الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[668]
الطِّيَرة
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الطيرة من الشرك وما منا، ولكن الله يذهبه بالتوكل» . أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح
…
سمعت محمد بن إسماعيل [البخاري] يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث: «وما منا ولكن الله يذهبه بالتوكل» قال سليمان: هذا عندي قول عبد الله بن مسعود «وما منا»
(1)
.
وأخرجه أبو داود ولفظه: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل»
(2)
.
ورواه الحاكم في كتاب الإيمان من المستدرك بلفظ الترمذي وقال: «صحيح سنده، ثقات رواته» ، وأقرّه الذهبي
(3)
.
أقول: لا يخلو المتطيِّر أن يظن أن الطائر سبب أو علامة، وعلى الحالين فهذا الظن من قسم التديُّن؛ لأنه لا يُعْرَفُ له توجيه من الأصول العادية المبنيّة على الحسِّ والمشاهدة، وهو تديُّنٌ بما لم يشرعه الله عز وجل، فيكون شركًا.
وإنما الشأن في حصول الظنِّ، وقد جعل الشارع ضابط حصول الظن هو العمل به، ففي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم:
…
قلت: يا رسول الله، إني حديث عهدٍ بجاهليَّة، وقد جاء الله بالإسلام، وإنَّ منَّا رجالًا
(1)
جامع الترمذيّ، كتاب السير، باب ما جاء في الطيرة، 1/ 304، ح 1614. [المؤلف]
(2)
سنن أبي داود، كتاب الطبِّ، بابٌ في الطيرة، 2/ 190، ح 3910. [المؤلف]
(3)
المستدرك، كتاب الإيمان، «الطيرة شركٌ» ، 1/ 18. [المؤلف]
يأتون الكهَّان، قال:«فلا تأتهم» . قال: ومنَّا رجال يتطيَّرون، قال: «ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدَّنَّهم
…
»
(1)
.
[669]
وفي مسند أحمد بسندٍ فيه نظرٌ عن الفضل بن عبَّاسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم:«إنما الطيرة ما أمضاك أو ردَّك»
(2)
.
فالذي يعرض للمؤمنين إنما هو من قبيل الوسوسة التي لا تقدح في الإيمان أصلًا، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلَّم»
(3)
.
وفي صحيح مسلمٍ عن عبد الله بن مسعودٍ قال: سُئل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الوسوسة، قال:«تلك محض الإيمان»
(4)
.
وعن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وقد
(1)
صحيح مسلمٍ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة
…
، 2/ 70، ح 537. [المؤلف]
(2)
المسند 1/ 213. [المؤلف]. وفي سنده: محمَّد بن عبد الله بن عُلاثة العُقَيليُّ، وقد تُكُلِّم فيه. ومسلمة بن عبد الله بن ربعيٍّ الجهنيُّ، وهو مجهول الحال، ولم يدرك الفضلَ بن عبَّاسٍ.
(3)
صحيح البخاريِّ، كتاب العتق، باب الخطإ والنسيان في العتاقة، 3/ 145، ح 2528. وصحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب حديث النفس والخواطر بالقلب، 1/ 81 - 82، ح 127. [المؤلف]
(4)
صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، 1/ 83، ح 133.
وجدتموه؟ » قالوا: نعم، قال:«ذاك صريح الإيمان»
(1)
.
فالعمل بالطيرة أن تصدَّك عن أمر قد عزمت عليه أو كنت متردِّدًا فيه أو تُمْضِيَكَ في أمرٍ لم تكن عازمًا عليه.
نعم، لو عزم رجل على معصية أوهمّ بها فعرض عارض فَهِمَ منه إشارة إلى موعظة فصدّه عن المعصية لم يكن هذا من الطيرة المنهي عنه
(2)
؛ لأن الذي صدّه في الحقيقة إنما هو عِلْمُه بأن ذلك الفعْلَ معصية متوعَّدٌ عليها بالعذاب. وكذا مَن كان متردِّدًا في فعلٍ يَعْلَم أنه طاعةٌ لله عز وجل فعرض عارضٌ فَهِمَ منه إشارةً ترغِّبه في الفعل فَفَعَل.
[670]
وليس من الطيرة ما يُنْقَل عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من حبِّ الفأل
(3)
، فإنه لم يكن الفأل يحمله صلى الله عليه وآله وسلم على فعلِ ما لم يكن يريد أن يفعله، ولا يصدُّه عن فعلِ ما كان يريد أن يفعله، وإنما يُرْوَى عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا أراد أن يرسل رسولًا تحرّى أن يكون اسمه حسنًا
(4)
، ونحو ذلك.
(1)
صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، 1/ 83، ح 132. [المؤلف]
(2)
كذا في الأصل، ولعله قصد: التطيُّر.
(3)
كما في حديث أنس مرفوعًا: «يعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة» . أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الفأل، 7/ 135، ح 5756. ومسلم في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل
…
، 7/ 33، ح 2224. وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة 7/ 33، ح 2225: «وأحب الفأل الصالح».
(4)
أخرج أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة، 4/ 19، ح 3920، عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملًا يسأل عن اسمه فإذا أعجبه فرح به
…
إلخ. وإسناده صحيح.
قال العلماء: إنما هذا من باب سَدِّ الذريعة لئلا يقع أمرٌ مكروه قد قُضِيَ فيلقي الشيطان في نفوس بعض الناس أن ذلك لأجل قبح اسم الرسول أو نحوه.
