الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جَدَّك
محمد بن خلدون، وأراده على الحجابة، وأن يفوِّض إليه في أمره، فأبى واستعفى، فأعفاه، َوَوَامَرهُ فيمن يوليه حجابته، فأَشار عليه بصاحب الثغر: بجاية، محمد بن أبي الحسين بن سيد الناس، لاستحقاقة ذلك بكفايته واضطلاعه، ولقديم صحابة بين سلفهما بتونس، وبإشبيلية من قبل. وقال له: هو أقدر على ذلك بما هو عليه من الحاشية والذوين، فعمل السلطان على إشارته، واستدعى ابن سَيِّد الناس، وولَاّه حجابته. وكان السلطان أبو يحيى إذا خرج من تُونس يستعمل جدنا محمداً عليها، وثوقاً بنَظَرِه واستنامة إليه، إلى أن هلك سنة سبع وثلاثين، ونزع ابنه، وهو والدي محمد أبو بكر، عن طريقة السيف والخدمة، إلى طريقة العلم والرباط، لما نشأ عليها في حجر أبي عبد الله الزُّبَيْدي الشهير بالفقيه، كان كبير تونس لعهده، في العلم والفُتيا، وانتِحال طرق الولاية التي ورثها عن أبيه حُسين وعمه حَسن، الوليين الشَّهيرين. وكان جدنا رحمه الله قد لزمه من يوم نزوعه عن طريقه، وألزمه ابنَه، وهو والدي رحمه الله فقرأَ وتفَقَّه، وكان مقدَّماً في صناعة العربية، وله بصر بالشعر وفنونه. عهدي بأهل الأدب يتحاكمون إليْه فيه، ويعرضون حَوْكَهم عليه، وهلَك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
نشأته ومشيخته وحاله
أما نشأتي فإني وُلدت بتونس في غرة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وربيت في حجر والدي رحمه الله إلى أن أَيْفَعت وقرأْت القرآن العظيم على الأُستاذ المكتِّب أبي عبد الله محمد بن سعد بن بُرَّال الأنصاري، أصله من جالية الأندلس من أعمال بلنسية، أخذ عن مشيخة بلنسية وأعمالها، وكان إماماً في القراءات، لا
يُلحَق شَأوه، وكان من أشهر شيوخه ففي القراءات السبع أبو العباس أحمد بن محمد البطرني، ومشيخته فيها، وأسانيده معْروفة. وبعد أن استظهرت القرآن الكريم من حفظي، قرأته عليه بالقراءات السبع المشهورة إفراداً وجمعاً في
إحدى وعشرين خَتْمة، ثم جمعتها في ختمة واحدة أخرى، ثم قرأت برواية يعقوب ختمة واحدة جمعاً بين الروايتين عنه، وعرضت عليه رحمه الله قصيدتي الشاطبي؛ اللامية في القراءات، والرائية في الرسم، وأخبرني بهما عن الأستاذ أبي العباس البطرني وغيره من شيوخه؛ وعرضت عليه كتاب التَّقَصِّي لأحاديث الموطأ لابن عبد البر، حذا به حذو كتابه التمهيد على الموطأ، مقتصراً على الأحاديث فقط. ودارَسْتُ عليه كتباً جَمَّة، مثل كتاب التَّسْهِيل لابن مالك ومختصر ابن الحاجب في الفقه، ولم أكملهما
بالحفظ، وفي خلال ذلك تعلمت صناعة العربية على والدي، وعلى أستاذي تونس: منهم الشيخ أبو عبد الله بن العربي الحصايري، وكان إماماً في النحو وله شرحٌ مستوفى على كتاب التسهيل. ومنهم أبو عبد الله محمد بن الشواش الزرزالي. ومنهم أبو العباس أحمد بن القصار؛ كان ممتعاً في صناعة النحو، وله شرح على قصيدة البردة المشهورة في مدح الجناب النبوي، وهو حي لهذا العهد بتونس.
ومنهم: إمام العربية والأدب بتونس، أبو عبد الله محمد بن بحر؛ لازمت مجلسه، وأفدت عليه، وكان بحراً زاخراً في علوم اللسان. وأشار علي بحفظ الشعر، فحفظت كتاب الأشعار الستة، والحماسة للأعلم، وشعر حبيب، وطائفة من شعر المتنبي، ومن أشعار كتاب الأغاني. ولازمتُ أيضاً مجلس إمام المحدثين بتونس؛
شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر بن سلطان القَيْسي الوادياشي، صاحب الرحلتين؛ وسمعت عليه كتاب فسلم بن الحجاج، إلا فَوْتا يسيرا من كتاب الصيد؛ وسمعت عليه كتاب الموطأ من أوله إلى آخره، وبعضاً من الأمهات الخمس؛ وناولني كتباً كثيرة في العربية والفقه، وأجازني إجازة عامة، وأخبرني عن مشايخه المذكورين في بَرْنَامَجِه، أشهرهم بتونس قاضي الجماعة أبو العباس أجمد بن الغماز الخزرجي.
وأخذت الفقه بتونس عن جماعة؛ منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الجَيَّاني، وأبو القاسم محمد القصير؛ قرأت عليه كتاب التَّهذيب لأبي سعيد البرادعي؛ مختصر المدوَّنة، وكتاب المالكية، وتفقَّهت عليه. وكنت في خلال ذلك أنتاب مجلس شيخنا الإمام، قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن عبد السلام، مع أخي محمد رحمة الله عليهما. وأفدت منه، وسمعت عليه أثناء ذلك كتاب المُوَطَّأ للإمام مالك، وكانت له فيه طرق عالية، عن أبي محمد بن هارون الطائي قبل اختلاطه إلى غير هؤلاء من مشيخة تونس، وكلهم سمعت عليه، وكتب لي
وأجازني؛ ثم درجوا كلهم في الطاعون الجارف.
وكان قدم علينا في جُمْلة السلطان أبي الحسن، عندما مَلك إفريقية سنة ثمان وأربعين، جماعة من أهل العلم، وكان يلزمهم شهود مجلسه ويتجمل بمكانهم فيه: فمنهم شيخ الفتيا بالمغرب، وإمام مذهب مالك، أبو عبد الله محمد بن سليمان السطي؛ فكنت أنتاب مجلسه، وأفدت عليه. ومنهم كاتب السلطان أبي الحسن، وصاحب علامته التي توضع أسافل مكتوباته، إمام المحدثين والنُّحاة بالمغرب، أبو محمد بن عبد المُهَيمن بن عبد المهيمن الحضرمي؛ لازمته، وأخذت عنه، سماعاً، وإجازة، الأمهات الست، وكتاب الموطأ، والسِّيَر لابن اسحق، وكتاب ابن الصَّلاح في الحديث، وكتباً كثيرة شذت عن حفظي. وكانت بضاعته في الحديث وافرة، ونحلته في التقييد والحفظ كاملة، كانت له خزانة من الكتب تزيد على ثلاثة آلاف سفر؛ في الحديث، والفقه، والعربية، والأدب، والمعقول، وسائر الفنون؛ مضبوطة كلها، مقابلة. ولا يخلو ديوان منها عن ثبت بخط بعض شيوخه المعروفين في سنده إلى مؤلفه، حتى الفقه، والعربية، الغريبة الإسناد إلى مؤلفيها في هذه العصور. ومنهم الشيخ أبو العباس أحمد الزواوي، إمام المقرئين بالمغرب. قرأت عليه القرآن العظيم، بالجمع الكبير بين القراءات السبع، من طريق أبي عمرو الداني، وابن شُرَيْح، في ختمة لم أكملها، وسمعت عليه عدة كتب، وأجازني
بالإجازة العامة.
