الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يَغُرَّنَّك ذِكْرُ مَنْ يدَّعي العلم من أنصار البدع آية من كتاب الله أو حديثًا عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أو حكاية عن بعض السلف؛ فإنه قد كثر من هؤلاء القوم تحريف الآيات القرآنية وتفسيرُها بالهوى على خلاف التفسير الذي يثبت بالحجج الصحيحة، وكذلك يفعلون في تفسير الأحاديث الصحيحة، ويعتمدون على الأحاديث الضعيفة أو المكذوبة، وكذلك يحرِّفون الآثار الثابتة عن السلف ويعتمدون [625] على الآثار التي لم تثبت أو هي مكذوبة.
والعجب من هؤلاء القوم أنهم إذا نوقشوا في بعض المسائل المختلف فيها بين المذاهب وأقيمت عليهم الحجة بآية من كتاب الله أو حديث صحيح كان آخر قولهم: إنه ليس لنا أن نخالف مذهبنا لذلك؛ لأنا قاصرون عن معرفة الدليل، ولعل إمامنا فَهِمَ غَيرَ مَا فَهِمَ غيرُه من الأئمة أو كان عنده دليل يعارض ذلك. وإذا نوقشوا في بدعة لم يقل بها إمامهم ولا غيره من السلف فتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه فأخذوا يحرِّفون الآيات والأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة ويتبعون الأحاديث والآثار الواهية والمكذوبة، وعند التحقيق لا عجب أن هؤلاء القوم إنما يتبعون هواهم. والله المستعان.
تقسيم الكفر إلى ضربين
اعلم أن القرآن يقسم الكفر إلى ضربين: الكذب على الله والتكذيب بآياته، والآيات في ذلك كثيرة، منها: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68].
وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32].
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21].
فالشرك كله كذب على الله في أن له شريكًا، أو أنه عز وجل يرضى أن تُدْعَى الملائكة [626] ونحوهم، أو أنه شرع اتخاذ البحيرة والسائبة ونحوهما، أو أنه حرّم ما في بطون الأنعام على النساء وأحلّه للرجال وغير ذلك. والكفر كله تكذيب لآيات الله، ولذلك حصر المتكلمون الكفر في تكذيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وأنت إذا أحطت خُبْرًا بما تقدم في هذه الرسالة علمت أن الشرك والكفر متلازمان؛ فإن التكذيب بآيات الله طاعة في الدين للرؤساء والهوى والشيطان، وتلك عبادة كما مرّ، إلا أنه في بعض المواضع قد يخفى كون الأمر شركًا، وذلك فيما كان طاعة للرؤساء أو الشيطان أو الهوى. ولهذا كان المشركون يعرفون أنهم مشركون بتعظيم الملائكة والأصنام، ولذلك كانوا يسمونها آلهة ويسمون تعظيمها عبادة، ولم يعرف اليهود أنهم مشركون بطاعتهم في الدِّين لأحبارهم ورهبانهم للشيطان وللهوى.
وقد بيَّن القرآن أن الكذب على الله شرك سواء أكان الكاذب يعلم أنه كاذب أم لا، بل يكفي في ذلك أنه قال على الله تعالى ما لا سلطان له به، قال تعالى:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151].
وقال تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81].
وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71].
[627]
وكذلك بيّن أن التكذيب بآيات الله كفر سواء أَعَلِمَ المكذب أنها من عند الله، أم لم يعلم ولكنه لا سلطان له على أنَّ ما كذَّب به كَذِبٌ. فمن الأول فرعون وقومه كما تقدم في الكلام عليهم، وأما الثاني فكثير، وهم أهل الريب والشك.
وقد يكون الكذب بالقول فقط كأن يقول رجل: إن الله تعالى يرضى لعباده السجودَ للشمس، وهو يعلم أن الله تعالى لا يرضى ذلك وهو نفسه لا يسجد لها. وقد يكون بالفعل فقط كمن يسجد للشمس وهو يعتقد أنه لا ينبغي السجود لها ويعترف بذلك. وقد يكون بالاعتقاد فقط كمن يعتقد في نفسه أن الله تعالى يرضى السجود للشمس ولكنه لا يتكلم بذلك ولا يعمل به. وقد يكون بالثلاثة معًا أو اثنين منها معًا.
وكذلك التكذيب قد يكون باللفظ فقط كمن يقول: إن الله تعالى لم يفرضْ صلاة الظهر، وهو نفسه يُصلِّيها ويعتقد أن الله عز وجل فرضها، وقد يكون بالفعل فقط كمن ألقى مصحفًا في قاذورة. وقد يكون بالاعتقاد فقط كأن يعتقد أن الله تعالى لم يفرض الظهر. وقد يكون بالثلاثة معًا أو اثنين منها معًا.
