الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[400]
القبور والآثار
عبادة القبور والآثار
إنما تكون تعظيمًا للمقبور أو صاحب الأثر على نحو ما تقدَّم في شأن الأصنام
(1)
، حيث تُعبد تعظيمًا للأشخاص التي هي تماثيلُ لهم، فأما الفصل بين ما يكون شركًا من احترام القبور والآثار وما لا يكون شركًا بل قد يكون مشروعًا، فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
(2)
.
الجنّ
كان أهل الجاهليَّة يتعوَّذون برؤساء الجنِّ من شرِّ عامَّتهم ــ كما تقدَّم ــ، ونجد الآن كثيرًا من الناس ينذرون للجنِّ ويذبحون لأجلهم، ويصنعون لهم الأطعمة، ثم يضعونها في الصحارى بالليل، ويزعمون أن الجنَّ يأكلون ذلك، وينفعون مقرِّبه، أو يكفُّون عن الإضرار به، أو يدفعون عنه ضرر بعضهم، أو يبيِّنون لهم بواسطة الكاهن شيئًا مُغَيَّبًا كسرقةٍ، أو حال رجلٍ غائبٍ، أو حقيقة مرضٍ وعلاجه، أو نحو ذلك.
والمعزِّمون كثيرًا ما يفزعون إلى ذلك إذا أُتُوا بمصابٍ، وربما يفزعون إلى عبادة الكواكب.
[401]
وأحسنهم حالًا مَنْ يعتمد الأوفاق
(3)
المبنيَّة على الحساب
(1)
انظر ص 568 - 572.
(2)
انظر: فصل تحقيق السلطان الفاصل بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره ص 873، وفصل الأعذار.
(3)
جمع وَفْق: هي جداول مربَّعةٌ لها بيوتٌ مربَّعةٌ، يوضع في تلك البيوت أرقامٌ عدديَّةٌ أو حروفٌ بدل الأرقام
…
وذكروا أن لاعتدال الأعداد خواصَّ فائضةً من روحانيَّات تلك الأعداد أو الحروف، ويترتَّب عليها آثارٌ عجيبةٌ وتصرُّفاتٌ غريبةٌ، بشرط اختيار أوقاتٍ مناسبةٍ وساعاتٍ شريفةٍ. مفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاش كبري زاده 1/ 373. وانظر: الفروق للقرافيِّ 4/ 142، الفرق:242.
ومراعاة النجوم، ونحو ذلك، وسيأتي قول الشهرستانيِّ أن ذلك كلَّه مأخوذٌ عن الصابئة.
وإنما يحمل المعزِّمين على ذلك أنه ليس لديهم من الإيمان والتقوى ما يرعب الشياطين ويطردها، فهم يلجؤون إلى تَرضِّي الشياطين والتقرُّب إليهم وفعل ما يحبُّونه، وإن كان في ذلك ذهاب الدين، والله المستعان.
وقد رأيتُ مَن يعتقد أن التقرُّب إلى الجنِّ شركٌ بمثل ما مرَّ، ولكنه إذا مرضت زوجته أو ابنه وقال له المعزِّم يعمل كما يعمل الناس من التقريب للجنِّ؛ أقدَمَ على ذلك، إما مرتابًا في عقيدته وهو الغالب، وإما بائعًا دينه بما يرجوه من منفعةٍ عاجلةٍ بشفاء مصابه، وإما قائلًا: غلبتنا النساء!
فأمَّا عامَّة الناس، فإنهم يزعمون أن حصول النفع حجَّةٌ للجواز، بل وللاستحباب، وقد يبالغ بعضهم فيدَّعي الوجوب، كأنهم لا يعلمون أن السحر تحصل بسببه منفعةٌ للساحر وغيره ممن يريد الساحر نفعَه، وهو مع ذلك كفرٌ.
وعُبَّاد الأصنام يزعمون أنه يحصل لهم منافع بعبادتها، وهكذا عُبَّاد الشياطين تساعدهم الشياطين [402] بأعمالٍ كثيرةٍ، وتلك المنافع عارضةٌ سرعان ما تزول وتعقبها مضارُّ شديدةٌ، وعلى فرض أنها دامت للإنسان مدَّة حياته؛ فحسبه ما يلقاه من غضب الله عز وجل وعذابه بعد مماته.
ولعلَّك قد سمعت بمَن يترك الصلاة المفروضة من المسلمين، ثم يبدو له أن يحافظ عليها، فيصلي عدَّة صلواتٍ، ثم يَدَعُها زعمًا أنه عَرَضَتْ له مصائب ومضارُّ، فلما ترك الصلاة زالت تلك المضارُّ، حتى إن من هؤلاء مَن يقول: الصلاة نحسٌ.
