الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يتوقّف كون الخضوع أو الطاعة شركًا على فساد الاعتقاد في التأثير؛ فإن من اعتقد أن الملائكة والجنّ قد ينفعون بني آدم بإذن الله تعالى وقد يضرّونهم بإذن الله تعالى مصيب في اعتقاده، ولكنه إن خضع للملائكة خضوعًا لم يأذن به الله تعالى يكون مشركًا. وكذلك إن خضع للجنِّ أو أطاعهم قائلًا: إنما أخضع لهم لكي ينفعوني إذا أذن لهم الله تعالى في نفعي ولكي لا يضرُّوني إذا أذن الله تعالى لهم في ضري، بل من عمد إلى شجرة فزعم أن التمسُّح بها ينفع عند الله عز وجل يكون مشركًا مع أنه لم يعتقد للشجرة تأثيرًا أصلًا، ولو اشتهرت شجرة بأنها تُعبد ثم جاء إنسان إليها فصنع كما يصنع عابدوها لكان مشركًا، وإن زعم أنه لم يعتقد أن عبادتها تقرِّب إلى الله تعالى.
[693]
حكم السحر وتعليمه وتعلمه
أما إذا كان في السحر عبادة لغير الله تعالى، أو كذب عليه عز وجل، أو تكذيب بآياته، فلا شبهة في التكفير، وربما لا يخلو السحر عن ذلك، ولكن لاشتباه معنى العبادة كثيرًا مَّا يخفى الشرك. وهذا مصداق ما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:«أيها الناس اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل» الحديث
(1)
.
وقد تقدَّم في الأعذار بشواهده
(2)
.
وتعليمه وتعلُّمه إن كانا بمباشرة الشرك أو مع اعتقاد الكفر فكلاهما
(1)
مسند أحمد 4/ 403. [المؤلف]
(2)
انظر ص 143.
كفر، وذلك كأن يباشر المعلم والمتعلم الأعمال الشركية، كأن يلبسا اللباس الخاص بزُحَل ويبخِّرا ببخوره، ويقْعُدا يدعُوانه ويعظِّمانه، أو يقرِّبا القُرْبان المخصوص بالجنِّ ويقعدا يدعُوان الجنَّ، أو اعتقدا أنَّ تعظيم الكواكب جائز أو أنَّ تعظيم الملائكة يحملهم على نفع المعظِّم، وقس على ذلك.
وإن لم يكن إلَّا ذكر الصفة وسماعُها فليس في ذلك كفر، لكن إذا عَلِمَ الواصفُ أنَّ السامع يريد العمل فلا شكَّ أنه لا يجوز له حينئذٍ الوصف، بل ربما يكفر به؛ فإن كان راضيًا بأن يعمل السامع فلا شك في كفره، والله أعلم.
وكذلك إذا خاف الإنسان من نفسه أنه إذا علم الصفة نازعته نفسه إلى العمل بها فإنه لا يجوز له استماع الصفة، فأما إذا كان عازمًا على العمل فهذا العزم كفر. ويظهر لي أن مجرَّد ذكر الصفة مع ظنِّ الواصف أنَّ السامع لا يريد العمل لا يَصْدُقُ عليه أنه تعليم، وكذلك مجرَّد استماع الصفة مع عدم إرادة السامع العمل لا يُسمَّى تعلُّمًا، فتدبَّر.
وأما السحر الذي ليس فيه عبادة لغير الله تعالى ولا كذب عليه سبحانه ولا تكذيب بآياته [694] ففيه نظرٌ، وقد يُحْتَجُّ لمالكٍ ومَن وافقه بقول الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102 - 103].
والمراد بكلمة (مَا) من قوله: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} السحر، كما جاء به التفسير عن السلف، والسياق يبيِّنه، كان الشياطين يعلِّمون الناس السحر ويزعمون أن سليمان عليه السلام كان يعرفه ويعمل به، وأنه كان قِوَام مُلكه. فقوله تعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} معناه: ما سَحَر، كما جاء به التفسير عن السلف، وهو واضح من السياق، فدلَّ هذا أن السحر كفر. وقوله تعالى:{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} بينه بقوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فدلَّ ذلك أن تعليم السحر كفر. وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ظاهر في أن تعلُّمه كفر. وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [695] ظاهر في كونه كفرًا؛ إذ لا يصدق على أحد أنه لا خلاق له في الآخرة إلَّا إذا كان مخلَّدًا في النار، وإنما يخلَّد الكفار، فأما الملكان فقد تقدَّم العذر عنهما
(1)
.
ولا يمتنع أن يُغَلِّظَ الشرع في السحر فيجعله كفرًا وإن لم يتضمّن شركًا، ولا كذبًا على الله تعالى، ولا تكذيبًا بآياته. أو يقال: قد علم الله تعالى أن السِّحْر لا يخلو عن الشرك بالله أو الكذب عليه أو التكذيب بآياته.
هذا أقصى ما يُوَجَّه به إطلاق مالك رحمه الله تعالى.
وقد يجاب عن الآية باحتمال أن الضرب الذي نسبه الشياطين إلى سليمان عليه السلام من السحر فيه شرك وكذب على الله وتكذيب بآياته،
(1)
انظر ص 369 - 381.