ونصّ العلماء على تكفير مَنْ كذَّب بآيات الله بقولٍ أو فعلٍ ولو كان على وجه [628] الهَزْل واللَّعِب. ومما يشهد لذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65].
والكذب والتكذيب بالاعتقاد يَصْدُق بما إذا جزم بأن الله تعالى يرضى السجودَ للشمس، أوْ لَمْ يفرضْ صلاة الظهر، وما إذا ظن ذلك أو شكّ أو لم يَجْزِم بأن الله لا يرضى السجودَ للشمس، وبأنه فرض صلاة الظهر، هذا بالنسبة إلى ما هو كَذِبٌ قطعًا بأن لم يكن لصاحبه عليه سلطان، وما هو تكذيب قطعًا بأن ثبت قطعًا بأن ذلك الأمر مما جاء به الرسول عن ربه.
فأما ما يُظَن أنه كذب كأن كان لصاحبه دليل مختلَف فيه نرى نحن أنه ليس بحجة وقد قال بعض المجتهدين: إنه حجة، وليس هناك برهان قاطع بأنه حجة أو ليس بحجة، فلا يُعَدُّ القول بموجبه كذبًا على الله. وكذلك ما يُظَن أنه تكذيب كهذا المثال، فإن القائل بأن ذلك الدليل حجة يرى أن مخالفه مكذِّب، فلا يُعَدُّ هذا تكذيبًا بآيات الله. فأما الدلائل الظنية المستندة إلى الأصول القطعية كخبر الواحد المستجمع لشرائط القبول فَرَدُّه مع قيام الحجة على استجماعه لها تكذيب لآيات الله تعالى.
فإن قلت: أرأيت اليهوديَّ مثلًا إذا دُعِي إلى الإسلام فبحث ونظر وتدبَّر وتفكّر طالبًا للحق حريصًا على إصابته ولكنه لم يُوَفَّقْ للعلم اليقيني بأن الإسلام حقٌّ [629] بل قامت لديه شبهة يَعْتَقِد أنها يقينية أن البقاء علي اليهوديّة حقٌّ، فإذا أسلم كان في اعتقاده كاذبًا على الله عز وجل مكذِّبًا بآياته، فماذا حكمه؟
قلت: قد أجاب القرآن عن هذا بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 68 - 69].
وحاصل الجواب: أن مَنْ بحث ونظر وتدبَّر وتفكّر طالبًا للحق حريصًا على إصابته فهو مجاهد في الله، فلا بدَّ أن يهديه الله عز وجل لمعرفة الحق. وقد أشكل هذا السؤال على الأئمة قديمًا، وهذا جوابه في القرآن كما ترى.
فإن قلت: فقد اختلف أكابر الصحابة وأئمة التابعين في فروع الفقه، وقد قدَّمت أن من أقوالهم ما هو خطأ في نفسه وأنه لولا العذر لكان بدعة، وكان صاحبُه مبتدعًا، وأن البدعة شرك، بل قد وقع من بعضهم ما هو أصرح من هذا مما لولا العذر لكان كفرًا كما سيأتي، مع أنَّ أولئك الأكابر كانوا يبحثون وينظرون حريصين على إصابة الحق، أي أنهم قد جاهدوا في الله على وفق ما حَمَلْتَ عليه الآية.
[630]
قلت: فهذا يدلُّ أنه ليس المراد بهداية السبيل الهدايةَ إلى عين الحق في نفس الأمر، بل الهدايةَ إلى ما يرضي الله عز وجل عن المجتهد ويستحق عليه الأجر، إما أجرين وذلك إذا أصاب الحق في نفس الأمر أو أجرًا واحدًا وذلك إذا أخطأ مع عدم تقصيره، كما جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»
(1)
.
(1)
البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 9/ 108، ح 7352. ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 5/ 131 - 132، ح 1716. [المؤلف]
ولهذا والله أعلم عَبَّر في هذه الآية بلفظ الجمع بقوله: {سُبُلَنَا} فتكون السبل في هذه الآية عبارة عن السبيل الأعظم ــ وهو الحق في نفس الأمر ــ وفروع ترجع إليه كما علمت، بخلاف قوله تعالى:{وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، فإن سبيل الله تعالى في هذه الآية عبارة عما يَعُمُّ السبيل الأعظم والفروع التي ترجع إليه، وأما السبل فعبارة عن سبل مستقلة عن سبيله غير راجعة إليه، والسياق يدل على ذلك؛ فإن فيه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا
…
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 151 - 153] ، فالخطاب في هذه الآيات للمشركين يدعوهم إلى الإسلام؛ فالإسلام سبيل واحد وللمشركين سبل أخرى، والكلام في آية العنكبوت عامٌّ لكل كاذب ومكذب. فتدبر.
