المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

حلف بالأمانة فليس منا» (1) .   ‌ ‌حقيقة القَسَم وقع اشتباه في معناه، وارتباك في - رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ٣

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌ وقد يكون للمعبود الواحد ألوف من التماثيل يطلقون على كل تمثال منها اسم ذلك المعبود

- ‌ عبادة الشياطين

- ‌ عبادة الهوى

- ‌النظر فيما كان يعتقده المشركون في آلهتهم ويعملونه

- ‌تفسير عبادة الأصنام

- ‌عُبَّاد النار

- ‌عجل السامري

- ‌الأناسي الأحياء وأرواح الموتى

- ‌تفسير تأليه المسيح وأمه عليهما السلام

- ‌تأليه الأحبار والرهبان

- ‌ شرع الدين خاصٌّ بالربِّ

- ‌عبادة القبور والآثار

- ‌عبادة أشخاصٍ لا وجود لها

- ‌المصريُّون

- ‌ في عهد إبراهيم عليه السلام

- ‌ في عهد موسى عليه السلام

- ‌العرب وتأليه الإناث الخياليَّات

- ‌تحرير العبارة في تعريف العبادة

- ‌ فصلٌ في الدعاء

- ‌الدعاء عبادةٌ

- ‌ أحكام الطلب، ومتى يكون دعاءً

- ‌من أشنع الغلط في هذا الباب الاعتمادُ على التجربة

- ‌مَن قاس الأموات على الأحياء [555] فهو كمَن قاس الملائكة على البشر

- ‌ الشبهات ورَدُّها

- ‌شبه عُبَّاد الأصنام

- ‌ شُبَه عُبّاد الأشخاص الأحياء

- ‌شُبَه النصارى في عبادتهم الصليب

- ‌شبهة للنصارى واليهود في شأن الأحبار والرهبان

- ‌شُبَهُ عَبَدَةِ الملائكة

- ‌تقسيم الكفر إلى ضربين

- ‌الأعذار

- ‌ ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شركوأشكل تطبيقها على الشرك

- ‌تمهيد

- ‌ الطِّيَرة

- ‌ فصل في التِّولة والسحر

- ‌ التأثير على ضربين:

- ‌ حكم السحر وتعليمه وتعلمه

- ‌ طرق تحصيل قوة السحر

- ‌ القسم بغير الله عز وجل

- ‌حقيقة القَسَم

- ‌ تسمية النذر يمينًا وحلفًا والقول بأن كفارته كفارة يمين أمر معروف عن السلف

- ‌ الشرك إذا أُطْلِق في الشريعة في مقام الذَّمِّ كان المراد به الشركَ بالله عز وجل، بأن يُشْرِكَ معه غَيْرَه في العبادة على سبيل العبادة للشريك

- ‌ لم يجئ في الشرع نصٌّ على أنَّ الرئاء شرك بالله، وإنما جاء أنَّه شرك فحسب

- ‌قول ما شاء الله وشئت

- ‌فهرس مصادر التحقيق

الفصل: حلف بالأمانة فليس منا» (1) .   ‌ ‌حقيقة القَسَم وقع اشتباه في معناه، وارتباك في

حلف بالأمانة فليس منا»

(1)

.

‌حقيقة القَسَم

وقع اشتباه في معناه، وارتباك في الجمع بين الأحاديث المتقدمة وإقسامِ الله تبارك وتعالى في كتابه بأشياء من مخلوقاته، كالشمس والقمر والتين والزيتون، وما صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من قوله:«أفلح وأبيه إن صدق»

(2)

، وقوله:«وأبيك لتنبأنَّ»

(3)

، وجاء عن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنه كان يقول للرجل الذي اتُّهِم بالسرقة وكان يقوم الليل:«وأبيك ما ليلك بليل سارقٍ»

(4)

.

وألَّف الأستاذ حميد الدين الفراهي الهندي رسالة سماها: «الإمعان في أقسام القرآن» أجاد فيها، وسألخِّص هاهنا ما استفدته منها ومن غيرها، وما ظهر لي، فأقول:

أصل المقصود من القسم التوكيد اتفاقًا؛ ولذلك ــ والله أعلم ــ سمي

(1)

سنن أبي داود، كتاب الأيمان والنذور، بابٌ في كراهية الحلف بالأمانة، 2/ 107، ح 3253 - واللفظ له -. والمستدرك، الموضع السابق، 4/ 298. وصحَّحه النوويُّ في الأذكار ص 526. [المؤلف]

(2)

أخرجه مسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، 1/ 32، ح 11 (9).

(3)

أخرجه مسلمٌ في كتاب البرِّ والصلة والآداب، باب برِّ الوالدين

، 8/ 2، ح 2548 (3).

(4)

أخرجه مالكٌ في الموطَّإ، كتاب الحدود، باب جامع القطع، 2/ 399، ح 2418، ط: دار الغرب.

ص: 1000

يمينًا أخذًا من اليمين بمعنى القُوَّة، ويمكن أن يكون من اليد اليمين لما جرت به العادة من الصفق باليمين عند المحالفة، وسمي أليَّة من قولهم: أَلا يألو إذا اجتهد، لا من قولهم: ألا يألو إذا قصَّر.

وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا اجتهد في اليمين قال: «والذي نفس أبي القاسم بيده»

(1)

.

وأما القَسَم فاسمٌ من قولهم: أَقْسَم إذا حلف، وكأنه مأخوذ من القَسْم بوَزْنِ فَلْسٍ، [711] وهو الشك، كما في القاموس وغيره

(2)

، فقالوا: أقسم، أي: أزال القَسْم، كما قالوا: أشكاني الأمير، أي: أزال شكواي، كما في كتب اللغة والتصريف، والحالف إنما يحلف ليزيل الشكَّ.