أقول: سيأتي أن التفاؤل محمود في الجملة؛ فاختيار الاسم الحسن ليتفاءل به المرسَلُ إليه؛ فيكون ذلك أدعى إلى امتثال ما أرسل إليه به النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يكون ذلك إلا خيرًا. ولو كان الاسم قبيحًا لتطيَّر به المرسل إليه إن كان كافرًا أو قريب عهد بالإسلام، وهم الغالب يومئذٍ.
ويُرْوَى عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا سمع الكلمة الحسنة سُرَّ بها
(1)
.
وأقول في توجيه ذلك: إن ما يَعْرِضُ للإنسان مما يُتَفَاءَل به يحتمل ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون من الله عز وجل على سبيل التبشير.
الثاني: أن يكون من فعل الشيطان يُرَغِّب الإنسان في فِعْلِ ما لا خير له فيه.
الثالث: أن يكون أمرًا اتفاقيًّا.
(1)
أخرج الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في الطيرة، 4/ 161، ح 1616، من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع يا نجيح يا راشد. وقال:«حديث حسن صحيح غريب» .
فالوجه الثاني منتفٍ فيما يكون المتفائل آخذًا في العمل؛ إذ لا حاجة بالشيطان إلى الترغيب فيه وقد شرع الإنسان فيه دائبًا على فعله، ويبقى الاحتمالان الأول والثالث، فأمَّا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان يترجَّح في حقِّه الأول؛ لأنه لم يكن يُقْدِمُ على العمل حتى يَظْهَرَ له أنه طاعة لله عز وجل، وقد علم من الدِّين أن طاعة الله عز وجل سببٌ للخير، وعلم أن الشيطان لا يرغِّب في الخير. فأمّا مَن لا يريد عملًا فيسمع كلمة حسنة فيرغب فيه فاحتمال الوجه الثاني قائم فيه، والوجه الأول منتفٍ بدليل مَنْعِ الشارع من الاعتداد بذلك، ولعله [671] يكون في ذلك الفعل ضررٌ لاحتمال أن تكون تلك الكلمة من الشيطان يُرَغِّب الإنسان فيما يضرُّه، اللهمّ إلا أن يكون ذلك الفعل طاعة لله عز وجل، فكان الإنسان متكاسلًا عنه فسمع كلمة فَهِمَ منها إشارة إلى الترغيب في الخير، فهذا معنىً آخر كما تقدم.
وأما الطيرة فإن الكلمة السيئة مثلًا تحتمل أن تكون من تنبيه الله عز وجل تنفيرًا عن ذلك العمل، وتحتمل أن تكون من الشيطان ليصدَّ الإنسان عن ذلك الفعل لعلمه أن له خيرًا فيه، وتحتمل أن تكون اتفاقًا.
ويترجّح الأول إذا كان العمل معصية لله عز وجل ولا يكون الانزجار عن تلك المعصية عند سماع تلك الكلمة من التطيُّر المنهي عنه؛ لأنه لم يستند إليها، وإنما استند إلى ما عنده من السلطان أن ذلك العمل معصية. ويترجح الثاني إذا كان ذلك العمل طاعة لله عز وجل أو مباحًا؛ لأن الاحتمال الأول منتفٍ بدليل منع الشارع من التطير. والاحتمال الثالث مرجوح لما عُلِمَ أن الشيطان مولَع بالإضلال والإضرار، فالانكفاف عن العمل تديُّنٌ بما لم يشرعه الله عز وجل كما مرّ، وهو مع ذلك طاعة للشيطان.
وقد قال ابن حجر المكي: «قال الرافعيُّ عنهم [أي الحنفية]:
…
واختلفوا فيمن خرج لسفر فصاح العَقْعَق
(1)
فرجع، هل يكفر؟ (انتهى).
زاد النووي في الروضة: قلت: الصواب أنه لا يكفر»
(2)
.
[672]
أقول: وقد علمت أن الدليل مع مَن قال: يكفر هذا الراجع إن تحقَّق أنه إنما رجع لصياح العقعق إلا أن يكون ممن يُعْذَر، وقد مرّ بيان الأعذار. والله أعلم.
* * * *
(1)
العَقْعَق ــ وِزان جعفرٍ ــ: طائرٌ نحو الحمامة طويل الذنب، فيه بياضٌ وسوادٌ، وهو نوعٌ من الغِربان، والعرب تتشاءم به. المصباح المنير ص 422.
(2)
الإعلام بقواطع الإسلام، ص 23. [المؤلف] وانظر: روضة الطالبين 10/ 67.
الرقى
قال الإمام أحمد: «ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن ابن أخي زينب، عن زينب امرأة عبد الله قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منَّا على شيء يكرهه. قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح، قالت: وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير، فدخل فجلس إلى جنبي، فرأى في عنقي خيط
(1)
، قال: ما هذا الخيط؟ قالت: قلت: خيط أرقي
(2)
لي فيه، قالت: فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:«إن الرقى والتمائم والتِّوَلَة شركٌ» . قالت: فقلت له: لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلانٍ اليهوديِّ يرقيها، وكان إذا رقاها سكنت؟ قال: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقيتها كَفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا»
(3)
.
وأخرجه أبو داود عن محمَّد بن العلاء عن أبي معاوية، فذكره
(1)
كذا في الأصل.
