الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السرية بهنين وكشفوا الخبر فلم يقفوا على صحته، وحملوني إلى السلطان، فلقيته قريباً من تلمسان، واستكشفني عن ذلك الخبر، فأعلمته بيقينه. وعنفني على مفارقة دارهم، فاعتذرت له بما كان من عمر بن عبد الله المستبد عليهم، وشهد لي كبير مجلسه، وولي أبيه وابن وليه: ونزمار بن عريف، ووزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة، واحتفت الألطاف. وسألني في ذلك المجلس عن أمر بجاية، وأفهمني أنه يروم تملكها. فهونت عليه السبيل إلى ذلك، فسر به، وأقمت تلك الليلة في الاعتقال. ثم أطلقني
من الغد، فعمدت إلى رباط الشيخ الولي أبي مدين، ونزلت بجواره مؤثراً للتخلي والانقطاع للعلم لو تركت له.
مشايعة السلطان عبد العزيز
صاحب المغرب على بني عبد الواد
ولما دخل السلطان عبد العزيز تلمسان، واستولى عليها، وبلغ خبره إلى أبي حمو وهو بالبطحاء، فأجفل من هنالك، وخرج في قومه وشيعته من بني عامر، ذاهباً إلى بلاد رياح، فسرح السلطان وزيره أبا بكر بن غازي في العساكر لاتباعه. وجمه عليه أحياء زغبة والمعقل باستئلاف وليه ونزمار وتدبيره، ثم أعمل السلطان نظره ورأى أن يقدمني أمامه إلى بلاد رياح لأوطد أمره، وأحملهم على مناصرته، وشفاء نفسه من عدوه بما كان السلطان آنس مني من استتباع رياح، وتصريفهم فيما أريده من مذاهب الطاعة فاستدعاني من خلوتي بالعتاد عند رباط الولي أبي مدين. وأنا قد أخذت في تدريس العلم، واعتزمت على الانقطاع، فآنسني، وقربني، ودعاني إلى ما ذهب إليه من ذلك فلم يسعني إلا إجابته. وخلع علي، وحملني، وكتب إلى شيوخ الدواودة بامتثال ما ألقب إليهم من أوامره. وكتب إلى يعقوب بن علي، وابن مزنى
بمساعدتي على ذلك، وأن يحاولوا على استخلاص أبي حمو من بين أحياء بني عامر، ويحولوه إلى حي يعقوب بن علي، فودعته وانصرفت في عاشوراء اثنين وسبعين، فلحقت الوزير في عساكره وأحياء العرب من المعقل وزغبة على البطحاء. ولقيته، ودفعت إليه كتاب السلطان، وتقدمت أمامه. وشيعني ونزمار يومئذ، وأوصاني بأخيه محمد. وقد كان أبوحمو قبض عليه عندما أحس منهم بالخلاف، وأنهم يرومون الرحلة إلى المغرب. وأخرجه معه من تلمسان مقيداً، واحتمله في معسكره، فأكد علي ونزمار
يومئذ في المحاولة على استخلاصه بما أمكن. وبعث معي ابن أخيه عيسى في جماعة من سويد يُبَذْرِق بي ويتقدم إلى أحياء حصين بإخراج أبي زيان من بينهم، فسرنا جميعاً، وانتهينا إلى أحياء حصين. وأخبرهم فرح بن عيسى بوصية عمه ونزمار إليهم، فنبذوا إلى أبي زيان عهده، وبعثوا معه منهم من أوصله إلى بلاد رياح. ونزل على أولاد يحيى بن علي بن سباع، وتوغلوا به في القفر، واستمريت أنا ذاهباً إلى بلاد رياح، فلما انتهيت إلى المسيلة ألفيت السلطان أبا حمو وأحياء رياح معسكرين قريباً منها في وطن أولاد سباع بن يحيى من الدواودة، وقد تساتلوا إليه، وبذل فيهم العطاء ليجتمعوا إليه. فلما سمعوا بمكاني بالمسيلة، جاؤوا إلي فحملتهم على طاعة السلطان عبد العزيز، وأوفدت أعيانهم وشيوخهم على الوزير أبي بكر بن غازي، فلقوه ببلاد الديالم عند نهر واصل، فأتوه طاعتهم، ودعوه إلى دخول بلادهم في اتباع عدوه. ونهض معهم، وتقدمت أنا من المسيلة إلى بسكرة، فلقيت بها يعقوب بن علي. واتفق هو وابن مزنى على طاعة السلطان، وبعث ابنه محمداً للقاء أبي حمو وأمير بني عامر خالد بن عامر، يدعوهم إلى نزول وطنه، والبعد به عن بلاد السلطان عبد العزيز، فوجده متدلياً من المسيلة إلى الصحراء. ولقيه على الدوسن وبات ليلته يعرض عليهم التحول من وطن أولاد سباع إلى وطنهم بشرقي الزاب. وأصبح يومه
