الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النفس بمعونة تقليدٍ أو عادةٍ أو استدلالٍ ناقصٍ، وغالبُ عقائد الفلاسفة من هذا الثاني.
وأما ما لم ينزل الله تعالى به سلطانًا فهو عبادةٌ لغيره، وإن كان في الصورة له سبحانه؛ لأن التديُّنَ به ــ ولم ينزل الله به سلطانًا ــ طاعةٌ لمن شرعه، والطاعة في شرع الدين عبادةٌ للمطاع إذا لم ينزل الله عز وجل سلطانًا بطاعته، وكذلك إذا كان التعظيم في الصورة لغيره تعالى والنفع مطلوبٌ منه عز وجل، كمَن يعظِّم صنمًا يزعمه رمزًا لله تعالى ويطلب بتعظيمه ثواب الله عز وجل، وذلك أنه مع كونه تديُّنًا بطاعة مَن شَرَعَه فهو تديُّنٌ بتعظيم غير الله تعالى بغير إذنه.
[480 ب] و
تحرير العبارة في تعريف العبادة
أن يُقال: «خضوعٌ اختياريٌّ يُطْلَب به نفعٌ غيبيٌّ» .
فقوله: (خضوعٌ) يتناول ما كان بالطاعة وما كان بالتعظيم.
وقوله: (اختياريٌّ) يخرج به المكره ونحوه، على ما يأتي تفصيله في الأعذار إن شاء الله تعالى
(1)
.
وقوله: (يُطْلَب به) أي: مِن شأنه ذلك، فيدخل ما يكون الخاضع طالبًا بالفعل، بأن يكون له اعتقادٌ أو ظنٌّ أو احتمالٌ أن ذلك الخضوع سببٌ لنفعٍ غيبيٍّ، أو يكون في حكم الطالب، بأن يكون المعهود في ذلك الفعل أنه يُطْلَب به نفعٌ غيبيٌّ، كالسجود للصنم وَفَعَلَه الخاضع عنادًا كما مرَّ في فرعون
(1)
انظر ص 917 - 918.
وقومه
(1)
، أو خوفًا من ضررٍ لا يبلغ حدَّ الإكراه ــ كما مرَّ في أوائل الرسالة في المستضعفين الذي عرَّضوا أنفسهم لأن يُكْرَهوا على الكفر رغبةً عن الهجرة التي فيها خروجهم من بيوتهم وأموالهم وأهليهم، أو مداهنةً
(2)
؛ لأنه أولى مما قبله، ويدلُّ عليه قول الله عز وجل:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]، أو طمعًا في نفعٍ دنيويٍّ، كمَن يُجْعَلُ له مالٌ عظيمٌ على أن يسجد لصنمٍ، وهذا أولى من الخائف، أو هزلًا ولعبًا كما تدلُّ عليه آية الإكراه على ما تقدَّم أوائلَ الرسالة
(3)
، والفقهاء يثبتون الرِّدَّة بذلك.
وقوله: (نفعٌ) أُرِيد به ما يشمل دَفْعَ الضرر.
وقوله: (غيبيٌّ) قد تقدَّم تفسيره
(4)
.
وهذا تعريف للعبادة من حيث هي، فإن أُرِيد تعريف عبادة الله عز وجل زِيد:(بسلطانٍ)، أو تعريفُ عبادة غيره، زِيد:(بغير سلطانٍ)، وقد يكون الفعل عبادةً لغير الله عز وجل، ولَكِنَّ فاعله معذورٌ؛ فلا يُحْكَمُ عليه بالشرك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(1)
انظر ص 699 - 700.
(2)
انظر ص 16 - 17.
(3)
انظر ص 16.
(4)
انظر آخر ص 730.
[480 ج] وأما الإله فهو المعبود، فَمَنْ عبد شيئًا فقد اتَّخذه إلهًا وإن لم يزعم أنه مستحقٌّ للعبادة، وذلك كالطامع في النفع الدنيويِّ ونحوه مما مرَّ
(1)
، ومَن زعم في شيءٍ أنه مستحقٌّ للعبادة فقد عبده بهذا الزعم؛ لأنه يتضمَّن خضوعًا من شأنه أن يُطْلَب به نفعٌ غيبيٌّ، وبذلك جَعَله إلهًا، وهكذا مَن أثبت لشيءٍ تدبيرًا مستقلًّا بالخلق والرزق ونحوهما، فإن هذا التدبير هو مناط استحقاق العبادة، على ما مرَّ تحقيقه
(2)
. وكذا مَن أثبت لشيءٍ أنه يشفع بلا إذنٍ وأن شفاعته لا تُرَدُّ البتَّة؛ لأن ذلك في معنى التدبير المستقلِّ.