(2)
في سنن ابن ماجه (2/ 1167، ح 3530) وشرح السنَّة للبغويِّ (12/ 157، ح 3240): «رُقِي» بصيغة المبنيِّ للمجهول، كما ضبطه في مرقاة المفاتيح 8/ 371. وانظر رواية ابن أبي شيبة الآتية قريبًا.
(3)
المسند 1/ 381. [المؤلف]
مختصرًا
(1)
.
وأخرجه ابن ماجه من طريق عبد الله بن بشرٍ عن الأعمش
(2)
.
[673]
وفي سنده: ابن أخي زينب، مجهولٌ.
لكن رواه الحاكم في المستدرك من طريق محمد بن مسلمة الكوفي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زينب، فذكره بنحوه، وقال:«صحيح الإسناد على شرط الشيخين» ، وأقره الذهبي
(3)
، وفيه نظر.
ولكن أخرجه الحاكم من طريق أخرى عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن قال: دخل ابن مسعودٍ على امرأته، فرأى عليها خرزًا من الحمرة، فقطعه قطعًا عنيفًا، ثم قال: إن آل عبد الله عن الشرك أغنياء، وقال: كان مما حفظنا عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة من الشرك» . قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الذهبي: صحيح
(4)
.
وأخرجه الحاكم أيضًا من طريق أبي الضحى عن أم ناجية قالت:
(1)
أبو داود، كتاب الطبّ، بابٌ في تعليق التمائم، 2/ 186، ح 3883. [المؤلف]
(2)
ابن ماجه، كتاب الطبّ، باب تعليق التمائم، 2/ 188، ح 3530. [المؤلف]
(3)
المستدرك، كتاب الرقى والتمائم، الدعاء عند عيادة المريض 4/ 417 - 418. [المؤلف]. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان)، كتاب الرقى والتمائم، ذكر التغليظ على من قال بالرقى والتمائم متكلًا عليها 13/ 456 ح 6090 من طريق يحيى الجزار، عن ابن مسعود، وهو منقطع.
(4)
المستدرك، كتاب الطبّ، نهى عن الرقى والتمائم والتِّوَلة 4/ 217. [المؤلف]
دخلتُ على زينب امرأة عبد الله أعودها من حمرة ظهرت بوجهها، وهي معلقة بخرز، فإني لجالسة دخل
(1)
عبد الله، فلما نظر إلى الحِرْز أتى جذعًا معارضًا في البيت فوضع عليه رداءه، ثم حسر عن ذراعيه، فأتاها، فأخذ بالخرز فجذبها حتى كاد وجهها أن يقع في الأرض فانقطع، ثم خرج من البيت، فقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك، ثم خرج فرمى بها خلف الجدار، ثم قال: يا زينب، أعندي تُعَلِّقين؟ ! إني سمعت رسول الله [674] صلى الله عليه وآله وسلم يقول: نهي عن الرقى والتمائم والتولية، فقالت أم ناجية: يا أبا عبد الرحمن، أما الرقى والتمائم فقد عرفنا فما التولية؟ قال: التولية ما يهيج النساء»
(2)
.
كذا وقع في النسخة (التولية) والمعروف: التولة، ووقع فيه:(الحرز) بالحاء المهملة، والظاهر:(الخرز) بالمعجمة. والله أعلم.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: دخل عبد الله على امرأته وهي مريضة فإذا في عنقها خيط معلق، فقال: ما هذا؟ فقالت: شيء رقي لي فيه من الحمَّى، فقطعه فقال: إن آل إبراهيم أغنياء عن الشرك
(3)
. كذا وقع في النسخة: (الحمَّى)، و (آل إبراهيم)، والصواب:(الحمرة)، و (آل عبد الله).
وأخرج عن إبراهيم قال: رأى ابن مسعود على بعض أهله شيئًا قد تَعَلَّقَهُ
(1)
كذا في الأصل والمستدرك.
(2)
المستدرك، الموضع السابق، 4/ 216 - 217. [المؤلف]
(3)
المصنَّف، كتاب الطبّ، في تعليق التمائم والرقى، 12/ 40، ح 23924.
فنزعه منه نزعًا عنيفًا، وقال: إن آل ابن مسعودٍ أغنياء عن الشرك
(1)
.
وأخرج من طريق قتادة عن رافع بن سحنان
(2)
قال: قال عبد الله: مَن علّق شيئًا وكل إليه
(3)
.
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن حرملة، عن عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره عشر خلال، الحديث، ذكر فيه:«الرقى إلا بالمعوذات، وعقد التمائم»
(4)
.
[675]
وبالجملة فحديث قيس بن السكن عن ابن مسعود صحيح لا مغمز فيه، وبقية الروايات شواهد قوية وعواضد يبلغ بها الحديث غاية الصحة.
(1)
المصنَّف، الموضع السابق، 12/ 40، ح 23925.
(2)
كذا في الأصل في الأصل والنسخة التي نقل عنها المؤلف، وصوابه: واقع بن سَحبان، ذكره البرديجيّ في طبقات الأسماء المفردة ص 73، وابن ماكولا في الإكمال 4/ 267، ويكنى أبا عَقِيلٍ. ترجم له ابن سعدٍ 7/ 227، والبخاريّ 8/ 198، وابن أبي حاتمٍ 9/ 49، وابن حِبَّان في الثقات 5/ 498.
(3)
المصنَّف، الموضع السابق، 12/ 43 - 44، ح 23940.
