الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكثر الله في همومي
…
إن كان غير الخلاص همي
وإن أنعم سيدي بالإلماع بحالة، وحال الولد المبارك، فذلك من غرر إحسانه، ومنزلته في لحظ لحظي بمنزلة إنسانه، والسلام.
العودة إلى المغرب الأقصى
ولما كنت في الاعتمال في مشايعة السلطان عبد العزيز ملك المغرب، كما ذكرت تفاصيله، وأنا مقيم ببسكرة في جوار صاحبها أحمد بن يوسف بن مزنى، وهو صاحب زمام رياح، وأكثر عطائهم من السلطان مفترض عليه في جباية الزاب، وهم يرجعون إليه في الكثير من أمورهم، فلم أشعر إلا وقد حدثت المنافسة منه في استتباع العرب، ووغر صدره، وصدق في ظنونه وتوهماته، وطاوع الوشاة فيما يوردون على سمعه من التقول والاختلاق، وجاش صدره بذلك، فكتب إلى ونزمار بن عريف، ولي السلطان، وصاحب شواره، يتنفس الصعداء من ذلك، فأنهاه إلى السلطان، فاستدعاني لوقته، وارتحلت من بسكرة بالأهل والولد، في يوم المولد الكريم، سنة أربع وسبعين، متوجهاً إلى السلطان، وقد كان طرقه المرض، فما هو إلا أن وصلت مليانة من أعمال المغرب الأوسط، فلقيني هنالك خبر وفاته، وأن ابنه أبا بكر السعيد نصب بعده للأمر، في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي وإنه ارتحل إلى المغرب
الأقصى مغذاً السير إلى فاس، وكان على مليانة يومئذ علي بن حسون بن أبي علي اليناطي من قواد السلطان وموالي بيته، فارتحلت معه إلى أحياء العطاف، ونزلنا على أولاد يعقوب بن موسى من أمرائهم، وبذرق لي بعضهم إلى حلة أولاد عريف: أمراء سويد، ثم لحق بنا بعد أيام، علي بن حسون في عساكره، وارتحلنا جميعاً إلى المغرب على طريق الصحراء، وكان أبو حمو قد رجع بعد مهلك السلطان من مكان انتباذه بالقفر في تيكورارين إلى تلمسان، فاستولى عليها وعلى سائر أعماله، فأوعز إلى بني يغمور من شيوخ عبيد الله من المعقل أن يعترضونا بحدود بلادهم من رأس العين مخرج وادي زا فاعترضونا هنالك، فنجا من نجا منا على خيولهم إلى جبل دبدو، وانتهبوا جميع ما كان معنا، وأرجلوا الكثير من الفرسان وكنت فيهم، وبقيت يومين في قفره، ضاحياً عارياً إلى أن خلصت إلى العمران، ولحقت
بأصحابي بجبل دبدو، ووقع في خلال من
الألطاف ما لا يعبر عنه، ولا يسع الوفاء بشكره. ثم سرنا إلى فاس، ووفدت على الوزير أبي بكر، وابن عمه محمد بن عثمان بفاس، في جمادى من السنة، وكان لي معه قديم صحبة واختصاص، منذ نزع معي إلى السلطان أبي سالم بجبل الصفيحة، عند إجازته من الأندلس، لطلب ملكه، كما مر في غير موضع من الكتاب، فلقيني من بر الوزير وكرامته، وتوفير جرايته وإقطاعه، فوق ما أحتسب، وأقمت بمكاني من دولتهم أثير المحل، نابه الرتبة، عريض الجاه، منوه المجلس. ثم انصرم فصل الشتاء، وحدث بين الوزير أبي بكر بن غازي، وبين السلطان ابن الأحمر، منافرة بسبب ابن الخطيب، وما دعا إليه ابن الأحمر من إبعاثه عنهم، وأنف الوزير من ذلك، فأظلم الجو بينهما، وأخذ الوزير في تجهيز بعض القرابة من بني الأحمر، للإجلاب على الأندلس، فبادر ابن الأحمر إلى إطلاق الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن من ولد السلطان أبي علي، والوزير مسعود بن رحو بن ماساي، كان حبسهما أيام السلطان عبد العزيز، وبإشارته بذلك لابن الخطيب حين كان في وزارته بالأندلس، فأطلقهما الآن، وبعثهما لطلب الملك بالمغرب، وأجازهما في الأسطول إلى سواحل غساسة، فنزلوا بها، ولحقوا بقبائل بطوية هنالك، فاشتملوا عليهم، وقاموا بدعوة الأمير عبد الرحمن. ونهض ابن الأحمر من غرناطة في عساكر الأندلس، فنزل على جبل الفتح يحاصره. وبلغت الأخبار بذلك إلى الوزير أبي بكر بن غازي القائم بدولة بني مرين، فجهز لحينه ابن عمه محمد بن الكاس إلى سبته لامداد الحامية الذين لهم بالجبل، ونهض هو في العساكر إلى بطوية لقتال الأمير عبد الرحمن، فوجده قد ملك تازى، فأقام عليها يحاصره، وكان السلطان عبد العزيز قد جمع شباباً من بني أبيه