فأما معنى (إله) في كلمة الشهادة فهو مستحق للعبادة، وإن شئت فقل: مَن يستقلُّ العقل الصريح بإدراك استحقاقه أن يُخْضَعَ له طلبًا للنفع الغيبيِّ. فالله تبارك وتعالى مستحقٌّ للعبادة يستقلُّ العقل الصريح بإدراك استحقاقه أن يُخْضَع له طلبًا للنفع الغيبيِّ، وكان المشركون يزعمون أن الأصنام وغيرها مما يعبدونه كذلك، ولم يكونوا يزعمون مثل ذلك في الكعبة والحجر الأسود؛ لأنهم كانوا يرون أن احترامهما إنما هو لأمر الله عز وجل، فلذلك لم يسمُّوا الكعبة إلهًا ولا أطلقوا على احترامهم لها عبادةً.
فشهادة أن لا إله إلَّا الله بلفظها تنفي أن يكون أحدٌ غير الله عز وجل مستحقًّا للعبادة. وتتضمَّن بمعونة القرائن الالتزام بأن لا يُتَّخذ غير الله عز وجل معبودًا. فمَن قالها ثم عرض له اعتقادٌ أو ظنٌّ أو احتمالٌ أنَّ شيئًا غير الله عز وجل يستحقُّ العبادة فقد نقض شهادته بلا خفاءٍ، ولكنه لا يؤاخَذُ بذلك ظاهرًا إلَّا أن يُظْهِرَه؛ لما مرَّ في أوائل الرسالة
(3)
.
(1)
انظر ص 345.
(2)
انظر ص 347.
(3)
بعدها كلمةٌ غير واضحةٍ في الأصل.
[480 د] وكذا ينقض شهادته إن زعم ذلك بلسانه، ولو كان يعلم خلافه، كما مرَّ في فرعون وقومه
(1)
. ومَن شَهِدَ بها ثم عبد غير الله عز وجل، فقد نقض شهادته بالنظر إلى الالتزام، وإن لم يكن له اعتقادٌ ولا ظنٌّ ولا احتمالٌ ولا زَعْمٌ أن ذلك الشيء يستحقُّ العبادة، وقد مرَّ الكلام على الالتزام أوائلَ الرسالة
(2)
، فارجع إليه.
وأما مَن كان عنده سلطانٌ من الله عز وجل أن يخضع لشيءٍ من المخلوقات طلبًا للنفع الغيبِيِّ فخضع له طاعةً لله عز وجل، فهذا موافقٌ للشهادة لا مخالفٌ لها، لكن بشرط أن يكون خضوعُه لذلك المخلوق هو الخضوعَ الذي عنده به من الله تعالى سلطانٌ. فأمَّا إذا كان عنده سلطانٌ بضربٍ من الخضوع فارتكب أشدَّ منه بدون سلطانٍ طالبًا بذلك النفع الغيبيَّ، فقد نقض التزامَه؛ لأن الإذن بضربٍ من الخضوع لا يدلُّ على الإذن بكلِّ خضوعٍ. ولا شكَّ أن الله تبارك وتعالى أَمَرَ بإكرام الأناس الصالحين الذين عبدهم قوم نوحٍ وبإكرام المسيح وأمِّه وبإكرام الملائكة، ولكن لما تجاوز الناس الإكرام المأذون فيه إلى غيره على الوجه المتقدِّم كان ذلك شركًا بالله عز وجل.
فالحاصل: أن الخضوع لغير الله عز وجل طلبًا لنفع غيبيٍّ إن كان بسلطانٍ من الله عز وجل فتلك عبادةٌ لله عز وجل، قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وإن كان بغير سلطانٍ من الله عز وجل فتلك عبادةٌ لغير الله عز وجل. هذا ما أدَّى إليه النظر.
(1)
انظر ص 700، 705.
(2)
انظر ص 10 - 22.
[480 هـ] وممَّا يوافقه: قال أبو محمَّد بن حزمٍ: «وقال تعالى مثنيًا على قومٍ ومصدِّقًا لهم في قولهم: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89]، فقال النبيُّون عليهم الصلاة والسلام قولَ الحقِّ الذي يشهد الله عز وجل بتصديقه أنهم إنما خلصوا من الكفر بأنَّ الله تعالى نجَّاهم منه، ولم يُنْجِ الكافرين منه، وأن الله تعالى إن شاء أن يعودوا في الكفر عادوا فيه، فصحَّ يقينًا أنه تعالى شاء ذلك ممن عاد في الكفر. وقد قالت المعتزلة في هذه الآية: «معنى هذا: إلَّا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام، كما أَمَرَنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة» . قال أبو محمَّدٍ: وهذا في غاية الفساد؛ لأن الله تعالى لو أمرنا بها لم يكن عودًا في ملَّة الكفر، بل كان يكون ثباتًا على الإيمان وتزايُدًا فيه»
(1)
.
وفي تفسير روح المعاني في الكلام على هذه الآية: وقال الجُبَّائِيُّ والقاضي: «المراد بالملَّة: الشريعة، وفيها ما لا يرجع إلى الاعتقاد، ويجوز أن يتعبد الله عباده به»
(2)
.
أقول: كأنهما أرادا أنَّ ما يرجع إلى الاعتقاد لا يتغيَّر حاله، فلا يجوز أن يأمر الله تعالى الناس أن يعتقدوا أن معه ربًّا آخر قديمًا مثلًا؛ لأن ذلك باطلٌ في نفسه، بخلاف تعظيم الأصنام مثلًا، فإنه إنما قَبُحَ لأنه شركٌ، فإن أمر الله تعالى به لم يبق شركًا.