كذلك، فما راعهم آخر النهار إلا انتشار العجاج خارجاً إليهم من أفواه الثنية، فركبوا يستشرقون، وإذا بهوادي الخيل طالعة من الثنية، وعساكر بني مرين والمعقل وزغبة متتالية أمام الوزير أبي بكر بن غازي، قد دل بهم الطريق وفد أولاد سباع الذين بعثتهم من المسيلة، فلما أشرفوا على المخيم، أغاروا عليه مع غروب الشمس، فأجفل بنو عامر، وانتهب مخيم السلطان أبي حمو ورحائله وأمواله. ونجا بنفسه تحت الليل، وتمزق شمل ولده وحرمه، حتى خلصوا إليه بعد أيام، واجتمعوا بقصور مصاب
من بلاد الصحراء وامتلأت أيدي العساكر والعرب من نهابهم. وانطلق محمد بن عريف في تلك الهيعة. أطلقه الموكلون به، وجاء إلى الوزير وأخيه ونزمار، وتلقوه بما يجب له. وأقام الوزير أبو بكر بن غازي على الدوسن أياماً أراح فيها. وبعث إليه ابن مزنى بطاعته، وأرغد له من الزاد والعلوفة، وارتحل راجعاً إلى المغرب، وتخلفت بعده أياماً عند أهلي ببسكرة. ثم ارتحلت إلى السلطان في وفد عظيم من الدواودة، يقدمهم أبو دينار أخو يعقوب بن علي، وجماعة من أعيانهم، فسابقنا الوزير إلى تلمسان، وقدمنا على السلطان، فوسعنا من حبائه وتكرمته، ونزله ما بعد العهد بمثله. ثم جاء من بعدنا الوزير أبو بكر بن غازي على الصحراء، بعد أن مر بقصور بني عامر هنالك فخربها، وكان يوم قدومه على السلطان يوماً مشهوداً، وأذن بعدها لوفود الدواودة بالانصراف إلى بلادهم. وقد كان ينتظر بهم قدوم الوزير، ووليه ونزمار بن عريف، فودعوه، وبالغ في الإحسان إليهم، وانصرفوا إلى بلادهم. ثم أعمل نظره في إخراج أبي زيان من بين أحياء الدواودة لما خشي من رجوعه إلى حصين، فوامرني في ذلك، وأطلقني إليهم في محاولة انصرافه عنهم، فانطلقت لذلك. وكان أحياء حصين قد توجسوا الخيفة من السلطان وتنكروا له، وانصرفوا إلى أهلهم بعد مرجعهم من
غزاتهم مع الوزير، وبادروا باستدعاء أبي زيان من مكانه عند أولاد يحيى بن علي، وأنزلوه بينهم، واشتملوا عليه، وعاثوا إلى الخلاف الذي كانوا عليه أيام أبي حمو، واشتعل المغرب الأوسط ناراً. ونجم صبي من بيت الملك في مغراوة، وهو حمزة بن علي بن راشد؛ فر من معسكر الوزير ابن غازي أيام مقامه عليها فاستولى على شلف، وبلاد قومه. وبعث السلطان وزيره عمر بن مسعود في العساكر لمنازلته، وأعيا داؤه، وانقطعت أنا ببسكرة، وحال ذلك ما بيني وبين السلطان إلا بالكتاب والرسالة. وبلغني في تلك الأيام وأنا ببسكرة مفر الوزير ابن الخطيب من الأندلس،
وقدومه على السلطان بتلمسان، توجس الخيفة من سلطانه، بما كان له من الاستبداد عليه، وكثرة السعاية من البطانة فيه، فأعمل الرحلة إلى الثغور المغربية لمطالعتها بإذن سلطانه. فلما حاذى جبل الفتح قفل الفرضة، دخل إلى الجبل، وبيده عهد السلطان عبد العزيز إلى القائد هنالك بقبوله. وأجاز البحر من حينه إلى سبتة، وسار إلى السلطان بتلمسان، وقدم عليهما في يوم مشهود. وتلقاه السلطان من الحظوة والتقريب وإدرار النعم بما لا يعهد مثله. وكتب إني من تلمسان يعرفني بخبره، ويلم ببعض العتاب على ما بلغه من حديثي الأول بالأندلس. ولم يحضرني الآن كتابه، فكان جوابي عنه ما نصه:
الحمد لله ولا قوة إلا بالله، ولا راد لما قضاه الله.
