المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌التَّعريف بابن خَلدونورحلته غربا وشرقا

- ‌نسبه

- ‌سلفه بالأندلس

- ‌سلفه بأفريقية

- ‌نشأته ومشيخته وحاله

- ‌ولاية العلامة بتونس

- ‌ثم الرحلة بعدها إلى المغرب

- ‌والكتابة عن السلطان أبي عنان

- ‌حدوث النكبة من السلطان أبي عنان

- ‌الكتابة عن السلطان أبي سالم

- ‌في السر والإنشاء

- ‌الرحلة إلى الأندلس

- ‌الرحلة من الأندلس إلى بجايةوولاية الحجابة بها على الاستبداد

- ‌مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان

- ‌مشايعة السلطان عبد العزيزصاحب المغرب على بني عبد الواد

- ‌فصلٌ

- ‌العودة إلى المغرب الأقصى

- ‌الإجازة ثانية إلى الأندلسثم إلى تلمسان واللحاق بأحياء العربوالمقامة عند أولاد عريف

- ‌الفيئة إلى السلطان أبي العباسبتونس والمقام بها

- ‌الرحلة إلى المشرقوولاية القضاء بمصر

- ‌السفر لقضاء الحج

- ‌ولاية الدروس والخوانق

- ‌ولاية خانقاه بيبرس، والعزل منها

- ‌ فتنة الناصري

- ‌السعاية في المهاداة والاتحافبين ملوك المغرب والملك الظاهر

- ‌ولاية القضاء الثانية بمصر

- ‌سفر السلطان إلى الشاملمدافعة الططر عن بلاده

- ‌لقاء الأمير تمرسلطان المغل والططر

- ‌الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر

- ‌ولاية القضاء الثالثة والرابعة والخامسة بمصر

الفصل: ‌ فتنة الناصري

في وقفه، فكان رزق النظر فيها والمشيخة واسعاً لمن يتولاه، وكان ناظرها يومئذ شرف الدين الأشقر إمام السلطان الظاهر. فتوفي عند منصرفي من قضاء الفرض، فولاني السلطان مكانه توسعة علي، وإحساناً إلي وأقمت على ذلك إلى أن وقعت‌

‌ فتنة الناصري

.

فتنة الناصري

وسياقه الخبر عنها بعد تقديم كلام في أحوال الدول يليق بهذا الموضع ويطلعك على أسرار في تنقل أحوال الدول بالتدريج إلى الضخامة والاستيلاء ثم إلى الضعف والإضمحلال والله بالغ أمره وذلك أن الدول الكلية، وهي التي تتعاقب فيها الملوك واحداً بعد واحد في مده طويلة، قائمين على ذلك بعصبية النسب أو الولاء، وهذا كان الأصل في استيلائهم وتغلبهم، فلا يزالون كذلك إلى انقراضهم، وغلب مستحقين آخرين ينزعونه من أيديها بالعصبية التي يقتدرون بها على ذلك، ويحوزون الأعمال التي كانت بأيدي الدولة الأولى، يفضون جبايتها بينهم على تفاضل البأس والرجولة والكثرة في العصابة أو القلة: وهم على حالهم من الخشونة لمعاناة البأس، والإقلال من العيش لاستصحاب حال البداوة، وعدم الثروة من قبل. ثم تنمو الثروة فيهم بنمو الجباية التي ملكوها، ويزين حب الشهوات للاقتدار عليها، فيعظم الترف في الملابس والمطاعم والمساكن

ص: 246

والمراكب والممالك، وسائر الأحوال، ويتزايد شيئاً فشيئاً بتزايد النعم وتتسع الأحوال أوسع ما تكون، ويقصر الدخل عن الخرج، وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم، ويحصل ذلك لكل أحد ممن تحت أيديهم، لأن الناس تبع لملوكهم ودولتهم، ويراجع كل أحد نظره فيما فيه من ذلك، فيرجع وراءه، وبطلب كفاء خرجه بدخله.

ثم إن البأس يقل من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة، وما صاروا إليه من رقة الحاشية والتنعم، فيتطاول من بقي من رؤساء الدولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها. ويستعد لذلك بما بقي عنده من الخشونة، ويحملهم على الإقلاع عن الترف، ويستأنف لذلك العصابة بعشيره أو بمن يدعوه لذلك، فيستولي على الدولة، ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع، وهو أحق الناس به، وأقربهم إليه، فيصير الملك له، وفي عشيره، وتصير كأنها دولة أخرى، تمر عليها الأوقات. ويقع فيها ما وقع في الأولى، فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة

بأسرها، وتخرج عن للقوم الأولين أجمع. وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في النسب، أو الولاء. سنة الله في عباده.