فأما قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا
(1)
الملل والنحل 3/ 147. [المؤلف]
(2)
روح المعاني 3/ 82. [المؤلف]
وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، فالمراد بالفحشاء ــ كما قال ابن جريرٍ ــ: قبائح الأفعال ومساويها. وذكر أن المراد [480 و] بالفاحشة أنهم كانوا يطوفون بالبيت وهم عراةٌ. ونَقَل ذلك عن ابن عبَّاسٍ ومجاهدٍ وسعيد بن جُبَيرٍ والشعبيِّ، ولم يذكر قولًا غيره
(1)
.
أقول: واحترام الجمادات ليس من قبائح الأفعال ومساويها، وإنما كان تعظيم الأصنام من قبائح الأفعال ومساويها لأنه عبادةٌ لغير الله عز وجل، فلو أنزل الله عز وجل به سلطانًا لزال هذا المعنى، وبزواله يزول القبح.
وقولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} لم يكونوا يقولون ذلك في عبادة الأصنام وغيرها من آلهتهم. ولو قالوا ذلك لم يسمُّوها آلهةً، ولا سَمَّوا تعظيمها عبادةً، كما لم يسمُّوا الكعبة والحجر الأسود ــ على ما مرَّ
(2)
ــ، وإنما كان مستندهم في الشرك اتِّباع آبائهم، قال تعالى:{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 21 - 23].
ومما يوافق ما تقدَّم أيضًا ما مرَّ في الكلام على آيات النجم عن الشهرستانيِّ
(3)
، وفيه: «فنعلم قطعًا أن عاقلًا مَّا لا ينحت خشبًا صورةً ثم
(1)
انظر: تفسير ابن جريرٍ 8/ 104 - 105. [المؤلف]
(2)
في ص 735.
(3)
ص 287. [المؤلف]. وهو في أواخر الدفتر الثالث الذي لم أعثر عليه بعد.
يعتقد أنه إلهه وخالقه وخالق الكلِّ
…
، ولكنَّ القوم لما عكفوا على التوجُّه إليها وربطوا حوائجهم بها من غير إذنٍ وحجَّةٍ وبرهانٍ وسلطانٍ من الله تعالى كان عكوفهم ذلك عبادةً
…
».
ومما يدلُّ عليه ــ زيادةً على ما مرَّ ــ قولُ الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ
…
وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، [480 ز] فقيَّد الإشراك المحرَّم بأن يكون لما لم ينزل به ــ أي: بإشراكه ــ سلطانًا، فيُفْهَم منه أن إشراك ما نزَّل به سلطانًا ليس بمحرَّم. وفيه احتمالان:
الأوَّل: أن يُقال: إنما سمَّاه إشراكًا بالنظر إلى الحال الراهنة للمشركين في تعظيمهم ما لم ينزل الله عز وجل بتعظيمه سلطانًا، فلا ينافي أنه لو أنزل به سلطانًا لا يبقى حينئذٍ إشراكًا.
الثاني: أن يُقال: ليس المراد بالإشراك هاهنا الشرك الذي هو منافٍ للإيمان، وإنما المراد: أن تجعلوا نصيبًا من الطاعة والخضوع اللَّذَين يُطْلَبُ بهما النفع الغيبيُّ، وعلى هذا فالقيد على ظاهره، أي ذلك الجَعْلُ إنما يكون محرَّمًا بذلك القيد.
ولعلَّ هذا أولى من أن يُقال: إن القيد لا مفهوم له؛ لأن الإشراك لا يكون إلَّا حيث لم ينزل الله تعالى به سلطانًا، والله أعلم.
وإيضاح الاحتمال الثاني: أن طاعة الرسول والخضوع له حقٌّ، مع أنها بالنظر إلى الظاهر كأنها تشريكٌ له مع الله عز وجل، وكذلك احترام الكعبة والحجر الأسود فيها بحسب الظاهر خضوعٌ لغير الله عز وجل، وعلى هذا
الظاهر تدخل طاعة الرسول واحترام الكعبة والحجر الأسود في قوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} إذا لم نحمل الإشراك فيها على الشرك المنافي للإيمان، وإنما تخرج بقوله:{مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} ، والله أعلم.
وقال الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151].
وقال سبحانه وتعالى حكايةً عن إبراهيم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81].
وعن هودٍ: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71].
[480 ح] وعن يوسف: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40].
وقال عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71].
وقال تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35].
إن قدَّرنا في قوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا} في آيتي الأعراف ويوسف: (بشركها) أو (بتعظيمها) فهما مما نحن فيه، وإن قدَّرنا (بوجودها) فلا.
وكذا آية الحج، إن قدَّرنا:(ما لم ينزل بعبادته) فمن هذا الباب، وإن قدَّرنا:(ما لم ينزل بوجوده) فلا، وعلى تقدير:(بوجود) في هذه الآيات الثلاث فيكون المراد الأشخاص المتوهَّمة، ولعلَّه أظهر، والله أعلم.
