الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلا إنما الذي يصح أنْ يُقال: إن قواعد العربية كلها يجب أن يكون مرجعها القرآن الذي ثبتت نسبته بالتواتر إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كما ثبت أن أفصح العرب اعترفوا بأنه في أعلى مراتب البلاغة والفصاحة".
الوجه الثالث: من الأُصول المرعية أنه "إذا ورد السماع بشيءٍ لم يبق غرض مطلوب، وعُدِل عن القياس إلى السماع ".
والقرآن الكريم بقراءاته هو السماع الأعلى والأقوى، جاء في كتاب (النحويون والقرآن):"إذا رأيت القياس النحوي يخالف ما عليه القرآن، فدع القياس النحوي وتمسك بما يمثّله نص القرآن؛ لأنَ مَنْ تمسك بالشاهد القرآني بحكم فقد تمسك بالحجة الوثقى، والدليل القاطع للخلاف ".
الشبهة الخامسة: الأخذ بالأقوال الضعيفة وجعلها حجّة:
مَنْ ينظُرُ في شُبَه هؤلاء الطاعنين يراهم قد سطوا على أقوالٍ ضعيفة، ومناقشات يوردها المعربون والمفسرون بشكل اعتراض، ثم يجيبون عنها، ولكن الطاعنين يحتجون بالاعتراض، ويتركون الجواب عنه؛ كي يلقوا الشُبه في نفوس المسلمين بكتاب ربِّهم، وقد أشار الشيخ عبد الرحمن الجزيري إلى هذه الشُبهة بقوله:
"وقد عرفت مما ذكرناه لك قريبأ أنّهم يرجعون إلى كتب المفسّرين، ويأخذون من أبحاثهم، ويسوقونه في صورة اعتراض، وينسبونه إلى أنفسهم. مع أنَّهم يعلمون أنّ المعترض قد أجاب عن اعتراضه بعدَّة أجوبة، ومِنْ أجل ذلك ترى كثيرا من المبشّرين لا يُحسن نقل الاعتراض؛ فيظهر جهله في صورة مكبّرة مضحكة، ولا نريد أن نذهب بالقرّاء بعيدا، بل نقول لهم: إنّ الأمثلة التي اعترض بها زعيم المبشّرين واتّبعه فيها القسيس الملقّب نفسه بهاشم العربيّ أكبر شهادة على ما نقول ".
ولنأخذ مثالا من صاحب (تذييل مقالة في الإسلام)، كي يرى القارئ صدق ما قرّرناه، قال في (تذييله): "وقال في سورة البقرة: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ).
قال المفسّرون: إنّ (الَّذي) بمعنى (الَّذين)، واستشهدوا لذلك لا بشاهد من كلام العرب بل بكلام القرآن نفسه؛ إذ قال:(وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا)، أي: كالذين خاضوا؛ وهذا احتجاج ضعيف فضلا عن أنَّه لو أراد بالذي في هذا الموضع معنى (الذين) لقال: الذي استوقدوا، كما قال: الذي خاضوا، ولكنَّه قال: استوقد بالإفراد؛ فبَقِيَ الكلام بعد ذلك ناقصا لا يفيد".
وهذا الذي نقله الظَاعن موجود ذَكَره العلماء، قال أبو البقاء العكبريّ: "قوله: (الذى اسْتَوْقَدَ): (الَّذِي) - ها هنا - مفرد في اللّفظ، والمعنى على الجمع؛ بدليل قوله؛ (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)، وما بعده.
وفي وقوع المفرد - هنا - موقع الجمع وجهان:
أحدهما: هو جنس، مثل: مَنْ، ومَا؛ فيعود الضميرُ إليه تارةً بلفظ المفرد، وتارة بلفظ الجمع.
والثاني: أنّه أراد الذين؛ فحُذفت النون لطول الكلام بالصِّلة، ومثله:(وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) ثم قال: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ".