ومنهم شيخ العلوم العقلية، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي. أصله من
تلمسان، وبها نشأ، وقرأ كتب التعاليم، وحذق فيها؛ وأظله الحصار الكبير بتلمسان أمام المائة السابعة، فخرج منها، وحج، ولقي أعلام المشرق يومئذ، فلم يأخذ عنهم؛ لأنه كان مختلطاً بعارض عرض في عقله. ثم رجع من المشرق، وأفاق، وقرأ المنطق والأصلين، على الشيخ أبي موسى عيسى ابن الإمام؛ وكان قرأ بتونس، مع أخيه أبي زيد عبد الرحمن، على تلاميذ ابن زيتون الشهير الذكر؛ وجاء إلى تلمسان بعلم كثير من المعقول والمنقول، فقرأ الآبلي على أبي موسى منهما كما قلناه. ثم خرج من تلمسان هارباً إلى المغرب، لأن سلطانها يومئذ، أبو حمو من ولد يَغْمِرَاسِنْ بن زيان، كان يكرهه على التصرف في أعماله، وضبط الجباية بحسبانه، ففر إلى المغرب، ولحق بمرَّاكش، ولزم العالم الشهير أبا العباس بن البَنَّاء الشهير الذكر، فحصَّل عنه سائر العلوم العقلية، وورث مقامه فيها وأرفع، ثم صعد إلى جبال الهساكرة، بعد وفاة الشيخ، باستدعاء علي بن محمد بن تروميت، ليقرأ عليه، فأفاده، وبعد أعوام استنزله ملك المغرب، السلطان أبو سعيد، وأسكنه بالبلد الجديد، والآبلي معه.
ثم اختصه السلطان أبو الحسن، ونظمه في جملة العلماء بمجلسه، وهو في خلال ذلك يُعلِّم العلوم العقلية، ويبثها بين أهل المغرب، حتى حذق فيها الكثير منهم من سائر أمصارها، وألحق الأصاغر بالأكابر في تعليمه.
ولما قدم على تونس في جملة السلطان أي الحسن، لزمته، وأخذت عنه الأصلين، والمنطق، وسائر الفنون الحكمية، والتعليمية؛ وكان رحمه الله، يشهد لي بالتبريز في ذلك.
وممن قدم في جملة السلطان أبي الحسن: صاحبنا أبو القاسم عبد الله بن يوسف
بن رضوان المالقي. كان يكتب عن السلطان، ويلازم خدمة أبي محمد عبد المهيمن رئيس الكتاب يومئذ، وصاحب العلامة التي توضع عن السلطان أسفل المراسيم والمخاطبات، وبعضها يضعه السلطان بخطه.
وكان ابن رضوان هذا من مفاخر المغرب، في براعة خطه، وكثرة علمه، وحسن سَمْته، وإجادته في فقه الوثائق، والبلاغة في التَّرسيل عن السلطان، وحَوْك الشعر، والخطابة على المنابر؛ لأنه كان كثيراً ما يصلي بالسلطان. فلما قدم علينا بتونس، صحبته، واغتبطت به، وإن لم أتخذه شيخاً، لمقاربة السن، فقد أفدت منه كما أفدت منهم.
وقد مدحه صاحبنا أبو القاسم الرحوي شاعر تونس في قصيدة علي رَوِيِّ النون، يرغب منه تذكرة شيخه أبي محمد عبد المهيمن في إيصال مدحه إلى السلطان أبي الحسن، في قصيدته على روي الباء، وقد تقدم ذكرها في أخبار السلطان.
وذكر في مدح ابن رضوان أعلام العلماء القادمين مع السلطان وهي:
عرفت زماني حين أنكرت عرفاني
…
وأيقنت أن لاحظ في كف كيوان
وأن لا اختيار في اختيار مُقَوَّمٍ
…
وأن لا قراع بالقران لأقْرِاني
وأن نظام الشكل أكملَ نظِمِه
…
لأضعف قاض في الدليل برجحان
وإن افتقار المرء في فقراته
…
ومن ثقله يغني اللبيب بأوزان
فمن بعد ما شمت الخلاب ولم أرع
…
لهشة راض أو لشرة غضبان
ولم يعشني للنار لمع شعاعها
…
فما كل نار نار موسى بن عمران
ولم يبق لي في الغيب من أمل سوى
…
لقاء ابن رضوان وجنة رضوان
هنالك ألفيت العلا تنتمي إلى
…
أناس ضئيل عندهم فخر غسان
وأرعيت من روض التأدب يانعاً
…
وحييت من كنز العلوم بقعيان
وردت فلم تجدب لديه ريادتي
…
وصدق طرفي ما تلقته آذاني
فحسبك من آدابه كل زاخر
…
يحييك معسولاً بدُرٍّ ومرجان
يحييك بالسِّلك الذي لم تحط به
…
طروس ابن سهل أو سوالف بوران
فقل بابلي إن ينافثك لفظة
…
وفي وشيه الأطراس قل هو صنعاني
خلائق لم تخلق سدى بل تكملت
…
بإسداء إنعام وإيلاء إحسان
ثم يقول في ذكر العلماء القادمين:
هم القوم كل القوم، أما حلومهم
…
فأرسخ من طودي ثبير وثهلان
فلا طيش يعروهم وأما علومهم
…
فأعلامها تهديك من غير نيران
بفقه يشيم الأصبحي صباحه
…
وأشهب منه يستدل بشهبان
وحسن جدال للخصوم ومنطق
…
يجيئان في الأخفى بأوضح برهان
سقت روضة الآداب منهم سحائب
…
سحبن على سحبان أذيال نسيان
فلم يبق نأي ابن الإمام شماخة
…
على مدن الدنيا لأنف تلمسان
وبعد نوى السطي لم تسط فاسه
…
بفخر على بغدان في عصر بغدان
وبالآبلي استسقت الأرض وبلها
…
ومستوبل ما مال عنه لأظعان
وهامت على عبد المهيمن تونس
…
وقد ظفرت منه بوصل وقربان
وما علقت مني الضمائر غيره
…
وإن هويت كلاً بحب ابن رضوان
وكتب هذا الشاعر: صاحبُنا الرحوي يذكر عبد المهيمن بذلك:
لهي النفس في اكتساب وسعي
…
وهو العمر في انتهاب وَفَيَّ
وأرى الناس بين ساع لرشد
…
يتوخى الهدى وساع لغي
وأرى العلم للبرية زيناً
…
فتَزَيَّا منه بأحسن زِيِّ
وأرى الفضل قد تجمَّع كلاً
…
في ابن عبد المهيمن الحضْرَمِيِّ
حل بالرتبة العلية في حضْ
…
رِةِ مَلْك سامي العِمَادِ عَليِّ
قلم أوسع الأقاليم أمْرًا
…
فله قد أطاع كل عصي
قدر ما يفيد منه احتذار
…
فبأي تراه يقضي باي
يمنح العز والعلا ويوالي
…
بالعطايا الجسام كل ولي
يلجأ الدارعون خوفاً إليه
…
فهو يزري بالصارم المشرفي
هو أعلى الأقلام في كل عصر
…
حيث ينمى إلى الإمام علي
حليت تلكم الرياسة منه
…
بفريد في كل معنى سني
سالك في النظام دراً وطوراً
…
ناثر دره بنشر وطي
بدع للبديع ترمي بحصر
…
ولصابي بني بويه بعي
ويرى أخرس العراق لديه
…
إنه بالشآم كالأعجمي
وعلوم هي البحور ولكن
…
ينثني الواردون منها بري
تصدر الأمة العظيمة عنه
…
بحديث مجود مروي
وبفقه فيه وحسن مقال
…
يضع النور في لحاظ العمي
وبنحو ينحي على سيبويه
…
ببيان في المبهمات جلي
عمي الأخفشان عنه وسدت
…
عن خفاياه فطنة الفارسي
يا أخا الحكم في الأنام وإني
…
لأُنادي رب النَّدَى والنَّدِيِّ
بنت فكري تعرضت لحماكم
…
فالقَها راضياً بوجه رضي
تبتغي القرب من مراقي الأماني
…
والترقي للجانب العلوي
فأنِلْها مَرامَها نلت سَهلاً
…
كل دان تبغي وكل قصي
ثم كانت واقعة العرب على السلطان بالقيروان، في فاتحة تسع وأربعين، فشغلوا عن ذلك، ولم يظفر هذا الرَّحَوي بطلبته. ثم جاء الطاعون الجارف، فطوى البساط بما فيه، وهلك عبد المهيمن فيمن هلك، ودفن بمقبرة سلفنا بتونس، لخلة كانت بينه وبين والدي، رحمه الله، أيام قدومهم علينا.