وكان مبدأ هذه الدولة التركية، أن بني أيوب لما ملكوا مصر والشام، كما قصصناه عليك في أخبارهم واستقل بها كبيرهم صلاح الدين، وشغل بالجهاد وانتزاع القلاع والحصون من أيدي الفرنج الذين ملكوها بالسواحل، وكان قليل العصابة، إنما كان عشيره من الكرد يعرفون ببني هذان، وهم قليلون، وإنما كثر منهم جماعة المسلمين، بهمة الجهاد الذي كان صلاح الدين يدعو إليه، فعظمت عصابته بالمسلمين، وأسمع داعيه، ونصر الله الدين على يده. وانتزع السواحل كلها من أيدي نصارى الفرنج، حتى مسجد بيت المقدس، فإنهم كانوا ملكوه وأفحشوا فيه بالقتل والسبي، فأذهب الله هذه الوصمة على يد صلاح الدين، وانقسم ملك بني أيوب بعده بين ولده وولد أخيه. واستفحل أمرهم، واقتسموا مدن الشام، ومصر بينهم، إلى أن جاء آخرهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن

ص: 247

العادل أبي بكر أخي صلاح الدين، وأراد الاستكثار من العصابة لحماية الدولة، وإقامة رسوم الملك، وأن ذلك يحصل باتخاذ المماليك، والإكثار منهم، كما كان آخراً في الدولة العباسية ببغداد، وأخذ التجار في جلبهم إليه، فاشترى منهم أعداداً، وأقام لتربيتهم أساتيذ معلمين لحرفة الجندية، من الثقافة والرمي، بعد تعليم الآداب الدينية والخلقية إلى أن اجتمع له منهم عدد جم يناهز الألف، وكان مقيماً بأحواز دمياط في حماية البلاد من طوارق الفرنج المتغلبين على حصنها دمياط. وكان أبوه قد اتخذ لنزله هنالك قلعة سماها المنصورة، وبها توفي رحمه الله، فكان نجم الدين نازلاً بها في فدافعة ساكني دمياط من الفرنج، فأصابه هنالك حدث الموت، وكان لبنه المعظم تورنشاه نائباً في حصن كيفا من ديار بكر وراء الفرات، فاجتمع الجند على بيعته، وبعثوا عنه، وانتظروا. وتفطن الفرنج لشأنهم، فهجموا عليهم، واقتتلوا فنصر الله

المسلمين، وأسر ملك الفرنج ريد إفرنس، فبعثوا به إلى مصر. وحبس بدار لقمان، إلى أن فادوه بدمياط، كما هو مذكور في أخبار بني أيوب. ونصبوا - للملك، ولهذا اللقاء - زوجة الصالح أيوب واسمها شجرة الدر، فكانت تحكم بين الجند، وتكتب

ص: 248

على المراسيم، وركبت يوم لقاء الفرنج، تحت الصناجق، والجند محدقون بها، حتى أعز الله دينه، وأتم نصره. ثم وصل تورنشاه المعظم، فأقاموه في خطة الملك مكان أبيه الصالح أيوب، ووصل معه مماليك يدلون بمكانهم منه، ولهم به اختصاص، ومنه مكان، وكان رؤساء الترك يومئذ القائمون بالدولة من عهد أبيه وجده. أقطاي الجمدار وأيبك التركماني، وقلاوون الصالحي، فأنفوا من تصرفات مماليك تورنشاه، واستعلائهم بالحظ من السلطان، وسخطوهم وسخطوه، وأجمعوا قتله. فلما رحل إلى القاهرة اغتالوه في طريقه بفارسكو، وقتلوه، ونصبوا للأمر أيبك التركماني منهم، واستحدثوا هذه الدولة التركية كما شرحناه في أخبارها، وهلك بعد أيبك ابنه علي المنصور، ثم مولاه قطز، ثم الظاهر بيبرس البندقداري. ثم ظهر أمر الططر، واستفحل ملكهم.