وأما الحَلِفُ فكأنه مأخوذ من حلافة اللسان أي حدَّته ــ كما في القاموس وغيره

(3)

ــ؛ لأن حديد اللسان يكثر من القَسَم. ولذلك ــ والله أعلم ــ لم يجئ لفظ الحلف في القرآن إلا في معرض الذمِّ، قال تعالى:

(1)

سنن أبي داود، كتاب الأيمان والنذور، بابٌ يمين النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما كانت، 2/ 109، ح 3264. [المؤلف]. وهو في مسند أحمد 3/ 33 و 48. وصححه ابن الملقن في البدر المنير 24/ 208، ح 2410. لكن في إسناده عاصم بن شميخ، لم يوثقه إلا العجلي 2/ 8، وذكره ابن حبان في الثقات 5/ 239. أما أبو حاتم فقال:(مجهول). الجرح والتعديل 6/ 345. ولذلك ضعَّفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود.

(2)

انظر: القاموس المحيط 1483، لسان العرب 12/ 480. وفيه أيضًا وفي معجم مقاييس اللغة 5/ 72 أن أصل ذلك من القسامة، ولم يذكر ابن فارس غيره، ونسبه إلى أهل اللغة.

(3)

انظر: القاموس المحيط 1035، لسان العرب 9/ 56.

ص: 1001

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62] ، وآيات أخرى كلُّها في المنافقين، وقال سبحانه:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [ن والقلم: 10].

فأما وجه إفادة القسم التوكيد فمختلِفٌ باختلاف المقسَم به، وهو على أضرُبٍ:

الضرب الأوَّل: أن يكون في اعتقاد الحالف ومخاطَبيه ذا قدرة غيبية، فمعنى الحلف به جَعْلُه كَفيلًا وشاهدًا على الحالف بألَّا يُخْلِفَ ولا يكذب، قال الله تبارك وتعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91].

وقال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204].

قال ابن جرير: «فقال بعضهم: نزلت في الأخنس بن شريق، قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزعم أنه يريد الإسلام وحلف أنه ما قَدِمَ إلا لذلك

حدثني يونس قال: أنا ابن وهب قال: قال ابن زيد {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إلى قوله: { .. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} قال: كان رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: أي رسول الله، أشهد أنك جئت بالحق

ثم يقول: أما والله يا رسول الله إن الله ليعلم ما في قلبي مثل ما نطق به لساني

(1)

.

[712]

فالجَعْلُ للمحلوف به كَفيلًا ظاهرٌ فيما إذا كان الحلف على فعل

(1)

تفسير ابن جرير 2/ 175 - 176. [المؤلف]

ص: 1002

شيء في المستقبل أو تركه، وإشهاده ظاهر فيما يكون الحلف على أنه وقع أو لم يقع، أو أنه واقع في الحال، أو غير واقع، وكذا على أنه سيقع في المستقبل، أو أنه لن يقع؛ لأن العلم إذا أحاط بوقوع شيء في المستقبل أو عدم وقوعه صار كأنه حاضر فتصحُّ الشهادة والإشهاد عليه كما يقول المؤمن: أشهد أن الساعة ستقوم، ونحو ذلك.

ويمكن أن يكون الحلف على الوقوع وعدمه تكفيلًا، كأن الحالف يجعل المحلوف به كفيلًا عليه ألَّا يكذب. ومن هذا الضرب: الحلف بالكعبة، لأن الحالف يرى أنها كريمة عند الله عز وجل، بحيث يغضب على من احتقرها واستهان بها، ومن جعل شيئًا كفيلًا ولم يفِ أو شهيدًا على كَذِبٍ فقد احتقره واستهان به.

ومنه أيضًا الحلف بالأصنام؛ لأن الحالف يزعم أنها كريمة عند مَن جُعِلَتْ تماثيل لهم، وهم أولو قدرة غيبيَّة أو مكرمون عند الله تعالى الذي له القدرة الغيبيَّة، فيزعم أن احتقارها والاستهانة بها احتقار لهم، وقس على ذلك.

وإنما يثق المحلوف له باليمين في هذا الضرب؛ لأنه يعلم أن الحالف يُجِلُّ المحلوف به ويخاف سطوته الغيبيَّة، فيبعد أن يجعله كفيلًا ثم لا يفي له أو شهيدًا على الكذب، وعلى فرض أن الحالف يجترئ على ذلك فالمحلوف به يعاقبه ويوفي المحلوف له حقَّه من عنده.

[713]

الضرب الثاني: أن يكون المحلوف به عزيزًا على الحالف ولا يرى له قدرة غيبية، وذلك كما يحلف بعض الناس بشرفه، كأنه يقول: إن شرفي كفيل عليَّ، بمعنى: أني إن لم أفِ أو إن كنتُ كاذبًا فقد احتقرتُ

ص: 1003

شرفي أو فلا شرف لي. ومنه قولهم: وحقِّك، كأنه يقول: إن لم أفِ أو إن كنت كاذبًا فقد ضيَّعْتُ ما لك من الحقِّ عليَّ. وقد يكون منه قولهم: وحياتِك، ورأسِك، وجَدِّك، كأنه يقول: إن لم أف أو إن كنت كاذبًا فقد احتقرتُ حياتك واستهنتُ بها، فاعددني حينئذٍ عدوًّا، فيثق المحلوف له بهذه اليمين؛ لعلمه أن الحالف حريصٌ على بقاء المودَّة.