فلما كانت واقعة القيروان، ثار أهل تونس بمن كان عندهم من أشياع السلطان أبي
الحسن، فاعتصموا بالقصبة دار الملك، حيث كان ولد السلطان وأهله، وانتقض عليه ابن تافراكين، وخرج من القيروان إلى العرب، وهم يحاصرون السلطان، وقد اجتمعوا على ابن أبي دبوس، وبايعوا له، كما مر في أخبار السلطان، فبعثوا ابن تافراكين إلى تونس، فحاصر القصبة، وامتنعت عليه. وكان عبد المهيمن يوم ثورة أهل تونس، ووقوع الهيعة، خرج من بيته إلى دارنا، فاختفى عند أبي رحمه الله، وأقام مختفياً عندنا نحواً من ثلاثة أشهر. ثم نجا السلطان من القيروان إلى سوسة، وركب البحر إلى تونس، وفر ابن تافراكين إلى المشرق. وخرج عبد المهيمن من الاختفاء، وأعاده السلطان إلى ما كان عليه، من وظيفة العلامة والكتابة، وكان كثيراً ما يخاطب والدي رحمه الله ويشكره على موالاته، ومما كتب إليه وحفظته من خطه:
لحمد ذوي المكارم قد ثناني
…
فعال شكره أبداً عناني
جزى الله ابن خلدون حياة
…
منعمة وخلداً في الجنان
فكم أولى ووالى من جميل
…
وبر بالفعال وباللسان
وراعى الحضرمية في الذي قد
…
حبا من وده ومن الحنان
أبا بكر ثناءك طول دهرى
…
أردد باللسان وبالجنان
وعن علياك ما امتدت حياتي
…
أكافح بالحسام وباللسان
فمنك أفدت خلاً لست دهري
…
أرى عن حبه أثني عنان
وهؤلاء الأعلام الذين ذكرهم الرحوي في شعره، هم سباق الحلبة في مجلس السلطان أبي الحسن، اصطفاهم لصحابته من بين أهل المغرب. فأما ابنا الإمام منهم فكانا أخوين من أهل برشك، من أعمال تلمسان، واسم أكبرهما: أبو زيد عبد الرحمن، واسم الأصغر: أبو موسى عيسى، وكان أبوهما إماماً ببعض مساجد برشك، واتهمه المتغلب يومئذ على البلد زيرم بن حماد، بأن عنده وديعة من المال
لبعض أعدائه، فطالبه بها، فلاذ بالامتناع، وبيته زيرم، لينتزع المال من يده، فدافعه وقتل، وارتحل ابناه هذان الأخوان إلى تونس في المئة السابعة، وأخذا العلم بها عن تلاميذ ابن زيتون، وتفقها على أصحاب أبي عبد الله بن شعيب الدكالي، وانقلبا إلى المغرب بحظ وافر من العلم. وأقاما بالجزائر يبثان بها العلم، لامتناع برشك عليهما من أجل (ضَرَر) زيرم المتغلب عليها، والسلطان أبو يعقوب يومئذ، صاحب المغرب الأقصى من بني مرين، جاثم على تلمسان يحاصرها الحصار الطويل المشهور، وقد بث جيوشه في نواحيها، وغلب على الكثير من أعمالها وأمصارها،
وملك عمل مغراوة بشلف، وحاضرته مليانة، فبعث عليها الحسن بن علي بن أبي الطلاق من بني عسكر، وعلي بن محمد الخيري من بني ورتاجن، ومعهما - لضبط الجباية واستخلاص الأموال - الكاتب منديل بن محمد الكناني، فارتحل هذان الأخوان يومئذ من الجزائر، واحتلا بمليانة، فحليا بعين منديل الكناني، فقربهما واصطفاهما، واتخذهما لتعليم ولده محمد. ثم هلك يوسف بن يعقوب سلطان المغرب، بمكانه من حصار تلمسان، سنة خمس وسبعمائة على يد خصي من خصيانه؛ طعنه فأشواه، وهلك. وقام بالملك بعده حافده أبو ثابت، بعد خطوب ذكرناها في أخبارهم، ووقع بينه وبين صاحب تلمسان يومئذ أبي زيَّان محمد بن عثمان بن يَغْمَرَاسَن، وأخيه أبي حمو، العهد المتأكد على الإفراج عن تلمسان، ورد أعمالها عليهم، فوفَّى لهم بذلك، وعاد إلى المغرب. وارتحل ابن أبي الطلاق، والخيري، والكناني من مليانة راجعين إلى المغرب، ومروا بتلمسان، ومع الكناني هذان الأخوان، فأوصلهما إلى أبي حمو، وأثنى عليهما. وعرَّفه بمقامهما في العلم، فاغتبط بهما أبو حمو، واختط لهما المدرسة المعروفة بهما بتلمسان. وأقاما عنده على هدي أهل العلم وسننهم؛ وهلك أبو حمو، فكانا كذلك مع ابنه أبي تاشفين إلى أن زحف السلطان أبو الحسن (المريني) إلى تلمسان، وملكها عنوة،
سنة سبع وثلاثين، وكانت لهما شهرة في أقطار المغرب، أثبتت لهما في نفس السلطان عقيدة صالحة، فاستدعاهما لحين دخوله، وأدنى مجلسهما، وأشاد بتكرمتهما، ورفع محلهما على أهل طبقتهما. وصار يجمل بهما مجلسه، متى مر بلمسان، أو وفداً عليه في
الأوقات التي يفد فيها أعيان بلدهما. ثم استنفرهما للغزو، وحضرا معه واقعة طريف، وعادا إلى بلدهما. وتوفي أبو زيد منهما إثر ذلك، وبقي أخوه أبو موسى مُتَبَوِّئًا ما شاء من ظلال تلك الكرامة.