وقال الله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117].
قال البيضاويُّ: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} «صفةٌ أخرى لإله لازمةٌ له، فإن الباطل لا برهان له، جيء بها للتأكيدِ وبناءِ الحكم عليه؛ تنبيهًا على أن التديُّن بما لا دليل عليه ممنوعٌ، فضلًا عما دلَّ الدليل على خلافه»
(1)
.
أقول: ويأتي فيه الاحتمالان اللذان قدَّمنا ذكرهما في آية الأعراف
(2)
، فتدبَّر، والله الموفِّق.
وأما قول الله عز وجل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ
…
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا [480 ط] أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79 - 80].
فالمراد أن يأمرهم من عند نفسه، فأما لو أمره الله عز وجل أن يأمرهم بطاعته واحترامه بالسجود له مثلًا لكان ما يأمرهم به طاعةً لله عز وجل وعبادةً له، لا عبادةً لهذا البشر المبلِّغ عن الله عز وجل، وكذلك إذا أمره الله
(1)
هامش حواشي الشيخ زاده 2/ 408. [المؤلف]
(2)
في ص 739.
تعالى أن يأمر الناس باحترام الملائكة والنبيِّين بالسجود لهم مثلًا فإنه لا يكون السجود لهم من باب اتِّخاذهم أربابًا، بل يكون طاعةً لله عز وجل وعبادةً له وإقرارًا بربوبيَّته، فتدبَّر.
وقد مرَّ الكلام على هذه الآيات في الكلام على تفسير تأليه المسيح عليه السلام
(1)
.
فأما الطاعة والخضوع والتعظيم بغير تديُّنٍ فليست من العبادة في شيءٍ، فمَن أطاع إنسانًا أو شيطانًا أو هوًى في معصية الله تعالى، وهو يعلم أنها معصيةٌ لله تعالى، ولم يزعم أن تلك الطاعة دينٌ تنفعه عند الله عز وجل، ولا تفيده نفعًا غيبيًّا، ولا كانت تلك المعصية شركًا، فليس بمشركٍ.
وبهذا الفرق تعلم [481] الجوابَ الصحيح عما زعمه الخوارج أن المعاصي شركٌ؛ لأن فاعلها مطيعٌ للشيطان، فهو عابدٌ له. واحتجُّوا بالآيات التي سقناها في ذكر عبادة الشياطين، وغفلوا أن تلك الآيات جاءت في ذكر طاعة الشيطان تديُّنًا يُطْلَب منه النفع، والعاصي من المسلمين لا يطيع الشيطان كذلك.
وقرأت في حواشي الشيخ زاده على البيضاويِّ ما لفظه
(2)
: «فإن قيل: كيف يجوز أن يكون الشيطان سببًا لزلَّة آدم ومخالفته لأمر الله تعالى؛ مع أن طاعة الشيطان كفرٌ، وذلك لا يتصور من الأنبياء؟
فالجواب: أنه لا يكفر بذلك
…
، وإنما يكفر إذا قصد طاعة الشيطان
(1)
انظر ص 648 - 654.
(2)
ملحق ص 481. [المؤلف]
ومخالفة الربِّ
(1)
.... ولا يقصد المؤمن بما بُلِيَ به من العصيان طاعة الشيطان ومخالفة الربِّ
…
، وكذا حال آدم وحوَّاء
…
، لكنهما ما أكلا من الشجرة موافقةً له، ولا قَبِلا منه النصيحة ولا صدَّقَاه في ذلك، بل أكلا على الشهوة لميلان الطبع»
(2)
.
أقول: ارجع إلى الآيات التي ذكرناها في شأن عبادة الشياطين مع ما معها من الآثار
(3)
؛ يتبيَّنْ لك أن الله عز وجل أخبر بعبادة الشياطين واتِّخاذهم شركاء وآلهةً من دون الله عن قومٍ لم يكونوا يقصدون طاعة الشياطين، بل كانوا يبغضونها ويذمُّونها، حتى كان أشدُّ ما يذمُّون به النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قولهم: كاهنٌ أو مجنونٌ، وقد تواتر عنهم أنهم كانوا يرون أن الكاهن يستعين بالشياطين، وأن المجنون هو مَن استولت عليه الشياطين، فقال الله تعالى ردًّا عليهم:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 210]، وقال سبحانه:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25]، وبيَّن المفسِّرون أن ذلك ردٌّ عليهم في قولهم في النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنه كاهنٌ، وفي القرآن: إنه كهانةٌ.
/وكذا لم يكونوا يقصدون مخالفة الربِّ تعالى، بل قد أخبر الله تعالى عنهم بقولهم في آلهتهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقالوا:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20].
(1)
لعلَّه يشير إلى ترك التزامه وعدم قبوله وانقياده.
(2)
حواشي الشيخ زاده 1/ 265.
(3)
انظر ص 595 - 614.
فالصواب ما قدَّمناه.