الضرب الثالث: أن يكون المحلوف به مما له خطر عند الحالف، بحيث يضرُّه أن يَتْلَفَ أو يَنْقُصَ، فيحلف به على معنى أني إن لم أفِ أو إن كنت كاذبًا فالإله يتلف هذا الشيء أو ينقصه، كحلف بعضهم برأسه وعينيه وحياته. ويمكن أن يكون منه قول أحدهم لصديقه: وحياتك، ورأسك، وجدِّك، كأنه يقول: إن حياتك أعزُّ عليَّ من حياتي، فهي أولى أن أقسم بها. وهذا المعنى المفهوم من القسم يَغفِرُ ما يؤول إليه المعنى؛ إذ حاصله: إن لم أَفِ أو إن كذبتُ فأفقدني الله تعالى حياتك، وكأن القائل

(1)

:

فإن تكُ ليلى استودعتني أمانةً

فلا وأبي أعدائها لا أخونها

استشعر هذا المعنى، فرأى أنه إن قال: وأبيها، كان حاصله: أفقدني الله تعالى [714] أباها إن خنتها، وفي هذا ما فيه من الإساءة، فعدل عن أبيها إلى أبي أعدائها؛ لأنَّ فقد أبي أعدائها يسرُّها ولا يضرُّها، ولم يبال باختلال أصل المعنى اتِّكالًا على أن القرائن تبين أنه إنما أراد القسم بأبيها، ولكنه عدل إلى أبي أعدائها لما تقدَّم.

ويظهر أن لفظ الأب مقحم، وأنه أراد القسم بها، ولكن لما كان واو

(1)

البيت لابن الدمينة، في ديوانه: 93، وحماسة الخالديين:74.

ص: 1004

القسم لا يدخل على الضمير أقحم لفظ أب، ثم أقحم لفظ أعداء، لما تقدم.

ويشبه هذا قولهم: (الأبعد) كناية عن ضمير المتكلم مثلًا، كقولهم: إن غدر الأبعد فأهلكه الله، يريدون: إن غدرتُ، ولكن يتنزهون عن نسبة الغدر إلى النفس صريحًا.

ومثل هذا قول الآخر:

لعمر أبي الواشين إني أحبها

(1)

وقد يكون البيتان من الضرب الرابع، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

الضرب الرابع: أن يكون في المحلوف به دلالة على المحلوف عليه، فكأن الحالف جعله كفيلًا وشاهدًا بالنظر إلى حاله، كقول الحصين بن الحُمام المُرِّي يرثي نعيم بن الحارث:

قتلنا خمسة ورموا نُعيمًا

وكان القتل للفتيان زينا

لعمر الباكيات على نعيم

لقد جلَّت رزيته علينا

(2)

أقسم بالباكيات منهم استدلالًا ببكائهن على عظم رزيته عليهم.

ويقرب منه قول الشويعر يتنصل إلى امرئ القيس مما بلغه عنه أنه هجاه:

(1)

انظر: فتح الباري 11/ 534، وورد في مجالس ثعلب 2/ 507 وغيره بلفظ:

لعمر أبي الواشين لا عمر غيرهم

لقد كلَّفوني خطَّةً لا أريدها.

(2)

انظر: الأغاني 14/ 12، ونُسب إلى البطين في طبقات الشعراء لابن المعتز 250 وهو خطأ.

ص: 1005

لعمر أبيك الذي لا يهان

لقد كان عرضك مني حراما

وقالوا: هجوت ولم أهجه

وهل يجدن فيك هاجٍ مذاما

(1)

استشهد بعِزَّة أبي امرئ القيس وسلامته من الذام على أنه لم يهجه، وأوضح ذلك بقوله:«الذي لا يهان» ، وقوله:«وهل يجدن فيك هاج مذاما» .

وقد يكون من هذا قول الآخر وقد مرّ: «فلا وأبي أعدائها لا أخونها» ، كأنه جعل أعداءها كفلاء عليه لا يخونها، وإنما جعلهم كفلاء نظرًا إلى حالهم؛ لأنهم قد جرَّبوه وعرفوا صدق محبته لها وشدة حرصه على كتمان سرِّها، فلو سُئِلوا لقالوا: هيهات [715] أن يبوح هذا الرجل بسرِّ هذه المرأة.

وكذا قول الآخر وقد تقدَّم أيضًا: «لعمر أبي الواشين إني أحبُّها» ، فإن الواشين أعرف الناس بمحبته لها وأحرص الناس على إذاعتها، أي: فمن شك في محبتي لها فليستمع إلى ما يقوله الواشون عني وعنها، ففي ذلك شهادة كافية. ومنه قول أبي خراش الهذلي:

لعمر أبي الطير المُرِبَّة

(2)

غدوة

على خالد لقد وقعن على لحم

(3)

أراد على لحم عظيم؛ لأن التنكير قد يفيد التعظيم، وأقسم بالطير التي وقعت عليه لأنها أعرف الخلق به. وكلمة:«أبي» في هذه الأبيات الثلاثة مقحمة كما علم من تفسيرها، وكأن الباعث على إقحامها الفرار مما يوهمه

(1)

المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء 208 - 209. والشويعر هو محمد بن حمران بن أبي حمران.

(2)

أي: المقيمة الآلفة. المعاني الكبير لابن قتيبة 3/ 1200.

(3)

شرح أشعار الهذليِّين 3/ 1226.

ص: 1006

القسم من إجلال الأول أعداء محبوبته والثاني الواشين بخليلته والثالث الطير الواقعة على صاحبه، فرأى الأول أن إيهام إجلال أبي أعدائها أهون، وقس عليه، هذا مع مراعاة الوزن في الأبيات الثلاثة.

الضرب الخامس: أن يكون المحلوف به شيئًا حقيرًا، فيحلف به على كلام قصد به التهكم والاستهزاء، ويكون الحلف به قرينة على ذلك، كقول عروة بن مرة الهذلي:

وقال أبو أمامة يا لَبَكْرٍ

فقلت ومَرخةٍ

(1)

دعوى كبيرُ

(2)

وقد حقق الأستاذ الفراهي أن عامة أقسام القرآن من الضرب الرابع، وذلك واضح في كثير منها، ويحتاج في بعضها إلى تدبُّرٍ.

فأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أفلح وأبيه إن صدق» ، وقول أبي بكر:«وأبيك، ما ليلُك بليل سارق» ، فيظهر أنه من الضرب الرابع.

[716]

كأنه صلى الله عليه وآله وسلم استشهد حال ذلك الرجل؛ لأنها تدل على أنه سيفلح؛ فإن في قصته: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرهنَّ؟ قال: لا، إلَّا أن تطوَّع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل عليَّ غيره؟ فقال: لا، إلا أن تطوَّع، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على

(1)

المرخ: شجرٌ سريع الوري. القاموس المحيط 332.