وعقَّب السمين الحلبي على قول أبي البقاء العكبريّ بالتضعيف، فقال:
"ووَهِمَ أبو البقاء، فجعل هذه الآية من باب ما حُذِفَتْ منه النونُ تخفيفاً، وأنّ الأصلَ: الذينَ، ثم خُفف بالحذفِ، وكأنه جَعَلَه مثلَ قوله - تعالى - في الآية الأخرى:(وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا)، وقول الشاعر:
وإنَّ الذي حَانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ
…
هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ
والأصل: كالذين خاضُوا، وإن الذين حانَتْ، وهذا
وَهمٌ فاحش؛ لأنّه لو كان من باب ما حُذِفَتْ منه النونُ لوجَبَ مطابقةُ الضمير جمعاً، كما في قوله:(كَالَّذِي خَاضُوا)، و (دماؤُهُمْ)، فلمّا قال تعالى:(اسْتَوْقَدَ) بلفظ الإفراد تعيَّن أحدُ الأمرين المتقدّمين: إمّا جَعْلُه من باب وقوعِ المفردِ موقعَ الجمعِ؛ لأنّ المرادَ به الجنسُ، أو أنّه من باب ما وقع فيه صفةً لموصوف يُفْهِمُ الجَمْع ".
والذي يُطالع هذه المناقشات التي تجري في مؤلّفات علمائنا رحمهم الله وما ذكره الطَّاعن يلاحظ أمرين مهميْن:
الأوّل: أخذ الطَّاعن برأيٍ ضعيف والرَّدَّ عليه سرقةً، ونسبه إلى نفسهِ، وهذا بيّن من خلال الموازنة بين ما ذكره الطَّاعن وما ذكره السمين الحلبيّ.
الثاني: عمَّم هذا الطَّاعنُ القول الضعيف على المفسّرين، وحاكَمَ النصَّ القرآني من خلاله. وعند مراجعة كتب الأئمّة يتّضح قصد الرجل!.
الشُّبهة السادسة: الشَّطط في (مصطلح الزائد) عند النُّحَاة في كتاب الله تعالى:
وصف صاحب (تذييل مقالة في الإسلام) النَظْم القرآني
بالإخلال، ويرى بأنّ (الزّائد) يخلُّ بالفصاحة، ويحيل المعنى إلى غير مراد قائله، فهو ضرب من اللَّغْو، وقال:"فهو - الزّائد - إذاً لغو، في كتاب حقّه أن يكون منزّهاً عن اللغْو".
ومثل لهذا، فقال عند قوله - تعالى -:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ): "فلا" في قوله: (لِئَلَّا)، والأصل: لأن لا: زائدة؛ لأن المفسّرين يزعمون أنّه أراد أنْ يقول: ليعلم أهل الكتاب
…
إلخ. إلَّا أنّ هذه الزيادة عكست معنى الكلام وأحالته إلى ضدّ مراد قائله ".
ولردّ شبهة هذا الطاعن، نحقّق القول في أمرين:
الأول: معنى الزيادة.
والثاني: الجواب عن الآية؛ فيندفع بذلك الإشكال.
الأمر الاول: معنى الزيادة:
يحسبُ هذا الطاعن - أو أراد - أن الزائد ما لا فائدة
فيه، وهذا واضح من كلامه. وعلماؤنا ما أرادوا هذا المعنى، جاء في (البرهان):"فإنَّ مراد النحويّين بالزائد من جهة الإعراب، لا من جهة المعنى".
وقال ابن الأثير: "ومَنْ ذهبَ إلى أنّ في القرآن لفظاً زائداً لا معنى له، فإمّا أنْ يكون جاهلا بهذا القول؛ وإمّا أن يكون مُتَسَمِّحاً في دينه واعتقاده.
وقولُ النحاةِ: إنّ (ما) في هذه الآية زائدةٌ، فإنَّما يَعْنون به أنّها لا تمنَع ما قبلَها عنِ العمل، كما يسمّونها في موضعٍ آخر كافّة، أي: أنّها تكف الحرفَ العامل عن عمله؛ كقولك: إنما زيدٌ قائمٌ، فما قد كفَّت (إنّ) عن العمل في زيدٍ، وفي الآيةِ لم تمنعْ عن العمل؛ ألَا ترى أنّها لم تمنع (الباء) عن العمل في خَفْضِ (الرحمة) ".
وقال الفخر الرَّازيّ: "وقال المحقّقون: دخول اللَّفظ المهمل الضائع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز".
الأمر الثاني الجواب عن احتجاجه بتأويل الآية:
ونُجيبه عن احتجاجه هذا من وجهين:
الوجه الأوّل: لم يتفق العلماء على زيادة (لا) في هذا الموضع، قال السمين الحلبيّ: "وفي (لا) هذه وجهان:
أحدهما: وهو المشهور عند النُحاة والمفسّرين والمعربين أنها مزيدة
…
والتقدير: أعلمكم الله بذلك، ليعلمَ أهلُ الكتاب عدمَ قدرتهم على شيءٍ من فضل الله، وثبوت أن الفضل بيد الله.