يا سيدي ونعم الذخر الأبدي، والعروة الوثقى التي اعتلقتها يدي، أسلم
عليكم سلام القدوم، على المخدوم، والخضوع، للملك المتبوع، لا بل أحييكم تحية المشوق، للمعشوق، والمدلج، للصباح المتبلج، وأقرر ما أنتم أعلم بصحيح عقدي في من حبي لكم، ومعرفتي بمقداركم، وذهابي إلى أبعد الغايات في تعظيمكم، والثناء عليكم، والإشادة في الإنفاق بمنقاقبكم، ديدناً معروفاً، وسجية راسخة، يعلم الله وكفى به شهيداً، وبهذا كما في علمكم قسماً ما اختلف لي فيه أول وآخر، ولا شاهد ولا غائب. وأنتم أعلم بما في نفسي، وأكبر شهادة في خفايا ضميري. ولو كنت ذاك، فقد سلف من حقوقكم، وجميل أخذكم، واجتلاب الحظ - لو هيأه القدر - بمساعيكم، وإيثاري بالمكان من سلطانكم، ودولتكم، ما يستلين معاطف القلوب، ويستل سخائم الهواجس، فأنا أحاشيكم من استشعار نبوة، أو إحقاق ظن؛ ولو تعلق بقلب ساق حر ذرء وذرء، فحاش لله أن يقدح في الخلوص لكم، أو يرجح سوابقكم، إنما هو خبيئة الفؤاد إلى الحشر أو اللقاء. ووالله وجميع ما يقسم به، ما اطلع على مستكنه مني غير صديقي وصديقكم الملابس - كان - لي ولكم الحكيم
الفاضل العلم أبي عبد الله الشقوري أعزه الله. نفثة
مصدور، ومباثة خلوص، إذ أنا أعلم الناس بمكانه منكم، وقد علم ما كان مني حين مفارقة صاحب تلمسان، واضمحلال أمره، من إجماع الأمر على الرحلة إليكم، والخفوف إلى حاضرة البحر للإجازة إلى عدوتكم، تعرضت فيها للتهم، ووقفت بمجال الظنون، حتى تورطت في الهلكة بما ارتفع عني مما لم آته، ولا طويت العقد عليه، لولا حلم مولانا الخليفة، وحسن رأيه في وثبات بصيرته، لكنت في الهالكين الأولين؛ كل ذلك شوقاً إلى لقائكم، وتمثلاً لأنسكم، فلا تظنوا بي الظنون، ولا تصدقوا في التوهمات، فأنا من علمتم صداقة، وسذاجة، وخلوصاً، واتفاق ظاهر وباطن، أثبت الناس عهداً، وأحفظهم غيباً، وأعرفهم بوزن الإخوان ومزايا الفضلاء؛ ولأمر ما تأخر كتابي من تلمسان فأني كنت أستشعر ممن استضافني ريباً بخطاب سواه، خصوصاً جهتكم، لقديم ما بين الدولتين من الاتحاد والمظاهرة واتصال اليد، مع أن الرسول تردد إلي، وأعلمني اهتمامكم واهتمام السلطان، تولاه الله، باستكشاف ما انبهَم من حالي؛ فلم أترك شيئاً مما أعلم تشوفكم إليه إلا وكشفت له قناعه، وأمنته على بلاغه؛ ولم أزل بعد انتياش مولانا الخليفة لذمائي، وجذبه بضَبْعَيَّ سابحاً في تيار الشواغل كما علمتم القاطعة حتى عن الفكر.