ولما سار السلطان أبو الحسن إلى إفريقية سنة ثمان وأربعين، كما مر في أخباره استصحب أبا موسى ابن الإمام معه مكرماً فوقراً، عالي المحل، قريب المجلس منه. فلما استولى على إفريقية، سرحه إلى بلده، فأقام بها يسيراً، وهلك في الطاعون الجارف سنة سبع وأربعين. وبقي أعقابُهُما بتلمسان دارجين في مسالك تلك الكرامة، ومتوقلين قللها طبقاً عن طبق إلى هذا العهد.
وأما السطي، واسمه محمد (بن علي) بن سليمان، من قبيلة سطة، من بطون أوربة بنواحي فاس. نزل أبوه سليمان مدينة فاس، ونشأ محمد بها، وأخذ العلم عن الشيخ أبي الحسن الصُّغَيِّر إمام المالكية بالمغرب، والطائر الذكر، وقاضي الجماعة بفاس، وتفقه عليه. وكان أحفظ الناس لمذهب مالك، وأفقههم فيه. وكان السلطان أبو الحسن لدينه وسراوته، وبعد شأوه في الفضل، يتشوف إلى تنويه مجلسه بالعلماء، واختار منهم جماعة لصحابته ومجالسته. كان منهم هذا الإمام محمد بن سليمان. وقدم علينا بتونس في جملته، وشهدنا وفور فضائله. وكان في الفقه من بينها لا يجارى، حفظاً وفهماً، عهدي به وأخي محمد رحمه الله يقرأ عليه من كتاب التبصرة لأبي الحسن اللخمي، وهو يصححه عليه من إملائه وحفظه، في مجالس عديدة. وكذا كان حاله في أكثر ما يعاني حمله من الكتب. وحضر مع السلطان أبي الحسن، واقعة القيروان، وخلص معه إلى تونس، وأقام بها نحواً من
سنتين.
وانتقض المغرب على السلطان، واستقل به ابنه أبو عنان. ثم ركب (السلطان) أبو الحسن في أساطيله من تونس آخر سنة خمسين، ومر ببجاية، فأدركه الغرق في سواحلها، فغرقت أساطيله، وغرق أهله، وأكثر من كان معه من هؤلاء الفضلاء وغيرهم. وألقاه البحر ببعض الجزر هناك، حتى استنفذه منه بعض أساطيله، ونجا إلى الجزائر بعد أن تلف موجوده، وهلك الكثير من عياله وأصحابه، وكان من أمره ما مر في أخباره.
وإما الآبلي واسمه محمد بن إبراهيم، فمنشؤه بتلمسان، وأصله من جالية الأندلس، من أهل آبلة، من بلاد الجوف منها، أجاز أبوه وعمه أحمد، فاستخدمهم يغمراسن بن زيان، وولده في جندهم، وأصهر إبراهيم منهما إلى القاضي بتلمسان محمد بن غلبون في ابنته، فولدت له محمداً هذا. ونشأ بتلمسان في كفالة جده القاضي، فنشأ له بذلك ميل إلى انتحال العلم عن الجندية التي كانت مُنْتَحَل أبيه (وعمَّه). فلما يفع وأدرك، سبق إلى ذهنه محبة التعاليم، فبرع فيها، واشتهر. وعكف الناس عليه في تعلمها وهو في سن البلوغ. ثم أطل السلطان يوسف بن يعقوب على تلمسان، وجثم عليها يحاصرها. وسير بعوثه إلى الأعمال، فافتتح أكثرها، وكان إبراهيم الآبلي قائداً بهنين؛ مرسى تلمسان في لمة من الجند، فلما
ملكها يوسف بن يعقوب، اعتقل من وجد بها من شيع ابن زيان، واعتقل إبراهيم الآبلي فيهم، وشاع الخبر في تلمسان بأن يوسف بن يعقوب يسترهن أبناءهم ويطلقهم، فتشوف ابنه محمد إلى اللحاق به، من أجل ذلك. وأغراه أهله بالعزم عليه، فتسور الأسوار، وخرج إلى أبيه، فلم يجد خبر للاسترهان صحيحاً. واستخدمه يوسف بن يعقوب قائداً على الجند الأندلسيين بتاوريرت، فكره المقام على ذلك، ونزع عن طوره، ولبس المسوح، وسار قاصداً الحج. وانتهى إلى رباط العباد مختفياً في صحبة الفقراء، فوجد هنالك رئيساً من كربلاء ثم من بني الحسين، جاء إلى المغرب يروم إقامة
دعوتهم فيه، وكان معقلاً؛ فلما رأى عساكر يوسف بن يعقوب، وشدة هيبته، غلب عليه اليأس من مرامه، ونزع عن ذلك، واعتزم الرجوع إلى بلده، فسار شيخنا محمد بن إبراهيم في جملته.