وزحف هولاكو بن طولي بن جنكيزخان من خراسان إلى بغداد، فملكها، وقتل الخليفة المستعصم آخر بني العباس. ثم زحف إلى الشام، فملك مدنه وحواضره من أيدي بني أيوب، إلى أن استوعبها. وجاء الخبر بأن بركة صاحب صراي شريكه في نسب جنكزخان، زحف إلى خراسان، فامتعض

ص: 249

لذلك، وكر راجعاً، وشغل بالفتنة معه إلى أن هلك. وخرج قطز من مصر عندما شغل هولاكو بفتنة بركة، فملك الشام كله، أمصاره ومدنه، وأصاره للترك موالي بني أيوب. واستفحلت دولة هؤلاء المماليك، واتصلت أيامها واحداً بعد واحداً كما ذكرنا في أخبارهم. ثم جاء قلاوون عندما ملك بيبرس الظاهر منهم فتظاهر به، وأصهر إليه، والترف يومئذ لم يأخذ منهم، والشدة والشكيمة موجودة فيهم، والبأس

والرجولة شعار لهم، وهلك الظاهر بيبرس، وابناه من بعده، كما في أخبارهم. وقام قلاوون بالأمر، فاتسع نطاق ملكه، وطال ذرع سلطانه، وقصرت أيدي الططر عن الشام بمهلك هولاكو، وولاية الأصاغر من ولده، فعظم ملك قلاوون، وحسنت آثار سياسته، وأصبح حجة على من بعده، ثم ملك بعده ابناه: خليل الأشرف، ثم محمد الناصر. وطالت أيامه، وكثرت عصابته من مماليكه، حتى كمل منهم عدد لم يقع لغيره. ورتب للدولة المراتب، وقدم منهم في كل رتبة الأمراء، وأوسع لهم الإقطاع والولايات، حتى توفرت أرزاقهم واتسعت بالترف أحوالهم. ورحل أرباب البضائع من العلماء والتجار إلى مصر، فأوسعهم حباء وبراً. وتنافست أمراء دولته في اتخاذ المدارس والربط والخوانق، وأصبحت دولتهم غرة في الزمان، وواسطة في الدول. ثم هلك الناصر بعد أربعين وسبعمائة، فطفق أمراء دولته ينصبون بنيه للملك، واحداً بعد آخر، مستبدين عليهم، متنافسين في الملك، حتى يغلب واحد منهم الآخر، فيقتله، ويقتل سلطانه من أولاد الناصر، وينصب آخر منهم مكانه، إلى أن انساق الأمر لولده حسن الناصر، فقتل مستبده شيخون، وملك أمره. وألقى زمام الدولة بيد مملوكه يلبغا، فقام بها، ونافسه أقرانه، وأغروا به سلطانه، فأجمع قتله. ونمي إليه الخبر وهو في علوفة البرسيم عند خيله المرتبطة لذلك، فاعتزم على الامتناع، واستعد للقاء. واستدعاه سلطانه، فتثاقل عن القدوم. واستشاط السلطان، وركب في خاصته إليه، فركب هو لمصالحته. وهاجم السلطان ففله، ورجع إلى

ص: 250

القلعة، وهو في اتباعه، فلم يلفه بقصره، وأغرى به البحث فتقبض عليه، واستصفاه، وقتله، ونصب للملك محمد المنصور بن المظفر حاجي بن الناصر.

وقام بالدولة أحسن قيام، وأغرى نفسه بالاستكثار من المماليك، وتهذيبهم بالتربية، وتوفير النعم عندهم بالاقطاع، والولايات، حتى كمل منهم عدد لم تعهده الدولة. ثم

خلع المنصور بن المظفر لسنتين، ونصب مكانه للملك شعبان الأشرف بن حسين بن الناصر، فأقام على التخت وهو في كفالته، وهو على أوله في إعزاز الدولة، وإظهار الترف والثروة، حتى ظهرت مخايل العز والنعم، في المساكن والجياد والمماليك والزينة، ثم بطروا النعمة، وكفروا الحقوق، فحنقوا عليه لما كان يتجاوز الحدود بهم في الآداب، فهموا بقتله وخلصوا نجياً لذلك في متصيدهم الشتوي، وقد برزوا له بخيامهم وسلطانهم على عادتهم. ولما أحس بذلك ركب ناجياً بنفسه إلى القاهرة، فدخلوا على السلطان الأشرف، وجاءوا به على إثره، وأجازوا البحر، فقبضوا عليه عشي يومهم، ثم قتلوه في محبسه عشاء. وانطلقت أيديهم على أهل البلد بمعرات لم يعهدوها من أول دولتهم، من النهب والتخطف وطروق المنازل والحمامات للعبث بالحرم، وإطلاق أعنة الشهوات والبغي في كل ناحية، فمرج أمر الناس، ورفع الأمر إلى السلطان، وكثر الدعاء واللجأ إلى الله. واجتمع أكابر الأمر إلى السلطان، وفاوضوه في كف عاديتهم، فأمرهم بالركوب، ونادى في جنده ورعيته بانطلاق الأيدي عليهم، والاحتياط بهم في قبضة القهر، فلم يكن إلا كلمح البصر، وإذا بهم في قبضة الأسر. ثم عمرت بهم السجون، وصفدوا وطيف بهم على الجمال ينادى بهم، إبلاغاً في الشهرة، ثم وسط أكثرهم، وتتبع بالنفي والحبس بالثغور القصية، ثم أطلقوا بعد ذلك. وكان فيمن أطلق جماعة منهم بحبس الكرك: فيهم برقوق الذي ملك أمرهم بعد ذلك، وبركة الجوباني، وألطنبغا الجوباني وجهركس الخليلي.