والسبب في هذا الأمر أن الله عز وجل غنيٌّ عن عباده، لا يقبل إلا طيِّبًا، وهؤلاء الجهَّال إنما يحملهم على الصلاة الرغبةُ في أن تحصل لهم منافع دنيويَّةٌ، فيُقدِمون عليه
(1)
على سبيل التجربة، بلا يقينٍ ولا إيمانٍ ولا إخلاصٍ، فيبتلي الله عز وجل إخلاصهم بما يصيبهم من الامتحان، فأمَّا مَن ثبت وكان عنده إيمانٌ وتصديقٌ؛ فإن تلك الأمور التي يراها مصائب تزول عنه، بل تنقلب منافع وفوائد، قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [403] مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، وقال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]، والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ.
وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
(1)
كذا في الأصل، ولعله يعيد الضمير إلى العمل والفعل.
فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 165 - 167].
نزلت هذه الآية فيما أصاب المسلمين يوم أحدٍ إذ قتل منهم حمزة عمُّ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في سبعين، وقلَّ رجلٌ من سائر المسلمين إلا أصابه جرحٌ، حتى لقد جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ــ بأبي هو وأمي ــ فكُسِرت رباعيته وجُرِحت [404] شفته وجبهته ووَجْنَته، ودخل فيها حلقتان من حَلَق المِغْفَر
(1)
، وقد أخبر تعالى أن ذلك بإذنه ليبلوهم.
فكما كان الابتلاء هنالك بواسطة المشركين فهكذا قد يكون الابتلاء بواسطة الشياطين، كأن يشرع المسلم في عملٍ صالحٍ فتعدو عليه الشياطين بالإيذاء والإضرار، وكلُّ ذلك بإذن الله تعالى، فإذا ثبَّته الله تعالى وصبر جبر الله تعالى مصابه وأثابه عليه، وإن كفَّ عن ذلك العمل الصالح فقد تبيَّن كذبه، فإن اندفعت عنه تلك المصائب بعدُ فَلِهَوَانه على الله تعالى، وهكذا قد
(1)
ورد في الصحيحين عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه قال: «جُرِح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكُسِرت رباعيته وهُشِمت البيضة على رأسه» . انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الجهاد والسير، باب لبس البيضة، 4/ 40، ح 2911. وصحيح مسلمٍ، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحدٍ، 5/ 178، ح 1790.
وفي روايةٍ للطيالسيِّ من حديث أبي بكرٍ رضي الله عنه: فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كُسِرت رباعيته وشُجَّ في وجهه، وقد دخل في وَجْنَته حلقتان من حَلَق المِغْفَر. وأخرجها الحاكم، وقال:«صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه» . لكن تعقَّبه الذهبيُّ، فقال:«ابن إسحاق متروكٌ» . يعني محمَّد بن إسحاق بن يحيى بن طلحة. انظر: مسند الطيالسيِّ 1/ 9، ح 6. المستدرك، كتاب المغازي والسرايا، ذكر ما أُصِيب ثنايا أبي عُبَيدة
…
، 3/ 27. وكتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب أبي عُبَيدة بن الجرَّاح، كان أبو عُبَيدة أهتم الثنايا، 3/ 266.
يقدم على العمل السيِّئ فتناله منافع وفوائد دنيويَّةٌ، فإن تداركه الله عز وجل عَلِم أن ذلك ابتلاءٌ فكفَّ عنه، وزهد في تلك المنافع، وإلا فكما قال تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178].
[405]
ومن دقائق هذا الباب أن العبد إذا أراد الرجوع إلى طاعة الله تعالى أحبَّ الله تعالى أن يطهِّره مما سبق من ذنوبه، وأن يبتليه ليتبيَّن ثباته وصدقه، ويوافق ذلك طمع الشياطين في هذا الرجل أنهم إذا آذوه وأضرُّوا به ترك ذلك العمل الصالح، فعن هذا يناله ما يناله، فإذا وفَّقه الله تعالى وثبَّته كان ما أصابه من الشياطين تطهيرًا لما سبق من ذنوبه، وزيادةً له في رفع درجاته، وسرعان ما تزول تلك المضارُّ بزوال سببها، ويجبره الله تعالى ويرفعه، وإن جزع من تلك المضارِّ فترك ذلك العمل الصالح فقد ترتفع عنه المضارّ، وذلك شرٌّ له عاجلًا وآجلًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وربَّما تصيب تلك المضارُّ مَن لا ذنب له سابقًا ولا يُراد ابتلاؤه في نفسه، وإنما يُراد بذلك ابتلاء غيره، وهذا كما جرى للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحدٍ، إنما أُرِيد بذلك ابتلاء المسلمين ورفع درجات النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم.
[406]
ويُحكى أن رجالًا كانوا يضيِّعون الفرائض ويرتكبون المنكرات ويدَّعون مع ذلك أنهم من الصالحين، فيُنكِر عليهم رجالٌ من أهل العلم والدِّين، فتصيب هؤلاء المنكرين مصائب يعدُّها الناس كراماتٍ لمرتكبي المنكرات، وأنت إذا تدبَّرت ما سبق علمت الحقيقة، والله المستعان.