[631]
والحاصل أن أئمة المسلمين المجتهدين في فروع الإسلام لم يخرجوا عن سبيل الله تعالى، بل منهم من هو في حق السبيل الأعظم وهو الحق في نفس الأمر، ومنهم من هو في فرع راجع إليه، فكلهم مهديُّون إلى سبل الله عز وجل. وأما اليهود والنصارى والمشركون فهم في سبل أخرى ليست من سُبُل الله تعالى؛ لأنها لا ترجع إلى سبيله الأعظم وصراطه المستقيم، فمن جاهد منهم في الله فلا بدَّ أن يهديه الله إلى سبيله الذي يرضاه وهو الإسلام، كما قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:
19]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] ، أما من جاهد في الله من المسلمين ليعلم مسألة فرعية فإن الله يهديه إما إلى حق السبيل وإما إلى فرع يرجع إليه كما مرَّ.
واعلم أن خطأ المجتهد المسلم إنما يكون راجعًا إلى سبيل الله ما لم يتبين أنه خطأ، فأما إذا تبين له أو لغيره أنه خطأ فإن ذلك القول ينقطع بذلك عن السبيل الأعظم ولا يرجع إليه، بل يتصل بالسبل الباطلة.
وفي صحيح البخاريِّ وغيره عن هزيل بن شرحبيل، قال: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال:«للبنت النصف، وللأخت النصف، وأت ابن مسعود فسيتابعني» . فسئل ابن مسعود، وأُخْبِرَ بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين! أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «للابنة النصف، ولابنة ابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت» . فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم»
(1)
.
[632]
فلم تكن فتوى أبي موسى أوَّلًا ضلالًا ولا خروجًا عن الهدى؛ لأنه لا يعلم أنها خطأ. وكانت ضلالًا وخروجًا عن الهدى في حق ابن مسعود لو أفتى بها؛ لأنه يعلم أنها خطأ، وهكذا في حق أبي موسى لو أصرّ عليها بعد أن تبين له أنها خطأ، والسبب في هذا ظاهر؛ فإن المجتهد
(1)
البخاريّ، كتاب الفرائض، باب ميراث ابنة ابنٍ مع ابنةٍ، 8/ 151، ح 6736. [المؤلف]
المخطئ قاصدٌ اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو وإن أخطأ بقوله فقد أصاب بقصده. فأما بعد تبين الخطأ فقد انتفى هذا القصد أيضًا وحَلَّ مكانه قصد آخر إن أصرّ على الخطأ، وذلك هو الهوى واتباع الشيطان والرؤساء، فانقطع ذلك الفرع عن سبيل الله عز وجل ورجع إلى السبل الباطلة كما ترى.
واعلم أن القاضي إذا اجتهد في قضية وتبين له فيها أن الحق كذا لا يخلو أن يكون ذلك الحكم الذي تبين له هو الحق في نفس الأمر بمقتضى الأدلة الشرعية العامة، أو يكون خطأ، وإذا كان خطأ وكان القاضي عادلا بارًّا مخلصًا لله تعالى فقد يقال: إن الله عز وجل إنما رجَّح في نفسه ذلك الحكم لعلمه سبحانه بأنه الذي تقتضيه الحكمة في تلك القضية خاصة.
وبيان ذلك: أن الأحكام العامة إنما يمكن مطابقتها للحكمة بالنسبة إلى الغالب، مثال ذلك: الحكم على الزاني المحصن بالرجم وعلى غيره بالجلد، فقد يمكن في غير الغالب أن يكون محصنٌ أولى بأن يُخَفَّفَ عنه مِنْ بِكْرٍ، كأن يكون الأول شابًّا شديد الشهوة تزوَّج وبات معها ليلة [633] وماتت، وهو فقير لا يستطيع أن يتزوَّج غيرها، وقد ابتُلِيَ بعشق امرأة جميلة وهو يتعفَّف عنها ويتجنَّب رؤيتها، فصادف أن هجمت عليه في خلوة فلم يصبر عنها فوقع عليها، ثم لم يلبث أن ندم. ويكون الثاني شيخًا كبيرًا ضعيف الشهوة غنيًّا عنده عدَّة سَرَارِي، ومع ذلك رأى امرأة قبيحة فاحتال عليها إلى أن زنى بها، ولم يندم. فأنت ترى أن الأول أولى بالتخفيف من الثاني، ولكن لما كانت الأحكام الشرعية عامة لم يمكن أن تراعى فيها الجزئيات، وإنما يراعى فيها الغالب فقط. فإذا وقع ذلك الحكم على من لا
يناسبه فإن البارئ عز وجل يَسُدُّ هذا النقصَ بالقَدَر، فيجعل لذلك الشاب مثلًا فرجًا ومخرجًا، إما بألَّا يفضحه، وإما بأن يُظْهِرَ في القضية شبهة يقوِّيها في نفس القاضي حتى يترجّح له أن هذا لا يستحقّ الحدَّ، وإما أن يُكَفِّرَ عن ذلك الشاب ذنوبًا أخرى، وإما أن يرفعه درجات في الجنة، إلى غير ذلك.