ص: 251

وكان طشتمر، دوادار يلبغا، قد لطف محله عند السلطان الأشرف، وولي الدوادارية له، وكان يؤمل الاستبداد كما كان أستاذه يلبغا، فكان يحتال في ذلك بجمع هؤلاء المماليك اليلبغاوية من حيث سقطوا، يريد بذلك اجتماعهم عصبة له على هواه، ويغري السلطان بها شفاهاً ورسالة، إلى أن اجتمع أكثرهم بباب

السلطان الأشرف، وجعلهم في خدمة ابنه علي ولي عهده. فما كثروا، وأخذتهم أريحية العز بعصبيتهم، صاروا يشتطون على السلطان في المطالب، ويعتزون بعصبية اليلبغاوية. واعتزم السلطان الأشرف عام سبعة وسبعين على قضاء الفرض، فخرج لذلك خروجاً فخماً، واستناب ابنه علياً على قلعته وملكه في كفالة قرطاي من أكابر اليلبغاوية، وأخرج معه الخليفة والقضاة. فلما بلغ العقبة اشتط المماليك في طلب جرايتهم من العلوفة والزاد، واشتط الذين بمصر كذلك في طلب أرزاقهم من المتولين للجباية. وصار الذين مع السلطان إلى المكاشفة في ذلك بالأقوال والأفعال، وطشتمر الدوادار يغضي عنهم، يحسب وقت استبداده قد أزف، إلى أن راغمهم السلطان بالزجر، فركبوا عليه هنالك، وركب من خيالته مع لفيف من خاصته، فنضحوه بالنبل، ورجع إلى خيامه، ثم ركب الهجن مساء، وسار فصبح القاهرة، وعرس هو ولفيفه بقبة النصر.

وكان قرطاي كافل ابنه علي المنصور حدث بينه وبين ناظر الخاص المقسي

ص: 252

مكالمة عند مغيب السلطان أحقدته. وجاشت بما كان في نفسه، فأغرى عليا المنصور بن السلطان بالتوثب على الملك، فارتاح لذلك وأجابه، وأصبح يوم ثورة المماليك بالعقبة، وقد جلس علياً مكفوله بباب الإسطبل، وعقد له الراية بالنداء على جلوسه بالتخت، وبينما هم في ذلك، صبحهم الخبر بوصول السلطان الأشرف إلى قبة النصر ليلتئذ، فطاروا إليه زرافات ووحدانا، فوجدوا أصحابه نياماً هنالك، وقد تسلل من بينهم هو ويلبغا الناصري من أكابر اليلبغاوية، فقطعوا رءوسهم جميعاً، ورجعوا بها تسيل دماً. ووجموا لفقدان الأشرف، وتابعوا النداء عليه، وإذا بامرأة قد دلتهم عليه في مكان عرفته، فتسابقوا إليه، وجاءوا به فقتلوه لوقته بخلع أكتافه، وانعقدت بيعة ابنه المنصور. وجاء طشتمر الدوادار من الغد بمن بقي بالعقبة من الحرم، ومخلف السلطان، واعتزم على قتالهم طمعاً في الاستبداد الذي

في نفسه، فدافعوه وغلبوه وحصل في قبضتهم، فخلعوا عليه بنيابة الشام، وصرفوه لذلك، وأقاموا في سلطانهم. وكان أينبك أميراً آخر من اليلبغاوية قد ساهم قرطاي في هذا الحادث، وأصهر إليه في بعض حرمه، فاستنام له قرطاي، وطمع هو في الاستيلاء. وكان قرطاي مواصلاً صبوحه بغبوقه، ويستغرق في ذلك، فركب في بعض أيامه، وأركب معه السلطان علياً، واحتاز الأمر من يد قرطاي، وصيره إلى صفد، واستقل بالدولة، ثم انتقض طشتمر بالشام مع سائر أمرائه، فخرج أينبك في العساكر، وسرح المقدمة مع جماعة من الأمراء، وكان منهم برقوق وبركة المستوليان عقب ذلك، وخرج هو والسلطان في الساقة، فلما انتهوا إلى بلبيس، ثار الأمراء الذين في المقدمة عليه، ورجع إليه أخوه منهزماً، فرجع إلى القلعة. ثم اختلف عليه الأمراء، وطالبوه بالحرب في قبة النصر، فسرح العساكر لذلك، فلما فصلوا فر هو هارباً، وقبض عليه وثقف بالإسكندرية.