(2)

شرح أشعار الهذليِّين 2/ 664.

ص: 1007

هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفلح إن صدق.

وفي رواية: «أفلح وأبيه إن صدق، أو: دخل الجنة وأبيه إن صدق»

(1)

.

فمجيء الرجل من نجد واهتمامه بالسؤال عن فرائض الإسلام واعتناؤه بذلك حتى سأل بعد كل فريضة: هل عليَّ غيرها؟ ثم إدباره بعد ذلك، فعلم أنه إنما جاء للسؤال عن فرائض الإسلام لم يخلط بذلك رغبة في دنيا، ثم إقسامه ألّا يزيد على الفرائض ولا ينقص، وفي إقسامه ألَّا يزيد ما يدلُّ على صدق لهجته؛ إذ أظهر ما في نفسه ولم يبال بأنَّ عليه في ذلك غضاضة، كلُّ هذا يدلُّ على صدق إيمانه وقوَّة يقينه وتصميم عزيمته على الوفاء بفرائض الإسلام، وفي ذلك أقوى علامة على فلاحه.

فأما قول النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إن صدق» ، فهو كقول القائل: لأقضينك دينك إن شاء الله، فليس تعليقًا محضًا بحيث يخدش في دلالة الكلام على عزم المتكلم أن يقضي، وإنما هو دلالة على أنَّ عزمه على القضاء لا يقتضي علم اليقين بأنه سيقضي، وإنما يحصل علم اليقين بذلك العزم مع مشيئة الله عز وجل، فهكذا: أفلح وأبيه إن صدق؛ معناه: إنني أظنُّ ظنًّا قويًّا أنه سيفلح، ولكن ظنِّي هذا لا يكفي وحده [717] لحصول الفلاح، بل لا بدَّ معه من أن يصدق الرجل فيما وعد به أن يؤدِّي الفرائض ولا ينقص منها شيئًا.

(1)

صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، 1/ 31 - 32، ح 11 (9). [المؤلف]

ص: 1008

أو يُقال: إن زيادة «إن صدق» دفع لما قد يتوهم أن المعنى: قد أفلح الرجل على كلِّ حال حتى على فرض أنه يُقَصِّر بعد ذلك في أداء الفرائض.

وأما ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه من قوله: «وأبيك ما ليلك بليل سارقٍ» ، فواضحٌ أنه من هذا الضرب؛ لأن قيام الليل دائمًا يدلُّ دلالة قويَّة أن صاحبه ليس بسارقٍ.

وأما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وأبيك لتنبَّأنَّه» ، فأصل الحديث:«عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أيُّ الصدقة أعظم أجرًا؟ فقال: أما وأبيك لتنبَّأنَّه: أن تَصدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ .... »

(1)

.

السائل يعلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم عالم بما سأله عنه، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم سينبئه بذلك، وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى من هيئة الرجل وكلامه ما يظهر منه أنه كالمتردد: أينبئه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما سأل عنه أم لا، فكأنه قال له: لم هذا التردد مع علمك بأنك إنما تسأل رسول الله، وأنه عالم بما تسأله عنه، وأنه لا يقصِّر في تعليم الناس ما يحتاجون إليه في دينهم، والله أعلم.

وقد علمت من تفسيرنا للحديثين والأثر عن أبي بكر أننا نرى أن لفظ الأب [718] مقحم فيها كما هو مقحم في الأبيات المارَّة، وكأنَّ الباعث على الإقحام أنَّ واو القسم لا تدخل على الضمير فتوصل إليه بإقحام لفظ الأب،

(1)

صحيح مسلمٍ، كتاب الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، 3/ 93 - 94، ح 1032 (93). [المؤلف]

ص: 1009

وباعث آخر معنوي، وهو تبعيد إيهام التعظيم؛ فإنه يتوهم تعظيم المخاطبين؛ لأنهم مسلمون، بخلاف آبائهم المشركين، والله أعلم.

وهناك أجوبة أخرى عن الحديثين، منها: الطعن في زيادة «وأبيه» في الأول، وزيادة «أما وأبيك لتنبأنه» في الثاني بتفرد بعض الرواة بهما.

وفي مسند أحمد: ثنا إسماعيل

(1)

، ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي إسحاق

(2)

، قال: حدثني رجلٌ من غفارٍ في مجلس سالم بن عبد الله، حدثني فلان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي بطعامٍ من خبزٍ ولحمٍ، فقال:«ناولني الذراع» ، فَنُووِل ذراعًا فأكلها، قال يحيى: لا أعلمه إلا هكذا، ثم قال:«ناولني الذراع» ، فَنُووِل ذراعًا فأكلها، ثم قال:«ناولني الذراع» ، فقال: يا رسول الله، إنما هما ذراعان، فقال:«وأبيك، لو سكتَّ ما زلتُ أناوَلُ منها ذراعًا ما دعوتُ به» ، فقال سالم: أمَّا هذه فلا، سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن الله تبارك وتعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم»

(3)

.

فأنكر سالم بن عبد الله بن عمر هذه الزيادة، وهو سلفٌ لمن أنكرها في الحديثين السابقين، ويمكن تأويلها في هذا الحديث بمثل ما تقدَّم، كأن

(1)

هو ابن عُليَّة.

(2)

كذا في الأصل وفي أكثر نسخ المسند، والصواب: يحيى بن أبي إسحاق. كما في بعض نسخه وإتحاف المهرة. انظر: المسند - ط الرسالة- ح 5089، إتحاف المهرة 8/ 428، ح 9703. وقد رواه النسائيّ على الصواب. انظر: سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، 7/ 4. تحفة الأشراف 5/ 416، ح 7034.