وفي قصَّة أيُّوب النبيِّ عليه السلام ما يعينك على فهم ما قدَّمناه.
والمقصود هاهنا أن الدين كما يعرِّفه أهل العلم: «وضعٌ إلهي سائقٌ لذوي العقول إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم»
(1)
، وشرعه خاصٌّ بالله تعالى.
وأما ما جاء في بعض الآثار مما يوهم أن للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يشرع فليس على حقيقته، ولكن الله تعالى ربَّما يخيِّر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في أمرٍ بعينه ويُعلِمه أنه إذا اختار أن يكون شرعًا لأمته فقد شرعه الله عز وجل، وهذا كما في حديث الحجِّ، إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم:«أيُّها الناس، قد فرض الله عليكم الحجَّ فحُجُّوا» ، فقال رجلٌ: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«لو قلت: نعم [407] لوجبت» الحديث
(2)
، وكما في الحديث الآخر:«لولا أن أشقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسواك عند كلِّ صلاةٍ»
(3)
.
وقد أكمل الله الدين، وأتمَّه في حياة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ونزل في عصر يوم النحر
(4)
من حجَّة الوداع قُبَيل وفاة النبيِّ صلى الله عليه
(1)
انظر: مفاتيح الغيب 29/ 273.
(2)
صحيح مسلمٍ، كتاب الحجِّ، باب فرض الحجِّ مرَّةً في العمر، 4/ 102، ح 1337. [المؤلف]
(3)
صحيح مسلمٍ، كتاب الطهارة، باب السواك، 1/ 151، ح 252. [المؤلف]
(4)
كذا في الأصل، ولعلَّه سبق قلمٍ؛ فالذي في الصحيحين أنها نزلت يوم عرفة ــ كما سيأتي ــ.
وآله وسلم بنحو ثلاثة أشهرٍ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
(1)
.
فما لم يكن دينًا في حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يكون دينًا بعده، والكلام على هذه الآية وهذا المعنى ونقل كلام السلف من الصحابة والتابعين وأئمَّة الدين مبسوطٌ في موضعٍ آخرٍ
(2)
.
فالدين إنما يؤخذ من كتاب الله عز وجل وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحدٌ من أهل العلم: إن الدين يُؤخذ بالتجربة، ولكن كثيرًا ممَّن يُظَنُّ بهم الصلاح وهم عن حقيقة الدين غافلون أخذوا يشرعون في دين الله عز وجل بغير إذنه، ويعتمدون في ذلك على التجربة.
ولقد دار بيني وبين بعض الناس كلامٌ سأذكره مع زيادةٍ في جوابي، سألني عن وضعٍ أظفار الإبهامين على [408] الشفتين والعينين عندما يقول المؤذِّن:(أشهد أن محمَّدًا رسول الله)، فقلت: بدعةٌ، وقد علَّمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما نقوله عند سماع الأذان وبعده، فنجد أكثر الناس تاركين لذلك، محافظين على هذا الفعل، وهذا شأن البدع؛ لأن الشيطان يحرص على أن يشغل الناس بها، ويقنعهم بها عن العبادات، فقال السائل: فهل ورد حديثٌ في هذا الفعل؟ قلت: قد رُوِي في ذلك حديثٌ نصَّ الأئمة على أنه كذبٌ موضوعٌ ليس من قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
يشير إلى ما أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، 1/ 18 ح 45. ومسلمٌ في كتاب التفسير، 8/ 238، ح 3017، من حديث عمر رضي الله عنه، وفيه أنه قال: (نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفاتٍ في يوم جمعةٍ).
(2)
انظر: «تحقيق الكلام في المسائل الثلاث» ، المسألة الثانية: السنة والبدعة ص 147 - 159.
على أنه لو لم يكن موضوعًا وكان ضعيفًا لما جاز العمل به إجماعًا، أمَّا على القول بأن العمل بالضعيف لا يجوز مطلقًا فواضحٌ ــ وهذا هو الحقّ، كما حقَّقناه في موضعٍ آخرٍ
(1)
، ونَقْلُ الإجماع على خلافه سهوٌ ــ، وأما على قول مَن زعم أن الضعيف يُعمَل به في فضائل الأعمال، فلجواز العمل عندهم شرائط، منها: اندراج ذلك الفعل تحت عمومٍ ثابتٍ، وهذا الفعل ليس كذلك.
فقال السائل: إذا كان قد رُوي الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يُقبَل. قلت: نعم، إذا كانت الرواية صالحةً [409] للاعتماد، فأما إذا لم تكن صالحةً فإنه يجب اطِّراحها، هذا حكم الإسلام؛ لأن الناس قد كذبوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم عمدًا وخطأً.