ص: 253

واجتمع أمراء اليلبغاوية يقدمهم قطلقتمر العلائي، ويلبغا الناصري ودمرداش اليوسفي وبركة وبرقوق، فتصدى دمرداش ويلبغا وبركة وبرقوق، إلى الاستقلال بالأمر وتغلبوا على سائر الأمراء، واعتقلوهم بالإسكندرية. وفوضوا الأمر إلى يلبغا الناصري، وهم يرونه غير خبير، فأشاروا باستدعاء طشتمر، وبعثوا إليه، وانتظروا. فلما جاءه الخبر بذلك ظنها منية نفسه، وسار إلى مصر، فدفعوا الأمر إليه، وجعلوا له التولية والعزل وأخذ برقوق، وبركة يستكثران من المماليك، بالاستخدام والجاه، وتوفير الاقطاع، إكثافاً لعصبيتهما، فانصرفت الوجوه عن سواهما، وارتاب طشتمر بنفسه، وأغراه أصحابه بالتوثب، ولما كان الأضحى في سنة تسع وسبعين استعجل أصحابه على غير روية، وركبوا وبعثوا إليه فأحجم، وقاتلوا فانهزموا. وتقبض على طشتمر، وحبس بالإسكندرية، وبعث معه يلبغا الناصري، وخلت الدولة للأميرين برقوق وبركة من المنازعين، وعمروا المراتب

بأصحابهما. ثم كثر شغب التركمان والعرب بنواحي الشام، فدفعوا يلبغا الناصري إلى النيابة بحلب ليستكفوا به في تلك الناحية. ثم تنافس برقوق وبركة في الاستقلال، واضمر كل واحد منهما لصاحبه، وخشي معه، فقبض برقوق على بطانة بركة من عصابته ليحض بذلك جناحه، فارتاع لذلك بركة، وخرج بعصابته إلى قبة النصر ليواضع برقوقاً وأصحابه الحرب هنالك، ورجا أن تكون الدائرة له. وأقام برقوق بمكانه من الإسطبل، وسرب أصحابه في جموعهم إلى مجاولة أولئك. وأقاموا كذلك أياماً يغادونهم ويراوحونهم ثلاثاً، إلى أن عضت بركة وأصحابه الحرب، فانفضوا عنه، وجيء ببركة، وبعث به إلى الإسكندرية، فحبس هنالك إلى أن قتله ابن عرام نائب الإسكندرية. وارتفع أصحابه إلى برقوق

ص: 254

شاكين، فثارهم منه بإطلاق أيديهم في النصفة، فانتصفوا منه بقتله في ساحة القلعة، بعد أن سمر، وحمل على جمل عقاباً له، ولم يقنعهم ذلك، فأطلق أيديهم فيما شاءوا منه، ففعلوا مما فعلوا. وانفرد برقوق - بعد ذلك - بحمل الدولة ينظر في أعطافها بالتهديد، والتسديد، والمقاربة، والحرص على مكافأة الدخل بالخرج. ونقص ما أفاض فيه بنو قلاوون من الإمعان في الترف، والسرف في العوائد والنفقات، حتى صار الكيل في الخرج بالمكيال الراجح، وعجزت الدولة عن تمشية أحوالها، وراقب ذلك كله برقوق، ونظر في سد خلل الدولة منه، وإصلاحها من مفاسده، يعتد ذلك ذريعة للجلوس على التخت، وحيازة اسم السلطان من أولاد قلاوون، بما أفسد الترف منهم، وأحال الدولة بسببهم، إلى أن حصل من ذلك على البغية، ورضي به أصحابه وعصابته، فجلس على التخت في تاسع عشر رمضان من سنة أربع وثمانين، وتلقب بالظاهر. ورتب أهل عصابته في مراتب الدولة، فقام وقاموا بها أحسن قيام، وانقلبت الدولة من آل قلاوون إلى برقوق الظاهر وبنيه. واستمر الحال على ذلك، ونافسه اليلبغاوية - رفقاؤه في ولاء يلبغا - فيما

