الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعربية، وشاع ذلك عند أهل العلم، فأنكروه عليه، وارتفع الأمرُ إلى السلطان، فأحضره واستتابه بحضرة القرّاء والفقهاء، فأذعن للتوبة".
الشُّبهة الثالثة: إغفال الحركات في الرَّسم:
اتَخذ الظَاعنون في إعراب القرآن من عدم النقط والشكل في كَتَبةِ المصحف، دليلاً للقول بوجود اختلاف في الحركات الإعرابية، وهذا أدى إلى اختلاف القراءات، يقول (جولد تسيهر):"يدعو اختلاف الحركات الذي لا يوجد في الكتابة العربية الأصلية ما يحدده إلى اختلاف مواقع الإعراب للكلمة، وبهذا إلى اختلاف دلالتهاة وإفًا فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط، واختلاف الحركات في المحصول الموحَّد القالب من الحروف الصامتة، كانا هما السبب الأول في نشأة حركة اختلافِ القراءات في نصّ لم يكن منقوطاً أصلاً، أو لم تُتَحرَّ الدقَة في نقطه أو تحريكه ".
وهناك أمران خطيران يمكن أن نأخذهما من هذا النصّ، هما:
الأول: إهمال النقط والشكل سببٌ لاختلاف الإعراب، مما أدَّى إلى اختلاف القراءات. وقد قال (جولد تسيهر) في موطنِ آخر:
"آية (43) من سورة الرعد: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)، فقد وردت هذه الجملة بالقراءة التالية: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ)؛ كما أن تغييرا زائدا على هذا في تحريك لفظ "عِلْمُ "، سمح بالقراءة التالية: ومِنْ عنده عُلِم الكتاب ".
الثَّاني: اتّهام الكَتَبة بعدم الدقّة في نقط القرآن، وتحريكه.
ويردّ على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأوّل: نقلت الأمّة هذا القرآن من صدور الرجال، جيلاً بعد جيل؛ فلا يصحّ مع اشتهاره، وتوفّر نَقَلَتِهِ وكثرة حفّاظه أنْ يكون فيه وهم، حاشا! قال ابن الجزريّ: "ثمّ إنّ الاعتماد في نقل القرآن يكون على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف
والكتب. وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأُمّة؛ ففي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم، فقلت له: ربِّ إذاً يثلغوا رأسي حتى يَدعُوهُ خُبْزَةً، فقال: مبتليك ومبتلٍ بك ومُنَزِّل عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظانَ، فابعث جنداً أبعث مثلهم، وقاتل بمَنْ أطاعك مَنْ عصاك، وأنفق يُنْفق عليك ".
فأخبر - تعالى - أنّ القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تُغسل بالماء، بل يقرؤه في كلّ حال كما جاء في صفة أُمّته:"أناجيلهم في صدورهم "، وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه لا في الكتب، ولا يقرأونه كلّه إلا نظرًا لا عن ظهر قلب".
وتوقف العلَّامة محمد عبد الله دراز عند إطلاق تسميتين مشهورتين على القرآن الكريم، هما: القرآن، والكتاب؛ قائلاً:
"رُوعِيَ في تسميته: "قرآناً" كونه متلواً بالألسن، كما رُوعِيَ في تسميته: "كتاباً" كونه مدوّناً بالأقلام؟ فكِلْتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أنَّ مِنْ حقه العناية بحفظه في
موضعين، لا في موضعٍ واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور، والسطور جميعا
…
فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المُجمع عليه من الأصحاب المنقول إلينا، جيلاً بعد جيل، على هيئته التي وُضِع عليها أول مرّة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر، وبهذه العنالة المزدوجة
…
بَقِيَ القرآن محفوظاً".
ومن - هنا - نُدرك الحكمة التي لأجلها أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه مع كلّ مصحف مقرئا، يقرئ الناس، حتى يؤخذ من أفواه الرجال.
الوجه الثاني: هناك قراءات يحتملها الرسم، وهي جائزة في اللُّغة، ولكن لا يعضدها النقل؛ وليس اتباع الخطِّ بمجرده واجباً ما لم يعضده نقل.
ولنأخذ مثالا مما يحتمله الرَّسم، ولكن لم يقرأ به، قال أبو داود سليمان بن نجاح: "وكتبوا في جميع المصاحف: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4))، بغير ألف، مثل:(مَلِكِ النَّاسِ (2))، وكذا كتبوا:(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) بإجماع،
واختلف القُراء هنا خاصة؛ فقرأه عاصم والكسائي بألف بين الميم واللام في اللفظ، مثل المجمع عليه في آل عمران، وقرأ سائر القُراء بغير ألف، مثل الذي في الناس بإجماع أيضاً هناك، وفي آل عمران ".
ويعلق الدكتور فضل حسن عباس قائلاً:
"رسم هذه الكلمات واحدٌ لا اختلافَ فيه، ولكن القُراء اختلفوا في الآية الأولى من سورة الفاتحة، فبعضهم قرأها (مالك) وبعضهم قرأها (ملك)، ولكنهم اتفقوا في آية آل عمران حيث قرأوها بالألف لم يخالف منهم أحد. أما آية الناس، فقد اتفقوا على قراءتها بدون ألف. تُرى لو كان اختلاف القراءات ناشئا عن التنقيط أكانوا يختلفون في موضع واحد، ويتفقون على ما سواه؟ إن المنطق يقضي أن يختلفوا في هذه المواضع جميعا؛ لأن الرسم يحتمل كلتا القراءتين، ولكن اختلافهم في موضع واحد يدل دلالة واضحة على أن الرسم ليس كل شيء، إنَما هو التلقّي مشافهة، والتواتر اللذان تثبت بهما القراءة ".