قال السائل: فقد كان رجلٌ يعتاد هذا الفعل، حتى قال رجلٌ من علماء الوهابيَّة
(2)
: إن هذه بدعةٌ، فصدَّقه، وترك ذلك الفعل، ثم أصابه وجعٌ في عينيه، فاختلف إلى الأطبَّاء يداوي عينيه، ودام على ذلك مدَّةً والوجع باقٍ، حتى قُيِّض له رجلٌ من المتصوِّفة ساءله حتى أخبره أنه كان يعتاد هذا الفعل حتى نهاه عنه ذلك الوهابيُّ، فقال له: أخطأت بموافقة الوهابيِّ، ارجع إلى ما كنت تفعله، فعاد لذلك الفعل، فلم يلبث أن ذهب عنه الوجع.
قلت: هذه تجربةٌ، والدين لا يُؤخذ بالتجربة.
وقد أخرج أبو داود وغيره عن زينب امرأة عبد الله بن مسعودٍ، أن
(1)
يشير إلى رسالة: حكم العمل بالحديث الضعيف.
(2)
تكلَّم المؤلِّف في موضعٍ آخر عن إطلاق لفظ «الوهَّابيَّة» على أهل نجد. انظر: تحقيق الكلام في المسائل الثلاث ص 446 - 453.
عبد الله رأى في عنقي خيطًا، فقال: ما هذا؟ فقلت: خيط رُقِي لي فيه، قالت: فأخذه وقطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله أغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الرُّقى والتمائم والتِّوَلَةَ شركٌ» ، فقلت: لم تقول هكذا؟ لقد [410] كانت عيني تقذف
(1)
، وكنت أختلف إلى فلانٍ اليهوديِّ، فإذا رقاها سكنت، فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقى كفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول:«أذهب البأس ربَّ الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا» . وسيأتي تخريج هذا الحديث وبسط الكلام عليه في بحث الرقى
(2)
، إن شاء الله تعالى.
قلت: وقد عظمت المصيبة بهذا الأمر، فتجد كثيرًا من أهل الخير والصلاح يُعْرِض عن كتاب الله تعالى والأذكار المأثورة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويواظب على الأحزاب والأوراد المنقولة عن بعض المشهورين بالصلاح اعتمادًا على فضائل ومنافع ذُكِرت لتلك الأحزاب والأوراد، ولو استغنى بكتاب الله عز وجل وبالأذكار الثابتة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم لكان خيرًا له؛ فإن الفضائل التي تُذكَر لتلك الأحزاب والأوراد ليست مما يُعتمَد عليه؛ لأنها من زعم رجلٍ من أفراد الأمَّة، ليست ثابتةً عن الله عز وجل ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، على أنَّ كثيرًا منها ينكرها الشرع إذا عرفتَ حقيقة الشرع، ولبعضها هيئاتٌ تدخل في البدع المنكرة، ولعلَّك إذا تدبَّرت رسالتي هذه علمتَ أن الأمر أشدُّ من ذلك، والله المستعان.
(1)
بصيغة المفعول، أي: تُرمى بما يهيج الوجع. وبصيغة الفاعل، أي: تَرمي بالرَّمَص ــ وهو ما جمد من الوسخ في مؤخَّر العين ــ أو الدمع ــ وهو ماء العين ــ من الوجع. انظر: عون المعبود 10/ 368.
(2)
انظر: ص 955.
[411]
الكواكب
أما قوم إبراهيم عليه السلام فقد قال الشهرستانيُّ في الملل والنحل: «أصحاب الهياكل والأشخاص، وهؤلاء من فرق الصابئة، وقد أدرجنا مقالتهم في المناظرات جملةً، ونذكرها هاهنا تفصيلًا.
اعلم أن أصحاب الروحانيَّات لما عرفوا أنه لا بدَّ للإنسان من متوسِّطٍ، ولا بدَّ للمتوسِّط من أن يُرى فيُتوجَّه إليه، ويُتقرَّب به، ويُستفاد منه؛ فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع، فتعرَّفوا:
أوَّلًا: بيوتها ومنازلها.
وثانيًا: مطالعها ومغاربها.
وثالثًا: اتِّصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة مرتَّبةً على طبائعها.
ورابعًا: تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها.
وخامسًا: تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها.
فعملوا الخواتيم وتعلَّموا العزائم والدعوات، وعيَّنوا ليوم زُحَل ــ مثلًا ــ يوم السبت، وراعَوا فيه ساعته الأولى، وتختَّموا بخاتمه المعمول على صورته وهيئته وصنعته، ولبسوا اللباس الخاصَّ به، وبخَّروا ببخوره الخاصِّ، ودعوا بدعواته الخاصَّة، وسألوا حاجتهم منه الحاجة التي تُستدعى من زُحَل من أفعاله وآثاره الخاصَّة به، فكان تُقضى حاجتهم، [412] ويحصل في الأكثر مرامهم، وكذلك رفع الحاجة التي تختصُّ بالمشتري في يومه وساعته وجميع الإضافات التي ذكرنا إليه، وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب، وكانوا يسمُّونها أربابًا آلهةً، والله تعالى هو ربُّ الأرباب وإله الآلهة، ومنهم مَن جعل
الشمس إله الآلهة، وربَّ الأرباب.