(4)
مسند أحمد 1/ 380، سنن أبي داود، كتاب الخاتم، باب ما جاء في خاتم الذهب، 2/ 224، ح 4222. المستدرك، كتاب اللباس، «أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصالٍ»، 4/ 195، وقال: «صحيح الإسناد»، وأقرَّه الذهبيّ، ولكن عبد الرحمن بن حرملة مجهولٌ. [المؤلف]. وهو في صحيح ابن حبان (الإحسان) ، كتاب الحظر والإباحة، باب التواضع والكبر والعجب، ذكر الزجر عن أشياء معلومة
…
12/ 495، ح 5682.
وفي صحيح مسلمٍ عن عوف بن مالكٍ الأشجعيِّ قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: «اعرضوا عليّ رُقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شركٌ»
(1)
.
هذا شاهد لحديث ابن مسعود في الجملة لدلالته على أن من الرقى ما هو شرك، وهو في أحاديث أخرى في الإذن بالرقى قد مرّ بعضها تبيِّن حديث ابن مسعود بدلالتها على أنَّ من الرقى ما ليس بشرك.
وتفسير ذلك أن الرقى على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: الرقية بكتاب الله تعالى وذكره ودعائه اللَّذَيْنِ أُذِنَ في مثلهما فهذا حق وإيمان، ولكن الأولى بالمؤمن ألَّا يسأل غيره أن يرقيه، كما تقدَّم إيضاحه في الدعاء
(2)
.
الضرب الثاني: ما كان فيه تعظيم لغير الله عز وجل، فهذا إن كان مما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو كالأول وإلا فهو شرك، ومن ذلك الإقسام بالكواكب وأسماء الشياطين وبالحروف
(3)
والأسماء التي يزعمون أنها أسماء الروحانيِّين. ويلحق بذلك في المنع ما كان فيه كلمات أعجمية لا يدرى معناها، وإن كان معها ذكر لله عز وجل وثناء عليه؛ لأن المشركين يخلطون عبادة الله تعالى بعبادة غيره. وكذا ما كان فيه حروف مفردة فإنه لا
(1)
مسلم، كتاب السلام، بابٌ:«لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شركٌ» ، 7/ 19، ح 2200. [المؤلف]
(2)
انظر ص 787 - 788.
(3)
كُتِب بحاشية الصفحة بقلم الرصاص عبارةٌ، كأنها:(التي لا تُعرَف)، وقد تكون من المؤلِّف.
يؤمَنُ أن تكون كلمات أعجمية شركية قُطِّعَتْ حروفًا.
[676]
الضرب الثالث: ما كان من الرقى كلمات عربية ليس فيها تعظيم ولا مدح، فإن كان يرى أو يجوِّز أن لتلك الكلمات أثرًا يستند إلى غيبيٍّ كالروحانيين والجن والكواكب ونحوها فحكمه كالقسم الثاني، والله أعلم. وإن كان لا يجوِّز ذلك، وإنما يقول: لعلَّ للحروف والكلمات خواصّ كخواصّ الأشجار والأحجار، فالحكم في هذا مشتبه، ولم نجد له مستندًا ثابتًا في الشريعة ولا في الحسِّ والعادة القطعيَّين. والذي أختاره الآن المنعُ من هذا؛ لأنه إن لم يكن فيه نفسه حرج فهو ذريعة إلى القسم الثاني، والله أعلم.
وفي فتح الباري: «وقال ابن التين: .... وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزِّم وغيره ممن يدَّعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مشتبهة مركَّبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يَشُوبُه من ذكر الشياطين والاستغاثة بهم والتعوُّذ بمَرَدَتهم. ويقال: إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزَّم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذا اللديغ إذا رُقِيَ بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان. ولذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئًا من الشرك. وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة.
قال القرطبي: الرقى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما كان يرقى به في الجاهلية مما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه؛ لئلا يكون فيه شرك أو يُؤدي إلى الشرك.
الثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورًا فيستحب.
[677]
الثالث: ما كان بأسماء غير الله من مَلَك أو صالح أو مُعظَّم من المخلوقات كالعرش، قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذي يتضمَّن الالتجاء إلى الله والتبرك بأسمائه؛ فيكون تركه أولى إلَّا أن يتضمن تعظيم المرقيِّ به فينبغي أن يُجتنَب كالحلف بغير الله»
(1)
.
أقول: ذكر اسم المَلَك أو الصالح أو المعظَّم في معرض الرقية بذكره تعظيم وأيُّ تعظيم، فالحقُّ ما قدَّمناه في الكلام على الضرب الأول.
ثم قال في الفتح: «وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية، فقال: لا بأس أن يُرقى بكتاب الله وما يُعْرَف من ذكره. فقلت: أَيَرقي أهلُ الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رَقَوْا بما يُعْرَف من كتاب الله وبذكر الله. اهـ
…
وروى ابن وهب عن مالك كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان، وقال: لم يكن من أمر الناس القديم
…
وسُئِل ابن عبد السلام عن الحروف المقطَّعة، فمنع منها ما لا يُعْرَف؛ لئلا يكون فيها كفر»
(2)
.
* * * *
(1)
فتح الباري 10/ 153. [المؤلف]. وانظر: المفهم للقرطبي 1/ 466 - 467.
(2)
[فتح الباري] 10/ 153 - 154. [المؤلف]
التمائم
قد تقدَّم حديث ابن مسعود.
وأخرج الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وغيرهما عن عقبة بن عامرٍ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَن تعلَّق تميمةً فلا أتمَّ الله له، ومَن تَعَلَّق وَدَعَة فلا ودع الله له»
(1)
.