وسقطت إلي بمحل خدمتي من هذه القاصية أخبار خلوصكم إلى المغرب، قبل وصول راجلي إلى الحضرة، غير جلية ولا ملتئمة ولم يتعين ملقي العصى ولا مستقر النوى، فأرجيت الخطاب إلى استجلائها؛ وأفدت في كتابكم العزيز
علي، الجاري على سنن الفضل، ومذهب المجد، غريب ما كيفه القدر من تنويع الحال لديكم. وعجبت من تأتي أملكم الشارد فيه كما كنا نستبعده عند المفاوضة، فحمدت الله لكم على الخلاص من ورطة الدول على أحسن الوجوه، وأجمل المخارج الحميدة العواقب في الدنيا والدين، العائدة بحسن المآل في المخلف: من أهل وولد
ومتاع وأثر، بعد أن رضتم جموح الأيام، وتوقلتم قلل العز، وقدتم الدنيا بحذافيرها، وأخذتم بآفاق السماء على أهلها؛ وهنيئاً فقد نالت نفسكم التواقة أبعد أمانيها، ثم تاقت إلى ما عند الله؛ وأشهد لما ألهمتم للإعراض عن الدنيا ونزع اليد من حطامها عند الإصحاب والإقبال، ونهى الآمال، إلا جذباً وعناية من الله، وحباً؛ وإذا أراد الله أمراً يسر أسبابه.
واتصل بي ما كان من تحفى المثابة المولوية بكم، واهتزاز الدولة لقدومكم؛ ومثل تلك الخلافة، أيدها الله، من يثابر على المفاخر، ويستأثر بالأخاير. وليت ذلك عند إقبالكم على الحظ، وأنسكم باجتلاب الآمال، حتى يحسن المتاع بكم، ويتجمل السرير الملوكي بمكانكم، فالظن إن هذا الباعث الذي هزم الآمال، ونبذ الحظوظ، وهون المفارق العزيز، يسومكم الفرار إلى الله، حتى يأخذ بيدكم إلي فضاء المجاهدة،
ويستوي بكم على جودي الرياضة. والله يهدي للتي هي أقوم. وكأني بالأقدام نقلت، والبصائر بإلهام الحق صقلت، والمقامات خلفت بعد أن استقبلت، والعرفان شيمت أنواره وبوارقه، والوصول انكشفت حقائقه لما ارتفعت عوائقه. وأما حالي، والظن بكم الاهتمام بها، والبحث عنها، فغير خفية بالباب المولوي - أعلاه الله - ومظهرها في طاعته، ومصدرها عن أمره، وتصاريفها في خدمته، والزعم إني قمت المقام المحمود في التشيع، والانحياش، واستمالة الكافة، إلى المناصحة، ومخالطة القلوب للولاية، وما يتشوفه مجدكم ويتطلع إليه فضلكم واهتمامكم، من خاصيها في النفس والولد، فجهينة خبره مؤدي كتابي إليكم، ناشئ تأديبي، وثمرة تربيتي، فسهلوا له الإذن، وألينوا له جانب النجوى، حتى يؤدي ما عندي وما عندكم، وخذوه بأعقاب الأحاديث أن يقف عند مبادئها، وائتمنوه على ما تحدثون، فليس بظنين على السر.
وتشوفي لما يرجع به إليكم سيدي وصديقي وصديقكم المغرب في المجد والفضل،
المساهم في الشدائد، كبير المغرب، وظهير الدولة، أبو يحيى بن أبي
مدين - كان الله له - في شأن الولد والمخلف، تشوف الصديق لكم، الضنين على الأيام بقلامة الظفر من ذات يدكم، فأطلعوني طلع ذلك ولا يهمكم؛ فالفراق الواقع حسن، والسلطان كبير، والأثر جميل، والعدو الساعي قليل وحقير، والنية صالحة، والعمل خالص، ومن كان لله كان الله له.
واستطلاع الرياسة المزنية الكافلة - كافأ الله يدها البيضاء - عني وعنكم إلى مثله من أحوالكم استطلاع من يسترجح وزانكم، ويشكر الزمان على ولاده لمثلكم.