(3)

المسند 2/ 48. [المؤلف]

ص: 1010

النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم استشهد حال السامع من علمه بأن الله تعالى كثيرًا ما يخرق العادة لرسوله، وأقحم لفظ الأب، كما تقدَّم.

ومن الأجوبة: ما نقله الحافظ في الفتح، أن القَسَم في هذه المواضع للتأكيد محضًا، [719] كأن قائل ذلك أراد أن القسم انسلخ عن التكفيل والاستشهاد المستلزمين غالبًا للتعظيم، وصار بمنزلة إنَّ ونحوها للتوكيد فقط، كأنه قال:«أؤكِّد» .

قال البيهقي في السنن: «ويحتمل أن النهي إنما وقع عنه إذا كان على وجه التوقير له والتعظيم لحقه دون ما كان بخلافه، ولم يكن ذلك منه على وجه التعظيم، بل كان على وجه التوكيد»

(1)

.

ومنها: قول السهيلي: إنه للتعجب، كأنه أراد أن قوله:«وأبيه» بمنزلة قولهم: «لله أبوه» ، وقس عليه.

هذه أقوى الأجوبة فيما أرى، والجواب الذي قدَّمته أشفُّها

(2)

، إلا أنه قد يُطعن فيه بأنَّ دعوى إقحام لفظ الأب لا يعرف لها نظير في العربية.

وقد ردَّ أبو حيان قولَ مَن قال: إن كلمةَ «مثل» من قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] زائدة، ردَّه بأن الأسماء لا تُزاد. ويُدْفَعُ هذا بأنَّ المعنى إذا اقتضى توجيه اللفظ بزيادة أو نقص أو تغيير لا تأباه الحكمة ولا تدفعه الصورة الكلية المرتسمة في ذهن العارف باللغة وما يقع فيها من التغيير، فإن ذلك التوجيه يُقْبَلُ وإن لم يوجد له نظير.

(1)

سنن البيهقي 10/ 29. [المؤلف]

(2)

أفضلها. انظر: الصحاح 4/ 1382.

ص: 1011

وقد قال ابن جني: «أما إذا دلَّ الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير

»

(1)

.

أوَ لا ترى إلى صيغة (أَفْعِلْ بِه) في التعجب، نحو قوله تعالى:{أَسْمِعْ بِهِمْ} [مريم: 28]، كيف وَجَّهوها بأنَّ:{أَسْمِعْ} فعل ماضٍ، أصله: أَسْمَعَ كأكرم، ومعناه: صار ذا سمع، فأصله في الآية: أسمَعُوا أي صاروا ذوي سمع، [720] ثم حُوِّل إلى موازنة صيغة الأمر مع بقائه على الماضوية، ثم زيدت الباء وجوبًا، فوجب تغيير الفاعل من صورة ضمير الرفع، وهو الواو هنا، إلى صورة ضمير الجر. ولو تَطَلَّبْتَ في اللغة فعلًا ماضيًا صورته صورة الأمر لما وجدتَّه إلَّا ما ادَّعوه في هذا الموضع، فلم يمنعهم عَدَمُ النظير من توجيه اللفظ على ما سمعت لمَّا كان المعنى يقتضي ذلك، فكذلك نقول نحن. ومع هذا فقد وجدنا النظير، ولله الحمد، وهو قول الله تبارك وتعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]؛ فقد قال جماعة: إن كلمة (اسم) مقحمة، وإن المعنى: سبِّح ربك الأعلى، والأحاديث عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدلُّ على ذلك، انظرها في روح المعاني وتفسير ابن جرير، وأنشدوا للبيدٍ

(2)

:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

ومَن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر

فأما حديث أبي داود وغيره عن الفُجَيع

(3)

، وفيه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله

(1)

الخصائص 1/ 203. [المؤلف]

(2)

انظر: شرح ديوان لبيد ص 214، وخزانة الأدب 4/ 337.

(3)

الفُجَيع بن عبد الله بن جُنْدُع بن البكاء ــ واسمه ربيعة ــ البكائي، له صحبة، سكن الكوفة. انظر: الإصابة 8/ 520.

ص: 1012

عليه وآله وسلَّم قال: «ذلك ــ وأبي ــ الجوعُ»

(1)

، فهو حديث ضعيف. وكذلك حديث يزيد بن سنان ــ وقد تقدَّم سنده ــ ضعيف، ولكنه يشهد لحديث سعد بن سنان فيما اتفقا فيه كما مرَّ، والله أعلم.

بقي أنه قد جاء في كلام الصحابة وغيرهم «لعمري» ، وهي على المشهور بمعنى: أقسم بحياتي، فيكون قسمًا بغير الله تعالى.

فأقول: قد جاء في تفسير قول الله عز وجل: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] ما أخرجه ابن جرير وغيره من طريق سعيد بن زيد، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء [721] عن ابن عباس قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى ذكره:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} .

وأخرج ابن جرير أيضًا من طريق الحسن بن أبي جعفر

(2)

، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في قول الله تعالى:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، قال: ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وحياتك يا محمد، وعُمْرك، وبقائك في الدنيا، {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: في ضلالتهم يعمهون، أي:

(1)

سنن أبي داود، كتاب الأطعمة، بابٌ في المضطرِّ إلى الميتة، 2/ 178، ح 3817.

(2)

ضعيف جدًّا كما سيذكره المؤلف، وقال ابن عديٍّ: هو عندي ممن لا يتعمَّد الكذب، ولعلّ هذه الأحاديث التي أُنكرت عليه توهَّمها توهُّما أو شُبِّه عليه فغلط. انظر: تهذيب الكمال 6/ 73.

ص: 1013

يلعبون»

(1)

.

أقول: في ترجمة أبي الجوزاء من التاريخ الكبير للبخاري

(2)

: «وقال لنا مُسَدَّد: عن جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء قال: أقمت مع ابن عباس وعائشة اثنتي عشرة سنة ليس من القرآن آية إلا سألتهم عنها. قال محمد: في إسناده نظر» .