ثم آيات القرآن ظاهرةٌ في أنَّ آدم وحوَّاء عليهما السلام قَبِلا وسوسة اللَّعين وأكلا من الشجرة على أمل الخلد، ولكننا نقول: لم يطلبا بذلك نفعًا غيبيًّا.
ألا ترى لو أن رجلًا أُصِيب بمرضٍ مُهلِكٍ في العادة، فقيل له: تناولْ من هذا الدواء وإلا هَلَكْت، فتناوله لئلَّا يهلك؛ جريًا مع الأسباب، مع علمه أنَّ ما سبق في علم الله عز وجل لا يتبدَّل، لم يكن طالبًا نفعًا غيبيًّا.
وهكذا مَنْ قيل له: كما جرت عادة الله عز وجل بأنَّ مَن لم يأكل الطعام يموت، فكذلك جرت عادته بأنَّ مَن لم يتناول هذا الدواء لا يعيش أكثر من خمسين سنةً إلا نادرًا، وأنَّ مَن أكل منه يعيش سبعين سنةً أو أكثر غالبًا، فإنه إذا تناول من ذلك الدواء ليعيش سبعين سنةً أو أكثر جريًا مع الأسباب، مع علمه بأنَّ ما سبق في علم الله تعالى لا يتبدَّل؛ فإنما يكون طالبًا نفعًا عاديًّا. ولم يكونا قد شاهدا أحدًا مات، بل شهدا الملائكة المخلَّدين، فلذلك قوي عندهما أنَّ طول البقاء أمرٌ عاديٌّ.
فأما أن يكونا مَلَكين، فإنهما لم يريدا ذلك، وكيف يريده آدم وقد سجدوا له، /ولم يذكر إبليس أن يكونا مَلَكين إلَّا حيث ذكر علَّة النهي، وذلك قوله:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20].
فأما الترغيب والإطماع فإنما كان بالخلود، كما قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا
مِنْهَا} الآية [طه: 120 - 121].
وقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} إلخ، أراد به أنه لا سبب للنهي إلا هذا، ولم يصرِّحْ بأن ذلك نقصٌ أو كمالٌ، كأن الخبيث قال في نفسه: إن حَمَلَهما كلامي على سوء الظنِّ بربهما بأن يقولا: نهانا عن الأكل منها لئلا يحصل لنا ما هو خيرٌ لنا وكمالٌ من الملَكيَّة أو الخلود، فذلك الذي أبغي، وإلا فليس ذلك بمانعهما عن تصديقي؛ إذ لعلَّهما يقولان: لعلَّ ربَّنا كره لنا أن نكون مَلَكين؛ لأن في ذلك نقصًا؛ فإن لآدم مزيَّةً على الملائكة بدليل السجود، ولأننا إذا صرنا مَلَكين حُرِمنا عن التمتُّع بنعيم الجنَّة؛ لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، ولعلَّ الخلود يورثنا نقصًا لا نعلمه الآن، ولكن مهما يكن من نقصٍ فإننا نرضى به لأنفسنا على أن يحصل لنا الخلود.
هذا ما لعلَّ الخبيث قاله في نفسه، فأمَّا هما فإنهما لم يسيئا الظنَّ بربهما قطعًا، كيف ولم يجوِّزا صدق إبليس حتى قاسمهما بربهما تعالى، وإنما جوَّزا صدقه لاحتمال نقصٍ في الملَكيَّة والخلود لأجله نهاهما ربُّهما عن الشجرة رحمةً بهما، ولكن غلبتهما شهوة الخلود، فلم يباليا بالنقص، فطلبا بأكل الشجرة طولَ البقاء من الجهة العاديَّة التي قرَّرناها أوَّلًا، ولم يطلبا المَلَكِيَّةَ، ولكن لعلَّهما قالا: إن فُرِضَ صدقُ إبليس في أن الأكل /من الشجرة ربَّما أورث المَلَكِيَّة، فإنما يكون ذلك بفعل الله تعالى، ولسنا نقصد ذلك ولا نطلبه، على أنه إن كان ذلك فقد حصل لنا الخلود أيضًا.
هذا، وقد يُقال: إن العادة في الجنَّة أوسع منها في الدنيا، فلعلَّهما قد شاهدا من تأثير المطعومات في الجنَّة ما يجعل سببيَّة الشجرة لأن يكون آكلُها ملَكًا من قبيل الأسباب العاديَّة هنالك.
وفوق هذا كلِّه فإننا نقول: إن إخبار إبليس ومقاسمته إيَّاهما مع ظنِّهما أنه لا يُقْسِم مخلوقٌ بالله عز وجل على كذبٍ قام في حقِّهما مقام خبر الواحد، فكما أننا نقول: مَن بلغه عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم خبر واحدٍ يفيد غلبة الظنِّ بأن هذا الفعل يكون سببًا لنفع غيبِيٍّ، فَفَعَلَه طلبًا لذلك النفع، فإنَّ فِعْلَه يكون عبادةً لله عز وجل، وإن فُرِضَ أن ذلك المخبر كاذبٌ في نفس الأمر، ولكن إذا كان دليلٌ خَفِيٌّ على كذبه، فقد يُلام العامل لعدم احتياطه، والله أعلم.