وقد قررت لعلومه من مناقبكم، وبعد شأوكم، وغريب منحاكم، ما شهدت به آثاركم الشائعة، الخالدة في الرسائل المتأدية، وعلى ألسنة الصادر والوارد من الكافة، من حمل الدولة، واستقامة السياسة، ووقفته على سلامكم، وهو يراجعكم بالتحية، ويساهمكم بالدعاء.
وسلامي على سيدي، وفَلْذَةِ كبدي ومحل ولدي، الفقيه الزكي الصدر أبي الحسن نجلكم، أعزه الله، وقد وقع مني موقع البشرى حلوله من الدولة بالمكان العزيز، والرتبة النابهة، والله يلحفكم جميعاً رداء العافية والستر ويمهد لكم محل الغبطة والأمن، ويحفظ عليكم ما أسبغ من نعمته، ويجريكم على عوائد لطفه وعنايته، والسلام الكريم يخصكم من المحب الشاكر الداعي الشائق شيعة فضلكم: عبد الرحمن بن خلدون، ورحمة الله وبركاته في يوم الفطر عام اثنين وسبعين وسبع مائة.
وكان بعث إلي مع كتابه نسخة كتابه إلى سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس، عندما دخل جبل الفتح، وصار إلى إيالة بني مرين، فخاطبه من هنالك بهذا الكتاب، فرأيت أن أثبته هنا وإن لم يكن من غرض التأليف لغربته، ونهايته في الجودة، وإن مثله لا يهمل من مثل هذا الكتاب، مع ما فيه من زيادة الاطلاع على
أخبار الدول في تفاصيل أحوالها. ونص الكتاب:
بانوا فمن كان باكياً يبكي
…
هذي ركاب السرى بلا شك
فمن ظهور الرِّكاب معملة
…
إلى بطون الربى إلى الفلك
تصدع الشمل مثلما انحدرت
…
إلى صبوب جواهر السلك
من النوى قبل لم أزل حذراً
…
هذى النوى جل مالك الملك
مولاي. كان الله لكم وتولى أمركم. أسلم عليكم سلام الوداع، وأدعو الله في تيسير اللقاء والاجتماع، بعد التفرق والانصداع، وأقرر لديكم أن الإنسان أسير الأقدار، مسلوب الاختيار، متقلب في حكم الخواطر والأفكار، وأن لا بد لكل أول من آخر، وأن التفرق لما لزم كل اثنين بموت أو في حياة، ولم يكن منه بد، كان خير أنواعه الواقعة بين الأحباب، ما وقع على الوجوه الجميلة البريئة من الشرور.
ويعلم مولاي حال عبده منذ وصل إليكم من المغرب بولدكم، ومقامه لديكم بحال قلق وقلعة، لولا تعليلكم، ووعدكم، وارتقاب اللطائف في تقليب قلبكم، وقطع مراحل الأيام حريصاً على استكمال سنكم، ونهوض ولدكم واضطلاعهم بأمركم، وتمكن هدنة وطنكم، وما تحمل في ذلك من ترك غرضه لغرضكم، وما استقر بيده من عهودكم، وأن العبد الآن لما تسبب لكم في الهدنة من بعد الظهور والعز، ونجح السعي، وتأتى لسنين كثيرة الصلح، ومن بعد أن لم يبق لكم بالأندلس مشغب من القرابة، وتحرك لمطالعة الثغور الغربية، وقرب من فرضة المجاز، واتصال الأرض ببلاد المشرق، طرقته الأفكار، وزعزعت صبره رياح الخواطر، وتذكر
إشراف العمر على التمام، وعواقب الاستغراق، وسيرة الفضلاء عند شمول البياض، فغلبته حال شديدة هزمت التعشق بالشمل الجميع، والوطن المليح، والجاه الكبير، والسلطان القليل النظير، وعمل بمقتضى قوله: موتوا قبل أن تموتوا. فإن صحت هذه الحال المرجو من إمداد الله، تنقلت الأقدام إلى أمام، وقوي التعلق