[678]
وأخرج الإمام أحمد والحاكم وغيرهما عن عقبة أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحدٍ، فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة وتركت هذا، قال:«إن عليه تميمةً» ، فأدخل يده فقطعها فبايعه، وقال:«مَن عَلَّق تميمةً فقد أشرك»
(2)
.
وقال ابن أبي شيبة في المصنف: «ثنا شبابة، ثنا ليث بن سعد، عن يزيد، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامرٍ قال: موضع التميمة من الإنسان
(1)
المسند 4/ 154. المستدرك، كتاب الرقى والتمائم، الدعاء عند عيادة المريض، 4/ 418، وقال: «صحيحٌ»، وأقرَّه الذهبيّ. [المؤلف] وهو في صحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الرقى والتمائم، ذكر الزجر عن تعليق التمائم التي فيها الشرك بالله جل وعلا، 13/ 450، ح 6086. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 4/ 306:«إسناده جيد» . وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 175: «ورجاله ثقات» لكن في إسناده خالد بن عبيد المعافري، وهو مجهول. انظر: السلسلة الضعيفة 3/ 427، ح 1266.
(2)
مسند أحمد 4/ 156، المستدرك، كتاب الطبّ، أمسك النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن بيعة رجلٍ كانت في عضده تميمةٌ، 4/ 219، ورجاله ثقاتٌ، ووقع في نسخة المستدرك تحريفٌ في بعض الأسماء. [المؤلف]
والطفيل
(1)
شركٌ»، وهذا سندٌ صحيحٌ.
وقال: «ثنا شريك، عن هلال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن تعلَّق
(2)
التمائم وعقد الرقى فهو على شعبةٍ من الشرك»، وهذا مرسلٌ.
وقال: «ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم والرقى والنشر» .
وقال: «ثنا حفص، عن ليث، عن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة عن إنسان كان كعدل رقبة»
(3)
.
وقد اختلف في تفسير التمائم.
فقيل: إن التميمة خرزة مخصوصة.
وقيل: بل كل ما يُعلَّق رجاءً للنفع.
وممَّا يدل على الثاني ما في مصنف ابن أبي شيبة: [679]«ثنا هشام (هشيم)، ثنا مغيرة، عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كُلَّها من القرآن وغير القرآن» .
ثنا هشيم، أنا يونس، عن الحسن أنه كان يكره ذلك
(4)
.
(1)
كذا في الأصل، والذي في المصنَّف:«والطِّفل» .
(2)
كذا في الأصل، والذي في المصنَّف:«مَن علَّق» .
(3)
المصنَّف، كتاب الطبّ، في تعليق التمائم والرقى، 7/ 373 - 375.
(4)
المصنَّف، الموضع السابق، 7/ 374.
وفيه: «ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم، عن عبد الله أنه كره تعليق شيء من القرآن.
وقال: «ثنا هشيم، عن مغيرة، قلتُ لإبراهيم: أعلِّق في عضدي هذه الآية: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] من حُمَّى كانت بي؟ فكره ذلك.
وقال: «ثنا وكيع، عن ابن عون، عن إبراهيم أنه كان يكره المعاذة
(1)
للصبيان، ويقول: إنهم يدخلون به الخلاء»
(2)
.
ومما يدلُّ على أن التمائم يتناول
(3)
ما كان من القرآن ونحوه: ما أخرجه الحاكم في المستدرك وغيره عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «ليست التميمة ما تُعُلِّق به بعد البلاء، إنما التميمة ما تُعُلِّق به قبل البلاء» .
(4)
.
(1)
ما يكتب من القرآن والدعاء ويُعلَّق كما سيأتي عند المؤلف في ص 973.
(2)
المصنَّف، الموضع السابق، 7/ 373 - 376.
(3)
كذا في الأصل على تقديراسم التمائم.
(4)
المستدرك، كتاب الطبّ، التميمة ما تُعُلِّق به قبل البلاء، 4/ 217، وأعاده بعد ذلك [في كتاب الرقى والتمائم، التمائم ما عُلِّق قبل نزول البلاء]، 4/ 418، وقال:«صحيح الإسناد على شرط الشيخين» ، وقال الذهبيّ في تلخيصه:«صحيحٌ» . [المؤلف].
ودلالته على العموم من وجهين:
الأول: ظاهر قولها: إنما التميمة ما تُعُلِّق به.
[680]
وكلمة (ما) من قولها: (ما تُعُلِّق به) اسم موصول، فيعمُّ كلَّ ما يُتَعَلَّق به.
الثاني: أن كلمة (أل) في قولها: (التميمة) ليست للجنس، بدليل أن المعروف في اللغة بل المتواتر أن التميمة يطلق على الخرزة التي تُعَلَّق رجاء نفعها، سواء بعد البلاء عُلِّقت أم قبله، وإنما هي للعهد. أرادت ــ والله أعلم ــ ليست التميمة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ....
ولو جعلنا التميمة في كلامها خاصًّا بالخرزة لدلّ كلامها أن تعلُّق الخرزة بعد البلاء غير منهي عنه، وهذا باطل لعموم الأحاديث في النهي وما في بعضها من ذكر السبب وأنه كان بعد البلاء، مع ما سيأتي عن عائشة نفسها من إنكارها جَعْلَ الخلخالين على الصبي، والصبي حينئذٍ مبتلىً.