ونبه الحافظ ابن حجر في ترجمة أبي الجوزاء من تهذيب التهذيب

(3)

على أن البخاري إنما قال هذا لمكان النكري، قال:«والنكري ضعيف عنده» أي: عند البخاري، ولم يذكر في ترجمة النكري أحدًا وثَّقه إلا قول ابن حبان في الثقات

(4)

: «يعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه، يخطئ ويغرب» . وقد عُرِفَ من مذهب ابن حبان في الثقات أنه يذكر فيها المجاهيل، ومع ذلك فقوله:«يعتبر حديثه» ظاهر في أنه لا يعتمد عليه.

وقوله: «يخطئ ويغرب» الظاهر أنه وصف للأب؛ لأن هذا الكلام في ترجمته، ولأنه الموافق لقوله:«يعتبر حديثه» ؛ [722] إذ الحكم عندهم فيمن يخطئ ويغرب أن يعتبر به ولا يعتمد عليه، ولأن كلام ابن حبان في الابن صريح في أنه لا يعتبر بروايته أصلًا، فهو عنده أسوأ حالًا من أن يكون يخطئ ويغرب فقط، والله أعلم.

(1)

تفسير ابن جرير 14/ 27 - 28. [المؤلف]

(2)

2/ 16 - 17.

(3)

1/ 384.

(4)

7/ 228. وانظر: تهذيب التهذيب 8/ 96.

ص: 1014

فأما قول الذهبي في الميزان

(1)

: «ثقة» فإنما اعتمد ذكر ابن حبان له في الثقات، وقد علمت ما فيه.

وسعيد بن زيد مختلف فيه، والحسن بن أبي جعفر ضعيف جدًّا على عبادته.

وأخرج ابن جرير أيضًا من طريق أبي صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:{لَعَمْرُكَ} ، يقول: لَعَيْشُك، {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} قال: يتمادون

(2)

.

وهذا السند ضعيف عندهم، إلا أن البخاري يستأنس بما رُوِيَ به فيعلِّقه في صحيحه، وأبو صالح ومعاوية بن صالح مختلف فيهما، وعلي بن أبي طلحة فيه شيء، ونصَّ الأئمة أنه لم يسمع من ابن عباس، ولكن ذكروا أنه سمع التفسير من مجاهد عن ابن عباس، وهذا لا يغني؛ لأننا لا ندري في هذه الرواية أمِمَّا سمعه من مجاهد هي أم لا؟

(3)

.

وقال ابن جرير: «وحدثني أبو السائب قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون أن يقول الرجل: لعمري، يرونه

(1)

3/ 286.

(2)

تفسير ابن جرير 14/ 28. [المؤلف]

(3)

أثنى الإمام أحمد على صحيفته في التفسير، وقال أيضًا:«له أشياء منكرات» ، ودافع عنه الحافظ ابن حجر بأنه «حمل عن أصحاب ابن عباس» ، وقال:«بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير في ذلك» . العلل للإمام أحمد رواية المروذي ص 168، الناسخ والمنسوخ للنحاس 1/ 462، العجاب 1/ 207، الإتقان 6/ 2332.

ص: 1015

كقوله: وحياتي»

(1)

.

أقول: أبو معاوية والأعمش يدلِّسان.

[723]

وذكر في لسان العرب

(2)

الأثر عن ابن عباس ثم قال: «قال أبو الهيثم: النحويون ينكرون هذا، ويقولون: معنى لعمرك: لدينك الذي تعمر.

وأنشد لعمر بن أبي ربيعة

(3)

:

أيها المنكح الثريّا سهيلًا

عمرك الله كيف يجتمعان

قال: عمرك اللهَ: عبادتك الله، فنصب.

وأنشد

(4)

:

عمركِ الله ساعةً حدِّثينا

ودَعِينا مِنْ قَول مَنْ يؤذينا

أقول: لأهل اللغة اضطرابٌ كثير في هذه الكلمة، وحاصله أن العَمر بالفتح يأتي بمعنى الدِّين، وبمعنى العبادة، ويمكن أن يكون المعنيان واحدًا، وبمعنى الحياة لغة في العُمر بضم العين، والضم أشهر، ولم يأت قولهم: لعمرك إلا بالفتح، وهذا مما يضعف تفسيره بالحياة.

ولا حاجة للإطالة، بل نقول: إنَّ ما صح عمَّن يُعْتَدُّ بقوله من الصحابة

(1)

تفسير ابن جرير 14/ 28. [المؤلف]

(2)

4/ 601.

(3)

ديوانه: 503.

(4)

في لسان العرب: (ذرينا) بدل (دعينا). وهو كذلك في تهذيب اللغة 2/ 381. وانظر رواية: (دعينا) في المخصص لابن سيده، المجلد الخامس (17/ 165).

ص: 1016

وغيرهم من قولهم: لعمري ولعَمرك، فالظاهر أنهم رأوا العَمر بمعنى العبادة، ثم قصدوا به المعبود، من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول، كقولهم: فلان عدل رضى، أي: مرضي.

فأما قولهم: (لعمر الله) فإن صح عمن يُعْتَدُّ بقوله فكأنه قصد بالعَمر البقاء، كما يقوله بعض أهل اللغة، وبقاء الله صفة له، فلا يكون القَسَمُ بها قسمًا بغير الله.

ثم رأيت هذا المعنى؛ فقد ترجم له البخاري: «باب قول الرجل: لعمر الله، قال ابن عباس: لعمرك: لعيشك» ، ثم ذكر ما قاله أسيد بن حضير في حديث الإفك:«لعمر الله لنقتلنه»

(1)

.

وقال الحافظ في الفتح: «وقال أبو القاسم الزَّجَّاج

(2)

: العمر الحياة، فمن قال: لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله

(3)

ومن ثم قال المالكية

(4)

والحنفية

(5)

: تنعقد بها اليمين؛ لأن بقاء الله من صفة ذاته.