بعروة الله الوثقى، وإن وقع العجز، وافتضح العزم، فالله يعاملنا بلطفه. وهذا المرتكب مرام صعب، لكن سهله علي أمور: منها أن الانصراف لما لم يكن منه بد، لم يتعين على غير هذه الصورة، إذ كان عندكم من باب المحال. ومنها أن مولاي لو سمح لي في غرض الانصراف، لم تكن لي قدرة على موقف وداعه، لا والله! ولكان الموت أسبق إلي، وكفى بهذه الوسيلة الحبية - التي يعرفها - وسيلة. ومنها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به، وأظن أني لا أصدق. ومنها اغتنام المفارقة في زمن الأمان، والهدنة الطويلة، والاستغناء، إذ كان الانصراف المفروض ضرورياً قبيحاً في غير هذه الحال. ومنها - وهو أقوى الأعذار - إنني مهما لم أطق تمام هذا الأمر، أو ضاق ذرعي به، لعجز، أو مرض، أو خوف طريق، أو نفاد زاد، أو شوق غالب، رجعت رجوع الأب الشفيق، إلى الولد البر الرضي، إذ لم أخلف ورائي مانعاً من الرجوع، من قول قبيح أو فعل، بل خلفت الوسائل المرعية، والآثار الخالدة، والسير الجميلة، وانصرفت بقصد شريف فقت به أشياخي، وكبار وطني، وأهل طوري، وتركتكم على أتم ما أرضاه، مثنياً عليكم، داعياً لكم. وإن فسح الله في الأمد، وقضى الحاجة، فأملي العودة إلى ولدي وتربتي، وإن قطع الأجل، فأرجو أن أكون ممن وقع أجره على الله.
فإن كان تصرفي صواباً، وجارياً على السداد، فلا يلام من أصاب، وإن كان عن حمق، وفساد عقل، فلا يلام من اختل عقله، وفسد مزاجه، بل يعذر، ويشفق عليه،
ويرحم، وإن لم يعط مولاي أمري حقه من العدل، وجلبت الذنوب، وحشرت بعدي العيوب، فحياؤه وتناصفه ينكر ذلك، ويستحضر الحسنات، من التربية والتعليم وخدمة السلف وتخليد الآثار وتسمية الولد وتلقيب السلطان، والإرشاد للأعمال الصالحة والمداخلة والملابسة، لم يتخلل ذلك قط خيانة في مال ولا سر،
ولا غش في تدبير. ولا تعلق به عار، ولا كدره نقص، ولا حمل عليه خوف منكم، ولا طمع فيما بيدكم، فإن لم تكن هذه دواعي الرعي والوصلة والإبقاء، ففيم تكون بين بني آدم؟
وأنا قد رحلت. فلا أوصيكم بمال، فهو عندي أهون متروك، ولا بولد فهم رجالكم، وخدامكم، وممن يحرص مثلكم على الاستكثار منهم، ولا بعيال، فهي من مربيات بيتكم، وخواص داركم، إنما أوصيكم بحظي العزيز كان علي بوطنكم، وهو أنتم، فأنا أوصيكم بكم، فارعوني فيكم خاصة. أوصيكم بتقوى الله، والعمل لغد، وقبض عنان اللهو في موطن الجد، والحياء من الله الذي محص وأقال، وأعاد النعمة بعد زوالها لينظر كيف تعملون. وأطلب منكم عوض ما وفرته عليكم، من زاد طريق، ومكافأة، وإعانة، زاداً سهلاً عليكم، وهو أن تقولوا لي: غفر الله لك ما ضيعت من حقي خطأ أو عمداً، وإذا فعلتم ذلك فقد رضيت.
واعلموا أيضاً على جهة النصيحة أن ابن الخطيب مشهور في كل قطر، وعند كل ملك، واعتقاده، وبره، والسؤال عنه، وذكره بالجميل، والإذن في زيارته، نجابة منكم، وسعة ذرع ودهاء، فإنما كان ابن الخطيب بوطنكم سحابة رحمة نزلت، ثم أقشعت، وتركت الأزاهر تفوح، والمحاسن تلوح، ومثاله معكم مثال المرضعة أرضعت السياسة، والتدبير الميمون، ثم رقدتكم في مهد الصلح والأمان، وغطتكم بقناع العافية، وانصرفت إلى الحمام تغسل اللبن والوضر، وتعود، فإن وجدت الرضيع نائماً فحسن، أو قد انتب فلم تتركه إلا في حد الفطام. وتختم لكم هذه الغزارة بالحلف الأكيد: إني ما تركت لكم وجه نصيحة في دين، ولا في دنيا، إلا وقد وفيتها
لكم، ولا فارقتكم إلا عن عجز، ومن ظن خلاف هذا فقد ظلمني وظلمكم، والله يرشدكم ويتولى أمركم. ونقول: خاطركم في ركوب البحر.