وهذا واضحٌ بيِّن، وليس فيه إلا زيادة ما ثبتتْ زيادتُه شائعاً، ذائعاً.
والثاني: أنّها غير مزيدة .. ".
الوجه الثاني: ما استشكله هذا الطَّاعن، ذكره بعض علمائنا؛ فالظاهر أنه اطلع على مثل هذا وتبنّاه. يقول الإمام الزركشيّ:"وتزاد (لا) بعد (أنْ) المصدرية؛ كقوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ)، أي: ليعلم؛ ولولا تقدير الزيادة لانعكس المعنى، فزيدتْ (لا) لتوكيد النفي، قاله ابن جنيّ ".
والحقيقة أنّه لا يوجد إشكال على كِلا المعنيين، يقول الفخر الرازيّ:
"واعلم أنّ أكثر المفسّرين على أنّ (لا) هاهنا صلة
زائدة، والتقدير: ليعلم أهل الكتاب، وقال أبو مسلم الأصفهاني وجَمْع آخرون: هذه الكلمة ليست بزائدة، ونحن نفسّر الآية على القولين بعون الله تعالى وتوفيقه.
(أما القول المشهور) وهو أنّ هذه اللفظة زائدة، فاعلم أنّه لا بُدَّ ههنا من تقديم مقدمة، وهي: أنّ أهل الكتاب، وهم بنو إسرائيل، كانوا يقولون: الوحي والرسالة فينا، والكتاب والشرع ليس إلَّا لنا، والله تعالى خصَّنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين.
إذا عرفت هذا، فنقول: إنّه - تعالى - لمّا أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمّد عليه الصلاة والسلام وعدهم بالأجر العظيم على ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآية، والغرض منها أنْ يُزيل عن قلبهم اعتقادهم بأنّ النبوّة مختصّة بهم وغير حاصلة إلَّا في قومهم، فقال: إنَّما بالغنا في هذا البيان، وأطنبنا في الوعد والوعيد ليعلم أهل الكتاب أنَّهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقومٍ معيّنين، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوّة في قومٍ مخصوصين، وأن الفضل بيد الله يؤتيه مَنْ يشاء، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلاً.
(أما القول الثاني) وهو أنّ لفظة (لا) غير زائدة، فاعلم أنّ الضمير في قوله:(أَلَّا يَقْدِرُونَ) عائدٌ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتقدير: لئلَّا يعلم أهل الكتاب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لا يقدرون على شيءٍ من فضل الله، وأنّهم إذا لم
يعلموا أنَهم لا يقدرون عليه، فقد علموا أنّهم يقدرون عليه، ثم قال:(وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ)، أي: وليعلموا أنّ الفضل بيد الله، فيصير التقدير: إنّا فعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنَهم يقدرون على حصر فضل الله وإحسانه في أقوامٍ معيّنين، وليعتقدوا أنّ الفضل بيد الله.
واعلم أنّ هذا القول ليس فيه إلَّا أنا أضمرنا فيه زيادة، فقلنا في قوله:(وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) تقدير وليعتقدوا أنّ الفضل بِيَدِ اللَّهِ.
وأمّا القول الأوّل: فقد افتقرنا فيه إلى حذف شيء موجود، ومِنَ المعلوم أنّ الإضمار أوْلى من الحذف؛ لأنّ الكلام إذا افتقر إلى الإضمار لم يُوهم ظاهره باطلا أصلا.
أما إذا افتقر إلى الحذف كان ظاهره مُوهِما للباطل، فعلمنا أنّ هذا القول أوْلى، والله أعلم ".
ولقد تنبَّه العلماء إلى خطر (الزيادة)، فوضَّحوه، وحذّروا من استعماله:
يقول الإمام ابن تيمية: "ولا يذكر فيه لفظا زائدا إلَّا لمعنى زائد، وإنْ كان في ضمن ذلك التوكيد، وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله:(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)،
وقوله: (قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40))، وقوله:(قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه، فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، وقوّة اللفظ لقوّة المعنى".
وقال الإمام السيوطيّ: "أن يجتنب إطلاق لفظ الزائد في كتاب الله - تعالى - فإنَّ الزائد قد يفهم منه أنّه لا معنى له، وكتاب الله منزَّه عن ذلك؛ ولذا فرَّ بعضهم إلى التعبير بدله بالتأكيد، والصِّلة، والمقحم ".