(1)

البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، باب قول الرجل: لعمر الله، 8/ 135، ح 6662. [المؤلف]

(2)

كذا في الأصل وفتح الباري، والصواب: الزجَّاجيّ. وهو العلّامة النحويّ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجَّاجيّ، نسبةً إلى شيخه أبي إسحاق الزجَّاج، من مصنّفاته: الجُمَل في النحو، ت 339 هـ. الأنساب 6/ 256، إنباه الرواة 2/ 160، بغية الوعاة 2/ 77.

(3)

انظر: الجمل ص 74.

(4)

النوادر والزيادات 4/ 16.

(5)

الهداية شرح البداية 2/ 74، البحر الرائق 4/ 308.

ص: 1017

وعن مالك: لا يعجبني الحلف بذلك ....

وقال الشافعي وإسحاق: لا تكون يمينًا إلا بالنية

(1)

؛ لأنه يطلق على العلم، وعلى الحق، وقد يراد بالعلم المعلوم، وبالحق ما أوجبه الله ....

وأجابوا عن الآية: أن يقسم

(2)

من خلقه بما شاء وليس ذلك لهم، لثبوت النهي عن الحلف بغير الله .... »

(3)

.

وأما قولهم: عَمْرك الله، فعَمْر بمعنى العبادة أو التعمير، أي: اعتقاد البقاء، وهو من باب المناشدة، كأنه قال: أنشدك بعبادتك الله أو باعتقادك بقاءه، وهذه المناشدة ليست من القَسَمِ في شيء، والله أعلم.

فأما الآية فلا مانع من أن يكون العَمْر فيها بمعنى الحياة، وقد أقسم الله تعالى في كتابه بكثير من المخلوقات كما علمت. والله أعلم.

[724]

فصل

القَسَم من الضرب الأول يُفْهِمُ إجلالَ الحالف للمحلوف به، واعتقادَه أن له سطوة غيبية بحيث ينالُ الحالفَ النفعُ الغيبي إذا وفى وصدق، وأنه إن لم يف أو يَصْدُقْ نالته عقوبته ونال المحلوفَ له النفعُ الغيبِي بإيفائه حقه إن كان له حق.

ومن ذلك: الحلف بالكعبة يُفْهِمُ احترامَ الحالف لها واعتقادَه أن لها سطوة غيبية، بمعنى أنها كريمة على الله عز وجل، بحيث ينال الحالف بها

(1)

روضة الطالبين 11/ 16.

(2)

في فتح الباري: بأن لله أن يقسم.

(3)

فتح الباري 11/ 438. [المؤلف]

ص: 1018

النفعُ الغيبي أو العقوبةُ الغيبيَّةُ من الله عز وجل.

ونحوه الحلف بالصنم يُفْهِمُ احترامَ الحالف له واعتقادَه أن له سطوة غيبيَّة، بمعنى أنه كريم على من له سطوة غيبية، وهو مَنْ جُعِلَ الصنمُ تمثالًا أو تذكارًا له، أو أنه كريم عند مَنْ هو كريم عند مَنْ له سطوة غيبيَّة، وهذا فيمن يجعل الصنم تمثالًا لإنسان ولا يعتقد لذلك الإنسان سطوة غيبية ذاتية، ولكنه يقول: ذلك الإنسان كريم على الله عز وجل، ولله تعالى السطوة الغيبيَّة.

إذا ثبت هذا فقد ثبت أن القَسَم من هذا الضرب خضوع وتعظيم للمُقْسَم به يُطْلَب به نفعٌ غَيْبِيٌّ للحالف أو للمحلوف له على فَرْضٍ، وهذا الخضوع والتعظيم هو العبادة كما مرّ تحقيقه، والعبادة إذا لم ينزل الله تعالى بها سلطانًا فهي عبادة لغير الله وعبادة غير الله كفر وشرك.

والحلف بالكعبة من هذا؛ لأن الله تعالى لم ينزل سلطانًا بجواز الإقسام بها، وإنما كان يقع من قريبي العهد بالإسلام غير عالمين بأنه شرك، فلما بين لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك اجتنبوه.

[725]

ويجوز أن الذين كانوا يقولون: والكعبةِ، كانوا يريدون: وربِّ الكعبة، ولكن لما لم تكن هناك قرينة ظاهرة على الإضمار كان ظاهر الكلام شركًا.

فأما الحلف باللات والعزى غَيْرَ جاهل ولا ذاهلٍ فشركٌ لا ريب فيه كما تقدَّم.

وقد سبق أنَّ اللات والعزى ومناة في الأصل أسماء للإناث الخياليات

ص: 1019

التي كان يزعم المشركون أنهن الملائكة، ثم أُطْلِقَتْ هذه الأسماء على الأصنام؛ لأنها تماثيل لتلك الإناث

(1)

.

ولم يُفَرَّقْ في الأحاديث بين مَنْ قصد باللات والعزى الأصنامَ ومَنْ قصد الإناث الخياليات، ومَنْ قصد الملائكة على قياس ما تقدَّم

(2)

في توجيه رواية: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى» ، فَعُلِمَ من عدم التفرقة أنه لا فرق.

وهذا مع ما تقدَّم في ذكر الحلف بالمسيح ومع عموم النصوص أن الحلف بغير الله شرك، وما حقَّقناه أنَّ القَسَم من الضرب الأول عبادة، كلُّ ذلك واضح في أنَّ الحلف بالملائكة والأنبياء والصالحين كالحلف بالكعبة.

فأمَّا ما جاء عن بعض الحنابلة في صحة القَسَمِ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم

(3)

، فإن كان إنما أراد أنَّ من أقسم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم تلزمه الكفارة تغليظًا، كما يقوله الحنفية والحنابلة فيمن نذر معصية أنَّ عليه كفارة يمين، مع قولهم: إنَّ نذر المعصية حرام أو كفر، بل قال الحنفية: إنَّ من حلف باللات والعزى والأصنام تلزمه الكفارة، قالوا: لأنَّ الله تعالى أوجب في الظهار الكفارة؛ لكون الظهار منكرًا من القول وزورًا، والحلف بالأصنام كذلك. وإنما خصَّ هذا القائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لعلوِّ درجته يُخْشَى على الناس الغلوُّ فيه.