صار إليه من الأمر، وخصوصاً يلبغا نائب حلب، فاعتزم على الانتقاض. وشعر به الظاهر فبعث باستدعائه، فجاء وحبسه مده، ثم رجعه إلى نيابة حلب، وقد وغر صدره من هذه المعاملة. وارتاب به الظاهر، فبعث سنة تسعين دواداره للقبض عليه، ويستعين في ذلك بالحاجب. وانتقض، واستدعى نائب ملطية، وهو منطاش من أمراء اليلبغاوية، وكان قد انتقض قبله، ودعا نواب الشام إلى المسير إلى مصر إلباً على الظاهر، فأجابوه، وساروا في جملته، وتحت لوائه، وبلغ الخبر إلى الظاهر برقوق، فأخرج عساكره مع أمراء اليلبغاوية من أصحابه: وهم الدوادار الأكبر يونس، وجهركس

ص: 255

الخليلي أمير الإسطبل، والأتابكي ايتمش، وأيدكار حاجب الحجاب وأحمد بن يلبغا أستاذهم. وخرج الناصري من حلب في عسكره، واستنفر العرب والتركمان وأمراء الشام، ولما تراءى الجمعان بناحية دمشق، نزع كثير من عسكر السلطان إليهم، وصدقوا الحملة على من بقي فانفضوا. ونجا أيتمش إلى قلعة دمشق، فدخلها، وقتل جهركس، ويونس، ودخل الناصري دمشق، ثم أجمع المسير إلى مصر، وعميت أنباؤهم حتى أطلوا على مصر.

وفي خلال ذلك أطلق السلطان الخليفة من محبسه كان بعض الغواة أنمى عنه، أنه داخله شيطان من شياطين الجند، يعرف بقرط في قتل السلطان يوم ركوبه إلى الميدان قبل ملكه بسنين، فلما صح الخبر أمر بقتله، وحبس الخليفة سبعاً إلى تلك السنة، فأطلقه عند هذا الواقع، ولما وصل. . . . إلى قيطا اجتمعت العساكر، ووقف السلطان أمام القلعة يومه حتى غشيه الليل، ثم دخل إلى بيته وخرج متنكراً، وتسرب في غيابات المدينة، وباكر الناصري وأصحابه القلعة، وأمير حاج بن الأشرف، فأعادوه إلى التخت ولقبوه المنصور. وبعثوا عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وكان فيهم ألطنيغا الجوباني الذي كان أمير مجلس، وقبض السلطان الظاهر عليه، وحبسه أياماً، ثم أطلقه وبعثه نائباً على دمشق، ثم ارتفعت عنه

الأقوال بأنه يروم الانتقاض، وداخل الناصر في نائب حلب في ذلك، وأكد ذلك عند السلطان ما

ص: 256

كان بينه وبين الناصري من المصافاة والمخالصة، فبعث عنه. ولما جاء حبسه بالإسكندرية، فلما ملك الناصري مصر، وأجلس أمير حاج بن الأشرف على التخت، بعث عنه ليستعين به على أمره، وارتابوا لغيبة الظاهر، وبالغوا في البحث عنه، فاستدعى الجوباني واستنام له، واستحلفه على الأمان، فحلف له، وجاء به إلى القلعة بعد أن ساور صاحبه الناصري في المضي إليه وتأمينه. وحبسوه في بعض قصور الملك، وتشاوروا في أمره، فأشار أمراء اليلبغاوية كلهم بقتله، وبالغ في ذلك منطاش، ووصل نعير أمير بني مهنا بالشام للصحابة بينه وبين الناصري، فحضهم على قتله، ومنع الجوباني من ذلك وفاء بيمينه، فغلت صدورهم منه. واعتزموا على بعثه إلى الكرك، ودافعوا منطاشاً بأنهم يبعثونه إلى الإسكندرية، فيعترضه عند البحر بما شاء من رأيه. ووثق بذلك، فقعد له عند المرساة، وخالفوا به الطريق إلى الكرك، وولوا عليها نائباً وأوصوه به، فأخفق مسعى منطاش، ودبر في اغتيال الدولة، وتمارض في بيته. وجاءه الجوباني عائذاً فقبض عليه، وحبسه بالإسكندرية، وركب منتقضاً، ووقف عند مدرسة الناصر حسن يحاصر الناصري بالقلعة. واستحاش هو بأمراء اليلبغاوية، فداهنوا في إجابته، ووقفوا بالرميلة أمام القلعة. ولم يزل ذلك بينهم أياماً حتى انفض جمع الناصري، وخرج هارباً، فاعترضه أصحاب الطريق بفارسكو، وردوه، فحبسة منطاش بالإسكندرية مع صاحبه، واستقل بأمر الملك. وبعث إلى الكرك بقتل الظاهر، فامتنع النائب، واعتذر بوقوفه على خط السلطان والخليفة والقضاة. وبث الظاهر عطاءه في عامة أهل الكرك، فانتدبت طائفة منهم لقتل البريدي الذي جاء في ذلك، فقتلوه، وأخرجوا الظاهر من محبسه فأصحروا. واستألف أفاريق من العرب، واتصل به بعض

ص: 257

مماليكه، وسار إلى الشام.