فكانوا يتقرَّبون إلى الهياكل تقرُّبًا إلى الروحانيَّات، ويتقرَّبون إلى الروحانيَّات تقرُّبًا إلى الباري تعالى؛ لاعتقادهم بأن الهياكل أبدان الروحانيَّات، ونسبتها إلى الروحانيَّات كنسبة أجسادنا إلى أرواحنا، فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيَّات، وهي تتصرَّف في أبدانها تدبيرًا وتصريفًا وتحريكًا كما يتصرَّف في أبداننا، ولا شكَّ أن مَن تقرَّب إلى شخصٍ فقد تقرَّب إلى روحه، ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتَّبة على عمل الكواكب ما كان يُقضى منه العجب، وهذه الطِّلَّسْمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتنجيم والتعزيم والخواتيم والصور كلُّها من علومهم.
وأما أصحاب الأشخاص فقالوا: إذا كان لا بدَّ من متوسِّطٍ يُتوسَّل به وشفيعٍ يُتشفَّع إليه، والروحانيَّات وإن كانت هي الوسائل لكنا إذا لم نرها بالأبصار ولم نخاطبهم بالألسن لم يتحقَّق التقرُّب إليها إلا بهياكلها، [413] ولكن الهياكل قد تُرى في وقتٍ ولا تُرى في وقتٍ؛ لأن لها طلوعًا وأفولًا وظهورًا بالليل وخفاءً بالنهار، فلم يَصْفُ لنا التقرُّب بها، والتوجُّه إليها، فلا بدَّ لنا من صورٍ وأشخاصٍ موجودةٍ قائمةٍ منصوبةٍ نَصْب أعيننا، فنعكف عليها، ونتوسَّل بها إلى الهياكل، فنتقرَّب بها إلى الروحانيَّات، ونتقرَّب بالروحانيَّات إلى الله سبحانه وتعالى، فنعبدهم ليقرِّبونا إلى الله زلفى.
فاتَّخذوا أصنامًا أشخاصًا على مثال الهياكل السبعة، كلُّ شخصٍ في مقابلة هيكلٍ، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل ــ أعني الجوهر الخاصَّ به من الحديد وغيره ــ، وصوَّروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه،
وراعَوا في ذلك الزمان والوقت والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجوميَّة من اتِّصالٍ محمودٍ يؤثِّر في نجاح المطالب التي تُستدعى منه، فتقرَّبوا منه في يومه وساعته، وتبخَّروا بالبخور الخاصِّ به، وتختَّموا بخاتمه، ولبسوا ثيابه، وتضرَّعوا بدعائه، وعزَّموا بعزائمه، وسألوا حاجتهم منه، فيقولون: كان يقضي حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات كلِّها، [414] وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنهم بأنهم عبدة الكواكب، إذ قالوا بإلهيَّتها، كما شرحنا.
وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان؛ إذ سموها آلهةً في مقابلة الآلهة السماويَّة، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
وقد ناظر الخليل عليه الصلاة والسلام هؤلاء الفريقين، فابتدأ بكسر مذاهب أصحاب الأشخاص، وذلك قوله تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83]، وتلك الحجَّة أن كسرهم قولًا بقوله:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96].
ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجوميَّة فيها حقَّ الرعاية ــ ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام لا من غيره ــ كان أكثر الحجج معه وأقوى الإلزامات عليه، إذ قال لأبيه آزر:{أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74]، وقال:{يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]؛ لأنك جهدتَ كلَّ الجهد واستعملت كلَّ العلم حتى عملت أصنامًا في مقابلة
[415]
الأجرام السماويَّة، فما بلغت قوَّتك العلميَّة والعمليَّة إلى أن تحدث فيها سمعًا وبصرًا، وأن تغني عنك وتضرَّ وتنفع، وأنك بفطرتك وخلقك أشرف درجةً منها؛ لأنك خُلِقْتَ سميعًا بصيرًا، ضارًّا نافعًا، والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتَّخذ تكلُّفًا، والمعمول تصنُّعًا، فيا لها من حيرةٍ إذ صار المصنوع بيديك معبودًا لك، والصانع أشرف من المصنوع، {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 44 - 45]، ثم دعاه إلى الحنيفيَّة الحقَّة {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43]، {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ} [مريم: 46]
(1)
.
فلم يقبل حجَّته القوليَّة، فعدل عليه السلام إلى الكسر بالفعل {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} فقالوا:{مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 58 - 59]، {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) [416] فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63 - 65].
فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم، كما أفحمهم بالقول حيث أحال الفعل منهم، وكلُّ ذلك على طريق الإلزام عليهم، وإلا فما كان الخليل كاذبًا قطُّ.
ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل، وكما أراه الله سبحانه
(1)
هكذا جاء ترتيب الآيات في كتاب الشهرستانيِّ.
وتعالى الحجَّة على قومه قال: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين تشريفًا له على الروحانيَّات وهياكلها، وترجيحًا لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة، وتقريرًا أن الكمال في الرجال، فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]، على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وإلا فما كان الخليل عليه السلام [417] كاذبًا في هذا القول، ولا مشركًا في تلك الإشارة.
ثم استدلَّ بالأفول والزوال والتغيُّر والانتقال بأنه لا يصلح أن يكون ربًّا إلهًا، فإن الإله القديم لا يتغيَّر، وإذا تغيَّر [احتاج]
(1)
إلى مغيِّر، وهذا لو اعتقدتموه ربًّا قديمًا وإلهًا أزليًّا، ولو اعتقدتموه واسطةً وقبلةً وشفيعًا ووسيلةً، فالأفول والزوال أيضًا يخرجه عن الكمال، وعن هذا ما استدلَّ عليهم بالطلوع، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول، فإنهم إنما انتقلوا إلى عمل الأشخاص لِما عراهم من التحيُّر بالأفول، فأتاهم الخليل عليه السلام من حيث تحيُّرهم، فاستدلَّ عليهم بما اعترفوا بصحَّته، وذلك أبلغ في الاحتجاج.
ثم لما {رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77].
(1)
في الأصل والطبعة التي نقل عنها المؤلِّف: (فاحتاج)، والتصحيح من مطبوعة محمَّد سيِّد كيلاني.
فيا عجبًا ممن لا يعرف ربًّا كيف يقول: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} ؟ رؤية الهداية من الربِّ تعالى غاية التوحيد ونهاية المعرفة، والواصل [418] إلى الغاية والنهاية كيف يكون في مدارج البداية؟ دع هذا كلَّه خلف قافٍ، وارجع بنا إلى ما هو شافٍ كافٍ، فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج وأوضح المناهج.
وعن هذا قال {لما رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام: 87]، لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك، وهو ربُّ الأرباب الذين
(1)
يقتبسون منه الأنوار، ويقبلون منه الآثار، {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78 - 79]»
(2)
.
ومما قاله البحَّاثون عن آثار بابل أنه يُعلَم منها أنهم كانوا يعترفون بوجود الله عز وجل، واسمه عندهم (إل)، وأن كلَّ ما سواه من روحانيِّين وكواكب وغيرها فهم خلقه وعبيده، ثم يؤلِّهون زُحَلًا
(3)
والمشتري والمرِّيخ والزهرة وعطارد. وعندهم أن لزُحَل صورة ثورٍ برأس إنسانٍ وجناحي طائرٍ، وللمرِّيخ صورة أسدٍ برأس إنسانٍ وجناحي طائرٍ، وهكذا، ثم يمثِّلون لها تماثيل بتلك الصور التي تخيَّلوها ويعبدون تلك التماثيل. [419]
(1)
كذا في الأصل والطبعة التي نقل عنها المؤلِّف، وفي الملل والنحل - بتحقيق محمَّد سيِّد كيلاني - 2/ 53:(الذي).
(2)
الملل والنحل 2/ 146 - 151. [المؤلف]
(3)
كذا في الأصل.
انظر: تفسير الجواهر
(1)
لطنطاوي جوهري
(2)
.
وفيه أيضًا: أنهم كانوا يصفون المشتري بالربِّ العظيم، والملك، وملك الآلهة، والإله المجيد، والقاضي، والقديم، وقاضي الآلهة، وربِّ الحروب، وملك السماء، وربِّ الأبديَّة العظيم، وربِّ الكائنات، ورئيس الآلهة، وإله الآلهة، والمرِّيخَ بإله الحرب والصيد، الرجل العظيم، البطل القدير، ملك الحرب المهلك، جبَّار الآلهة، ومن صفاتهم للزهرة: ملكة الآلهة والإلهات، ولعطارد: ربُّ الأرباب الذي لا مثيل له.
واستدلَّ صاحب التفسير المذكور بهذه الأوصاف المتناقضة ظاهرًا بأنهم كانوا يطلقون هذه الصفات على سبيل المبالغة في المدح.
قال: «وقصارى الأمر وحُماداه
(3)
أن هؤلاء الصابئين كانوا أوَّلًا يعبدون الله تعالى، ولله ملائكةٌ موكَّلون بالكواكب، فالله هو المعبود، والملائكة يعملون بأمره، والكواكب كأنها أجسامٌ لتلك الأرواح، فعبادة الملك يتقرَّبون بها إلى الله عز وجل، والكوكب حجابه أو جسمه أو نحو ذلك، فهو رمزه، والتماثيل في الأرض مذكِّراتٌ بالكواكب إذا غابت عنهم.