فالصواب ــ والله أعلم ــ حمل التميمة في كلامها على كل ما يُتعلَّق رجاء النفع، ثم يستثنى من ذلك الخرز ونحوها فإنها منهي عنها مطلقًا، ويبقى ما يُعلَّق مما فيه ذكر الله تعالى، فهذا هو الذي يجيء فيه التفصيل، فإن عُلِّق قبل البلاء فهو تميمة منهي عنها، وإن عُلِّق بعد البلاء فلا حرج فيه.
وحديثها هذا هو ــ والله أعلم ــ حجَّة القائلين بمنع الرقى والمعاذات قبل البلاء والترخيص فيها بعد البلاء.
قال الحافظ في الفتح: «وقال قوم: المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي
وغيرهما
(1)
، وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقى»، فذكر [681] حديث ابن مسعود المتقدم، ثم قال:«والتمائم جمع تميمة، وهي خرز أو قلادة تُعَلَّق في الرأس، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات، والتولة .... شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله. ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه؛ فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه» .
فذكر حديث: كان إذا أوى إلى فراشه ينفث بالمعوذات، وحديث تعويذه صلى الله عليه وآله وسلم الحسن والحسين، وما في معنى ذلك، ثم قال:«لكن يحتمل أن يقال: إن الرقى أخص من التعوذ، وإلا فالخلاف في الرقى مشهور، ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما وقع وما يتوقّع»
(2)
.
أقول: أما ما كان من تعويذ الإنسان بالقول والنفث ونحوه لنفسه ولولده أو لولد غيره بدون سؤال، فهذا لا يدخل في الرقية ولا يُمنَع قبل البلاء ولا بعده. وأما ما يكون لغيره بسؤال ولا سيَّما إذا كان المسؤول منه لا يعرف بالخير والصلاح أو كان من أهل الكتاب، فهذا هو الرقية التي يمنع منها قبل البلاء ويرخص فيها بعده، بشرط أن تكون بذكر الله تعالى. فأما إذا كان المسؤول معروفًا بالخير فقد كان الصحابة رضي الله عنهم ربما يذهبون بأطفالهم الأَصِحَّاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو لهم، ولكن لم
(1)
انظر: التمهيد 17/ 160 - 161، سنن البيهقي 9/ 350، الآداب الشرعية 2/ 444.
(2)
فتح الباري 10/ 153. [المؤلف]
يكن ذلك يتكَرَّر، ولم يفعل السلف فيما نعلم مِثْلَ ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يكونوا يذهبون بأطفالهم إلى أبي بكرٍ أو عمر أو غيرهما.
[682]
وأما ما يكتب ويُعَلَّق فالفرق بينه وبين تعويذ الإنسان نفسه وولده ظاهر، وقول الحافظ:«وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قُرِنَتْ فيه التمائم بالرقى» صريح أو كالصريح في أن الحكم المذكور مُسَلَّم في التمائم أي إنها إنما يرخص فيها بعد البلاء، وهذا لا يصح في الخرز، فإنه لا يرخص فيها أصلًا، كما يدل عليه قوله:«وإنما كان ذلك من الشرك؛ لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله» ، فإن هذا المعنى موجود في تعليق الخرز سواء أقبل البلاء عُلِّقت أم بعده، ولكن ينبغي أن يزاد بعد قوله:«من عند غير الله» بغير إذنه؛ لإخراج التداوي بالأدوية المعروفة.
فالحاصل: أن التمائم التي يرخص فيها بعد البلاء هي المعاذات المكتوب فيها ذكر الله عز وجل. والله أعلم.
وقال البيهقي في السنن الكبرى في الكلام على حديث ابن مسعود: «وقال أبو عبيد:
…
وأما الرقى والتمائم فإنما أراد عبد الله ما كان بغير لسان العربية مما لا يُدرى ما هو؟
قال الشيخ
(1)
: والتميمة يقال إنها خرزة
…
، ويُقال: قلادة تُعلَّق فيها العُوَذ»، ثم ذكر حديث عقبة بن عامرٍ، ثم قال: «وهذا أيضًا يرجع معناه إلى ما قال أبو عبيدٍ، وقد يحتمل أن يكون ذلك وما أشبهه من النهي والكراهة فيمن
(1)
هو البيهقيّ.
تعلّقها وهو يرى تمام العافية وزوال العلَّة منها على ما كان أهل الجاهلية يصنعون. فأما من تعلّقها متبركًا بذكر الله تعالى فيها وهو يعلم أَلَّا كاشف إلَّا الله ولا دافع عنه سواه فلا بأس بها إن شاء الله»
(1)
. اهـ.
فكلام أبي عبيدٍ صريحٌ في أن التمائم تطلق على ما يكتب، وكذا كلام البيهقي أخيرًا؛ فإنه في التمائم بدليل قوله:«فيمن تعلقها وهو يرى تمام العافية» ، [683] وصريح في أن مراده التمائم المكتوبة؛ بدليل قوله:«فأما من تعلقها متبركًا بذكر الله تعالى فيها» .