المرشحين، فحبسهم بطنجة، فلما وافى محمد بن الكاس سبتة، وقعت المراسلة بينه وبين ابن الأحمر، وعتب كل منهما صاحبه على ما كان منه، واشتد عذل ابن الأحمر على إخلائهم الكرسي
من كفئه، ونصبهم السعيد بن عبد العزيز صبياً لم يثغر، فاستعتب له محمد، واستقال من ذلك، فحمله ابن الأحمر على أن يبايع لأحد الأبناء المحبوسين بطنجة، وقد كان الوزير أبو بكر أوصاه أيضاً بأنه إن تضايق عليه الأمر من الأمير عبد الرحمن، فيفرج عنه بالبيعة لأحد أولئك الأبناء.
وكان محمد بن الكاس قد استوزره السلطان أبو سالم لابنه أحمد أيام ملكه، فبادر من وقته إلى طنجة، وأخرج أحمد ابن السلطان أبي سالم من محبسه، وبايع له، وسار به إلى سبتة، وكتب لابن الأحمر يعرفه بذلك، ويطلب منه المدد على أن ينزل له عن جبل الفتح، فأمده بما شاء من بالمال والعسكر، واستولى على جبل الفتح، وشحنه بحاميته، وكان أحمد ابن السلطان أبي سالم، قد تعاهد مع بني أبيه في محبسهم، على أن من صار الملك إليه منهم، يجيز الباقين إلى الأندلس، فلما بويع له ذهب إلى الوفاء لهم بعهدهم، وأجازهم جميعاً، فنزلوا على السلطان ابن الأحمر، فأكرم نزلهم ووفر جراياتهم. وبلغ الخبر بذلك كله إلى الوزير أبي بكر بمكانه من حصار الأمير عبد الرحمن بتازة، فأخفه المقيم المقعد من فعلة ابن عمه، وقوض راجعاً إلى دار الملك، وعسكر بكدية العرائس من ظاهرها، وتوعد ابن عمه محمد بن عثمان، فاعتذر بأنه إنما امتثل وصيته، فاستشاط وتهدده، واتسع الخرق بينهما، وارتحل محمد بن عثمان بسلطانه ومدده من عسكر الأندلس إلى أن احتل بجبل زرهون المطل على مكناسة، وعسكر به، واشتملوا عليه، وزحف إليهم الوزير أبو
بكر، وصعد الجبل، فقاتلوه وهزموه، ورجع إلى مكانه بظاهر دار الملك. وكان السلطان ابن الأحمر قد أوصى محمد بن عثمان بالاستعانة بالأمير عبد الرحمن، والاعتضاد به، ومساهمته في جانب من أعمال المغرب يستبد به لنفسه، فراسله محمد بن عثمان في ذلك، واستدعاه، واستمده. وكان ونزمار بن عريف ولي سلفهم قد أظلم الجو بينه وبين الوزير أبي بكر، لأنه
سأله - وهو يحاصر تازى - في الصلح مع الأمير عبد الرحمن فامتنع واتهمه بمداخلته، والميل له، فاعتزم على القبض عليه، ودس إليه بذلك بعض عيونه، فركب الليل، ولحق بأحياء الأحلاف من المعقل، وكانوا شيعة للأمير عبد الرحمن، ومعهم علي بن عمر الويعلاني كبير بني ورتاجن، كان انتقض على الوزير ابن غازي، ولحق بالسوس، ثم خاض القفر إلى هؤلاء. الأحلاف، فنزل بينهم مقيماً لدعوة الأمير عبد الرحمن. فجاءهم ونزمار مفلتاً من حبالة الوزير أبي بكر، وحرضهم على ما هم فيه، ثم بلغهم خبر السلطان أحمد بن أبي سالم، ووزيره محمد بن عثمان، وجاءهم وافد الأمير عبد الرحمن يستدعيهم، وخرج من تازى فلقيهم، ونزل بين أحيائهم، ورحلوا جميعاً إلى إمداد السلطان أبي العباس، حتى انتهوا إلى صفووى. ثم اجتمعوا جميعاً على وادي النجا، وتعاقدوا على شأنهم، وأصبحوا من الغد على التعبئة، كل من ناحيته.