[420]
إذًا العبادات في نظرهم كلُّها راجعاتٌ إلى الله تعالى، كما قال تعالى:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. فإذا عبدوا زُحَل أو المشتري فقد أرادوا بذلك أنهما ملكان، ثم اعتبروا الكواكب ثم
(1)
10/ 205 - 206. [المؤلف]
(2)
المصريّ، باحث له اشتغال بالتفسير والعلوم الحديثة، ولد سنة 1287 هـ، من كتبه: الجواهر في تفسير القرآن الكريم، توفي سنة 1358 هـ. معجم المفسرين 1/ 242.
(3)
سبق معناه ص 457.
التماثيل»
(1)
.
أقول: وما ذكره من أنَّ (إل) عندهم اسم الله عز وجل يبيِّنه ما جاء عن سلف الأمَّة أنَّ (إيل) اسم الله عز وجل بالسريانيَّة وهي لغة القوم. وجاء عن ابن عبَّاسٍ أن معناه: الرحمن
(2)
، وربَّما يشهد له ما جاء في القرآن حكايةً عن إبراهيم عليه السلام {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45]. وعلى ذلك سُمِّي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام: إسرائيل، ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ وغيره أن معنى إسرائيل: عبد الله
(3)
، وفي التوراة والإنجيل الموجودَيْن الآن التصريح بأنَّ (إيل) اسم الله تعالى
(4)
.
وقد اختلف أهل العلم في قول إبراهيم عليه السلام: {هَذَا رَبِّي} ، فعامَّة الخلف يتأوَّلونه على نحو ما مرَّ عن الشهرستانيِّ، والمنقول عن السلف أنه على ظاهره، وقد ذكر ابن جريرٍ قول السلف ثم قال: «وأنكر قومٌ من غير أهل الرواية هذا القول الذي رُوِي عن ابن عبَّاسٍ وعمَّن رُوِي [421] عنه من أن إبراهيم عليه السلام قال للكوكب أو للقمر: {هَذَا رَبِّي} ، وقال آخرون منهم: بل ذلك كان منه في حال طفولته وقبل قيام الحجَّة عليه، وتلك حالٌ لا يكون فيها كفرٌ ولا إيمانٌ، وقال آخرون
…
، وفي خبر الله
(1)
انظر: تفسير الجواهر لطنطاوي جوهري 10/ 208.
(2)
لعلَّه يعني ما أخرجه ابن أبي حاتمٍ (1/ 182، ح 963) ـ بسندٍ صحيحٍ ــ عن ابن عبَّاسٍ، قال:(إنما قول جبريل كقوله: عبد الله وعبد الرحمن). وانظر: زاد المسير 1/ 119، تفسير ابن كثيرٍ 1/ 190.
(3)
انظر: تفسير الطبريِّ 1/ 593.
(4)
انظر: المعجم العبري الإنكليزي للعهد القديم، د/وليم غزينيوس، ص 42.
تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} الدليل على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأن الصواب من القول في ذلك الإقرار بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه والإعراض عما عداه»
(1)
.
أقول: ومما يشكل على القول الأوَّل أنَّ كلَّ عاقلٍ يعلم منذ حداثته بوجود الكواكب والشمس والقمر، وأنها تطلع وتأفل، فكيف يغفل إبراهيم عليه السلام عن كون الكوكب الذي رآه تلك الليلة سيأفل، أو أن القمر سيظهر بعده، وأنه أعظم منه، وأنه سيأفل، وأن الشمس ستطلع بعدهما، وهي أكبر منهما، وأنها ستأفل؟
وقد يُجاب بما رواه ابن جريرٍ وغيره عن ابن إسحاق أن أمَّ إبراهيم وضعته في مغارةٍ لا يرى فيها السماء ولم تخرجه حتى كبر، فأخرجته ليلًا فرأى الكوكب وجرى ما جرى
(2)
، وعلى هذا فيقوى القول [422] بأنه كان حينئذٍ في عهد الطفولة، فيهون الأمر في حمل الكلام على ظاهره، مع أنه عليه السلام كان حينئذٍ ساعيًا في طلب الحقِّ محبًّا لإدراك الحقيقة، ليس في قلبه غيرُ ذلك.
وعلى كلِّ حالٍ فالظاهر أنَّ نظره عليه السلام في الكواكب كان بعد إنكاره عبادة الأصنام ــ كما يدلُّ عليه الترتيب القرآنيُّ ــ، حيث ذكر إنكاره على أبيه عبادة الأصنام، ثم عقَّبه بقصَّة النظر في الكواكب، وكأن أباه كان
(1)
7/ 150 - 151. [المؤلف]
(2)
انظر: تفسير ابن أبي حاتمٍ 8/ 2777 - 2778، ح 15691. تفسير الطبريِّ 9/ 356 - 359.
اعتذر إليه بأنه إنما يعبد الأصنام لأجل الكواكب، فانتقل إلى النظر في الكواكب.