انتهت نسخة الكتاب، وفي طيها هذه الأبيات:
صاب مزن الدموع من جفن صبك
…
عندما استروح الصبا من مهبك
كيف يسلو يا جنتي عنك قلب
…
كان قبل الوجود جن بحبك
ثم قل كيف كان بعد انتشاء ال
…
روح من أنسك الشهي وقربك
لم يدع بيتك المنيع حماه
…
لسواه إلا إلى بيت ربك
أول عذري الرضا فما جئت بدعاً
…
دمت والفضل والرضا من دأبك
وإذا ما ادعيت كرباً لفقدي
…
أين كربي ووحشتي من كربك
ولدي في ذراك وكري في دو
…
حك لحدي وتربتي في تربك
يا زماناً أغرى الفراق بشملي
…
ليتني أهبتي أخذت لحربك
أركبتني صروفك الصعب حتى
…
جئت بالبين وهو أصعب صعبك
وكتب آخر النسخة يخاطبني:
هذا ما تيسر، والله ولي الخيرة لي ولكم من هذا الخباط الذي لا نسبة بينه وبين أولي الكمال. ردنا الله إليه، وأخلص توكلنا عليه، وصرف الرغبة إلى ما لديه.
وفي طي النسخة مدرجة نصها:
رضي الله عن سيادتكم. أونسكم بما صدر مني أثناء هذا الواقع مما استحضره
الولد في الوقت، وهو يسلم عليكم بما يجب لكم، وقد حصل من حظوة هذا المقام الكريم على حظ وافر، وأجزل إحسانه، ونوه بجرايته، وأثبت الفرسان خلفه. والحمد لله انتهى.
ثم اتصل مقامي ببسكرة، والمغرب الأوسط مضطرب بالفتنة المانعة من الأتصال بالسلطان عبد العزيز، وحمزة بن علي بن راشد ببلاد مغراوة، والوزير عمر بن مسعود في العساكر يحاصره بحصن تاجحمومت، وأبو زيان العبد الوادي ببلاد حصين، وهم مشتملون عليه وقائمون بدعوته.
ثم سخط السلطان وزيره عمر بن مسعود، ونكر منه تقصيره في أمر حمزة
وأصحابه، فاستدعاه إلى تلمسان، وقبض عليه، وبعث به إلى فاس معتقلاً، فحبس هناك، وجهز العساكر مع الوزير أبي بكر بن غازي، فنهض إليه، وحاصره ة ففر من الحصن، ولحق بمليانة مجتازاً عليها، فأنذر به عاملها فتقبض عليه، وسيق إلى الوزير في جماعة من أصحابه، فضرب أعناقهم، وصلبهم عظة ومزدجراً لأهل الفتنة.
ثم أوعز السلطان إلى الوزير بالمسير إلى حصين، وأبي زيان، فسار في العسكر، واستنفر أحياء العرب من زغبة فأوعبهم، ونهض إلى حصين، فامتنعوا بجبل تطري، ونزل الوزير بعساكره ومن معه من أحياء زغبة على الجبل تيطري، من جهة التل، فأخذ بمخنقهم، وكاتب السلطان أشياخ الدواودة من رياح بالمسير إلى حصار تيطري من جهة القبلة. وكاتب أحمد بن مزنى صاحب بسكرة بإمدادهم بأعطياتهم وكتب إلي يأمرني بالمسير بهم لذلك، فاجتمعوا علي، وسرت بهم أول سنة أربع وسبعين، حتى نزلنا بالقطفة، ووفدت، في جماعة منهم، على الوزير بمكانه من حصار تيطري، فحد لهم حدود الخدمة، وشارطهم على الجزاء. ورجعنا إلى أحيائهم بالقطفة، فاشتدوا في حصار الجبل، وألجأوهم بسوامهم وظهرهم إلى قنته، فهلك لهم الخف والحافر، وضاق ذرعهم بالحصار من كل جانب، وراسل