وهكذا السجود للعظماء وللأبوين ــ مع علم الساجد بأنه عاصٍ
(1)
بذلك السجود، وأنه لا يفيده رضوانَ الله تعالى ولا نفعًا غيبيًّا ــ ليس بشركٍ. وبهذا ينحلُّ الإشكال الذي حكاه القرافيُّ عن شيخه العزِّ بن عبد السلام.
قال ابن حجرٍ الهيتميُّ في كتابه «الإعلام بقواطع الإسلام» : «واستشكل العزُّ بن عبد السلام الفرقَ بين السجود للصنم وبين ما لو سجد الولد لوالده على جهة التعظيم حيث لا يكفر، والسجود للوالد كما يُقْصَد به التقرُّب إلى الله تعالى كذلك قد يُقْصَد بالسجود للصنم، كما قال تعالى:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، ولا يمكن أن يُقال: إن الله شرع ذلك في حقِّ العلماء والآباء دون الأصنام.
قال القرافيُّ في «قواعده» : كان الشيخ يستشكل هذا المقام، ويُعْظِم الإشكالَ فيه.
ونقل هذا الإشكال الزركشيُّ وغيرُه ولم يجيبوا عنه.
(1)
سبق في آخر ص 734 اشتراط ألَّا تكون المعصية شركًا.
ويُمكِن أن يُجاب عنه بأن الوالد وردت الشريعة بتعظيمه، بل ورد شرعُ غيرِنا بالسجود للوالد، كما في قوله تعالى:{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100]
…
فكان شبهةً دارئةً لكفر فاعله»
(1)
.
أقول: في هذا غفلةٌ؛ فإن الآية ليس فيها السجود للوالد، وإنما هي في سجود إخوة يوسف وأبويه له. نعم؛ يمكن أخذ السجود للوالد منها من باب أولى، وذُكِر في السجود للعالِم أنه ثبت لجنسه في غير شرعنا، وذلك في سجود الملائكة لآدم.
[482]
فالحقُّ أن إطلاق علماء المذهب أن السجود للأبوين ونحوهما لا يكون ردَّةً محمولٌ على ما إذا سجد لهما غيرَ متديِّنٍ بالسجود ولا زاعمٍ أنه يفيده نفعًا غيبيًّا، بل سجد بجاذبٍ طَبَعِيٍّ أو عاديٍّ أو غرضٍ
(2)
، كمَن يسجد لسلطانٍ ليؤمِّره أو يصلَه بمالٍ أو نحو ذلك، فهذا لا مشابهة فيه لسجود المشركين لآلهتهم
(3)
كما لا يخفى، فأما مَن سجد لأبويه تديُّنًا يطلب به
(1)
الإعلام ص 12. [المؤلف]
(2)
صورتها في الأصل يمكن أن تُقرأ بياء نسبةٍ عطفًا على طبعيٍّ وعاديٍّ.
(3)
سبق في تعريف العبادة (ص 733 - 734) أنه لا يُشترط في السجود للصنم طلب نفعٍ غيبِيٍّ، بل لو سجد له عِنادًا أو طمعًا في نفعٍ دنيويٍّ كمَن يُجْعَلُ له مال عظيم على أن يسجد لصنمٍ، ومثلُه إذا سجد له هزلًا ولعبًا كلُّ ذلك يرتدّ به الشخص، والفقهاء يثبتون الردّة بذلك كما هو نصُّ كلامه. ويظهر أنَّ المؤلِّف لا ينظر إلى ذات السجود بل إلى المسجود له فيفرِّق بين الصنم الذي من شأن عابديه أن يطلبوا بذلك نفعًا غيبيًّا وبين الملِكِ من بني آدم الذي لم تجر العادة بالسجود له طلبًا لنفعٍ غيبِيٍّ، فَشَرَطَ في تكفير الساجد للمِلك أن يطلب بذلك نفعًا غيبيًّا ولم يشترط ذلك في السجود للصنم.
نفعًا غيبيًّا فهذا هو عمل المشركين سواءً.
ومما يدلُّ على هذه التفرقة ما نقله ابن حجرٍ الهيتميُّ في كتابه المذكور عن الروضة
(1)
(2)
.
فأما سجود الملائكة لآدم، وسجود آل يعقوب ليوسف، فذاك طاعةٌ لله عز وجل كان عندهم بذلك من الله سلطانٌ.
فإن قلت: وكيف يكون الشيء كفرًا وقد كان مثلُه إيمانًا؟
قلت: ليس السجود للمخلوق بأمرٍ واحدٍ، بل ثلاثة أمور: إن أنزل الله به سلطانًا كان إيمانًا. وإن لم ينزل به؛ فإن لم يقصد به التديُّن كان معصيةً، وإن قصد به التديُّن كان كذبًا على الله تعالى وشركًا.