قال لي رحمه الله: وبعد حين انكشف لي حاله، وما جاء له، واندرجت في جملة أصحابه وتابعه. قال: وكان يتلقاه في كل بلد من (أصحابه و) أشياعه وخدمه من يأتيه بالأزواد، والنفقات من بلده، إلى أن ركبنا البحر من تونس إلى الإسكندرية. قال: واشتدت علي الغلمة في البحر، واستحييت من كثرة الاغتسال؛ لمكان هذا الرئيس، فأشار علي بعض بِطانته بشرب الكافور، فاغترفت منه غرفة، فشربتها فاختلطت. وقدم الديار المصرية على تلك الحال، وبها يومئذ تقي الدين بن دقيق العيد، وابن الرِّفعة، وصفي الدين الهندي، والتبريزي، وابن البديع، وغيرهم
من فرسان المعقول والمنقول، فلم يكن قصاراه إلا تمييز أشخاصهم، إذا ذكرهم لنا؛ لما كان به من الاختلاط. ثم حجَّ مع ذلك الرئيس، وسار في جملته إلى كربلاء، فبعث معه من أصحابه من أوصله إلى مَأْمَنه من بلاد زَوَاوَة من أطراف المغرب. وقال لي شيخنا رحمه الله: كان معي دنانير كثيرة تزَودتُها من المغرب، واستبطنتها في جُبَّة كنت ألبسها؛ فلما نزل بي ما نزل انتزعها مني حتى إذا بعث أصحابه يشيعونني إلى المغرب، دفعها إليهم، حتى إذا أوصلوني إلى المأمن، أعطوني إياها وأشهدوا علي بها في كتاب حملوه معهم إليه كما أمرهم؛ ثم قارن وصول شيخنا إلى المغرب مهلك يوسف بن يعقوب وخلاص أهل تلمسان من الحصار، فعاد إلى تلمسان، وقد أفاق من اختلاطه، وانبعثت همته إلى تعلم العلم. وكان مائلاً إلى العقليات، فقرأ المنطق على أبي موسى ابن الإمام، وجملة من الأصلين، وكان أبو حمو صاحب تلمسان يومئذ قد استفحل ملكه، وكان ضابطاً لأموره، وبلغه عن شيخنا تقدمه في علم الحساب، فدفعه إلى ضبط أمواله
ومشارفة عماله. وتفادى شيخنا من ذلك، فأكرهه عليه، فأعمل الحيلة في الفرار منه، ولحق بفاس أيام السلطان أبي الربيع، وبعث فيه أبو حمو، فاختفى بفاس عند شيخ التَّعاليم من اليهود، خلوف المغيلي؛ فاستوفى عليه فنونها، وحذق. وخرج متوارياً من فاس، فلحق بمراكش، أعوام العشر والسبع مائة. ونزل على الإمام أبي العباس بن البناء شيخ المعقول والمنقول، والمبرز في التصوف علماً وحالاً، فلزمه، وأخذ عنه، وتضلع من علم المعقول والتعاليم والحكمة، ثم استدعاه شيخ الهساكرة علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه، وكان ممرضاً في طاعته للسلطان، فصعد إليه شيخنا وأقام عنده مدة؛ قرأ عليه فيها وحصل. واجتمع طلبة العلم هنالك على الشيخ، فكثرت إفادته، واستفادته، وعلي بن محمد في ذلك على
تعظيمه، ومحبته، وامتثال إشارته، فغلب على هواه، وعظمت رياسته بين تلك القبائل. ولما استنزل السلطان أبو سعيد علي بن تروميت من جبله، نزل الشيخ معه، وسكن بفاس. وانثال عليه طلبة العلم من كل ناحية، فانتشر علمه، واشتهر ذكره؛ فلمَّا فتح السلطان أبو الحسن تلمسان ولقي أبا موسى ابن الإمام، ذكره له بأطيب الذكر، ووصفه بالتَّقدُّم في العلوم. وكان السلطان معنياً بجمع العلماء لمجلسه، كما ذكرنا، فاستدعاه من مكانه بفاس، ونظمه في طبقة العلماء بمجلسه، وعكف على التَّدريس والتَّعليم، ولازم صحابة السلطان، وحضر معه واقعة طريف، وواقعة القيروان بإفريقية؛ وكانت قد حصلت بينه وبين والدي رحمه الله صحابة، كانت وسيلتي إليه في القراءة عليه، فلزمت مجلسه، وأخذت عنه، وافتتحت العلوم العقلية بالتَّعاليم. ثم قرأت المنطق، وما بعده من الأصلين، وعلوم الحكمة؛ وعرض أثناء ذلك ركوب السلطان أساطيله من تونس إلى المغرب، وكان الشيخ في نزلنا وكفالتنا، فأشرنا عليه بالمقام، وثبطناه عن السفر، فقبل، وأقام. طالبنا به السلطان أبو الحسن، فأحسنا له العذر. وتجافى عنه، وكان من حديث
غرقه في البحر ما قدمناه. وأقام الشيخ بتونس، ونحن وأهل بلدنا جميعاً نتساجل في غشيان مجلسه، والأخذ عنه؛ فلما هلك السلطان أبو الحسن بجبال هنتاتة، وفرغ ابنه أبو عنان من شواغله، وملك تلمسان من بني عبد الواد؛ كتب فيه يطلبه من صاحب تونس، وسلطانها يومئذ أبو إسحق إبراهيم ابن السلطان أبي يحيى، في كفالة شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين، فأسلمه إلى سفيره، وركب معه البحر في أسطول السلطان الذي جاء فيه السفير. ومر ببجاية، ودخلها، وأقام بها شهراً، حتى قرأ عليه طلبة العلم بها مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، برغبتهم في ذلك منه ومن صاحب الأسطول، ثم ارتحل، ونزل
بمرسى هُنَيْن؛ وقدم على السلطان بتلمسان، وأحله محل التكرمة، ونظمه في طبقة أشياخه من العلماء. وكان يقرأ عليه، ويأخذ عنه، إلى أن هلك بفاس، سنة سبع وخمسين وسبعمائة. وأخبرني رحمه الله أن مولده بتلمسان سنة إحدى وثمانين وستمائة.
وأما عبد المهيمن كاتب السلطان أبي الحسن، فأصله من سبتة، وبيتهم بها قديم، ويعرفون ببني عبد المهيمن؛ وكان أبوه محمد قاضيها أيام بني العَزَفِيّ، ونشأ ابنه عبد المهيمن في كفالته، وأخذ عن مشيختها. واختص بالأستاذ أبي إسحق الغافقي. ولما ملك عليهم الرئيس أبو سعيد، صاحب الأندلس، سبتة ونقل بني العزفي، مع جملة أعيانها إلى غرناطة، ونقل معهم القاضي محمد بن عبد المهيمن، وابنه عبد المهيمن، فأستكمل قراءة العلم هنالك وأخذ عن أبي جعفر بن الزُّبير ونظرائه، وتقدم في معرفة كتاب سيبويه، وبرز في علو الإسناد، وكثرة المشيخة. وكتب له أهل المغرب والأندلس والمشرق، فاستكتبه رئيس الأندلس يومئذ، الوزير أبو عبد الله بن الحكيم الرندي، المستبد على السلطان المخلوع من بني الأحمر، فكتب عنه، ونظمه في طبقة الفضلاء الذين كانوا بمجلسه، مثل المحدث الرحالة أبي عبد الله بن رشيد الفهري، وأبي العباس أحمد بن. . . العزفي، والعالم
الصوفي المتجرد،
أبي عبد الله محمد بن خميس التلمساني، وكانا لا يجاريان في البلاغة والشعر إلى غير هؤلاء ممن كان مختصاً به، وقد ذكرهم ابن الخطيب في تاريخ غرناطة. فلما نكب الوزير ابن الحكيم، وعادت سبتة إلى طاعة بني مرين عاد عبد المهيمن إليها واستقر بها، ثم ولى السلطان أبو سعيد، وغلب عليه ابنه أبو علي، واستبد بحمل الدولة. تشوف إلى استدعاء الفضلاء، وتجمل الدولة بمكانهم، فاستقدم عبد المهيمن من سبتة، واستكتبه، سنة ثِنتَي عشرة؛ ثم خالف على أبيه سنة أربع عشرة، وامتنع بالبلد الجديد، وخرج منها إلى سجلماسة بصلح عقده مع أبيه، فتمسك السلطان أبو سعيد بعبد المهيمن، واتخذه كاتباً، إلى أن دفعه لرياسة الكتاب، ورسم علامته في الرسائل والأوامر، فتقدم لذلك سنة ثمان عشرة، ولم يزل عليها سائر أيام السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن. وسار مع أبي الحسن إلى إفريقية، وتخلف عن واقعة القيروان بتونس؛ لما كان به علة النقرس. فلما كانت الهيعة بتونس، ووصل خبر الواقعة، وتحيز أشياع السلطان إلى القصبة، مع حرمه، تسرب عبد المهيمن في المدينة، منتبذاً عنهم، وتوارى في بيتنا، خشية أن يصاب معهم بمكروه. فلما انجلت تلك الغيابة، وخرج السلطان من القيراوان إلى سوسة، وركب منها البحر إلى تونس، أعرض عن عبد المهيمن، لما سخط غيبته عن قومه بالقصبة، وجعل العلامة لأبي الفضل ابن الرئيس عبد الله بن أبي مدين، وقد كانت مقصورة من قبل على هذا البيت، وأقام عبد المهيمن عطلاً من العمل مدة أشهر. ثم أعتبه السلطان، ورضي عنه، وأعاد إليه العلامة كما كان، وهلك لأيام قلائل بتونس في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين. ومولده سنة خمس وسبعين من المائة قبلها، وقد استوعب ابن الخطيب التعريف به في تاريخ غرناطة فليطالعه هناك من أحب الوقوف عليه.