واعترضه ابن باكيش نائب غزة، فأوقع به الظاهر، وسار إلى دمشق، وأخرج منطاش العساكر مع سلطانه أمير حاج، وسار على التعبئة ليمانع الظاهر عن دمشق. وسبقه الظاهر فمنعه جنتمر نائب دمشق، فواقعه، وأقام محاصراً له. ووصل إليه كمشبغا الحموي نائب حلب، وكان أظهر دعوته في عمله، وتجهز للقائه بعسكره، فلقيه وأزال علله، فأقام له أبهة الملك. وبينا هم في الحصار إذ جاء الخبر بوصول منطاش بسلطانه وعساكره لقتالهم، فلقيهم الظاهر بشقحب، فلما تراءى الجمعان، حمل الظاهر على السلطان أمير حاج وعساكره ففضهم، وانهزم كمشبغا إلى حلب. وسار منطاش في اتباعه، فهجم الظاهر على تعبئة أمير حاج، ففضها، واحتاز السلطان، والخليفة والقضاة، ووكل بهم. واختلط الفريقان، وصاروا في عمياء مز أمرهم، وفر منطاش إلى دمشق. واضطرب الظاهر أخبتيه، ونزل على دمشق محاصر لها. وخرج إليه منطاش من الغد فهزمه، وجمع القضاة والخليفة، فشهدوا على أمير حاج بالخلع، وعلى الخليفة بإعادة الظاهر إلى ملكه. ورحل إلى مصر فلقيه بالطريق خبر القلعة بمصر، وتغلب مماليكه عليها، وذلك أن القلعة لما خلت من السلطان ومنطاش والحامية، وكان مماليك السلطان محبوسين هنالك في مطبق أعد لهم، فتناجوا في التسور منه إلى ظاهره، والتوثب على القلعة والملك، فخرجوا، وهرب دوادار منطاش الذي كان هنالك بمن كان معه من الحاشية. وملك مماليك الظاهر القلعة، ورأسهم مملوكه بطا، وساس أمرهم، وانتظر خبر سلطانه، فلما وصل الخبر بذلك إلى الظاهر، أغذ السير إلى مصر. وتلقاه الناس فرحين

ص: 258

مسرورين بعوده وجبره. ودخل منتصف صفر من سنة إحدى وتسعين، وولى بطا دواداراً، وبعث عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وأعتبهم، وأعادهم إلى مراتبهم. وبعث الجوباني إلى دمشق، والناصري إلى حلب كما كانا، وعادت الدولة إلى ما كانت عليه. وولى سودون

على نيابته، وكان ناظراً بالخانقاه التي كنت فيها، وكان ينقم علي أحوالاً من معاصاته فيما يريد من الأحكام في القضاء أزمان كنت عليه، ومن تصرفات دواداره بالخانقاه، وكان يستنيبه عليها، فوغر صدره من ذلك، وكان الظاهر ينقم علينا معشر الفقهاء فتاوى استدعاها منا منطاش، وأكرهنا على كتابها، فكتبناها، وورينا فيها بما قدرنا عليه. ولم يقبل السلطان ذلك، وعتب عليه، وخصوصاً علي. فصادف سودون منه إجابة في إخراج الخانقاه عني، فولى فيها غيري وعزلني عنها. وكتبت إلى الجوباني بأبيات أعتذر عن ذلك ليطالعه بها، فتغافل عنها، وأعرض عني مدة، ثم عاد إلى ما أعرف من رضاه وإحسانه، ونص الأبيات:

سيدي والظنون فيك جميلة

وأياديك بالأماني كفيله

لا تحل عن جميل رأيك إني

ما لي اليوم غير رأيك حيله

واصطنعني كما اصطنعت بإسدا

ء يد من شفاعة أو وسيله

لا تضعني فلست منك مضيعاً

ذمة الحب، والأيادي الجميله

ص: 259

وأجرني فالخطب عض بناب

بيه وأجرى إلى حماي خيوله

ولو أني دعا بنصري داع

كنت لي خير معشر وفصيله

أنه أمري إلى الذي جعل الل

هـ أمور الدنيا له مكفوله

وأراه في ملكه الآية الك

برى فولاه ثم كان مديله

أشهدته عناية الله في التم

حيص أن كان عونه ومنيله

العزيز السلطان والملك الظا

هر فخر الدنيا وعز القبيله

ومجير الإسلام من كل خطب

كاد زلزال بأسه أن يزيله

ومديل العدو بالطعنة النجلا

ء تفري ماذيه ونصوله

وشكور لأنعم الله يفني

في رضاه غدوه وأصيله

وتلطف في وصف حالي وشكوى

خلتي يا صفيه وخليله

قل له والمقال يكرم من مث

لك في محفل العلا أن يقوله

يا خوند الملوك يا معدل الد

هر إذا عدل الزمان فصوله

لا تقصر في جبر كسرى فما زل

ت أرجيك للأيادي الطويلة

أنا جار لكم منعتم حماه

ونهجتم إلى المعالي سبيله

وغريب أنستموه على الوحش

ة والحزن بالرضى والسهوله

وجمعتم من شمله فقضى الل

هـ فراقاً وما قضى مأموله

غاله الدهر في البنين وفي الأه

ل وما كان ظنه أن يغوله

ورمته النوى فقيداً قد اجت

احت عليه فروعه وأصوله

ص: 260

فجذبتم بضبعه وأنلتم

كل ما شاءت العلا أن تنيله

ورفعتم من قدر قبل أن يش

كو إليكم عياءه وخموله

وفرضتم له حقيقة ود

حاش لله أن ترى مستحيله

همة ما عرفتها لسواكم

وأنا من خبرت دهري وجيله

والعدا نمقوا أحاديث إفك

كلها في طرائق معلوله

روجوا في شأني غرائب زور

نصبوها لأمرهم أحبوله

ورموا بالذي أرادوا من الب

هتان ظناً بأنها مقبولة

زعموا أنني أتيت من الأقوا

ل ما لا يظن بي أن أقوله

كيف لي أغمط الحقوق وأني

شكر نعماكم علي الجزيله؟

كيف لي أنكر الأيادي التي تع

رفها الشمس والظلال الظليله؟

إن يكن ذا فقد برئت من الل

هـ تعالى وخنت جهراً رسوله

طوقونا أمر الكتاب فكانت

لقداح الظنون فينا مجيله

لا ورب الكتاب أنزله الل

هـ على قلب من وعى تنزيله

ما رضينا بذاك فعلاً ولا جئ

ناه طوعاً ولا اقتفينا دليله

إنما سامنا الكتاب ظلوم

لا يرجى دفاعه بالحيله

سخط ناجز وحلم بطيء

وسلاح للوخز فينا صقيله

ودعوني ولست من منصب الح

كم ولا ساحباً لديهم ذيوله

غير أني وشى بذكري واش

يتقصى أوتاره وذحوله

فكتبنا معولين على حل

مك تمحو الاصار عنا الثقيله

ما أشرنا به لزيد ولا عم

رو ولا عينوا لنا تفصيله

إنما يذكرون عمن وفيمن

مبهمات أحكامها منقوله

ص: 261

ويظنون أن ذاك على ما

أضمروا من شناعة أو رذيله

وهو ظن عن الصواب بعيد

وظلام لم يحسنوا تأويله

وجناب السلطان نزهه الله ع

ن العاب بالهدى والفضيله

وأجل الملوك قدراً صفوح

يرتجي ذنب دهره ليقيله

فاقبلوا العذر إننا اليوم نرجو

بحياة السلطان منكم قبوله

وأعينوا على الزمان غريباً

يشتكي جدب عيشه ومحوله

جاركم ضيفكم نزيل حماكم

لا يضيع الكريم يوماً نزيله

جددوا عنده رسوم رضاكم

فرسوم الكرام غير محيله

داركوه برحمة فلقد أم

ست عقود اصطباره محلوله

وانحلوه جبراً فليس يرجي

غير إحسانكم لهذي النحيله

يا حميد الآثار في الدهر يا

ألطنبغا يا روض العلا ومقيله

كيف بالخانقاه ينقل عني

لا لذنب أو جنحة منقوله

بل تقلدتها شغوراً بمرسو

م شريف وخلعة مسدوله

ولقد كنت آملاً لسواها

وسواها بوعده أن ينيله

وتوثقت للزمان عليها

بعقود ما خلتها محلوله

أبلغن قصتي فمثلك من يق

صد فعل الحسنى بمن ينتمي له

واغنموا من مثوبتي ودعائي

قربة عند ربكم مقبوله

وفي التعريض بسفره إلى الشام:

واصحب العز ظافراً بالأماني

واترك العصبة العدا مفلوله

واعتمل في سعادة الملك الظا

هر أن تمحو الأذى وتزيله

وتعيد الدنيا لأحسن شمل

حين تضحي بسعده مشموله

واطلب النصر من سعادته يص

حبك داباً في الظعن والحيلوله

وارتقب ما يحله بالأعادي

في جمادى أو زد عليه قليله

ص: 262