وركب الوزير أبو بكر لقتالهم فلم يطق، وولى منهزماً، فانحجر بالبلد
الجديد، وخيم القوم بكدية العرائس محاصرين له، وذلك أيام عيد الفطر من خمس وسبعين، فحاصروها ثلاثة أشهر، وأخذوا بمخنقها إلى أن جهد الحصار الوزير ومن معه، فأذعن للصلح على خلع الصبي المنصوب السعيد ابن السلطان عبد العزيز، وخروجه إلى السلطان أبي العباس ابن عمه، والبيعة له، وكان السلطان أبو العباس، والأمير عبد الرحمن، قد تعاهدوا - عند الاجتماع بوادي النجا - على التعاون والتناصر، على أن الملك للسلطان أبي العباس بسائر أعمال المغرب، وأن للأمير عبد الرحمن بلداً سجلماسة ودرعة، والأعمال التي كانت لجده السلطان أبي علي أخي السلطان أبي الحسن، ثم بدا للأمير عبد الرحمن في ذلك أيام الحصار، واشتط بطلب مراكش وأعمالها، فأغضوا له في ذلك، وشارطوه عليه حتى يتم لهم الفتح، فلما انعقد بما بين السلطان أبي العباس، والوزير أبي بكر، وخرج إليه من
البلد الجديد، ويخلع سلطانه الصبي المنصوب، ودخل السلطان أبو العباس إلى دار الملك، فاتح ست وسبعين، وارتحل الأمير عبد الرحمن يغذ السير إلى مراكش، وبدا للسلطان أبي العباس، ووزيره محمد بن عثمان في شأنه، فسرحوا العساكر في اتباعه، وانتهوا خلفه إلى وادي بهت، فواقفوه ساعة من نهار، ثم أحجموا عنه، وولوا على راياتهم
وسار هو إلى مراكش، ورجع عنه وزيره مسعود بن ماساي، بعد أن طلب منه الإجازة إلى الأندلس يتودع بها، فسرحه لذلك، وسار إلى مراكش فملكها.
وأما أنا فكنت مقيماً بفاس، في ظل الدولة وعنايتها، منذ ندمت على الوزير سنة ربع وسبعين كما مر، عاكفاً على قراءة العلم وتدريسه، فلما جاء السلطان أبو العباس، والأمير عبد الرحمن، وعسكروا بكدية العرائس، وخرج أهل الدولة إليهم، من الفقهاء والكتاب، والجند، وأذن للناس جميعاً في مباكرة أبواب السلطانين من غير نكير في ذلك، فكنت أباكرهما معاً. وكان بيني وبين الوزير محمد بن عثمان ما مر ذكره قبل هذا، فكان يظهر لي رعاية ذلك، ويكثر من المواعيد، وكان الأمير عبد الرحمن يميل إلي ويستدعيني أكثر أوقاته يشاورني في أحواله، فغص بذلك الوزير محمد بن عثمان، وأغرى سلطانه فقبض علي. وسمع الأمير عبد الرحمن بذلك، وعلم أني إنما أوتيت من جراه، فحلف ليقوضن خيامه، وبعث وزيره مسعود بن ماساي لذلك، فأطلقوني من الغد، ثم كان افتراقهما لثالثه. ودخل السلطان أبو العباس دار الملك، وسار الأمير عبد الرحمن إلى مراكش، وكنت أنا يومئذ مستوحشاً، فصحبت الأمير عبد الرحمن معتزماً على الإجازة إلى الأندلس من ساحل أسفي، معولاً في ذلك على صحابة الوزير مسعود بن ماساي لهواي فيه، فلما رجع مسعود انثنى عزمي في ذلك، ولحقنا بونزمار بن عريف بمكانه من نواحي كرسيف لنقدمه وسيلة إلى السلطان أبي العباس، صاحب فاس في
الجواز إلى الأندلس، ووافينا عنده داعي السلطان فصحبناه إلى فاس، واستأذنه في شأني، فأذن لي بعد مطاولة، وعلى كره من الوزير محمد بن عثمان، وسليمان بن داود بن أعراب، ورجال الدولة.
وكان الأخ يحيى لما رحل السلطان أبو حمو من تلمسان، رجع عنه من بلاد