(1)

انظر ص 708.

(2)

انظر ص 588 - 590.

(3)

انظر: المحرر في الفقه للمجد ابن تيمية 2/ 197.

ص: 1020

أقول: إن كان أراد ذلك القائل هذا المعنى فله وجه، وإن كان أراد أن القَسَمَ [726] بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جائز، فَزَلَّةُ عالم؛ إذ لا يُعْلَمُ له سلطان على ذلك.

وكذا ما نقله الحافظ في فتح الباري عن ابن المنذر أنه قال: «اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة: هو خاصٌّ بالأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيمًا لغير الله تعالى، كاللات والعزى والآباء، فهذه يأثم الحالف بها ولا كفَّارة فيها. وأما ما كان يؤول إلى تعظيم الله، كقوله: وحقِّ النبيِّ والإسلام والحج والعمرة والصدقة والعتق ونحوها مما يراد به تعظيم الله والقربة إليه فليس داخلًا في النهي. وممن قال ذلك: أبو عبيد وطائفة ممن لقيناه، واحتجوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق والهدي والصدقة ما أوجبوه، مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدلَّ على أن ذلك عندهم ليس على عمومه؛ إذ لو كان عامًّا لَنَهَوْا عن ذلك ولم يوجبوا شيئًا» .

قال الحافظ عقبه: «تعقبه ابن عبد البر بأن ذِكْرَ هذه الأشياء وإن كان بصورة الحلف فليست يمينًا في الحقيقة، وإنما خرج على الاتِّساع، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله»

(1)

.

أقول: المرويُّ عن الصحابة في العتق والهدي والصدقة إنما هو فيمن قال: كلُّ مملوك لي حرٌّ وإبلي هديٌ ومالي صدقة إن فعلت كذا، ونحو ذلك من صيغ الالتزام المعلَّقة، وذلك من باب النذر وهو الذي يسميه الشافعية

(1)

فتح الباري 11/ 429. [المؤلف]

ص: 1021

نذر اللَّجاج، والآثار صريحة في ذلك، انظرها في سنن البيهقي

(1)

ومصنف ابن أبي شيبة

(2)

وغيرهما

(3)

، وليس ذلك من القَسَم في شيء.

نعم، كانوا يسمُّون ذلك حلفًا، فيقولون: حلف فلان بالعتق ألَّا يكلم فلانًا، إذا قال: كلُّ مملوك لي حرٌّ إن كلَّمْتُه، [727] وهذا أيضًا ثابت في الآثار، وإنما سمَّوه حلفًا لأنه يُقْصَدُ به ما يُقْصَد بالحلف الحقيقيِّ من الامتناع، ولأنه قد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أن كفارته كفارة يمين.

وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:«كفارة النذر كفارة اليمين»

(4)

.

وفي سنن أبي داود والمستدرك وغيرهما عن ابن عبَّاسٍ أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أختي جعلت عليها المشي إلى بيت الله، قال:«إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، قل لها: فلتحجَّ راكبة ولتكفِّر عن يمينها» . قال الحاكم: «صحيحٌ على شرط مسلمٍ»

(5)

.

(1)

كتاب الأيمان، باب الخلاف في النذر الذي يخرجه مخرج اليمين، 10/ 67 - 68.

(2)

كتاب البيوع والأقضية، في رجل قال: إن فعلت كذا وكذا فغلامي حرٌّ، 11/ 628.

(3)

انظر: الأوسط لابن المنذر، كتاب الأيمان والنذور، ذكر ما يجب على من حلف بعتق رقيقه وحنث، 12/ 128.

(4)

صحيح مسلمٍ، كتاب النذر، بابٌ في كفَّارة النذر، 5/ 80، ح 1645. [المؤلف]

(5)

سنن أبي داود، كتاب الأيمان والنذور، باب مَن رأى عليه كفَّارةً، 2/ 112، ح 3295. المستدرك، كتاب الأيمان والنذور، إذا شقَّ إيفاء النذر على رجلٍ فليكفِّر عن يمينه، 4/ 302. [المؤلف]

ص: 1022

وفي رواية للحاكم: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت

(1)

.

وفي روايةٍ لأبي داود عن ابن عبَّاسٍ: إن أخت عقبة بن عامرٍ نذرت أن تحجَّ ماشيةً

(2)

.

والحديث في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله وأمرتني أن أستفتي لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيته فقال: «لتمش ولتركَبْ»

(3)

.

وهذا المعنى ــ أعني تسمية النذر يمينًا وحلفًا ــ كثيرٌ في الآثار، ونحوه حديث الصحيحين وغيرهما:«مَن حلف بغير ملَّة الإسلام فهو كما قال»

(4)

.

وفي الفتح: «قال ابن دقيق العيد: الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به، وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله: والله والرحمن، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كقولهم: مَنْ حَلَف بالطلاق فالمراد تعليقُ الطلاق، وأُطْلِق عليه الحَلِفُ لمشابهته باليمين في اقتضاء الحثِّ والمنع، وإذا تقرّر

(1)

المستدرك، الموضع السابق.

(2)

سنن أبي داود، الموضع السابق، 3/ 234، ح 3297.

(3)

البخاريّ، كتاب جزاء الصيد، باب مَن نذر المشي إلى الكعبة، 3/ 20، ح 1866. ومسلم، كتاب النذر، باب مَن نذر أن يمشي إلى الكعبة، 5/ 79، ح 1644. [المؤلف]

(4)

البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، باب مَن حلف بملَّةٍ سوى ملَّة الإسلام، 8/ 133، ح 6652. ومسلم، كتاب الأيمان، باب تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 73، ح 110، ولفظه: «مَن حلف على يمينٍ بملَّةٍ غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال».

ص: 1023