بقي كلام في حديث عائشة، وهو أن لفظه عند البيهقي في رواية:«ليست التميمة ما يُعلَّق قبل البلاء، إنما التميمة ما يُعَلَّق بعد البلاء ليدفع به المقادير»
(2)
. كذا وقع في هذه الرواية، ورجح البيهقي الرواية التي قَدَّمناها عن المستدرك، وكأنه انقلب الحديث في هذه الرواية، على أنها لو صحت لكان لها معنى، بأن يقال: المراد بالتمائم الخرز؛ فما علق قبل البلاء لزينة مثلًا فلا بأس به، وإنما البأس فيما يُعلَّق بعد البلاء لدفع المقادير، ولكن في هذا المعنى ركاكة؛ إذ لا يكون فائدة للتقييد بقبل البلاء وبعده، بل المدار على الباعث على التعليق، فكان وجه الكلام لو أريد هذا المعنى أن يُقال: ليس التمائم ما عُلِّق للزينة؛ وإنما التمائم ما علق رجاء النفع أو نحو ذلك، فالصواب ما رجَّحه البيهقي، وأن المتن في هذه الرواية انقلب على الراوي، والله أعلم.
(1)
السنن الكبرى 9/ 350.
(2)
السنن الكبرى، كتاب الضحايا، باب التمائم، 6/ 350.
والحاصل أن التمائم إن أريد بها الخرز ونحوها مما لا كتابة فيه فهو ممنوع البتة، وقد ورد فيه حديث ابن مسعود وحديث عقبة بن عامر، وقد تقدَّما.
وأخرج الحاكم في المستدرك عن طريق بكير بن عبد الله بن الأشج أن أمه حدثته أنها أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها بأخيه مخرمة، وكانت تداوي من قرحة تكون [684] بالصبيان، فلما داوته عائشة وفرغت منه رأت في رجليه خلخالين جديدين (كذا)، فقالت عائشة: أظننتم أن هذين الخلخالين يدفعان عنه شيئًا كتبه الله عليه، لو رأيتهما ما تداوى عندي، وما مُسَّ عندي، لعمري لخلخالان من فضة أطهر من هذين».
قال الحاكم: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي
(1)
.
وفي تهذيب التهذيب في ترجمة بكير بن عبد الله: «وقال أحمد بن صالح: إذا رأيت بكير بن عبد الله روى عن رجل فلا تسأل عنه؛ فهو الثقة الذي لا شك فيه» .
ولعل الصواب: (خلخالين حديدًا) بدل (جديدين)، بدليل قولها:«لخلخالان من فضة أطهر من هذين» .
وأخرج الإمام أحمد وابن ماجه من طريق المبارك بن فضالة عن الحسن قال: أخبرني عمران بن حصين أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أبصر على عضد رجل حلقة، أُراه قال: من صُفْر
(2)
، فقال:«ما هذه؟ » قال:
(1)
المستدرك، كتاب الطبّ، التميمة ما تُعُلِّق به قبل البلاء، 4/ 217 - 218. [المؤلف]
(2)
من صُفْرٍ ــ بضم الصاد ــ: أي من نحاسٍ. انظر: هدي الساري 144.
من الواهنة
(1)
، قال:«أما إنها لا تزيدك إلا وهنًا! انبذها عنك؛ فإنك لو متّ وهي عليك ما أفلحت أبدًا»
(2)
.
أقول: لكن في مصنف ابن أبي شيبة: «ثنا هشيم، أنا يونس، عن الحسن، عن عمران بن حصين أنه رأى في يد رجل حَلْقَة من صُفْرٍ، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: لم تزدك إلا وهنًا، ولو مت وأنت تراها نافعتك لمتَّ على غير الفطرة.
ثنا هشيم، قال: أنا منصورٌ
(3)
، [685] عن الحسن، عن عمران بن الحصين، مثل ذلك».
أقول: وهذا هو الصحيح، موقوفٌ. المبارك بن فضالة متكلَّم فيه، وقد تابعه على رفعه مَنْ هو دونه، وهو أبو عامرٍ الخزاز صالح بن رستم. أخرجه الحاكم في المستدرك من طريقه عن الحسن، عن عمران بن حصينٍ قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي عضدي حلقة صُفْرٍ، فقال:«ما هذه؟ » فقلت: من الواهنة، فقال:«انبذها» . قال الحاكم: «صحيح الإسناد» ، وأقرَّه الذهبي
(4)
.
(1)
الواهنة: عرقٌ يأخذ في المنكب وفي اليد كلِّها فيرقى منها، وقيل غير ذلك. انظر: النهاية 5/ 234.
(2)
المسند 4/ 445، واللفظ له. سنن ابن ماجه، كتاب الطبّ، باب تعليق التمائم، 2/ 188، ح 3531. وحسَّنه البوصيري في مصباح الزجاجة 2/ 223 ح 1232.
(3)
في النسخة: ثنا هشام، قال: أنا أبو منصورٍ. [المؤلف]
(4)
المستدرك، كتاب الطبّ، إذا رأى أحدكم من نفسه أو من أخيه ما يحبُّ فليبرِّك، 4/ 216. [المؤلف]
وأخرج الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وغيرهما من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، قال: دخلت على أبي معبد الجهنيِّ وهو عبد الله بن عُكَيمٍ وبه جمرٌ (كذا)
(1)
، فقلت: ألا تعلِّق شيئًا، فقال: الموت أقرب من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«مَن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه»
(2)
.
محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى إمامٌ في الفقه، ولكنه غير قويٍّ في الحديث، ولكن في كنز العُمَّال
(3)
أن ابن جريرٍ أخرج هذا الحديث وصحَّحه، والله أعلم.
