثة والرابعة والخامسة بمصر

الفصل: ‌الفيئة إلى السلطان أبي العباسبتونس والمقام بها

من بلاد بني توجين التي صارت لهم بإقطاع السلطان، فأقمت بها أربعة أعوام، متخلياً عن الشواغل كلها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب، وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب، الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتها، وتألفت نتائجها، وكانت من بعد ذلك الفيئة إلى تونس كما نذكره.

‌الفيئة إلى السلطان أبي العباس

بتونس والمقام بها

ولما نزلت بقلعة ابن سلامة بين أحياء أولاد عريف، وسكنت منها بقصر أبي بكر بن عريف الذي اختطه بها، وكان من أحفل المساكن وأوثقها. ثم طال مقامي هنالك، وأنا مستوحش من دولة المغرب وتلمسان، وعاكف على تأليف هذا الكتاب، وقد فرغت من مقدمته إلى أخبار العرب والبربر وزناتة، وتشوفت إلى

مطالعة الكتب والدواوين التي لا توجد إلا بالأمصار، بعد أن أمليت الكثير من حفظي، وأردت التنقيح والتصحيح، ثم طرقني مرض أوفى بي على الثنية، لولا ما تدارك من لطف الله، فحدث عندي ميل إلى مراجعة السلطان أبي العباس، والرحلة إلى تونس، حيث قرار آبائي ومساكنهم، وآثارهم، وقبورهم، فبادرت إلى خطاب السلطان بالفيئة إلى طاعته والمراجعة، وانتظرت، فما كان غير بعيد، وإذا بخطابه وعهوده بالأمان، والاستحثاث للقدوم، فكان الخفوف للرحلة، فطعنت عن أولاد عريف مع عرب الأخضر من بادية رياح، كانوا هنالك ينتجعون الميرة بمنداس. وارتحلنا في رجب سنة ثمانين، وسلكنا القفر إلى الدوسن من أطراف الزاب. ثم صعدت إلى التل مع حاشية يعقوب بن علي وجدتهم بفرفار، الضيعة التي اختطها بالزاب، فرحلتهم معي إلى أن نزلنا عليه بضاحية قسنطينة، ومعه صاحبها الأمير إبراهيم بن السلطان أبي العباس بمخيمه، وفي عسكره فحضرت عنده، وقسم لي من بره، وكرامته فوق الرضى. وأذن لي في الدخول إلى قسنطينة، وإقامة أهلي في كفالة إحسانه، بينما أصل إلى حضرة

ص: 188

أبيه. وبعث يعقوب بن علي معي ابن أخيه أبي دينار في جماعة من قومهم، وسرنا إلى السلطان أبي العباس، وهو يومئذ قد خرج من تونس في العساكر إلى بلاد الجريد، لاستنزال شيوخها عن كراسي الفتنة التي كانوا عليها، فوافيته بظاهر سوسة، فحيا وفادتي، وبر مقدمي، وبالغ في تأنيسي، وشاورني في مهمات أموره، ثم ردني إلى تونس، وأوعز إلى نائبه بها مولاه فارح بتهيئة المنزل، والكفاية في الجراية، والعلوفة، وجزبل الإحسان، فرجعت إلى تونس في شعبان من السنة، وآويت إلى ظل ظليل من عناية السلطان وخرمته، وبعثت عن الأهل والولد، وجمعت شملهم في مرعى تلك النعمة، وألقيت عصا التسيار، وطالت غيبة السلطان إلى أن افتتح أمصار الجريد، وذهب فلهم في النواحي، ولحق زعيمهم يحيى بن يملول ببسكرة، ونزل على صهره ابن مزني،

وقسم السلطان بلاد الجريد بين ولده، فأنزل ابنه محمد المنتصر بتوزر، وجعل نفطة، ونفزاوة من أعماله، وأنزل ابنه أبا بكر بقفصة، وعاد إلى تونس مظفراً، ماهداً، فأقبل علي، واستدناني لمجالسته، والنجي