أَوَ لا ترى أنَّ آدم وأولاده لصلبه كانوا يستحلُّون نكاح الأخت، ولو استحلَّه مسلمٌ لَحُكِم عليه بالردَّة إجماعًا؟ وهكذا لو ترك المسلم إحدى الصلوات الخمس بعد شَرْعها منكرًا لوجوبها لكان مرتدًّا، ومَن تركها قبل شرعها نافيًا لوجوبها [483] لا حرج عليه، بل مَن تركها بعد شرعها جاهلًا لوجوبها معذورًا لا حرج عليه، وذلك كقريب العهد بالإسلام.
فإن قيل: إن الحكم بردَّة مستحلِّ نكاح الأخت من المسلمين ومنكر
(1)
روضة الطالبين 1/ 326.
(2)
الإعلام ص: 13. [المؤلف]
وجوب إحدى الخمس إنما هو لتكذيبه النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟
قلت: وهكذا تكفير الساجد لأمِّه تديُّنًا؛ فإن التديُّن بذلك تكذيبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فيما عُلِمَ من شريعته بالضرورة أنه لا يُقَرِّبُ إلى الله تعالى إلا دينه الذي شرعه، وأنَّ كلَّ ما شرعه لهذه الأمة فقد بلَّغه رسولُه، مع العلم بأن السجود للأمِّ ليس من شريعته، وفي ذلك أيضًا كذبٌ على الله عز وجل في زَعْمِ الساجد أن سجوده من الدين الذي يحبُّه الله ويرضاه.
وقد قسَّم الله عز وجل في كتابه الكفر إلى قسمين: الكذب عليه، والتكذيب بآياته، وقدَّم الأوَّل، قال تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21]. والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ، وسيأتي الكلام على هذا المعنى مبسوطًا إن شاء الله تعالى
(1)
.
فصلٌ في القيام
مما يقرب من السجود القيام؛ فقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم النهي عنه والكراهة له، فروى الترمذيُّ وأبو داود عن معاوية قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن سَرَّه أن يَتَمَثَّلَ له الرجال قيامًا [484] فليتبوَّأ مقعده من النار»
(2)
.
(1)
انظر ص 903 - 913.
(2)
جامع الترمذيّ، كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل، 2/ 125 - 126، ح 2755، وقال:«حديثٌ حسنٌ» . سنن أبي داود، كتاب الأدب، بابٌ في قيام الرجل للرجل، 2/ 355، ح 5229. [المؤلف]
وروى أبو داود عن أبي أمامة قال: خرج النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم متكئًا على عصا، فقمنا له فقال:«لا تقوموا كما يقوم الأعاجم، يعظِّم بعضهم بعضًا»
(1)
.
وأخرج الترمذيُّ عن أنسٍ قال: «لم يكن شخصٌ أحبَّ إليهم من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهته لذلك» ، قال الترمذيُّ:«هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه»
(2)
.
وفي صحيح مسلمٍ عن جابرٍ: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلَّينا وراءه وهو قاعدٌ، وأبو بكرٍ يُسْمِعُ الناسَ تكبيرَه، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فصلَّينا بصلاته قعودًا، فلما سلَّم قال:«إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعودٌ، فلا تفعلوا، ائتمُّوا بأئمتكم، إن صلَّى قائمًا فصلُّوا قيامًا، وإن صلَّى قاعدًا فصلُّوا قعودًا»
(3)
.
جزم ابن حِبَّان بأنَّ هذه الواقعة هي التي في مرض موته صلى الله عليه وسلم، والمسألة مشهورةٌ، والحقُّ أن هذا الحكم باقٍ لم يُنسَخ، وقد جاء عن جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم أنهم صَلَّوا قعودًا وهم أئمَّةٌ، فأمروا مَن خَلْفَهم بالقعود، [485] وأنت خبيرٌ أن المأموم لو قام لا يقوم تعظيمًا لإمامه، ولكن
(1)
سنن أبي داود، الموضع السابق، 2/ 355، ح 5230. [المؤلف]. وأخرجه أحمد في المسند 5/ 253، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة 1/ 351 برقم 346.
(2)
جامع الترمذيّ، الموضع السابق، 2/ 125، ح 2754. [المؤلف]
(3)
صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، 2/ 19، ح 413. [المؤلف]
في ذلك مشابهةٌ لذلك الفعل وذريعةٌ إليه، فإذا سقط هذا الركن القطعيُّ ــ بل صار فعله حرامًا دفعًا لهذه الشبهة ــ فما بالك بالقيام على رأس الرجل إجلالًا له؟ فهذا حرامٌ لا شبهة فيه، ومَن فعله تديُّنًا يرجو به الثواب فقد عُلِم حكمه مما تقدَّم.
فأما القيام للقادم فقد عُلِمَ النهي عنه مما تقدَّم.
وقد روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت حديثًا جاء فيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يُقام لي، إنما يُقام لله تبارك وتعالى»
(1)
. وسنده ضعيفٌ، وفيما مضى كفايةٌ، مع أن الأصل المنعُ من تعظيم المخلوق إلَّا ما أذن الله تعالى به.