وقال ابن أبي شيبة في المصنف
(4)
: «ثنا علي بن مسهر، عن يزيد، أخبرني زيد بن وهب قال: انطلق حذيفة إلى رجل من النَّخَع يعوده، فانطلق وانطلقتُ معه، فدخل عليه ودخلت معه، فلمس عضده فرأى فيه خيطًا، فأخذه فقطعه، ثم قال: لو مُتَّ وهذا في عضدك ما صَلَّيتُ عليك.
[686]
ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن حذيفة قال:
(1)
في الترمذيّ: «حمرةٌ» ، وهو الصواب.
(2)
لفظ المستدرك، كتاب الطبّ، من تعلَّق شيئًا وُكِل إليه، 4/ 216. ولفظ الإمام أحمد بنحوه، المسند 4/ 310. [المؤلف]. وكذا أخرجه الترمذيّ في كتاب الطبّ، باب ما جاء في كراهية التعليق، 4/ 403، ح 2072. وقال:«وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
(3)
10/ 110، ح 28552. لكنه من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم.
(4)
كتاب الطب، في تعليق التمائم والرقى، 12/ 41 - 42، ح 23928 - 23929.
دخل على رجل يعوده فوجد في عضده خيطًا، فقال: ما هذا؟ قال: خيط رُقِيَ لي فيه، فقطعه، ثم قال: لو مُتَّ ما صَلَّيتُ عليك».
وقال
(1)
: «ثنا عبدة، عن محمد بن سُوقة، أن سعيد بن جبير رأى إنسانًا يطوف بالبيت في عنقه خرزة فقطعها.
ثنا حفص، عن ليث، عن سعيد بن جبيرٍ قال: مَن قطع تميمة عن إنسان كان كعدل رقبة».
وكُلُّ هذا يدلُّ على ما قدَّمنا في التمهيد أن مَن تعلَّق خرزة أو نحوها مجوِّزًا أن تكون سببًا لنفعٍ غيبيٍّ كان ذلك شركًا، وإن لم يكن يجوِّز ذلك ولكنه يرجو أن تكون لها خاصِّيةٌ طبيعيَّةٌ في سرور النفس أو طرد الجنِّ أو دفع العين أو نحو ذلك فهذا أيضًا ممنوع سدًّا للذريعة.
وعموم الأحاديث يتناول الخيط الذي يُرْقَى فيه، ويُصَرِّح بذلك أثر ابن مسعود وأثر حذيفة؛ فإنهما لم يلتفتا إلى أن ذلك الخيط رقي فيه، ولم يسألا عن تلك الرقية بماذا كانت؟ أبذكر الله تعالى أم بغيره؟ وكأن ذلك ــ والله أعلم ــ لشبهه بالخرزة، فمُنِعَ سدًّا للذريعة، وإلَّا فقد يقاس على ما صح عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يدني يديه مِنْ فيه فيتعوَّذ وينفث فيهما ثم يمسح بهما بدنه؛ فإنَّ هذا يدلُّ أنَّ نَفْثَ القارئ يقتضي حصولَ بركة فيما نفث فيه.
فأما إذا اختار الراقي شيئًا مخصوصًا كجلد أرنب أو نحو ذلك مما لم يأت به سلطان أو عقد في الخيط فلا شبهة أنه في معنى الخرزة قطعًا، والله أعلم.
(1)
الموضع السابق، 12/ 43، ح 23938 - 23939.
[687]
وأما ما جرت به العادة أن يؤتى إلى الراقي بماء فيقرأ عليه ويدعو فيه ثم يُذْهَب به فَيُسْقاه المبتلى ويُرَشُّ عليه منه فلا أرى به بأسًا، والأولى بالمؤمن أَلَّا يسأله لنفسه على ما علمتَ فيما مرّ، والله أعلم.
وأما المَعَاذات وهي ما يكتب من القرآن والدعاء ويُعلَّق فقد تقدمت آثار بكراهتها وجاءت آثار بالرخصة فيها، والظاهر الجواز بعد البلاء بشرط أَلَّا يُكتَب إلَّا ما ثبت من الشرع التبرّك به من القرآن والدعاء الخالص عَمَّا لم يأذن الله تعالى به، وبشرط ألَّا يتحرَّى شيئًا لا سلطان من الله تعالى على تَحَرِّيه، وذلك كأن يكون القلم من حديدٍ، أو يكون الرقُّ جلد غزالٍ، أو يكون المداد فيه زعفران، أو يكون الخط بالسريانيَّة، أو أن يبخِّر عند الكتابة، أو أن يكتب عددًا مخصوصًا إلا الثلاثة أو السبعة فإن لتحرِّيهما أصلًا في الشريعة، أو يتحرَّى وقتًا مخصوصًا كوقت الكسوف، أو مكانًا مخصوصًا كساحل البحر، أو أن يكتب على هيئة مخصوصة كالأوفاق
(1)
، أو يراعي حساب الجمَّل، أو طبائع الحروف على زعم أن لها طبائع، وغير ذلك مما هو معروفٌ في كتب العزائم كشمس المعارف وغيره، وعامَّة ذلك مأخوذ عن الصابئة، كما تقدَّم عن الشهرستاني
(2)
.
فإذا تحرَّى في المَعاذة شيئًا من هذه الأشياء التي لم يجئ بها سلطان من كتاب الله عز وجل ولا من سنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم كانت المعاذة في معنى الخرزة، وعامة كتب العزائم والتعاويذ على خلاف الشريعة، وفي كثير منها الكفر البواح والشرك الصراح، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(1)
سبق التعريف بها ص 663.
(2)
انظر ص 671 - 673.