ص: 189

في خلوته، فغص بطانته بذلك، وأفاضوا في السعايات عند السلطان فلم تنجح، وكانوا يعكفون على إمام الجامع، وشيخ الفتيا، محمد بن عرفة، وكانت في قلبه نكتة من الغيرة من لدن اجتماعنا في المربى بمجالس الشيوخ، فكثيراً ما كان يظهر شفوفي عليه، وإن كان أسن مني، فاسودت تلك النكتة في قلبه، ولم تفارقه. ولما قدمت تونس انثال علي طلبة العلم من أصحابه وسواهم، يطلبون الإفادة والاستغال، واسعفتهم بذلك، فعظم عليه. وكان يسم التنفير إلى الكثير منهم فلم يقبلوا، واشتدت غيرته، ووافق ذلك اجتماع البطانة إليه، فاتفقوا على شأنهم في التأليب علي، والسعاية بي، والسلطان خلال ذلك معيرض عنهم في ذلك، وقد كلفني بالإكباب على تأليف هذا الكتاب لتشوفه إلى المعارف والأخبار، واقتناء الفضائل، فأكملت منه أخبار البربر، وزناته. وكتبت من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام ما وصل إلي منها، وأكملت منه نسخة رفعتها إلى خزانته، وكان مما يغرون به السلطان علي، قعودي عن امتداحه، فإني كنت قد أهملت الشعر وانتحاله جملة، وتفرغت للعلم فقط، فكانوا يقولون له إنما ترك ذلك استهانة بسلطانك، لكثرة امتداحه للملوك قبلك، وتنسمت ذلك عنهم من جهة بعض الصديق من بطانتهم، فلما رفعت له الكتاب، وتوجته باسمه، أنشدته ذلك اليوم، هذه القصيدة أمتدحه، وأذكر سيره وفتوحاته، وأعتذر عن انتحال الشعر، وأستعطفه بهدية الكتاب إليه، وهي هذه:

هل غير بابك للغريب مؤمل

أو عن جنابك للأماني معدل

هي همة بعثت إليك على النوى

عزماً كما شحذ الحسام الصيقل

متبوأ الدنيا ومنتجع المنى

والغيث حيث العارض المتهلل

حيث القصور الزاهرات منيفة

تعنى بها زهر النجوم وتحفل

ص: 190

حيث الخيام البيض يرفع للعلا

والمكرمات طرافها المتهدل

حيث الحمى للعز في ساحاته

ظل أفاءته الوشيج الذبل

حيت الكرام ينوب عن نار القرى

عرف الكباء بحيهم والمندل

حيث الرماح يكاد يورق عودها

مما تعل من الدماء وتنهل

حيث الجياد أملهن بنو الوغى

مما أطالوا في المغار وأوغلوا

حيث الوجوه الغر قنعها الحيا

والبشر في صفحاتها يتهلل

حيث الملوك الصيد والنفر الألى

عز الجوار لديهم والمنزل

من شيعة المهدي بل من شيع

ة التوحيد جاء به الكتاب يفصل

بل شيعة الرحمن ألقى حبهم

في خلقه فسموا بذاك وفضلوا

شادوا على التقوى مباني عزهم

لله ما شادوا بذاك وأثلوا

قوم أبو حفص أب لهم وما

أدراك والفاروق جد أول

نسب كما اطردت أنابيب القنا

وأتى على تقويمهن معدل

سام على هام الزمان كأنه

للفخر تاج بالبدور مكلل

فضل الأنام حديثهم وقديمهم

ولأنت إن فضلوا أعز وأفضل

ص: 191

وبنوا على قلل النجوم ووطدوا

وبناؤك العالي أشد وأطول

ولقد أقول لخائض بحر الفلا

والليل مزبد الجوانب أليل

ماض علىغول الدجى لا يتقي

تيهاً وذابله ذبال مشعل

متقلب فوق الرحال كأنه

طيف بأطراف المهاد موكل

يبغي منال الفوز من طرق الغنى

ويرود خصبها الذي لا يمحل

أرح الركاب فقد ظفرت بواهب

يعطي عطاء المنعمين فيجزل

لله من خلق كريم في الندى

كالروض حياه ندى مخضل

هذا أمير المؤمنين إمامنا

في الدين والدنيا إليه الموئل

هذا أبو العباس خير خليفة

شهدت له الشيم التي لا تجهل

مستنصر بالله في قهر العدا

وعلى إعانة ربه متوكل

سبق الملوك إلى العلا متمهلا

لله منك السابق المتمهل

فلأنت أعلى المالكين وإن غدوا

يتسابقون إلى العلاء وأكمل

قايس قديماً منكم بقديمهم

فالأمر فيه واضح لا يجهل

دانوا لقومكم بأقوم طاعة

هي عروة الدين التي لا تفصل

سائل تلمساناً بها وزناتة

ومرين قبلهم كما قد ينقل

وأسأل بأندلس مدائن ملكها

تخبرك حين استيأسوا واستوهلوا

واسأل بذا مراكشاً وقصورها

ولقد تجيب رسومها من يسأل

يا أيها الملك الذي في نعته

ملء القلوب وفوق ما يتمثل

لله منك مؤيد، عزماته

تمضي كما يمضي القضاء المرسل

جئت الزمان بحيث أعضل خطبه

فافتر عنه وهو أكلح أعصل

والشمل من أبنائه متصدع

وحمى خلافته مضاع مهمل

والخلق قد صرفوا إليك قلوبهم

ورجوا صلاح الحال منك وأملوا

ص: 192

فعجلته لما انتدبت لأمره

بالبأس والعزم الذي لا يمهل

ذللت منه جامحاً لا ينثني

سهلت وعراً كاد لا يتسهل

وألنت من شرس العتاة وذدتهم

عن ذلك الحرك الذي قد حللوا

كانت لصولة صولة ولقومه

يعدوا ذؤيب بها وتسطو المعقل

ومهلهل تسدي وتلحم في التي

ما أحكموها بعد ففي مهلهل

المراد بصولة هنا صولة بن خالد بن حمزة أمير أولاد أبي الليل. وذؤيب: هو ابن عمه أحمد بن حمزة. والمعقل فريق من العرب من أحلافهم. ومهلهل: هم بنو

مهلهل ابن قاسم أنظارهم وأقتالهم. ثم رجعت إلى وصف العرب وأحيائهم:

عجب الأنام لشأنهم بادون قد

قذفت بحيهم المطي الذلل

رفعوا القباب على العماد وعندها

الجرد السلاهب والرماح العسل

في كل ظامي الترب متقد الحصى

تهوي للجته الظماء فتنهل

جن شرابهم السراب ورزقهم

رمح يروح به الكمي ومنصل

حي حلول بالعراء ودونهم

قذف النوى إن يظعنوا أو يقبلوا

كانوا يروعون الملوك بما بدوا

وغدت ترفه بالنعيم وتخضل

فبدوت لا تلوي على دعة ولا

تأوي إلى ظلل القصور تهدل

طوراً يصافحك الهجير وتارة

فيه بخفاق البنود تظلل

وإذا تعاطي ضمراً يوم الوغى

كأس النجيع فبالصهيل تعلل

مخشوشنا في العز معتملاً له

في مثل هذا يحسن المستعمل

تفري حشا البيداء لا يسري بها

ركب ولا يهوي إليها جحفل

وتجر أذيال الكتائب فوقها

تختال في السمر الطوال وترفل

ترميهم منهما بكل مدجج

شاكي السلاح إذا استعار الأعزل

ص: 193

وبكل أسمر غصنه متأود

وبكل أبيض شطه متهدل

حتى تفرق ذلك الجمع الألى

عصفت بهم ريح الجلاد فزلولوا

ثم استملتهم بأنعمك التي

خضعوا لعزك بعدها وتذللوا

ونزعت من أهل الجريد غواية

كانت بهم أبداً تجد وتهزل

خربت من بنيانها ما شيدوا

وقطعت من أسبابها ما أصلوا

ونظمت من أمصاره وثغوره

للملك عقداً بالفتوح يفصل

فسددت مطلع النفاق وأنت لا

تنبو ظباك ولا العزيمة تنكل

بشكيمة مرهوبة وسياسة

تجري كما يجري فرات سلسل

عذب الزمان لها ولذ مذاقه

من بعد ما قد مر منه الحنظل

فضوى الأنام لعز أروع مالك

سهل الخليقة، ماجد متفضل

وتطابقت فيك القلوب على الرضى

سيان منها الطفل والمتكهل

يا مالكاً وسع الزمان وأهله

دعة وأمناً فوق ما قد أملوا

فالأرض لا يخشى بها غول ولا

يعدو بساحتها الهزبر المشبل

والسفر يجتابون كل تنوفة

سرب القطا ما راعهن الأجدل

سبحان من بعلاك قد أحيا المنى

وأعاد حلي الجيد وهو معطل

سبحان من بهداك أوضح للورى

قصد السبيل فأبصر المتأمل

فكأنما الدنيا عروس تجتلى

فتميس في حلل الجمال وترفل

وكأن مطبقة البلاد بعدله

عادت فسيحاً ليس فيه مجهل

وكأن أنوار الكواكب ضوعفت

من نور غرته التي هي أجمل

وكأنما رفع الحجاب لناظر

فرأى الحقيقة في الذي يتخيل

وهنها في العذر عن مدحه:

ص: 194

مولاي غاضت فكرتي وتبلدت

مني الطباع فكل شيء مشكل

تسمو إلى درك الحقائق همتي

فأصد عن إدراكهن وأعزل

وأجد ليلي في امتراء قريحتي

وتعود غوراً بينما تسترسل

فأبيت يعتلج الكلام بخاطري

والنظم يشرد والقوافي تجفل

من بعد حول أنتقيه ولم يكن

في الشعر حولي يعاب ويهمل

فأصونه عن أهله متوارياً

أن لا يضمهم وشعري محفل

وهي البضاعة في القبول نفاقها

سيان فيها الفحل والمتطفل

وبنات فكري إن أتتك كليلة

مرهاء تخطر في القصور وتخطل

فلها الفخار إذا منحت قبولها

وأنا على ذاك البليغ المقول

ومنها في ذكر الكتاب المؤلف لخزانته:

وإليك من سير الزمان وأهله

عبراً يدين بفضلها من يعدل

صحفاً تترجم عن أحاديث الألى

غبروا فتجمل عنهم وتفصل

تبدي التبابع والعمالق سرها

وثمود قبلهم وعاد الأول

والقائمون بملة الإسلام من

مضر وبربرهم إذا ما حصلوا

لخصت كتب الأولين لجمعها

وأتيت أولها بما قد أغفلوا

وألنت حوشي الكلام كأنما

شرد اللغات بها لنطقي ذلل

أهديت منه إلى علاك جواهراً

مكنونة وكواكباً لا تأفل

ص: 195

وجملته لصوان ملكك مفخرا

يبأى الندي به ويزهو المحفل

والله ما أسرفت فيما قلته

شيئاً ولا الاسراف مما يجمل

ولأنت أرسخ في المعارف رتبة

من أن يموه عنده متطفل

فملاك كل فضيلة وحقيقة

بيديك تعرف وضعها إن بدلوا

والحق عندك في الأمور مقدم

أبداً فماذا يدعيه المبطل

والله أعطاك التي لا فوقها

فاحكم بما ترضى فأنت الأعدل

أبقاك ربك للعباد تربهم

فالله يخلقهم ورعيك يكفل

وكنت لما انصرفت عنه من معسكره على سوسة إلى تونس، بلغني - وأنا مقيم بها - أنه أصابه في طريقه مرض، وعقبه إبلال، فخاطبته بهذه القصيدة:

ضحكت وجوه الدهر بعد عبوس

وتجللتنا رحمة من بوس

وتوضحت غرر البشائر بعد ما

انبهمت فأطلعها حداة العيس

صدعوا بها ليل الهموم كأنما

صدعوا الظلام بجذوة المقبوس

فكأنهم بثوا حياة في الورى

نشرت لها الآمال من مرموس

قرت عيون الخلق منها بالتي

أضفت من النعماء خير لبوس

فكأن قومي نادمتهم قرقف

شربوا النعيم لها بغير كؤوس

يتمايلون من المسرة والرضى

ويقابلون أهلة بشموس

من راكب وافى يحيي راكباً

وجليس أنس قاده لجليس

ومشفع لله يؤنس عنده

أثر الهدى في المعهد المأنوس

يعتد منها رحمة قدسية

فيبوء للرحمن بالتقديس

طب بإخلاص الدعاء وإنه

يشفي من الداء العياء ويوسي

ص: 196

(والمعني به إمام الجامع الأعظم، جامع الزيتونة بتونس).

يا ابن الخلائف والذين بنورهم

نهجت سبيل الحق بعد دروس

والناصر الدين القويم بعزمة

طرد استقامتها بغير عكوس

هجر المنى فيها ولذات المنى

في لذة التهجير والتغليس

حاط الرعية بالسياسة فانضوت

منه لإكرم مالك وسؤوس

أسد يحامي عن حمى أشباله

حتى ضووا منه لأمنع خيس

قسماً بموشي البطاح وقد غدت

تختال زهواً في ثياب عروس

والماثلات من الحنايا جثما

يخبرن عن طسم وفل جديس

خوص مضمرة البطون كأنها

أنضاء ركب في الفلاة حبيس

وخز البلى منها الغوارب والذرى

فلفتن خزراً بالعيون الشوس

لبقاك حرز الأنام وعصمة

وحياة أرواح لنا ونفوس

ولأنت كافل ديننا بحماية

لولاك ضيع عهدها وتنوسي

الله أعطاك التي لا فوقها

وحباك حظاً ليس بالموكوس

ص: 197

تعنو القلوب إليك قبل وجوهنا

سيان من رأس ومن مرءوس

فإذا أقمت فإن رعبك راحل

يحمي على الأعداء كل وطيس

وإذا رحلت فللسعادة آية

تقتادها في موكب وخميس

وإذا الأدلة في الكمال تطابقت

جاءت بمسموع لها ومقيس

فانعم بملكك دولة عادية

تشقي الأعادي بالعذاب البيس

وإليكها مني على خجل بها

عذراء قد حليت بكل نفيس

غذراً فقد طمس الشباب ونوره

وأضاء صبح الشيب عند طموس

لولا عنايتك التي أوليتني

ما كنت أعنى بعدها بطروس

والله ما أبقت ممارسة النوى

مني سوى مرس أحم دريس

أنحى الزمان علي في الأدب الذي

دارسته بمجامع ودروس

فسطا على وفري وروع مأمني

واجتث من دوح النشاط غروسي

ورضاك رحمتي التي أعتدها

تحيي منى نفسي وتذهب بوسي

ثم كثرت سعاية البطانة بكل نوع من أنواع السعايات، وابن عرفة يزيد في إغرائهم متى اجتمعوا إليه، إلى أن أغروا السلطان بسفري معه، ولقنوا النائب بتونس القائد فارح من موالي السلطان أن يتفادى من مقامتي معه، خشية على أمره مني بزعمه، وتواطأوا على أن يشهد ابن عرفة بذلك للسلطان، فشهد به في غيبة مني، ونكر السلطان عليهم ذلك، ثم بعت إلي وأمرني بالسفر معه، فسارعت إلى الامتثال، وقد شق ذلك علي، إلا أني لم أجد محيصاً عنه، فخرجت معه، وانتهيت إلى تبسة، وسط تلول إفريقية، وكان منحدراً في عساكره وتواليفه من العرب إلى توزر، لأن ابن يملول كان أجلب عليها سنة ثلاث وثمانين، واستنقذها من يد ابنه، فسار السلطان إليه، وشرده عنها، وأعاد إليها ابنه وأولياءه. ولما نهض من تبسه، رجعني إلى تونس، فأقمت بضيعتي الرياحين من نواحيها لضم زروعي بها، إلى أن قفل السلطان ظافراً منصوراً، فصحبته إلى تونس.

ص: 198