وقد وَهِم جماعةٌ من العلماء فأجازوا القيام للعالم والصالح، استنادًا إلى الحديث الصحيح أنه لما جيء بسعد بن معاذٍ على حمارٍ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للأنصار:«قوموا إلى سيِّدكم»
(2)
، وآثارٍ أخرى في القيام إلى القادم
(3)
.
ولا أدري كيف خفي عنهم أن القيام إلى القادم غيرُ القيام له، فالقيام إليه يُراد منه المشي إليه لاستقباله والترحيب به ونحو ذلك، فالإكرام إنما وقع بالاستقبال، والترحيب والقيام وسيلةٌ إلى ذلك، ولم يقع الإكرام بنفس القيام، وأما التعظيم بنفس القيام فهو قيامٌ للشخص لا قيامٌ إليه، والمحذور
(1)
المسند 5/ 317. [المؤلف] في إسناده ابن لهيعة ورجل لم يسمّ.
(2)
أخرجه البخاريُّ في كتاب الاستئذان، باب قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«قوموا إلى سيِّدكم» ، 8/ 59، ح 6262. ومسلمٌ في كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال مَن نقض العهد، 5/ 160، ح 1768، من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه.
(3)
انظر ما سيذكره المؤلِّف قريبًا.
[486]
إنما هو القيام للشخص؛ لأنه يضارع القيام لله عز وجل في الصلاة، ولذلك قال ابن أبي ذئبٍ لما أُمِرَ أن يقوم للخليفة: إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال الخليفة: دعوه، فلقد قامت كلُّ شعرةٍ في جسدي
(1)
.
ومما يوضِّح لك أن القيام للمشي إلى القادم ليس تعظيمًا له بنفس القيام، أنك قد تُهدِّد خادمك بقولك: لأقومنَّ إليك، أي: لكي أضربك مثلًا، فالقيام إلى الشخص قد يكون لإهانته، وقد يكون لإكرامه، فعُلِمَ من ذلك أن القيام في قولك:(قمت إلى فلانٍ) وسيلةٌ لغيره، وليس مقصودًا لذاته، بخلاف القيام للشخص؛ فإنه تعظيمٌ لا محالة.
وقد يتردَّد النظر فيمَن دخل عليك وأراد أن يصافحك، هل يجوز القيام حتى لا تكون مصافحتُه لك وهو قائمٌ وأنت قاعدٌ مذلَّةً له أو تعظيمًا لك؟
ومن عادات العرب في اليمن أنهم إذا كانوا جلوسًا فدخل إنسانٌ فصافحهم لم يقوموا، ولكن يقول الجالس عند المصافحة:(والقائم عزيزٌ).
ثم رأيت أبا داود رحمه الله قد أشار في السنن إلى الفرق الذي ذكرته، فإنه قال أوَّلًا:(بابٌ في القيام)، فأورد فيه حديث:«قوموا إلى سيِّدكم، أو: إلى خيركم» ، وحديث عائشة: ما رأيت أحدًا كان أشبه سَمْتًا وهَدْيًا ودلًّا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فاطمة كرَّم الله وجهها، كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبَّلته وأجلسته في مجلسها
(2)
.
(1)
انظر: تاريخ بغداد، 2/ 298.
(2)
سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في القيام، 2/ 353 - 354، ح 5217. [المؤلف]
ثم قال أبو داود بعد أبوابٍ: (باب الرجل يقوم للرجل يعظِّمه بذلك)، فذكر فيه حديث أبي مجلزٍ، قال: خرج معاوية على ابن الزُّبير وابن عامرٍ، فقام ابن عامرٍ وجلس ابن الزُّبير، فقال معاوية لابن عامرٍ: اجلس، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:«مَن أحبَّ أن يَمْثُل له الرجال قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار» .
وحديث أبي أمامة: قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوكِّئًا على عصا، فقمنا إليه، فقال:«لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظِّم بعضها بعضًا»
(1)
.
وللنوويِّ رسالةٌ في هذه المسألة
(2)
، ومال إلى الجواز في بعض الصور، وتعقَّبه ابن الحاجِّ فأجاد
(3)
، ولَخَّص ذلك الحافظُ ابن حجرٍ في فتح الباري
(4)
.
ومن عجيب ما قاله النوويُّ أنه قال في الجواب عن حديث أنسٍ: إنه صلى الله عليه وسلم خاف عليهم الفتنة إذا أفرطوا في تعظيمه، فكره قيامهم له لهذا المعنى، كما قال:«لا تطروني»
(5)
، ولم يكره قيام بعضهم لبعضٍ.
(1)
سنن أبي داود، كتاب الأدب، بابٌ في قيام الرجل للرجل، 2/ 355، ح 5229 - 5230. [المؤلف]
(2)
عنوانها: الترخيص في الإكرام بالقيام، وهي مطبوعة.
(3)
انظر: المدخل لابن الحاج 1/ 140 - 165.
(4)
11/ 38 - 43. [المؤلف]
(5)
أخرجه البخاريُّ في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} ، 4/ 167، ح 3445، من حديث عمر رضي الله عنه، وتمامه:«كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» .