الوجه الثالث: ثمّة وجوه تجوزها اللغة والصنعة
النحويّة، ومع هذا لم يُقرأ إلا بالوجه المرويّ.
قال ابن عطية عند قوله - تعالى -: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)، "وأجمع القُراء على ضم الميم من (مُكْثٍ)، ويقال: مُكث، ومَكث - بضمّ الميم وفتحها - ومِكث بكسرها".
وعلَّق عليه الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي: "ولم يقرأ واحد من القُرَّاء الأربعة عشر إلا مُكث بضمّ الميم ".
ومثال الصنعة النَّحوية، قال الفراء عند قوله - تعالى -:(إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ): "جعلت (ما) في مذهب الذي: إن الذي صنعوا كَيْد سِحْر، وقد قرأه بعضهم:(كَيْدُ سَاحِرٍ)، وكل صواب.
ولو نصبت (كيدَ سحر) كان صواباً، وجعلت (إنَّما)
حرفاً واحداً". وعلق عليه الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي قائلاً:
"ولم يقرأ به واحد من سبعة ابن مجاهد، ولا الثلاثة الذين بعدهم، ولا الأربعة الذين بعدهم ".
الوجه الرابع: المثال الذي ذكره (جولد تسيهر) مردودٌ عليه، وهو أنه قد تسامح بعضهم فجعل (علم) فعلاً مبنياً للمجهول؛ في قوله - تعالى -:(وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43))، فليست من القراءات المتواترة، فلا يُعتد باعتراضه، وهي مع شذوذها لها وجهٌ في العربية.
وقال الشيخ أحمد بن محمد البنا: "وعن الحسن والمطوعي (ومن عنده) جازٌ ومجرور خبر مقدم و (علم) مبتدأ مؤخر، والجمهور (مَن) اسم موصول، عطف على الجلالة، والجملة بعده صلته، أي: كفى بالله، وبالذي عنده
…
إلخ.
من مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام.
وأما قراءة (مِن عنده) بالجرّ و (عُلِم) بالبناء للمفعول، و (الكتاب) رُفِع به، فليس من طرق هذا الكتاب ".
الوجه الخامس: أمّا اتهام الخظ بعدم الدقّة، فهذا البهتان بعينه، وردُّنا عليه على النَّحو إلآتي:
أ - إنّ رسم المصحف يدلُّ على دراية الكَتَبة ومعرفتهم، فهو غاية في الإتقان. قال نظام الذين النيسابوريّ: "واتّباع المصحف في هجائه واجب، ومَنْ طعن في شيءٍ من هجائه، فهو كالطَّاعن في تلاوته؛ لأنه بالهجاء يُتلى.
فما كَتَب - زيد بن ثابت - شيئاً من ذلك إلَّا لعلَّةٍ لطيفة، وحِكْمة بليغة؛ وإنْ قَصُر عنها رأينا".
ب - القرآن معجز في مَبْناه ومعناه، فَرُوعِيَ في كتابته ورسمه بهجاء يحمل المعاني المتعدّدة، والأغراض البلاغية، ويحفظ وجوه القراءات؛ إذ رسمه لا ينفك عن قراءاته.
قال المهدويّ: "لمّا كانت المصاحف التي هي الأئمّة؛ إذ قد اجتمعت عليها الأُمّة، تلزم موافقتها، ولا تسوغ مخالفتها - وكان كثير من الخطّ المُثْبَت فيها، يخرج عن المعهود عند الناس، مع حاجتهم إلى معرفته، لتُكْتب المصاحف على رَسْمه، وتجري في الوقف على كثيرٍ منه، لكلّ قارئٍ من القرّاء على مذهبه وحكمه - كانت الحاجة إليه كالحاجة إلى سائر علوم القرآن، بل أهمّ، ووجوب تعليمه أشمل وأعمّ؛ إذ لا يصحُّ معرفة بعض ما اختلف القرّاء فيه
دون معرفته، ولا يسع أحداً اكتتاب مصحف على خلاف خط المصحف الإمام ورتبته ".
ج - لا يُرمى الرسم بعدم الدقّة، إذا خَفِيَ علينا شيءٌ منه، فـ "لم يكن ذلك من الصَّحابة كيف اتّفق؛ بل على أمرٍ عندهم قد تحقّق ".
يقولُ أبو عمرو الدانِيّ: "وليس شيءٌ من الرسم، ولا من النّقط، اصطلح عليه السَّلف، رضوان الله عليهم، إلَّا وقد حاولوا به وجهاً من الصحة والصواب، وقصدوا فيه طريقاً من اللغة والقياس؛ لموضعهم من العلم، ومكانهم من الفصاحة، عَلِمَ ذلك مَنْ عَلِمَه، وجَهِلَهُ مَنْ جهله، والْفَضْل بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ".
ومن الأمثلة على هذه الذقة، قوله - تعالى:(إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ): "رُسِمت في المصحف العثمانيّ دون نقط، ولا شكل، ولا تشديد، ولا تخفيف، ولا ألف ولا ياء؛ فرَسْمها بهذه الكيفيّة، ومجيئها على هذه الحال أدَّى جميع القراءات المتواترة التي رُوِيت بأسانيدِ صحيحة".