وهذا معنى جليل يحتاج إيضاحه إلى إطالة ليس هذا محلَّها، وهذا المعنى هو السبب أو أحد الأسباب فيما أجمع عليه العلماء أنَّ من شرط القاضي أن يكون مجتهدًا لا يقلِّد أحدًا. فتدبر.
وهو أيضًا من أسباب جَعْلِ كثير من أدلة الأحكام الشرعية غير واضحة كلّ الوضوح، ومن أسباب التعبد بخبر الواحد، ومن أسباب قولهم: الاجتهاد لا يُنْقَضُ [634] بالاجتهاد، ومن أسباب قواعدَ شرعيةٍ أخرى ليس هذا محلَّ استيفاء ذكرها.
واعلم أن الطالب للحق الحريص عليه عزيز جدًّا كما مرَّ عن الغزالي، والسبب في ذلك أن للهوى مداخل كثيرة، منها: أن يميل الإنسان إلى ما كان عليه أبواه، كما في الحديث الصحيح:«ما من مولودٍ إلَّا يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه» الحديث
(1)
.
ومنها: أن يميل إلى ما كان عليه أستاذه. ومنها: أن يميل إلى ما اعتاده وأَلِفَه. ومنها: أن يميل إلى ما رأى عليه مَن يحبه أو يعظمه. ومنها: أن يميل
(1)
البخاريّ، كتاب القدر، باب:«الله أعلم بما كانوا عاملين» ، 8/ 123، ح 6599. مسلم، كتاب القدر، باب معنى: «كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة»، 8/ 52، ح 2658. [المؤلف]
عما رأى عليه مَن يبغضه أو يستحقره، قال تعالى:{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]، وقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13].
ومنها: أن يميل إلى ما وقع في ذهنه أوَّلًا، فيصعب على نفسه أن تعترف أنها أخطأت أوَّلًا، ولا سيما إذا كان قد أظهر قوله الأول.
وإذا تمكَّن الهوى عميت البصيرة، فَتُعْرَضُ على صاحبه الحجة النيرة فيرى أنها شبهة فقط، حتى إنه كثيرًا ما يقول: إنها شبهة لا أقدر على حَلِّها، وتُعْرَضُ عليه الشبهة الضعيفة [635] الموافقة لهواه فيرى أنها برهان قاطع.
ومسالك الهوى قد تكون خفيَّة جدًّا فيتوهَّم الإنسان أنه لا سلطان للهوى عليه وأنه ممن يجاهد في الله طلبًا للحق أَنَّى كان، مع أنه في الحقيقة على خلاف ذلك، ولولا هذا لما كنت تجد الناس لا يخرجون عن مذاهب آبائهم إِلَّا نادرًا.
ولهذا لم يقتصر القرآن على دعوة الناس إلى البحث والنظر فقط، بل أرشدهم مع ذلك إلى أنهم إن لم يتيقنوا أنَّ ما يدعوهم الله
(1)
هو الحق فلا يمنعهم ذلك عن اتِّباعه؛ فإنه أحوط لهم، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
(1)
كذا في الأصل، ولعل الرابط المجرور (إليه) سقط سهوًا.
قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 43 - 46].
وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
[636]
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10].
ومن هنا يُعْلَم أن قوله تعالى: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] لا تقتصر معنى الهداية فيه على تيسير البرهان القاطع، بل يحصل بذلك وبتيسير الدليل الذي يتبين به للناظر أن اتِّباع الإسلام أحوط له. ولكنه إذا عمل بالأحوط ودخل في الإسلام يسَّر الله تعالى له بعد ذلك ما يُثْلِج صدرَه إن شاء الله تعالى، كما مرّ في تفسير قوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14].
وهكذا يقال فيمن تردَّد من المسلمين في أمر: أَشركٌ هو أم مستحب أو مباح؟ فإنه قد ينظر ويبحث فلا يتضح له الحق، وإنما ذلك ابتلاء من الله عز وجل له أَيعمل بالقدر الذي ظهر له [637] من الحق وهو الاحتياط أم لا،