وأما ابن رضوان الذي ذكره الرَّحَوي في قصيدته، فهو أبو القاسم عبد الله بن
يوسف بن رضوان النجاري؛ أصله من الأندلس، نشأ بمالقة، وأخذ عن مشيختها، وحذق في العربية والأدب، وتفنَّن في العلوم، ونظم ونثر، وكان مجيداً في الترسيل، وحسناً في كتابة الوثائق؛ وارتحل بعد واقعة طريف، ونزل بسبتة، ولقي بها السلطان أبا الحسن، ومدحه، وأجازه، واختص بالقاضي إبراهيم بن أبي يحيى، وهو يومئذ قاضي العساكر، وخطيب السلطان، وكان يستنيبه في القضاء والخطابة؛ ثم نظمه في حلبة الكتاب بباب السلطان؛ واختص بخدمة عبد المهيمن رئيس الكتاب، والأخذ عنه، إلى أن رحل السلطان إلى إفريقية، وكانت واقعة القيروان، وانحصر بقصبة تونس من انحصر بها، من أشياعه مع أهله وحرمه. وكان السلطان قد تخلف ابن رضوان هذا بتونس في بعض خدمه، فجلى عند الحصار فيما عرض لهم من المكاتبات وتولى كبر ذلك، فقام فيه أحسن قيام إلى أن وصل السلطان من القيروان، فرعى له حق خدمته، تأنيساً، وقرباً، وكثرة استعمال، إلى أن ارتحل من تونس في الأسطول، إلى المغرب سنة خمسين كما مر. واستخلف بتونس ابنه أبا الفضل وخلف أبا القاسم بن رضوان كاتباً له، فأقام كذلك أياماً. ثم غلبهم على تونس سلطان الموحدين الفضل ابن السلطان أبي يحيى. ونجا أبو الفضل إلى أبيه، ولم يطق ابن رضوان الرحلة معه، فأقام بتونس حولاً، ثم ركب البحر إلى الأندلس، وأقام بالمرية مع جملة (مَن) هنالك من أشياع السلطان أبي الحسن؛ كان فيهم عامر بن محمد بن علي شيخ هِنْتاَتة، كافلاً لحرم السلطان أبي الحسن؛ وابنه، أركبهم السَّفِينَ معه من تونس عندما ارتحل، فخلصوا إلى الأندلس، ونزلوا بالمرية، وأقاموا بها تحت جراية سلطان الأندلس،
فلحق بهم ابن رضوان، وأقام معهم. ودعاه أبو الحجاج سلطان الأندلس إلى أن يستكتبه فامتنع، ثم هلك السلطان أبو الحسن، وارتحل مخلفه الذين كانوا بالمرية. ووفدوا على السلطان أبي عنان. ووفد معهم ابن رضوان، فرعى له وسائله في خدمة
أبيه، واستكتبه، واختصه بشهود مجلسه، مع طلبة العلم بحضرته؛ وكان محمد بن أبي عمرو يومئذ رئيس الدولة، ونجي الخلوة، وصاحب العلامة، وحسبان الجباية والعساكر، قد غلب على هوى السلطان، واختص به، فاستخدم له ابن رضوان حتى غلق منه بدمه. ولاية وصحبه، وانتظاماً في السمر، وغشيان المجالس الخاصة، وهو من ذلك يدنيه من السلطان. وينفق سوقه عنده، ويستكفي به في مواقف خدمته إذا غاب عنها لما هو أهم، فحلي بعين السلطان، ونفقت عنده فضائله. فلما سار ابن أبي عمرو في العساكر إلى بجاية، سنة أربع وخمسين، انفرد ابن رضوان بقلم الكتاب عن السلطان. ثم رجع ابن أبي عمرو، وقد سخطه السلطان، فأقصاه إلى بجاية وولاه عليها، وعلى سائر أعمالها، وعلى حرب الموحِّدين بقُسَنْطينة. وأفرد ابن رضوان بالكتابة، وجعل إليه العلامة، كما كانت لابن أبي عمرو، فاستقل بها، موفر الاقطاع، والإسهام، والجاه؛ ثم سخطه آخر سبع وخمسين، وجعل العلامة لمحمد بن أبي القاسم بن أبي مَدْيَن، والإنشاء والتوقيع لأبي إسحق إبراهيم بن الحاج الغرناطي. فلما كانت دولة السلطان أبي سالم، جعل العلامة لعلي بن محمد بن سعود صاحب ديوان العساكر، والإنشاء والتوقيع والسر لمؤلف الكتاب عبد الرحمن بن خلدون؛ ثم هَلكَ أبو سالم سنة اثنتين وستين، واستبد الوزير عمر بن عبد الله
على من كفله من أبنائهم، فجعل العلامة لابن رضوان، سائر أيامه، وقتله عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن، واستبد بملكه، فلم يزل ابن رضوان على العلامة، وهلك عبد العزيز، وولى ابنه السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي بن الكاس، وابن رضوان على حاله؛ ثم غلب السلطان أحمد على الملك، وانتزعه من السعيد، وأبي بكر بن غازي، وقام بتدبير دولته محمد بن عثمان بن الكاس، مستبداً عليه، والعلامة لابن رضوان، كما كانت، إلى أن هلك بأزمور في بعض حركات السلطان أحمد إلى مراكش،
لحصار عبد الرحمن بن بويفلوسن ابن السلطان أبي علي سنة. . .
وكان في جملة السلطان أبي الحسن جماعة كبيرة من فضلاء المغرب وأعيانه، هلك كثيرون منهم في الطاعون الجارف بتونس، وغرق جماعة منهم في أسطوله لما غرق، وتخطت النكبة (منهم) آخرين إلى أن استوفوا ما قُدِّر من آجالهم. فممن حضر معه بإفريقية من العلماء، شيخنا أبو العبَّاس أحمد بن محمد الزواوي، شيخ القراءات بالمغرب؛ أخذ العلم والعربية عن مشيخة فاس، وروى عن الرحالة أبي عبد الله محمد بن رشيد، وكان إماماً في فن القراءات وصاحب ملكة فيها لا تجارى. وله مع ذلك صوت من مزامير آل داود، وكان يصلي بالسلطان التراويح، ويقرأ عليه بعض الأحيان حزبه.
وممن حضر معه بإفريقية، الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن الصبَّاغ من
أهل مكْنَاسَة. (كان) مبرزاً في المنقول والمعقول، وعارفاً بالحديث وبرجاله، وإماماً في معرفة كتاب الموطأ وإقرائه؛ أخذ العلوم عن مشيخة فاس، ومكناسة، ولقي شيخنا أبا عبد الله الآبلي، ولازمه، وأخذ عنه العلوم العقلية، فاستنفد بقية طلبه عليه، فبرَّز آخرا؛ واختاره السلطان لمجلسه، فاستدعاه، ولم يزَل معه إلى أن هلك غريقاً في ذلك الأسطول.
ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد النور، من أعمال نَدْرُومَة، ونسبه في صنهاجة كان مبرزاً في الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس، تفقه فيه على الأخوين أبي زيد، وأبي موسى ابني الإمام، وكان من جلة أصحابهما.
ولما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان، رفع من منزلة ابني الإمام، واختصهما بالشورى في بلدهما. وكان يستكثر من أهل العلم في دولته، ويجري لهم الأرزاق، ويعمر بهم مجلسه؛ فطلب يومئذ من ابن الإمام أن يختار له من أصحابه من ينظمه في فقهاء المجلس، فأشاروا عليه بابن عبد النور هذا، فأدناه،
وقرب مجلسه، وولاه قضاء عسكره، ولم يزل في جملته إلى أن هلك في الطاعون بتونس سنة تسع وأربعين. وكان (قد) خلف بتلمسان أخاه علياً رفيقه في دروس ابن الإمام، إلا أنه أقصر باعاً منه في الفقه. فلما خلع السلطان أبو عنان طاعة أبيه السلطان أبي الحسن، ونهض إلى فاس، استنفره في جملته. وولاه قضاء مكناسة، فلم يزل بها، حتى إذا تغلب عمر بن عبد الله على الدولة كما مر، نزع إلى قضاء
فرضه، فسرحه. وخرج حاجاً سنة أربع وستين، فلما قدم على مكة، وكان به بقية مرض، هلك في طواف القدوم. وأوصى أمير الحاج على ابنه محمد، وأن يبلغ وصيته به للأمير المتغلب على الديار المصرية يومئذ، يَلْبُغا الخاصِكي، فأحسن خلافته فيه، وولاه من وظائف الفقهاء ما سد به خلته، وصان عن سؤال الناس وجهه، وكان له - عفا الله عنه - كلف بعمل الكيمياء، تابعاً لمن غلظ في ذلك من أمثاله. فلم يزل يعاني من ذلك ما يورطه مع الناس في دينه وعرضه، إلى أن دعته الضرورة للترحل عن مصر، ولحق ببغداد. وناله مثل ذلك، فلحق بماردين، واستقر عندَ صاحبها، وأحسن جِوَاره، إلى أن بلغنا بعدَ التسعين أنه هلك هنالك حتف أنفه، والبقاء لله (وحدَه).
ومنهم شيخ التّعَاليم أبو عبد الله محمد بن النَّجَّار من أهل تِلْمِسان؛ أخذ العلم ببلده عن مشيختها، وعن شيخنا الآيلي، وبرَّز عليه. ثم ارتحل إلى المغرب، فلقي بسبتة إمام التعاليم، أبا عبد الله محمد بن هلال شارح المجصطي في الهيئة، وأخذ بمرّاكش عن الإمام أبي العباس بن البناء، وكان إماماً في علوم النِّجامة وأحكامها، وما يتعلق بها، ورجع إلى تلمسان بعلم كثير، واستخلصته الدولة. فلما هلك أبو تاشفين، وملك السلطان أبو الحسن، نظمه في جملته وأجرى له رزقه، فحضر معه بإفريقية، وهلك في الطاعون.
ومنهم أبو العباس أحمد بن شُعَيْب من أهل فاس؛ برع في اللَّسان، والأدب، والعلوم
العقلية، من الفلسفة، والتعاليم، والطب، وغيرها؛ ونظمه السلطان أبو سعيد في حلبة الكُتَّاب، وأجرى عليه الرزق مع الأطباء؛ لتقدُّمه فيهم، فكان كاتبه، وطبيبه؛ وكذا مع السلطان أبي الحسن بعده، فحضر بإفريقية، وهلك بها في ذلك الطاعون. وكان له شعْر سَابق به الفحول من المتقدمين والمتأخرين، وكانت له إمامة في نقد
الشعر، وبصر به؛ ومما حضرني الآن من شعره:
دار الهوى نجد وساكنها
…
أقصى أماني النَّفس من نجد
هل باكر الوَسْمِيُّ ساحتها
…
واستَنَّ في قيعانها الجُرْدِ
أو بات معتلُّ النَّسيم بها
…
مستشفياً بالبان، الرند
يتلو أحاديث الذين هم
…
قصدي وإن جاروا عن القصد
أيام سمر ظلالها وطني
…
منها وزرق مياهها وردي
ومطارح النظرات في رشإ
…
أحوى المدامع أهيف القد
يرنو إليك بعين جازية
…
قتل المحب بها على عمد
حتى أجد على عجل
…
ريث الخطوب وعاثر الجد
فقدوا فلا وأبيك بعدهم
…
ما عشت لا آسى على الفقد
وغدوا: دفينا قد تضمنه
…
بطن الثرى وقرارة اللحد
ومشرداً من دون رؤيته
…
قذف النوى وتنوفة البعد
أجرى عليَّ العيشُ بعدهم
…
أني فقدت جميعهم وَحْدي
لا تَلحَني يا صاح في شَجَن
…
أخفيت منه فوق ما أُبدي
بالغرب لي سكن تََأَوَبني
…
من ذكره سُهْد على سُهدِ
فرخان قد تركا بمضيعة
…
زويت عن الرُّفداء والرِّفْدِ
ومنهم صاحبنا الخطيب أبو عبد الله بن أحمد بن مرزوق؛ من أهل تلمسان، كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مَدْين بالعُبَّاد، ومتوارثين خدمة تربته، من لدن جدهم خادمه
في حياته. وكان جدُّه الخامس أو السادس، واسمه أبو بكر بن مرزوق، معروفاً بالولاية فيهم. ولما هلك دفنه يَغْمَرَاسَن بن زيان، سلطان تلمسان من بني عبد الواد، ففي التربة بقصره، ليدفن بإزائه، متى قدر بوفاته. ونشأ محمد هذا
بتلمسان. ومولده - فيما أخبرني - سنة عشر وسبعمائة، وارتحل مع أبيه إلى المشرق. وجاور أبوه بالحرمين الشريفين، ورجع هو إلى القاهرة، فأقام بها. وقرأ على برهان الدين الصَّفاقُسي المالكي وأخيه. وبرع في الطَّلب والرواية، وكان يُجيد الخطَّيْن؛ ثم رجع سنة خمس وثلاثين إلى المغرب، ولقي السُّلطان أبا الحسن بمكانه في تلمْسان، وقد شيَّد بالعُبَّاد مَسجِدا عظيما؛ وكان عمه محمد بن مرزوق خطيبا به على عادتهم بالعُبَّاد. وتوفي، فولاه السلطان خطابة ذلك المسجد مكان عمه. وسمعه يخطب على المنبر، ويشيد بذكره، والثناء عليه، فحلي بعينه، واختصه، وقربه، وهو مع ذلك يلازم مجلس الشيخين ابني الإمام، ويأخذ نفسه بلقاء الفضلاء، والأكابر، والأخذ عنهم؛ والسلطان في كل يوم يزيده رتبة؛ وحضر معه واقعة طريف التي كان فيها تمحيصُ المسلمين، فكان يستعمله في السِّفارة عنه إلى صاحب الأندلس. ثم سفر عنه، بعد أن ملك إفريقية، إلى ابن أُدْفونش مَلِك قَشْتَالة، في تقرير الصُّلح، واستنقاذ ابنه أبي عمر تاشفين. كان أسر يوم طريف، فغاب في تلك السِّفارة عن واقعة القيروان. ورجع بأبي تاشفين مع طائفة من زعماء النّصرانية، جاءوا في السفارة عن ملكهم، ولقيهم خبر واقعة القيروان، بقسنطينة، من بلاد إفريقية، وبها عامل السلطان وحاميته، فثار أهل قسنطينة بهم جميعاً، ونهبوهم، وخطبوا للفضل ابن السلطان أبي يحيى، وراجعوا دعوة الموحدين، واستدعوه فجاء إليهم، وملك البلد. وانطلق ابن مرزوق عائداً إلى المغرب، مع جماعة من الأعيان، والعمال، والسفراء عن الملوك، ووفد على السلطان أبي عنان بفاس مع أُمِّه حظية أبي الحسن وأثيرته. كانت راحلة إليه،
فأدركها الخبر بقسنطينة. وحضرت الهيعة. واتصل بها الخبر بتوثُّب ابنها أبي عنان على ملك أبيه، واستيلائه على فاس، فرجعت إليه، وابن مرزوق في خدمتها، ثم طلب اللحاق بتلمسان، فسرحوه إليها، وأقام بالعُبًّاد مكان سلفه، وعلى تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان، قد بايع له قبيله بنو
عبد الواد بعد واقعة القيروان بتونس، وابن تافراكين يومئذ محاصر للقصبة، كما مر في أخبارهم. وانصرفوا إلى تلمسان، فوجدوا بها أبا سعيد عثمان بن جرَّار، من بيت ملوكهم، قد استعمله عليها السلطان أبو عنان، عند انتقاضه على أبيه، ومسيره إلى فاس، فانتقض ابن جرار من بعده، ودعا لنفسه، وصمد إليه عثمان بن عبد الرحمن ومعه أخوه أبو ثابت وقومهما، فملكوا تلمسان من يد ابن جرار، وحبسوه ثم قتلوه، واستبد أبو سعيد بملك تلمسان، وأخوه أبو ثابت يرادفه. وركب السلطان أبو الحسن البحر من تونس، وغرق أسطوله، ونجا هو إلى الجزائر، فاحتل بها، وأخذ في الحشد إلى تلمسان، فرأى أبو سعيد أن يكف كربه عنهم، بمواصلة تقع بينهما، واختار لذلك الخطيب بن مرزوى، فاستدعاه وأسر إليه بما يلقيه عنه للسلطان أبي الحسن، وذهب لذلك على طريق الصحراء. واطلع أبو ثابت وقومهم على الخبر، فنكروه على أبي سعيد، وعاتبوه، فبعثوا ضفير ابن عامر في اعتراض ابن مرزوق، فجاء به، وحبسوه أياماً. ثم أجازوه البحر إلى الأندلس، فنزل على السلطان أبي الحجاج بغرناطة، وله إليه وسيلة منذ اجتماعه به بمجلس السلطان أبي الحسن بسبتة إثر واقعة طريف، فرعى له أبو الحجاج ذمة تلك المعرفة، وأدناه، واستعمله في الخطابة بجامعه بالحمراء، فلم يزل خطيبه إلى إن استدعاه السلطان أبو عنان سنة أربع وخمسين بعد مهلك أبيه، واستيلائه على تلمسان وأعمالها، فقدم عليه ورعى له وسائله، ونظمه في أكابر أهل مجلسه. وكان يقرأ الكتاب بين يديه في مجلسه العلمي، ويدرس في نوبته مع
من يدرس في مجلسه منهم؛ ثم بعثه إلى تونس عام مَلكَها سنة ثمان وخمسين؛ ليخطب له ابنة السلطان أبي يحيى، فردت تلك الخطبة واختفت بتونس. ووشي إلى السلطان أبي عنان أنه كان مطلعاً على مكانها، فسخطه لذلك، ورجع السلطان من قسنطينة، فثار أهل تونس بمن كان بها من عماله وحاميته. واستقدموا أبا محمد بن تافراكين من المهدية، فجاء، وملك البلد، وركب القوم الأسطول، ونزلوا بمراسي تلمسان. وأوعز السلطان (أبو عنان) باعتقال ابن مرزوق، وخرج لذلك يحيى بن شعيب من
مقدمي الجنادرة ببابه، فلقيه بتاسالة، فقيده هنالك، وجاء به، فأحضره السلطان وقرعه، ثم حبسه مُدَّة، وأطلقه بين يدي مهلكه؛ واضطربت الدولة بعد موت السلطان أبي عنان، وبايع بنو مرين لبعض الأعياص من بني يعقوب بن عبد الحق. وحاصروا البلد الجديد، وبها ابنه السعيد، ووزيره المستبد عليه، الحسن بن عمر، وكان السلطان أبو سالم بالأندلس، غربه إليها أخوه السلطان أبو عنان، مع بني عمهم، ولد السلطان أبي علي بعد وفاة السلطان أبي الحسن، وحصولهم جميعاً في قبضته. فلما توفى، أراد أبو سالم النهوض لملكه بالمغرب، فمنعه رضوان القائم يومئذ بملك الأندلس، مستبداً على ابن السلطان أبي الحَجَّاج، فلحق هو بإشبيلية، من دار الحرب، ونزل على بطره، ملكهم يومئذ، فهيّأَ له السَّفِين، وأجازه إلى العدوة، فنزل بجبل الصفيحة، من بلاد غمارة، وقام بدعوته بنو مثنى، وبنو منير أهل ذلك الجبل منهم، حتى تم أمره، واستولى على ملكه، في خبر طويل، ذكرناه في أخبار دولتهم. وكان ابن مرزوق يداخله، وهو بالأندلس، ويستخدم له، ويفاوضه في أموره، وربما كان يكاتبه، وهو بجبل الصفيحة، ويداخل زعماء قومه، في الأخذ بدعوته. فلما ملك السلطان أبو سالم، رعى له تلك الوسائل أجمع، ورفعه على الناس، وألقى عليه محبته، وجعل زمام الأمور بيده، فوطئ الناس عقبه، وغشي أشراف الدولة بابه، وصرفوا الوجوه
إليه، فمرضت لذلك قلوب أهل الدولة، ونقموه على السلطان، وتربصوا به، حتى توَثَّب عمر ابن عبد الله بالبلد الجديد، وافترق الناس عن السلطان. وقتله عمر بن عبد الله آخر اثنتين وستين، وحبس ابن مرزوق وأغرى به سلطانه الني نصبه؛ محمد بن عبد الرحمن بن أبي الحسن، فامتحنه، واستصفاه، ثم أطلقه، بعد أن رام كثير من أهل الدولة قتله، فمنعه منهم. ولحق بتونس، سنة أربع وستين، ونزل. على السلطان أبي إسحق، وصاحب دولته المستبد عليه، أبي محمد بن تافراكين،