والظاهر أن المراد بالربِّ في قوله: {هَذَا رَبِّي} المعبود، لا بمعنى الخالق القديم الواجب الوجود؛ فإنَّ القوم كما تقدَّم كانوا يعترفون بأن الله عز وجل هو الربُّ القديم الواجب الوجود، وإنما يشركون به غيره، ويشهد لهذا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم:{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27]؛ [423] فالاستثناء في هاتين الآيتين يدلُّ على أن القوم كانوا يعبدون الله تعالى ويشركون به غيره؛ إذ الأصل في الاستثناء الاتصال.
(1)
.
وقال تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي
(1)
تفسير ابن جريرٍ 13/ 45. [المؤلف]
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 70 - 79].
(1)
.
[424]
كأنَّ محاجَّتهم له ــ والله أعلم ــ كانت بذكر الروحانيِّين، وكذا التخويف كان بهم، وهذا يدلُّ أنهم كانوا يزعمون للروحانيِّين قدرةً على النفع والضرِّ، وأنه يخشى أن يضروا مَن ينهى عن عبادتهم، وقد يجوز أن يكونوا لم يثبتوا للروحانيِّين إلا الشفاعة، أي سؤال الله تعالى أن ينفع أو أن يضرَّ، وسيأتي تحقيق المقام إن شاء الله تعالى في الكلام على عبادة الملائكة
(2)
.
(1)
تفسير ابن جريرٍ 7/ 151 - 152.
(2)
انظر ص 712 - 715.
فأما بلقيس وقومها فإنهم سبأ، وقد قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا [425] فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 12 - 23].
يؤخذ من ذكر قصَّة سبأ عقب قصَّة سليمان أن بينهم وبينه علاقةً، وكأن ذلك إشارة إلى قصَّة صاحبة العرش، فإنها ملِكتهم [426]، وقولهم: {رَبَّنَا
بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} يدلُّ على اعترافهم بالله تعالى، وتعقيبُ قصَّتهم بأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يقول لمشركي العرب:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي: الملائكة ــ كما يدل عليه السياق، وقد تقدم بيانه
(1)
ــ يُشعرُ بأنَّ شرك سبأ كان مشابهًا لشرك قريشٍ، فيؤخذ من ذلك أنَّ سبأ كانوا يعبدون الشمس لأجل الملائكة، كما مرَّ في الصابئة، والله أعلم.
وفي فهرست ابن النديم في ذكر ديانات الهند: «منهم أهل ملَّة الدينكيتيَّة، وهم عُبَّاد الشمس، قد اتَّخذوا لها صنمًا على عَجَلٍ، ويزعمون أن الشمس مَلَكٌ من الملائكة يستحقُّ العبادة والسجود، فهم يسجدون لهذا الصنم
…
أهل ملَّة الجَنْدربَهكْتِيَّة، وهم عُبَّاد القمر، يقولون: إن القمر من الملائكة يستحقُّ التعظيم والعبادة، ومن سننهم أن اتَّخذوا له صنمًا على عجلٍ
…
ولا يفطرون حتى يطلع القمر، ثم يأتون صنمه بالطعام والشراب واللبن، ويرغبون إليه وينظرون إلى القمر ويسألونه حوائجهم
…
وفي نصف الشهر إذا فرغوا من الإفطار أخذوا في الرَّقص [427] واللعب والمعازف بين يدي القمر والصنم»
(2)
.
أقول: والوثنيُّون في الهند إلى الآن إذا طلعت الشمس استقبلوها وحنوا رؤوسهم إليها وطبَّقوا أيديهم ووضعوها على جباههم وهي تحيَّة يُحَيُّون بها ملوكَهم وأكابرَهم، والعوامُّ من المسلمين في الهند يحيُّون بها أو بنحوها
(1)
انظر ص 525 - 527.
(2)
الفهرست لابن النديم 488 - 489.
قبورَ صالحيهم، ومن المسلمين مَن يعملها عَقِب كلِّ صلاةٍ يفرغ منها، فينحرف عن القبلة ويستقبل بغداد لموضع قبر الشيخ عبد القادر الجيلانيِّ، أو يستقبل أجمير
(1)
لموضع قبر الشيخ معين الدين الجشتيِّ
(2)
، ويمكث ساعةً رافعًا يديه يدعو ثم ينحني ويذهب، ومنهم مَن يشير بتلك الإشارة على معنى التحيَّة، وأهل العلم لا يصنعون ذلك ولا ينكرونه، والله المستعان.
* * * *
(1)
مدينة تقع في شمال غربي الهند في ولاية راجستهان.
(2)
واسمه محمد بن حسن، ولد في سيستان عام 537 هـ، عاش في أماكن متفرقة من خراسان، ثم توجَّه إلى بغداد وتعرّف على السهروردي المقتول وغيره من الصوفية، ثم انتقل إلى دلهي عام 589 هـ غير أنه ما لبث أن توجَّه إلى أجمير، وتوفي هناك سنة 633 هـ. انظر: دائرة المعارف الإسلامية، إعداد المستشرقين 2/ 862.